الفصل الأول - نظرة في النجوم
الفصل الأول
نظرة في النجوم
وفقًا
للرّوايات فإنّ المسجد الأقصى يحتلّ مكانةً هامةً، بل ويتصدر أحداث النّهاية؛ فهو
مسرى رسول الله، ومُنطلَق عروج الرّسول إلى السّماء كما هو متعارفٌ عليه. وحسب
الروايات التي تربّينا عليها فإنّ المسجد الأقصى هو موقع نزول عيسى عليه السلام،
والمهديّ المنتظر الذي سوف يَؤمُّ المسلمين فيه للصّلاة. وعند المسجد الأقصى سوف
يقتَتِل المسلمون واليهود، وسيشهد الأقصى هزيمة اليهود. إذًا ينبغي أن تكون بداية
البحث من هنا حيث المسجد الأقصى.
فهل
الصّفة التي أكسبت المسجد الأقصى كلَّ هذا الزّخم لِكونه مسرى رسول الله، ومنه عرج
إلى السموات العلا، قد شرحها القرآن وأشار إليها كتاب الله حقًا، أم أنّ لِتحليل
اللّفظ القرآنيِّ رأيًا آخر؟
النقاش
حول الإسراء والمعراج نقاشٌ حامي الوطيس، فما بين التأييد والإنكار، والادّعاء
والتّحقيق، كثيرٌ من المُتشابهات والتّشابكات التي تدعو إلى التّوقّف والبحث،
وإجراء عمليّات التّحليل على الألفاظ القرآنيّة التي وصفت هذه الحادثة، التي
نتناقلها كأنّها من المسلّمات التي لا تقبل الجدل.
قد
يعتقد القارئ أنّ الأمر بسيطٌ، ولا جديدَ تحت الشّمس، وخصوصًا في مسألة المعراج،
فالآيات التي يستشهد بها مؤيّدو الواقعة واضحةٌ في سورة النّجم، والآيات التي
يستشهد بها منكرو الواقعة واضحةٌ في سورة الإسراء أيضًا، وكلُّ فريقٍ بما لديه
فرحٌ. وبذلك تظلُّ هذه المسألة عالقةً بين الفريقين، وكلٌّ له وجهة نظره. لكنّ
الإجماع على رحلة الإسراء يكاد يصل الذروة؛ بسبب آيةٍ شديدة الوضوح في سورةٍ
تُسمّى الإسراء كذلك.
تحليل
الألفاظ نزل كصاعقةٍ عليّ شخصيًا، فما هذا؟ و ماذا يحدث؟ وهل يُعقل أنّ القرآن
واضحٌ إلى هذه الدرجة، ونحن لا نفهمه؟
هذه
السّورة العظيمة عندما حاولنا تحليل ألفاظها نقلتنا إلى عالَمٍ آخر، عالَمٍ غاب
عنه أكثرُ بكثيرٍ ممّا حضر، عالم التّدبّر والتّفكير، بل قلْ عالَم الوحيِ أو الإلهام.
عالَمٌ يعرفه جيدًا كلُّ مُتدبّرٍ، ويشعر به كلُّ مَن يرغب في الوصول لمعرفةٍ ما،
ولكنْ لا أحد يستطيع وصفهُ على وجه الدّقة.
كيف
يهتدي الإنسان لفكرةٍ ما؟ وهل له معينٌ في تفكيره؟ هل هناك وحيٌ للبشر أو إلهام
يخبرنا عنه القرآن، أم أنّ الأمر انتهى منذ زمنٍ طويلٍ، منذ آخر عهد البشريّة
بالنّبوّة؟ سورة النّجم هي المَعنيّة بكلّ هذه المسائل، وقد ذهب بها المُفسِّر
القديم إلى منطقةٍ لا علاقة لها بها البتّة. إنّها سورةٌ تستحق أن يتولّى كلماتها
وألفاظها عباقرة علم النّفس والعلوم العصبيّة، والمتخصّصون في المعرفة. إنّها
سورةٌ مهما حاولنا فكَّ رموزها فسوف تبقى تنادي أفذاذ العلماء كي يُبحروا فيها،
ويستخرجوا للبشريّة كنوزها.
إذا
كان عالمنا المرئي
قابلًا للقياس والتجريب، فإنّ له في المقابل عالمًا خفيًّا لا يمكن البرهان على
وجوده أو قياسه، في وقتنا الحاليّ على الأقلّ. سورة النّجم نافذةً إلى هذا العالم
غير المرئيّ، وتصف كثيرًا من ملامحه، وتأخذنا إلى جنابه.
على
الرغم من أنّ التّفسير التّقليديّ يذكر -دائمًا- أنّ بدايات السّور التي تبدأ بحرف
الواو، مثل: والنجم، والطور، والذاريات، والعاديات ...الخ، هي قَسَمٌ يُقسم به
الله لعباده مستخدمًا هذه الأشياء؛ إلا أنّ خبرتنا في تحليل اللفظ القرآني ومن
خلال تتبع لفظ (الطور) و(العصر) في كتبٍ سابقةٍ يمكننا القول وبكلّ يقينٍ: إنّ حرف
الواو هنا لإثارة الانتباه، والإلحاح على الإنسان لكي يقرأ؛ لأن ما سوف يأتي بعده
له أهميةٌ كبيرةٌ. وأستطيع القول إنّ الواو في بدايات السور هي واو الاستئناف، فقد
انتهى الحديث عن السورة السابقة وبدأ الحديث عن موضوعٍ جديدٍ، ويجب أن ينتبه إليه
الإنسان.
