الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل الثاني

مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ


 

 

أتفهّم جيدًا أنه ليس بالأمر الهين تقبّل فكرة أنّ (الصاحب) المذكور في سورة النجم، بل ولفظ (صاحبكم) في القرآن جميعه لا يشير إلى محمدٍ رسول الله صلوات ربي عليه. قد يحتاج الأمر قبل قبول الفكرة لقراءة الفصل مرتين أو أكثر، والتوقّف مع الأدلة، ونبذ التعصّب والتحيّز لفكرةٍ سابقةٍ. مفهوم (صاحبكم) أشمل و أعمّ وأعظم مما نعتقد. 

 

 لماذا لمْ يسأل المفسّر نفسه: لِمَ جاء لفظ (صاحبكم) في هذا الموضع؟ وما دلالة هذا اللّفظ في سورة النّجم؟ 

هذا السؤال –بالتأكيد- لم يكن مطروحًا؛ لأنّ بداية السورة لم تعنِ للمفسّر سوى قَسمٍ، يقول عنه المفسّر: إنّ الله يُقسم بما شاء وكيفما شاء. لكنْ عندما طرحنا السّؤال: ماذا يريد الله أن يخبرنا أو يقول لنا؛ استطعنا فهم مدلول (النجم) في السّورة، ومن ثمّ بدا لفظ (الصّاحب) غير الذي نعرفه، وأصبح مدلوله متّسقًا تمامًا مع آيات السّورة.

 

 سوف نقف عند الآية الثانية في سورة النجم (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ) لِنرى مَن هو الصّاحب المقصود، والذي قادنا لاكتشافٍ عظيمٍ من اكتشافات كتاب الله. 

 

قبل بحث جذر كلمة (صاحبكم) ومدلولها في كتاب الله، لا بدّ أن نسأل:

  • لماذا ذكر القرآن لفظ (صاحبكم)؟ وهل يُوصف رسول الله بصفة (صاحبكم)؟ أم هو رسول الله، ويستمدّ مقامه من كونه رسول الله، وليس من كونه صاحب أحدٍ؟
  • ما دلالة قوله سبحانه (صاحبكم)، وماذا أضافت؟ وهل التّعبير القرآنيّ يشبه التّعبير البشريّ، أم أنّ التّعبير القرآنيّ دقيقٌ ومعجزٌ؟

الجذر (صحب) كما في قاموس اللغة، يدلٌّ على المقاربة؛ بمعنى أنّه شيءٌ قريبٌ من شيءٍ آخر، فهو مصاحبٌ له. ومن خلال مدلول كلمة (صحب) وتتبّع مشتقاتها في كتاب الله، يتبيّن لنا أنّ كلمة (صاحب) تصف حالة ملازمةٍ وقُربٍ، وتصف حالةً محدّدةً لا بدّ للصّاحب فيها أنْ يكون مصاحِبًا بصورةٍ حقيقيّةٍ، وليست مجازيّةً. وقد وردت مشتقّات الجذر (صحب) في كتاب الله، في تسعة عشر موضعًا، ونلاحظ أنّها متوافقةٌ تمامًا مع الجذر اللغويّ، وتعني حالة قربٍ وملازمةٍ. 

 

الآيات التالية التي جاء فيها لفظ (صاحب)، سوف تمنحنا فرصةً جيّدةً لفهم المعنى فهمًا دقيقًا: 

الآية الأولى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) (سورة النساء: آية 36). المقصود بالتّعبير القرآنيّ (الصّاحِب بالجَنب) هو الكيان المُلاصق القريب، ولا يُمكن أنْ يُسمّى صاحبًا إلّا إذا كان قريبًا وموجودًا ومُلازمًا.

 

هذا التّعبير القرآنيّ في غاية العَجَب، فكيف يجتمع (الصّاحِب) مع لفظ (الجَنْب)؟ لفظ (صاحب) تعني المُلازم والقريب، في حين أنّ لفظ (جَنْب) -حسب قواميس اللغة- يعني التّباعد، ومنه الاجتناب. 