كل
السور التي بدأت بواوٍ إنما تتحدث عن آياتٍ كونيةٍ، ومفرداتٍ احتار فيها القدماء،
ولا شك عندي أنها من أعظم النظريات الكونية، والتي يوجّه الخالق الإنسان لبحثها
والغوص في تفاصيلها. دلالة حرف الواو من وجهة نظري لها وظيفتان، أولهما: أنه ينبّه
الإنسان إلى بداية موضوعٍ جديدٍ ومستقلٍّ، والثاني: أنّ الموضوع ذاته متشعّبٌ
ومتجدّدٌ باستمرارٍ. جميع السور التي بدأت بحرف الواو قال عنها المفسر إنها قسمٌ
من الله بهذا الشيء. نحن نتفق مع المفسر على أنّ ما جاء بعد حرف الواو هو شيءٌ
عظيمٌ وله مكانةٌ خاصةٌ، ولكن ليس في صيغة قسمٍ، وإنما في صورة تنبيهٍ للإنسان من
الدرجة الأولى، للانتباه لما جاء بعد الواو.
إلى
يومنا هذا لا يعرف الإنسان ما هي (العاديات) أو (الصافات) أو (الذاريات)، ودعك من
التفسيرات القديمة التي حصرت هذه المسميات في بيئتها الصحراوية، فلم تخرج عن كونها
خيولًا أو رياحًا أو ملائكةً. إنها مسمّيات حقائق كونيةٍ لم نصل إليها بعد، فقط
بسبب الكسل، أو بسبب الفقر المعرفيّ. ما حاجة الإله ليُقسم بمسميّاتٍ لا نعرف عنها
شيئًا؟ إلا إن كان الإله يوجّه نظر الإنسان نحو هذه المسميات، فهو سبحانه
يطلب من الإنسان بحثها والوقوف عليها حتى تبوح له بأسرارها. أما الإنسان الذي لم
يستطع بحثها، وفضّل أن يظلّ عالقًا فيما قاله الأولون ظنًا أنهم أهل الله وخاصّته،
فهذا شأنه ويُسأل كلّ إنسانٍ عن ما اقترف في حقّ نفسه وفي حقّ البشرية.
اسم
السّورة هو -لا شكّ- المحور الرّئيس الذي تدور حوله السّورة كما عوّدنا كتاب الله،
وبفهم هذا الاسم وتحليله سوف يزول كثيرٌ من غموض هذه السّورة العظيمة.
تفسير
الآيات الأولى من سورة النّجم في معظم التفاسير -إن لم يكن كلّها- يُشير إلى أنّ
المقصود والمخاطب هو النبي محمد، وأنّ الله سبحانه يخبر أصحاب رسوله أنّه ما ضلّ
وما غوى، وما ينطق عن الهوى. فهل هذه السّورة وهذه الآيات تتحدث عن رسول الله
خاصةً، أم أنها تتناول الإنسان والبشر بصفةٍ عامّةٍ، ورسول الله إنسانٌ وواحدٌ من
هؤلاء البشر؟
(وَٱلنَّجۡمِ
إِذَا هَوَىٰ)(سورة النجم : آية 1).
ما
هو النّجم الذي تتمحور حوله السّورة؟ إذا استطعنا فكّ لغز هذا اللّفظ وفهم حالته،
سوف يتبع ذلك تكشُّفٌ موضوع السّورة وسياق الآيات الواردة فيها دون شكٍّ. لقد كانت
هذه السّورة مدخلًا لفهم الرّوح في سابقةٍ لم تحدث من قبل، بل إنّني أزعم أنّ
تحليل (الروح والنفس) الذي جاء في هذا الكتاب سوف يدفع الباحثين إلى تغيير نظرتهم
للإنسان والكون كلّيًا، بل سوف تكون هذه السورة وما أدت إليه من نتائج الإعلان
الأقوى على الإطلاق عن وجود الله، والإشارةَ التي لا يمكن لباحثٍ عن الحقيقة
تجاوزها.
مدلول لفظ نجم
جاء
في قاموس اللغة أنّ أصل كلمة (نجم) هو الطّلوع والظّهور، وفي لسان العرب نجم
النّبت يعني طلع وظهر، ويقال ليس لهذا الحديث نجمٌ؛ أي ليس له أصلٌ ومطلعٌ.
ذُكرت
كلمة (نجمٍ) في كتاب الله بصيغة المفرد في أربعة مواضع، وجاءتْ بصيغة الجمع في
تسعة مواضع. لفظ (نجم) يصف حالة خروج شيءٍ من شيءٍ، أو ظهور شيءٍ من شيءٍ، كمن
يقول: نجَمَ عن هذا الحادث عددٌ من المصابين. لو حاولنا تقريب معنى (نجم) فلن نجد
كلمةً أقرب للمعنى من لفظ (نتج)؛ إذ إنّ لفظ (نتج) يصف خروج شيءٍ من شيءٍ أيضًا،
أو بمعنىً أكثر دقةً فهو يصف حدوث أشياءٍ أو مقدّماتٍ ومعطياتٍ أدّت لظهور(نتائج).