يُفسّر هذا التّعبير القرآنيّ نفسه بنفسه، من خلال الآية الكريمة ذاتها، فعندما قال ربُّنا (والجار ذي القربى)، فهو يقصد مرحلتين من العلاقات: مرحلة الجوار، ومرحلة القرابة. أمّا الجار الجُنب فهو الجار المُتباعد لأن الجُنب هو نفس الجذر، وليس المقصود بذلك التباعد الجغرافيّ؛ لأنّ كلمة (جار) نفسها ترفض ذلك، ولكنّ المقصود هو التّباعد النّفسيّ. أي إنّ الجار الجُنب هو الجار الذي لا يختلط بأحدٍ، أو بالتّعبير المصريّ الدّارج (يأخذ جنبًا).

 

يمكن تطبيق الحالة نفسها على (الصّاحِب بالجَنب)، وهو المُلازم في أمرٍ ما، مثل سفرٍ أو عملٍ أو أيِّ أمرٍ من شأنه دفع اثنين أو أكثر ليكونا متصاحبين أو مترافقين. فالصّاحِب بالجَنب في هذه الآية هو الذي لا يختلط بغيره، ومتباعدٌ عن الآخرين. وقد يكون هذا التّباعد بسبب حالةٍ نفسيّةٍ أو سمةٍ شخصيّةٍ؛ لذا جاءت الآية الكريمة تهدي الإنسان العاقل الذي يتدبّر كلام الخالق، فإنْ عرضت له مثل هذه الحالة فعليه أن يترفّق، ويتّخذ الإحسان مركبًا في تعامله مع هؤلاء. 

كثيرةٌ تلك المواقف التي نعيشها في سفرٍ أو عملٍ أو رفقةٍ ما، ونرى ذلك الشّخص المتباعد الذي لا يرغب بالاختلاط. فإذا رأيت شخصًا يحاول زيادة هذا التّباعد، ونبذ الصّاحِب بالجَنب، بحجّة أنّه انطوائيٌّ، وقد يفسد الحديث، فاعلم أنّه يعمل خلاف التّوجيهات الرّبّانيّة، إذ إنّ الإرشاد الربانيّ هو الإحسان قدر المستطاع لهذا الصّاحِب بالجَنب. وهذه الرحمة لا يعرفها خبثاء الطويّة، ولا يطبّقها إلا أصحاب النّفوس الطيّبة.

 

لنا هنا ملاحظةٌ على الحركة المختلفة في بنية كلمة (جنب) في تعبير (الجار الجُنب) و(والصاحب بالجَنب)؛ إذ إنّ لفظ (الجُنب) بضم الجيم الذي جاء مع الجار حمل بُعد الإصرار الكبير والرغبة القوية من الجار في تجنّب الآخرين. فالجار بطبيعة جواره مُعرّضٌ للاختلاط بمرور الوقت، ومعنى أنه لا يختلط بالآخرين فذلك أمرٌ فيه تعمّدٌ واضحٌ وقويٌّ. لهذا أرى أنّ الضم على حرف الجيم حمل هذا البعد. أمّا في لفظ (الصاحب بالجَنب) فجاءت بفتح الجيم وليس بالضم؛ لأن الصحبة بطبيعة الحال مرتبطةٌ بواقعةٍ معينةٍ وأغلبها مؤقتةٌ. فالفرق بين الضم والفتح هو فرقٌ في قوة الكلمة من حيث مدى التباعد. 

 

تعبير (الصّاحِب) في هذه الآية لا يعني سوى الملازمة والمرافقة في أمرٍ ما، ولا يعني الصّداقة بمفهومنا المعاصر، وخلطُ المفهومَين أمرٌ خطيرٌ للغاية. 

 

الآية الثانية والثالثة: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (سورة الأنعام: آية 101) 

(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) (سورة الجن: الآية 3)

الصّاحِبة في الآية تعني الملازِمة والقريبة؛ والله سبحانه تنزّه عن ذلك، فهو القائم بذاته، الواحد الصّمد، ولا يحتاج إلى ذلك. 