لفظ
(النّجم) اسمٌ يصف حالة نتيجةٍ ظهرت بعد مقدماتٍ وتراكم معطياتٍ معيّنةٍ، وهذه
الحالة تنطبق تمامًا على الصّورة المجسّدة لنجم السّماء المعروف. نجم السّماء هو
نتيجةٌ حقيقيّةٌ لتجميع أشياءٍ صغيرةٍ وضمِّها بعضها إلى بعض، وهذه الصّورة يمكن
فهمها بتوسُّعٍ أكثر عند دراسة كيفيّة تكوّن النّجوم في بدايتها كما يصفها
العلم.
نجم
السماء هو الحالة الأشهر والأعمّ لوصف النّجم، ولكنّه ليس الوحيد، وما يُحدّد
مدلول (النّجم) هو سياق الآيات، ومنطقيّة الألفاظ المستخدمة في وصف هذا
النّجم.
بينما وصف العرب -قديمًا-
النّجوم في السماء بأنّها الثّريا، نجد أنّ القرآن لم يذكر كلمة الثريا مطلقًا،
وإنّما وصف هذه التّكوينات بأنّها نجوم. عند إلقاء الضّوء على عمليّة تكوين
النّجوم، ومقارنة ذلك بجذر الكلمة سوف نُدرك ما المقصود بالحالة التي تصفها كلمة
(نجم)، وبذلك يُصبح المَدخل لسورة النّجم مُمهّدًا.
كيفية تكوُّن النّجوم
تولد النّجوم في جميع أنحاء المجرّات من غيومٍ من
الغبار، والتي تُسمى سدوم. والسُّدُم سُحبٌ مُنخفضة الكثافة من الغبار والغازات.
تبدأ المكوّنات بالاقتراب من بعضها؛ بسبب الجاذبية المتبادلة بينها، إلى أن تُكوّن
كرةً من الغاز والغبار، تُسمّى النّجم الأوليّ. هذا النّجم الأوليُّ يكبر ويصبح
نجمًا، أمّا بقيّة الغاز والغبار فقد يتحول إلى كواكب ومذنّباتٍ وكويكباتٍ، أو
يبقى الغبار كما هو عالقًا في الفضاء.
تنضمّ تكويناتٌ صغيرةٌ بعضها إلى بعضٍ لِتُكوّن
في النّهاية تكتُّلًا ماديًا اسمه نجم. هذه الحالة المجسّدة التي تصف تكوين نجوم
السماء تُقابلها حالةٌ مجرّدةٌ كذلك، تصف تكوين النّجوم داخل النّفس البشريّة، أو
ما يُعرف بالوصول إلى نتيجةٍ أو فكرةٍ.
كيفية وصول الإنسان إلى فكرةٍ ما لغزٌ محيّرٌ،
ولكنّنا -على الأقل- نعلم أنّ الإنسان الذي يصل إلى فكرةٍ ما فإنه يصل إليها بعد
وقتٍ طويلٍ استغرقه في التّفكير، مع تجميع كمٍّ هائلٍ من المشاهدات، وربط هذه
المشاهدات ببعضها، ثمّ استبعاد ما لا يتوافق مع بعضه بعضًا، وأخيرًا تتبلور الفكرة
النّهائيّة أمام الإنسان.
عمليّة التّفكير هذه تتمّ في كلِّ المستويات، حتى
وإن لم ندرك أنّنا نفكّر بهذه الطّريقة، إنّها جزءٌ من شخصيّة الإنسان التي ارتبطت
به عندما تكلّم واستطاع التّعبير عن أفكاره.
وأوّل فكرةٍ نملك عنها معرفةً معقولةً هي فكرة
الدّفن التي توصّل إليها الإنسان، من خلال مجموعةٍ من المشاهدات، مثل مشاهدة
الغراب يحفر، ومشهد رغبته في ألّا يترك أخاه في البرية، ومن ثمّ اهتدى لفكرة
الدّفن. هو لم يُقلّد، وإنّما استنتج من فعل الغراب الذي كان يبحث في الأرض (ربما
كان يبحث عن غذاء أو ما شابه؛ لأنّ القرآن لم يذكر إلّا أنّه يبحث في الأرض).
فاستنتج القاتل ممّا رآه أنّ بإمكانه حفر حفرةٍ، ثمّ يواري فيها سوءة أخيه، وقد
فعل.
هذه العمليّة عمليّة فكريّةٌ استخدم فيها
مشاهداتٍ، وإن كانت بسيطةً، ثمّ استنتج نتيجةً نهائيّةً، وقام بعدها بتطبيق
الفكرة، التي ما زالت البشريّة حتّى يومنا هذا تنسخ هذه المعرفة، وتدفن في أغلب
بقاع الأرض بالطريقة نفسها.
الباحث في أيّ فرعٍ من فروع العلم، والذي وَجد
بين يديه مجموعةً من الدّلائل والمشاهدات، ثمّ يُحاول تفسيرها ومعرفة سببها وعلته،
هو في الحقيقة يُجري عمليّة معالجةٍ للمعلومات التي حصل عليها. وما سوف ينجم عن هذه
المعالجة هو النّجم.