 

الآية الرابعة: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (سورة التوبة: آية 40) 

الحديث في الآية الكريمة عن رسول الله ومرافِقه في رحلة الهجرة، وكما نرى سُمّي صاحبًا؛ لأنّه صاحبَ ولازمَ ورافقَ عن قربٍ رسول الله في رحلته. الصّاحِب هنا يصف حالةً خاصةً مؤقّتةً، وليست صفةً دائمةً؛ أي تنتهي بانتهاء المصاحبة. القرآن يصف حالةً محدّدةً، وهي حالة مصاحبةٍ في سفرٍ (هجرة)، وليست حالةً عامةً كما تبنّاها المفسّرون غفر الله لهم. هناك آياتٌ أخرى كثيرةٌ تحدّثت عن مواقف لرسول الله مع بعض معاصريه، ولم تصف أيًّا منهم بصاحبه أو صاحبته؛ لأنّ الموقف لا يُمثّل صحبةً، مثل حالة زيدٍ، أو حالة السّيّدة التي جاءت قصّتها في سورة المجادلة، أو حالة الرجل الذي جاء يسعى في سورة عبس. 

 

الآية الخامسة والسادسة: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (سورة يوسف: الآية 39)

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (سورة يوسف: الآية 41).

الآية الكريمة تذكر صاحبَي السّجن، وهما بطبيعة الحال قريبان وملازمان لنبيّ الله يوسف، بحكم وجودهما في السّجن معه. المصاحبة هنا كانت في السّجن، ولكنْ بمجرّد خروج أحدهما، لم يصفه ربنا بصاحب نبيّ الله يوسف؛ لأنّ الصّحبة غير موجودةٍ، ولكنْ وصفه بالذي نجا منهما. 

 

(وَقَالَ ٱلَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِۦ فَأَرْسِلُونِ) (سورة يوسف: آية 45). هذا الوصف القرآنيّ الدّقيق هو عين البلاغة القرآنيّة؛ إذ يستخدم اللّفظ في موضعه تمامًا بصورةٍ حقيقيّةٍ، ولكنّ النّاس تخلّت عن تعبيرات القرآن، واخترعت لنفسها لغةً خاصةً بها، وتريد أنْ تُفسّر كلام الله على أُسسها وقواعدها وتعبيراتها. لم يقل القرآن (وادّكر صاحبه)؛ لأنه على الحقيقة لم يعد صاحب يوسف، وهذا هو الفرق بين كلام الخالق الذي يضع كل كلمةٍ في موضعها وبشرٍ لا يجيدون سوى المقاربات على حساب الحقائق. 

الآية السابعة والثامنة: (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (سورة الكهف: آية 34).

(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) (سورة الكهف: آية 37). 

المشهد الذي حكاه القرآن عن الرّجلين مشهدٌ حقيقيٌّ، يصف مصاحبة أحدهما للآخر؛ فقد دار الحديث الذي سجّله لنا القرآن بينهما وهما في حالة مصاحبةٍ. لا بدّ أنّ لفظ (صاحب) في الآية يعني حالة ملازمةٍ ومرافقةٍ طويلةً نسبيًا، ولو أنّ الرجلين تقابلا وتحدّثا في أمرٍ سريعٍ لما صحّ أن يكون أحدهما صاحبًا للآخر. الآية تشير إلى مرافقةٍ استمرّت مدةً من الزمن، وملازمةٍ جعلت كلًا منهما صاحبًا للآخر، فقد يكونان سارا معًا وقتًا طويلًا، أو بقيا وقتًا يتحاوران معًا. 

 

الآية التاسعة: (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا) (سورة الكهف: آية 76). المصاحبة في هذه الآية تعني الملازمة والقرب أيضًا، والآية ليست بحاجةٍ للإيضاح فهي تشرح نفسها؛ إذ انتهت حالة المصاحبة باستنفاد نبيّ الله موسى أعذاره، وبوعده الذي قطعه على نفسه، بأنّه إن سأله عن شيءٍ بعدها فليقطع صحبته معه. 

 (قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِیلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرًا) (سورة الكهف: آية 78)

الآية العاشرة: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (سورة لقمان: آية 15).