سورة النّجم جاءت تصف عمليّة المعالجة هذه، وما
يدور فيها، وتدلّ الإنسان على آليّة هذه العمليّة بالتّفصيل. سوف نكتشف مدول
(النّجم) من خلال السّورة ذاتها، التي تصف بل تتمحور حول عمليّة الاهتداء لأمرٍ
ما. ليس هذا فحسب بل إنّ هناك بعض الدلائل التي سنتعرّض لها تباعًا تُعزّز وتؤيّد
مفهوم (النّجم)، وأنّه نتيجةٌ أو استنتاجٌ.
مدلول (النّجم) على أنّه نتيجةٌ، أو ما نَجمَ عن
أشياءٍ سابقةٍ، أو ما نُسمّيه مُقدّماتٍ، ليس قاصرًا على سورة النّجم، بل هو
مدلولٌ له حضورٌ قويٌّ مع نبيّ الله إبراهيم.
أولًا:
فنظر نظرةً في النّجوم
الحالة التي مثّلها نبيّ الله إبراهيم وهو يحاول
جاهدًا الوصول للخالق، مستخدمًا الاستدلالات المنطقيّة، والمعطيات التي بين يديه،
لن تدعنا في حيرةٍ كبيرةٍ حتّى نفهم أمر النّجوم التي نظر فيها نبيّ الله
إبراهيم.
(وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ
جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا
تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النّجوم (88) فَقَالَ إِنِّي
سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ
فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ
عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
(96)) (سورة الصافات: الآيات 83-96).
بعض التفسيرات أوّلتْ قول الله سبحانه وتعالى:
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النّجوم" أنّ نبيّ الله إبراهيم مدَّ بصره ناحية
النّجوم؛ لأنّ قومه كانوا قوم تنجيم، فرأى نجمًا قد طلع في السماء، فقال لقومه أنه
مطعون. وأنقلُ هنا من تفسير الطبري: "وقوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النّجوم
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) ذَكر أنّ قومه كانوا أهل تنجيم، فرأى نجمًا قد طلع، فعصب
رأسه، وقال: إنّي مَطْعُون، وكان قومه يهربون من الطّاعون، فأراد أن يتركوه في بيت
آلهتهم، ويخرجوا عنه، ليخالفهم إليها فيكسرها) انتهى الاقتباس من التفسير.
رغم هذا التفسير الظاهريّ الذي لا يستند إلى أيّ
دليلٍ حقيقيٍّ، ولا يأخذ في الحسبان سياق الآيات، ولم يطرح تساؤلًا: لماذا نظر
نبيّ الله إبراهيم في النّجوم، ثم قال بعدها إنّي سقيم، نجد لسان العرب أورد
تأويلًا مختلفًا لهذه الآية الكريمة. جاء في لسان العرب عن قول الله سبحانه
وتعالى: "فنظَر نَظْرَةً في النّجوم فقال إِنِّي سَقِيمٌ" قيل: معناه
فيما نَجَمَ له من الرّأْي. وقال أَبو العبّاس أَحمد بن يحيى: النّجوم جمع نَجْم
وهو ما نَجَمَ من كلامهم لَمَّا سأَلوه أَن يخرج معهم إِلى عِيدِهم، ونَظَرَ ههنا
تعني: تَفكّر ليُدَبِّرَ حُجَّةً، فقال: إِنِّي سَقِيمٌ، أَي مِنْ كُفْرِكُم.
إنْ كان لسان العرب يقول: إنّ معنى نظرَ نظرةً في
النّجوم تعني نَجَمَ له من الرّأي، فإنّنا لسنا بعيدين أبدًا عن هذا المعنى. النّجوم
التي نظر فيها نبيّ الله إبراهيم هي في الحقيقة نتائج ما توصّل إليه خلال بحثه
الدؤوب عن الخالق، وعندما نظر في هذه النتائج قال إني سقيم. فماذا يعني هذا؟ عندما
تجتمع لدى الإنسان مجموعةٌ من الاستنتاجات، ولكنّه لم يصل بعد إلى الاستنتاج
النهائيّ، فإنّ حاله حينئذٍ يكون مثالًا للحيرة، ويصبح سقيمًا بالمعنى الحرفيّ
للكلمة، وهي درجةٌ من اليأس أو الحيرة مع القلق.
لفظ (سقيم) كما جاء في قاموس اللغة: هو
المريض، وفي كتاب الله جاء لفظ (سقيم) مرّتين: مرةً مع نبيّ الله إبراهيم، وهي
الآية التي بين أيدينا، ومرةً أخرى مع نبيّ الله يونس، عندما قال ربنا: فنبذناه
بالعراء.
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ
يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146))(سورة الصافات: الآيات 142-146).
على الرغم من أنّ المفسرين قالوا: إنّ سقيم تعني
مريضًا أو مطعونًا، إلا أنّنا بقراءة المشهد القرآنيِّ بتأنٍ سنجد أنّ لفظ (سقيم)
يعني حالة يأسٍ وحيرةٍ واضطرابٍ، وهي حالةٌ أقرب للاكتئاب منها للمرض العضويّ. وقد
جاء لفظ (مريض) في كتاب الله، ولذلك لا يمكن أن يكون لفظ (سقيم) بالمعنى نفسه.
من خلال تقارب صوت (سقم) و(سأم)، نستطيع القول
أنّ السّقم الذي أصاب نبيّ الله إبراهيم، وكذلك نبيّ الله يونس، هو نوعٌ من الحيرة
والاضطراب الذي سبّب اليأس والسأم. السّقم هو علّةٌ نفسيّةٌ، وليس علّةً بدنيّةً،
فكما تُسمّى العلة البدنية مرضًا، كذلك تُسمّى العلّة النّفسيّة سقمًا. لفظ (سقم)
مناسبٌ تمامًا للحالة الأخيرة التي أصابت نبيّ الله إبراهيم خلال نظره في النتائج
التي حصل عليها، عند بحثه عن الخالق. ولعلّ لسان العرب عندما حاول فهم قول نبيّ
الله إبراهيم: إني سقيم، قال: سقيمٌ من كفرهم، بمعنى يئسَ من إيمانهم.
بمقابلة الحالتين اللّتين أصابتا نبيّ الله
إبراهيم نتيجة حيرته واضطرابه، ونبيّ الله يونس نتيجة تعنُّت قومه، ممّا أدّى
لخروجه وغضبه، ثم اضطرابه وحيرته وشعوره بالندم واستغفاره، لن يكون هناك مجالٌ
لسوء فهم كلمة (سقيم)، وسوف تبوح بمكنونها، الذي هو حالةٌ من الضّجر، أو ما يُمكن
أن نُسمّيه حالةً قريبةً من الاكتئاب أو اليأس.
تفرُّد كلمة (سقيم) في سياق الآيات التي تشير إلى
الحالة الداخليّة لنبيّ الله إبراهيم والتي قصّتها الآيات، وكيف كان صلوات ربي
عليه دائم النظر والبحث، محاولًا الوصول للخالق، يشير تمامًا إلى أنّ (النّجوم) هي
ما نجم عن هذه التّفاعلات، أو هي النتائج التي حصل عليها من النظر، ولم يستطع
الوصول بعدُ للحقيقة النّهائيّة. ويمكننا فهم هذه النتائج من خلال الآيات الكريمة
التالية:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ
أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
(74) وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ
كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ
(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
(78))(سورة الأنعام: الآيات 74-78).
نستطيع من خلال الآيات استخراج عددٍ من النّجوم
أو النتائج التي نظر فيها نبيّ الله إبراهيم، والتي لم توصله لبُغيَته، وظلّ على
حيرته فترةً من الزمن.
النتيجة الأولى (النّجم الأول): عندما شاهد الأصنام التي لا تملك ضرًا ولا
نفعًا استنتج نتيجةً؛ وهي أنّ هذه الأصنام لا يمكن أن تكون الخالق. إذ كيف لهذه
المجسّمات التي شكّلها الإنسان أن تكون خالقًا، وهي لا تُصدر أيّ فعلٍ، وعاجزةٌ عن
حماية نفسها. عندما اجتمعت لدى نبيّ الله إبراهيم هذه المقدّمات كانت النتيجة
المنطقيّة أنّ هذه المجسّمات لا يصحّ ولا يعقل أن تكون خالقًا. لقد صوّر لنا
القرآن هذا التّفاعل، ونتيجة هذا التّفاعل، من خلال الآيات في سورة الصافات.
(إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ
اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)) (سورة
الصافات: الآيات 85-87).
النتيجة الثانية (النّجم الثاني): عندما رأى الكوكب اعتقد أنّ هذا الكوكب
ربّه، فهذا الكوكب بعيد المنال، وهو -لا شكّ- أكثر وجاهةً من تلك المجسّمات
القابعة بين يديه. لكنْ عندما أفلَ هذا الكوكب واختفى استنتج نتيجةً، وهي أنّ هذا
الكوكب لا يمكن أن يكون الخالق، فالخالق لا يغيب هكذا، بحسب منطقه.
النتيجة الثالثة (النّجم الثالث): عندما رأى القمر قال هذا ربّي؛ فقد كان
أكثر وضوحًا بالنسبة إليه وأكثر إعلانًا عن نفسه، ولكن مع اختفاء القمر عاد ليقرّر
أنّ القمر لا يمكن أن يكون الخالق.
النتيجة الرابعة (النّجم الرابع): عندما رأى الشّمس قال هذا ربّي؛ فهي أكبر
مِن مَا سبَقها، ولكن عندما غابت واختفت استنتج نتيجةً، وهي أنّ الشّمس لا يمكن أن
تكون ربّه مثلها مثل مَن سبقها، وحجّته في كلّ ما سبق أنّه لا يُحبّ الآفلين،
وكأنّ لسان حاله يقول: إن الرّبّ لا بدّ أن يكون محيطًا وحاضرًا دائمًا، ولا يجوز له
الغياب بحالٍ من الأحوال.
هذه هي النّجوم أو النتائج التي نظر وتأمّل فيها
نبيّ الله إبراهيم، وكانت النّتيجة النّهائيّة أنّ قومه في ضلالٍ مبينٍ، فهم
يعبدون أصنامًا يظهر جليًا أنّها ليست ربًّا أو إلهًا. لم يكن نبيّ الله إبراهيم
حتّى هذه اللحظة قد أيقن تمامًا بحقيقة الإله، ولم يكن قد وصل لمرحلة الهدى، بدليل
قوله بعد هذه الحادثة: إنّي ذاهبٌ إلى ربي سيهدين (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ
رَبِّي سَيَهْدِينِ) (سورة الصافات: آية 99).