 

نجد في الآية الكريمة أنّ مفهوم المصاحبة يعني الملازمة والقرب كذلك، ولا يمكن أنْ نقول: إنّ الولد إذا كان في حالة سفرٍ يمكن أن يكون صاحب والديه، فهذا لا يستقيم. وعند غياب الابن عن والديه تنتفي عنه تمامًا صفة المصاحبة، ولكنّها تعود مرةً أخرى إذا عاد بجانبهم. 

 

يوضّح القرآن بصورةٍجليّةٍ أن الصحبة أمرٌ حقيقيٌّ، ولا بدّ لكي يكون الإنسان صاحبًا لإنسانٍ آخر أن يكون قد صحبه بالفعل في أمر ٍمحددٍ. ولكي يستقيم تفسير (صاحبكم) على أنه رسول الله لا بدّ أن يَذكر القرآن موقف المصاحبة، ولا يُطلقها كما جاء في سورة النجم، بل يجب أن يُخصّص القرآن أمر المصاحبة، فهل صحبهم في سفرٍ أم في معركةٍ أم في أيّ شأنٍ؟ أمّا ولم يُخصّص القرآن ذلك فإنّ إطلاق لفظ (صاحبكم) على عمومه يجعل رسول الله بعيدًا عنه؛ لأنه لم يكن في حالة مصاحبةٍ دائمةٍ للناس. 

هكذا تسير جميع الآيات في كتاب الله، والآية الوحيدة التي قد تُشكل على الناس هي آية الحوت ونبيّ الله يونس. 

الآية الحادية عشرة: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)) (سورة القلم: آيات 48-50). 

 

الآيات تُعبّر عن حالةٍ مؤقّتةٍ أيضًا، وتصف مشهدًا عصيبًا حصل مع نبيّ الله يونس وهو في ظلمات البحر، والحوت في حالة مصاحبةٍ تامةٍ له، بمعنى مرافقةٍ وملازمةٍ. والحقيقة أنّ هذه الآية تشير إلى أنّ الحوت كان يرافق نبيّ الله يونس ويلازمه، ممّا يشير إلى أنّ الحوت كان بجواره طوال الوقت، ولكنّه لم يقربه، لقد كان في متناوله ولكنّه لم يبتلعه. لا يمكن فهم (صاحب الحوت) أنه كان طعام الحوت، أو ضحيّة الحوت، أو مَن ابتلعه الحوت. 

 (وَإِنَّ یُونُسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ (139) إِذۡ أَبَقَ إِلَى ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُدۡحَضِینَ (141) فَٱلۡتَقَمَهُ ٱلۡحُوتُ وَهُوَ مُلِیمٌ (142)) (سورة الصّافات: 139- 142)

اللفظ القرآنيّ عجيبٌ لأقصى حدٍّ، فقد وَصفَ هذا المشهد بالالتقام وليس بالبلع، رغم أنّ لفظ (البلع) لفظٌ قرآنيٌّ بامتياز. 

 (وَقِیلَ یَـٰۤأَرۡضُ ٱبۡلَعِی مَاۤءَكِ وَیَـٰسَمَاۤءُ أَقۡلِعِی وَغِیضَ ٱلۡمَاۤءُ وَقُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِیِّۖ وَقِیلَ بُعۡدًا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ) (سورة هود: آية 44). 

 ابتلاع الأرض للماء هو غياب هذا الماء داخل الأرض، بينما لفظ (التقم) له مدلولٌ آخر، كما سوف نرى في الأسطر التالية، وبذلك تكتمل الصورة. 

ماذا يعني لفظ (الْتَقم)؟ 

أصل لفظ (التقم) هو (لقم) وتعني تناول الطعام بالفم، كما جاء في قاموس اللغة. يجب أن نقف على معنى الالتقام، وهو مرحلة التّناول، والتي تسبق مرحلة المضغ أو البلع أو الهضم؛ لأنّ خلط المسميّات هو ما سبّب سوء فهم قصّة نبيّ الله يونس. 