(ربي) هنا لا تعني الله؛ فهو لم يصل بعد لفكرة
الإله، ولكنه تعبيرٌ يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ مَن يقول: (للكون خالقٌ) ولكنّه لم
يستقرّ بعد على ماهيّة هذا الخالق. أغلب الناس يُقرّون بسبب الخلق أو الخالق،
ولكنّهم يختلفون كثيرًا في طبيعة هذا الخالق، وهذا الفرق الهامّ بين مسمّى
(الخالق) ومسمّى (الله) شُرِحَ بالكامل في كتاب قولًا ثقيلًا، وهو فرقٌ شديد
الحساسية، وفهمه يُجلي كثيرًا من الاختلافات، بل يضع أرضيةً صلبةً للحوار حول
مفهوم وجود الله.
لقد تملّكته الحيرة بصورةٍ لا مثيل لها، وهذه
عادة كلّ الباحثين عن الحقائق، تغشاهم لحظات اضطرابٍ وحيرةٍ كبيرةٍ قبل مرحلة
التّثبّت، ومرحلة اليقين.
حياة نبيّ الله إبراهيم مليئةٌ بالمحطّات
الهامّة، والتي تمنحنا فرصةً عظيمةً لقراءة هذه الفترة، إنها المرحلة الفاصلة في
تاريخ البشريّة؛ إذ ولأوّل مرةٍ يحاول الإنسان المتمثّل في شخص نبيّ الله إبراهيم
الاستدلال على وجود الخالق بصورة منطقيّةٍ، معتمدًا على عقله. لا يمكن أن نُغفل
هنا قول الله سبحانه وتعالى عن نبيّه إبراهيم أنه جاء بقلبٍ سليمٍ (إِذْ جَاءَ
رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" (سورة الصافات: آية 84). إنّها الإشارة الرّبانيّة
إلى أنّ التّفكّر للوصول إلى الحقيقة عن طريق العقل والمنطق، هي مهمّة الإنسان
الأولى، بشرط أن يأتي الإنسان ربّه بقلبٍ سليمٍ خالٍ من الأهواء.
سوف نرى صدى هذه الآيات الكريمة في سورة النّجم،
وكيف أنّ القلب السّليم والتّغلب على الهوى شرطٌ أساسيٌّ للوصول إلى الحقيقة،
والاتّصال بالخالق. لكنّ بعضهم يحاول بناء جدارٍ فولاذيٍّ بين الإيمان بالله ودور
العقل في هذا الإيمان، متوهّمين أنّ استخدام العقل سوف يقود صاحبه إلى الهلاك دون
شكٍّ. على الجانب المقابل نرى الأمثلة التي زخر بها كتاب الله والتي تُعلي دور
العقل، بل كان نبيّ الله إبراهيم أهمّ مثالٍ للبشريّة، بل هو معلمّها الأول
وموجّهها نحو استخدام العقل، والذي وصفه الله سبحانه أنه كان أُمّةً، وهو جديرٌ
تمامًا بوصفٍ عظيمٍ كهذا.
لقد كان السّقم جليًا وواضحًا في حالة نبيّ الله
إبراهيم، فهو في حيرةٍ وقلقٍ؛ إذ نجده يوجّه حديثه للأصنام، قائلًا: ألا تأكلون؟
ما لكم لا تنطقون؟ وتوجيه مثل هذه الأسئلة للأصنام ينمّ عن حيرةٍ داخليّةٍ، بل
قمّة الاضطراب، فهو يبحث عن الخالق، وهذه الحجارة لا يمكن من وجهة نظره أن تكون
الخالق، فهي لا تملك من أمر نفسها شيئًا، ثم ترجم هذه الحيرة بتحطيم هذه الأصنام،
ليُثبتَ عجز هذه المجسّمات.
تلك التفاعلات النفسية التي اختلجت في نفس نبي
الله إبراهيم أنتجت نتائج هي ما سمّاها القرآن (نجوم)، وهي التي نظر فيها نبي الله
إبراهيم، والنظر هنا هو التأمّل، وليس إطلاق البصر نحو هدفٍ معينٍ. هذه النجوم
التي نظر فيها نبي الله إبراهيم هي السبب الرئيس في هدايته بعد ذلك، ووصوله إلى
أعظم فكرةٍ عن الله، والتي بنى حولها تصوّرًا شاملًا، وانطلق منه يحاجج الناس
ويحمل لواء معرفة الله، والتي أزعم بكل ثقةٍ أننا لم نصل إليها كما وصل إليها نبي
الله إبراهيم حتى الآن. سوف نلقي مزيدًا من الضوء على هذه الفكرة التي تكوّنت عند
نبي الله إبراهيم وحاجّ الناس فيها عندما نأتي إلى مفهوم الحج في نهاية
الكتاب.
ملاحظة:
من المشتركات الواضحة بين نجوم السماء ونجوم النّفس، هو خاصيّة الهداية والمعرفة،
والتي تنتج عن هذه النّجوم. فمن صفات نجوم السّماء أنّ الله سبحانه جعلها هدايةً
ودليلًا للناس، وقد جاء في قول الله تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النّجوم
لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (سورة الأنعام: آية 97).