 

من خلال جذر الكلمة (لقم) وكذلك مدلول لفظ (صاحب) نجد أنّ الصورة اكتملت؛ فالحوت اقترب كثيرًا من نبيّ الله يونس، على نحوٍ أصبح نبيّ الله يونس في متناوله، أو أنّ الحوت حرّك فمه حول نبيّ الله يونس، ولكنّه لم يبتلعه أبدًا. لقد كان نبيّ الله يونس في موقفٍ عصيبٍ؛ فهو في حالة تماسٍ مع الحوت، وحالة مصاحبةٍ، وفي متناوله تمامًا، بل إنّ الحوت لامسه بفمه أو حتى أطبق عليه بفمه لفترةٍ وجيزةٍ، ولكنه لم يبتلعه، وهذا ما تشير إليه الألفاظ ودقّة صياغتها.

 

 إنّها حركةٌ تُشبه حركة مداعبة حيوانٍ مفترسٍ لصغيره، أو حركة مداعبةٍ بين حيواناتٍ مختلفةٍ. يُقال التقم الطفل ثدي أمه أو وضعه في فمه، لكنّ ذلك لا يعني أنّه رضع، فمجرّد تناول الطّفل لثدي أمّه يُقال له التقمه. وقد تكون هذه المحاولة من الحوت محاولةً استكشافيّةً، لا سيما إذا علمنا أنّ الحيتان ليس لها تاريخٌ عدائيٌّ مع الإنسان، وأنّ الإنسان لا يقع في سلسلة غذائها، لذلك نادرًا ما تُهاجم الحيتان الإنسان. وكثيرًا ما نرى اقتراب الحيتان من الإنسان، ولكنّ مهاجمتها له هو أمرٌ نادر الحدوث. 

 

 ما دلالة قول الله سبحانه: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)) (سورة الصافات: آيات 143-145)؟

التّسبيح كما ذكرنا في أكثر من موضعٍ هو الحركة الدائمة، سواء كانت هذه الحركة على المستوى المادّيّ، مثل التّحرّك المستمرّ، والذي هو صفة جميع المخلوقات، أو على المستوى اللاماديّ، وهو حركة النّفس، ورغبتها في تغيير حالتها. 

 

يبدو لنا أنّ تسبيح نبيّ الله يونس كان النّوعين معًا، عن طريق حركته محاولًا الابتعاد عن الحوت، والسباحة، ولجوئه لله طالبًا العون بإلحاحٍ شديدٍ، لتغيير هذا الوضع المأساويّ الذي نزل به. لولا هذا التّسبيح الذي فعله نبيّ الله يونس لربّما أصبح طعامًا للحوت.

 

قد يعتقد بعضهم أنّ تعبير (لولا أن كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) يُشير إلى أنّه كان بالفعل في بطنه، ولكن من خلال الحرف (لولا) نجد خلاف ذلك؛ لأن الحرف (لولا) يُستعمل في حالة امتناع حدوث أمرٍ لوجود أمرٍ آخر؛ أي امتناع الجواب لوجود الشرط. والمعنى المفهوم من ذلك هو أنّ كونه من المسبّحين منعه من أن يكون في بطن الحوت، أو أن يكون طعامًا له. وذلك مثل أنْ نقول لإنسانٍ على حافّة دخول السّجن: لولا هذا المحامي للبثتَ في السّجن عشر سنين. إذًا هو لم يدخل السّجن من الأساس؛ فوجود المحامي دفع عنه أن يلبث في السجن، الأمر الذي بدا محتومًا.

 

إذًا (لولا أن كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون) ليس معناها أنّ الحوت حيٌّ حتى هذه اللحظة، ولكن خلف هذا التّعبير معلوماتٌ لها علاقةٌ بعمليّة البعث، والتي سوف نتعرّف عليها في الفصول القادمة. 

لا يفوتنا هنا أنْ نشير إلى أنّ لفظ (لقمان) الذي جاء في موضعين في القرآن الكريم، يشير أيضًا إلى حالةٍ من التّناول.

 

(وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا لُقۡمَـٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ وَمَن یَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ حَمِیدٌ) (سورة لقمان: آية 12) 

(وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَـٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ یَعِظُهُۥ یَـٰبُنَیَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِیمٌ) (سورة لقمان: آية 13)

الشيء الذي كان يتناوله لقمان، بل ويناوله للآخرين –كما ورد في الآيات- هو الحكمة، ولفظ (لقمان) يشير إلى أنّ هذا الرّجل كان حالةً عجيبةً من الحكمة، فقد كانت سهلةً وميسّرةً له بصورةٍ لافتةٍ. ليس هناك تعبيرٌ أعظم ولا أروع من وصف رجلٍ، الحكمة في متناوله، بلفظ (لقمان)، والذي يشير إلى أنّ تعبيراته تفيض سلاسةً وبلاغةً، وتصل إلى هدفها دون أدنى مجهودٍ؛ أي أنّ الحكمة في متناوله. إنّه وصفٌ للاحترافيّة في أبهي صورها، فالاسم ذاته يصف الحالة بكلِّ بلاغةٍ واقتدار. 

 

نعود مرةً أخرى للفظ (صاحبكم)، والذي قلنا أنه يصف حالةً من الملازمة والمرافقة، فهل لفظ (صاحبكم) في سورة النجم يُقصد به رسول الله؟ 

من خلال فهم حالة المصاحبة، وسياق الآيات سنجد أنّ لفظ (صاحبكم) لا يمكن أن يُقصد به رسول الله؛ لأنّ لفظ (صاحبكم) يعني حالة مصاحبةٍ مؤقّتةٍ تنتهي بانتهاء الصحبة، والصحبة بمعناها القرآنيّ لم تتحقّق إلا لنفرٍ قليلٍ صحبوا رسول الله في مواضع محددةٍ، وتنتهي تمامًا بانتهاء الحدث، وكلمات القرآن تصف الأحداث على حقيقتها. 

 

يصحّ أن يُطلق لفظ (صاحب) على من صحب الرسول في الهجرة مثلًا، وتنتهي هذه الحالة بانتهاء رحلة الهجرة. ويُطلق لفظ (صاحب) على مَن مشى مع الرسول في أمرٍ ما واستغرق وقتًا، وتنتهي الصحبة بانتهاء هذا الأمر. أما امتداد حالة الصحبة وكأنها حالة ملازمةٍ حقيقةٌ فهذا ليس بكلام الخالق، وإنما مقاربات الناس. إننا في حياتنا المعاصرة نطلق لفظ (زميل) على زميل العمل أو الدراسة، وبمجرد انتهاء العمل أو الدراسة تنتهي صفة الزمالة، فلا يصحّ في عرفنا الحاليّ أن نطلق لفظ (زميل) على شخصٍ لم يعد زميلًا في الحقيقة. فكيف استساغ الناس إطلاق لفظ (صاحب) على رسول الله رغم انتهاء حالة المصاحبة، ثم نسجوا تصوراتهم حول هذا المفهوم؟ 

 

إنّ جعل لفظ (صاحب) يَقصد رسول الله، يجعل القرآن مُغرِقًا في المحليّة، وكأنّه يُخاطب فئةً صغيرةً للغاية، وهذا ليس أسلوب القرآن البلاغيّ أبدًا. إضافةً إلى أنّ تعبير (صاحبكم) سوف يصبح بذلك غير حقيقيٍّ؛ لأنه في هذه الحالة عبّر عن حالةٍ وُجِدَت في بعض المواقف مع بعض الأشخاص، ولكنّها ليست في كلّ وقتٍ ولا مع كلّ شخصٍ.

نقطة أخرى جديرة بالملاحظة وهي لو أنّ الخطاب القرآنيّ موجهٌ للمعاصرين في زمن رسول الله، ويقول لهم ربنا (ما ضل صاحبكم وما غوى)، وفي آياتٍ أخرى ينفي عن صاحبهم الجنون (وما صاحبكم بمجنون)؛ فلا بدّ أنْ يكون هذا الخطاب موجهًا لفئةٍ صغيرةٍ جدًا، وهم الذين ينطبق عليهم وصف أصحابٍ حقيقةً.