كذلك نجوم النّفس الإنسانيّة أو النتائج التي
يتوصّل إليها الإنسان، تقوده وتهديه طريقًا دون شك.
لدينا دليلٌ آخر يمكن ضمّه إلى ما تقدّم؛ ليمنحنا
يقينًا في أنّ النّجم المذكور في سورة النّجم يعني النتيجة التي يتوصل إليها
الإنسان، عن طريق جمع مجموعةٍ من المعطيات والشواهد، وهو لفظ (هوى) الذي جاء
واصفًا حالة النّجم؛ ليثبت أنّ العمليّة ليست متعلقةً بنجوم السّماء
المعروفة.
ثانيًا: مدلول لفظ هوى
فسّر المفسرون لفظ (هوى) أنّه يعني سقط من علوٍّ،
فهل (هوى) تعني السقوط في كتاب الله؟
جذر كلمة (هوى) هو الهاء والواو والحرف المعتل، وتعني خلوًّا وسقوطًا، كما جاء في
قاموس اللغة. مدلول الكلمة في كتاب الله يشير إلى بُعدٍ آخر وخاصيّةٍ هامّةٍ، لا بدّ
أن نأخذها بالحسبان عندما نصف هذا الخلوّ والسّقوط.
ورد لفظ (هوى) ومشتقاته في كتاب الله في قرابة 29
موضعًا، ما بين هوىً وتهوي وأهواء. وسوف نحاول المرور على اللفظ ومشتقّاته في كلّ
الآيات، مع إغفال الآيات التي تحمل المعنى نفسه ابتعادًا عن الإطالة.
الآيات التي ورد فيها لفظ (هوى) بالألف
المقصورة
الآية الأولى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (سورة البقرة: الآية 87).
جاء في التفاسير: إنّ معنى لا تهوى الأنفس؛ أي ما
لا يُوافقها أو يُلائمها، ولا يمكن أن يكون معنى (هوى) هنا سقوطًا أو خلوًّا،
ولكنّ الأنسب أن يكون معنى (تهوى) هو ما تميل إليه النّفوس. فيصبح ما تميل إليه
النفوس، وتركن إليه، وهو الجانب المريح بالنسبة إليها. من هنا نجد أنّ صفة المَيل
من صفات كلمة (هوى).
الآية الثانية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ
أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ
أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (سورة النساء:
135). لا تتّبعوا الهوى هنا، تعني لا تتّبعوا الميل عن الحق، فيصبح الميل هو
الصّفة السّائدة للفظ (الهوى).
الآية الثالثة: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ
عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (سورة طه: الآية 81). قالت التفاسير في معنى هوى
هنا: إنها تعني شَقِيَ، ولكنّ المتدبّر للآية الكريمة، ولفظ (هوى) نفسه، يجد أنّ
المعنى لن يخرج عن كونه الميل مع عدم الاستقرار، بمعنى التّأرجح، وهو غاية الشّقاء
الذي يصيب الإنسان. في المقابل نجد أنّ مَن اتّبع هدى الله فلا يضلّ ولا يشقى، وهو
غاية الاستقرار, والذي أشار ربنا إليه إشارةً خفيفةً في سورة الضحى، عندما قال
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ)(سورة الضحى: آية 7). بذلك نجد أنّ لفظ (هوى) ما زال
يدور حول الميل وعدم الاستقرار
والتّأرجح.
الآية الرابعة: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)(سورة ص: الآية 26).
الهوى في هذه الآية الكريمة هو الميل واتباع
الأشياء الضبابيّة غير اليقينيّة، في حين أنّ المطلوب من الحاكم هو اتّباع الحق
الواضح، والبيّنة الصّريحة.
الآية الخامسة: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (سورة النازعات: الآية 40)
الهوى في هذه الآية الكريمة هو الميل والتذبذب؛
لذا جاء الخطاب القرآني محذّرًا من هذا الميل والانحراف، فهو مدعاةٌ للحرمان من
رحمة الله.
الآيات التي ورد فيها لفظ (هوي) بالياء
لفظ (هوي) بالياء بدلًا من الألف المقصورة يشير
إلى حالة استقرارٍ بعد تأرجحٍ واضطرابٍ، كما سوف نرى من خلال الموضعين اللّذَين
ذُكر فيهما لفظ (هوي).
الآية الأولى: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن
ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا
لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (سورة إبراهيم: الآية
37).
تهوي الأفئدة أي تستقرّ بعد تنقّلٍ، واختيار لفظ
(تهوي) يوحي بأنّ أصحاب هذه القلوب قبل أن تهوي كانوا في بحثٍ مستمّرٍ، أو تأرجحٍ
بين الإقامة والتّرحال، فإذا هوت الأفئدة فقد استقرّت واطمأنّت؛ ممّا يعطي لهذا
المجتمع صفة الاستقرار والاطمئنان. إنّه الفرق بين الألف المقصورة والياء.
الآية الثانية: (حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (سورة
الحج: الآية 31).
هذه الآية الكريمة ترسم صورةً مجسّدةً للّفظ،
فالشّيء الذي تهوي به الريح يكون في تأرجحٍ وعدم استقرار بفعل هذه الريح، إلى أن
يستقرّ. كذلك نجد أنّ إضافة الياء بدلًا من الألف المقصورة أضافت بُعدًا جديدًا
للكلمة، جعلها تستقرّ -كما ذكر ربُّنا- في مكانٍ سحيقٍ.