 لكنّنا هنا نتحدّث عن الوصف القرآنيّ الدقيق، ولا نتحدّث عن تعريفاتٍ وضعها الشّرّاح لمفهوم الصحبة، فقد جعلوا مَن تحدّث مع رسول الله أو رآه صاحبًا له. لكنّ هذا الوصف وصفٌ بشريٌّ، ليس له علاقةٌ بمدلول الكلمة اللغويّ، المستند إلى جذر الكلمة أو مدلولها في كتاب الله.

 

كذلك الآيتان الثالثة والرابعة من سورة النجم، وما تشيران إليه، توضحان أنّه لا يمكن أن يكون المقصود بلفظ (صاحبكم) هو رسول الله.

(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)).

 الآية الثالثة تبيّن أنّ نُطق الصّاحِب ليس عن هوىً، وقد جاءت الآية الرابعة تُفيد الحصر والتخصيص، وتضع النّقاط على الحروف، من خلال قول الله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)؛ ممّا يشير إلى أنّ النّطق مطلقًا ما هو إلا وحيٌ يوحى. فإذا كان تفسير الآيات كما يقول المفسرون، وأنّ الصّاحِب هو رسول الله، وأنّ المقصود بالوحي هو ما ينطقه رسول الله، فمعنى ذلك أنّ كلَّ نطقٍ نطقه رسول الله هو وحيٌ من الله، وهذا ما لم يؤيّده القرآن، أو حتّى الرّوايات التّاريخيّة. 

 ونجد في نصّ القرآن أنّ رسول الله نطق أشياءَ عاتبه فيها ربه، وذلك يكسر هذه القاعدة، كما جاء في سورة التحريم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (سورة التحريم: آية 1). 

يبدو واضحًا أنّ رسول الله حرّم على نفسه أشياء أحلّها الله له، ولو كان كلُّ نطقِ رسولِ الله وحيًا لما عاتبه الله على ذلك. هذه الآية الكريمة توضّح بصورةٍ محكمةٍ لا لبس فيها أنّ ما ينطقه رسول الله ليس كلُهَ وحيًا، وإنّما هناك قولٌ خاصٌّ برسول الله، نتيجةً لتفاعله مع البيئة والحياة من حوله. وبذلك ينتفي تمامًا أن يكون الصّاحِب المذكور في سورة النّجم هو رسول الله. ومسألة الوحي المنزل من الله على رسول الله، والقاطع بأمره، هو الوحي الخاصّ بتنزيل الكتاب، والذي لا يملك معه الرّسول سوى تبليغه كما هو. 

عند قراءة القرآن لا بدّ أن يدرك القارئ حقيقة أنّ هذا الكتاب كلام الله، ويطرح السؤال: هل يقصد القرآن بأنّ نطق رسول الله وحيٌ يوحى؟ والقرآن ذاته يخبرنا أنه عاتبه على أشياء ولم يُقرّه على بعض أفعاله. لو أنّ كاتبًا يكتب في عصرنا الحالي لذكر هذا الاستثناء ووضّحه لنا، فما بالكم بالله؟ هل كلام الله فيه كل هذا الاختلاف وهذا التناقض؟

 

عند وضع النّتائج السّابقة جنبًا إلى جنبٍ، بدايةً من اسم السورة وقول الله (والنجم إذا هوى)، والتي تعني النتيجة إذا كانت في حالة تأرجحٍ ما بين القبول والرفض، ثم قول الله (إن هو إلا وحيٌ يوحى)، فإننا أمام نظامٍ يعين الإنسان في عملية تفكيره ووصوله إلى نتائج معرفيةٍ في حياته. ليس رسول الله؛ فقد انتهت مهمة الرسول، وبقي الإنسان يقرأ هذه الآية، وهي عاملةٌ بالنسبة إليه إلى اليوم الآخر.

 

 إنها إعلانٌ وإشارةٌ إلى صاحبٍ آخر، في حالة مصاحبةٍ حقيقيّةٍ ومستمرّةٍ للإنسان بصفةٍ عامةٍ، ويجب أن نوجّه النظر في هذا الاتجاه، فالآيات تلحّ علينا لتخبرنا بشيءٍ ما، ولكن نأبى إلا أن نجعل القرآن نصًا تاريخيًا. لدينا آياتٌ ودلائل أخرى سوف تمنحنا أدلةً قويةً على أن المقصود بـ (صاحبكم) لا يمكن أن يكون رسول الله، بل لدينا في السطور القادمة دليلٌ لا يقبل الشك وقاطعٌ.