من خلال مدلول لفظ (هوي) نجد أنّه لفظٌ غير
مناسبٍ لوصف حركة أجسامٍ ثقيلةٍ مثل النجوم في السماء، ولا سيما في ظل وجود وصفٍ
دقيقٍ وصف الله به بعضًا من الأجرام السماوية، وهي ألفاظٌ مثل: تجري أو
يسبح.
أضف إلى ذلك أنّ المعلومات العلميّة التي بين
أيدينا تشير إلى أنّ نهاية النّجوم تكون بالانفجار، وليس أن تهوي. إضافةً إلى ذلك
فإن باقي آيات السورة تتحدّث عن نظامٍ معرفيٍّ، ومفرداتٌ مثل: الضلال، والهدى،
ووحي، وعلم، هي المفردات المسيطرة على تعبيرات السورة.
الآيات التي ورد فيها لفظ (أهواء)
ذُكر لفظ (أهواء) وهو جمع هوى في ستة عشر موضعًا
من كتاب الله، جاءت كُلّها مذمومةً؛ تصف حالةً من الزّيغ و الانحراف والميل، وهو
في حقيقته تأرجحٌ وعدم استقرار. الأهواء التي حذّر منها ربّنا ومن اتباعها هي خلاف
الإيمان؛ لأنّ الإيمان هو حالةٌ من الاستقرار والاطمئنان، في حين أنّ اتّباع
الأهواء يسبّب حالةً من انعدام الثّقة أو الاستقرار، النّاتج عن كثرة التّجاذبات،
والتي تؤدّي بدورها إلى التّأرجح والتّذبذب.
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي
دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن
قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) (سورة المائدة:
آية 77).
(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(سورة الأنعام: آية
150).
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ
الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ)(سورة الجاثية: الآية 18).
نتيجةً لذلك يمكننا القول: إنّ لفظ (هوى) يصف
حالة ميلٍ ناتجةً عن التّأرجح، والذي يُؤدّي بدوره إلى عدم الاستقرار. النفس في
حقيقتها لا تسقط في الملذات، وإنما تهوى الملذات، ولا تسقط في الاستسهال ولكنّها
تهوى الاستسهال، والفرق بين تسقط وتهوى فرقٌ دقيقٌ، يوضّح حقيقة النّفس البشريّة.
بينما يكون السّقوط مرةً واحدةً سريعةً ومباغتةً، يكون الهوى بين إقدامٍ وإحجامٍ
ورغبةٍ ورهبةٍ. وهكذا تتأرجح النّفس، فإذا غلب شرّها سقطت في الإثم، وإن غلب خيرها
تخطّت الهوى ونجت.
أخيرًا، نجد أنّ الآية الكريمة (والنّجم إذا هوى) تعني إذا
كنت متأرجحًا فيما حصلت عليه من نتيجةٍ، أو بمعنىً آخر، إذا لم تكن متأكدًا
ومطمئنًا تمامًا إلى ما توصّلت إليه؛ فعندها ماذا تفعل إذا كنتَ قد تفكّرتَ في
أمرٍ، ولديك نتيجةٌ معيّنةٌ ولم تستقرّ عليها بعد؟
الآيات التي تلت الآية الأولى في سورة النّجم
أجابت عن هذا السؤال، ووجّهت الإنسان وأخبرته بحقيقة ما يحدث في عقله وقلبه، بل
وأشارت إلى مُعينٍ يقف معه، ويُقدّم له المساعدة في كلّ أمرٍ نجم عن مجموعة
مشاهداتٍ أو مقدّماتٍ.
عجيبٌ أمر هذه السورة، فكلّ آية مترتبةٌ على
الآية التي تسبقها، وكأنها نتيجةٌ لها، أو أنّ كلّ آيةٍ نجمت عن سابقتها. وبمجرد
فهم مدلول لفظ (النجم) أصبح الآن لدينا محورٌ أساسيٌّ تتحدث عنه السورة، ليأتي لفظ
(الصاحب) في الآية التالية ليُلقي مزيدًا من الضوء على النظام المعرفي للإنسان،
ويصف علاقةً ما أحوجنا لفهم طبيعتها ووظيفتها.
ملخص
الفصل
- لفظ (النّجم) الذي بدأت به السورة
يدلّ على النتيجة، أو ما نجم عن شيءٍ ما، وليس نجم السماء المعروف.
- العلاقة بين نجم السماء المعروف
ومفردات السورة تكاد تكون مقطوعةً، أما مدلول لفظ (النجم) على أنه نتيجة ما
حصل عليه الإنسان خلال عملياتٍ معينةٍ فهو المدلول المتسق مع مفردات السورة،
وكذلك مع مشاهد قرآنيةٍ أخرى جاء فيها لفظ (النجوم) كتلك التي وصفت نظر نبي
الله إبراهيم في النجوم.
مجرد فهم مدلول (النجم) على أنه النتيجة التي يحصل عليها الإنسان فتح الباب على مصراعيه لفهم كيفية تعامل الإنسان مع المعرفة، وكيف يهتدي للحقائق، وكيف يتعامل معها.
Comments
Post a Comment