 

جميع الآيات التي جاء فيها ذكر (صاحبكم) أشارت إلى صراعٍ فكريٍّ داخل الإنسان ذاته، ولا علاقة لرسول الله به، وّهذه الآيات موجهةٌ إلى الناس عامّةً، وليس إلى بضع عشراتٍ في زمن نزول الرّسالة. 

الآيات التي جاء فيها لفظ (صاحبكم) أو (صاحبهم).

 

الآية الأولى: 

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سورة سبأ: آية 46)

هذه الآية الكريمة تخبرنا بعمليّة التّفكير، وقوام هذه العمليّة، والعوامل المساعدة عليها. وقد صدرت الموعظة من الله إلى خلقه من خلال هذه الآية، التي تُرشدهم إلى كيفيّة الوصول إلى الحقيقة في خطواتٍ بسيطةٍ ويسيرةٍ. عمليّة التفكير التي اختصّت بها هذه الآية الكريمة هي عمليّةٌ موجّهةٌ لكلّ الخلق، وفي كلّ الأزمان، وليست موجهةً لمعاصري رسول الله، ولذلك يصبح لفظ (صاحبكم) غير منطبقٍ على رسول الله؛ بل يصبح المقصود بـ (صاحبكم) في هذه الآية أيضًا هو الوحي المصاحب للإنسان، والذي يساعده في الوصول للحقيقة. 

إنّ أوّل خطوةٍ للوصول إلى الحقيقة من خلال عمليّة التّفكير هي التجرّد، والذي عبّرت عنه الآية الكريمة بقوله سبحانه: (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ). معنى أن نقوم لله هو التجرّد الكامل لفهم الحقيقة، وكلّنا يعلم كم من الحقائق أُهدرت؛ بسبب عدم التّجرّد الكامل، أو بسبب حاجاتٍ في النّفوس تقاطعت مع الحقيقة، أو بسبب تحيُّزٍ معرفيٍّ معيّن حجب الحقيقة عن العيون.

 إذًا الخطوة الأولى هي تهيئة القلب والنّفس، والرغبة القويّة في الوصول إلى الحقيقة، رغبةً لله دون أيّ مصلحة.

 

الخطوة الثانية هي عمليّة عصفٍ ذهنيٍّ؛ لمناقشة الفكرة مع شخصٍ آخر (أن تقوموا لله مثنى). ويجب أن ينطبق على هذا الشخص التجرّد لله أيضًا، ولو أنّ الآخر غير متجرّدٍ لفسدت عمليّة التفكير، ولم تؤتِ ثمارها. عمليّة التّفكّر ومحاولة الوصول إلى الحقيقة لا يلزمها فريق عملٍ، بل يلزمها حوارٌ ثّنائيٌّ؛ لأنّه يتيح الفرصة لمناقشةٍ بسيطةٍ دون جدالٍ أو صخبٍ، وغالبًا لا تُصاحب النّقاشات الثّنائيّة المتجرّدة إعجاب أحدهما برأيه؛ بل جُلّها تكاملٌ ونقدٌ موضوعيٌّ في محاولةٍ لبلورة الفكرة. 

 

الخطوة الثالثة هي القيام فرادى (أن تقوموا لله مثنى وفرادى)، وقد يأتي القيام فرادى بعد عمليّة النقاش الثنائيّة، أو تأتي من بداية تشكّل الفكرة. وعند قيام الإنسان فردًا سيكون ذلك في حضور صاحبه، وهو الذي سوف يقدّم المساعدة للإنسان في هذه الحالة. الصّاحِب ليس إنسانًا، ولكنّه حالةٌ من المصاحبة الدّائمة، والتي لا يمكن أن تنطبق على أيّ إنسانٍ مهما كان. 

 

الخطوة الرابعة هي التّفكّر (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)، وذلك بعد الانتهاء من هذه المناقشات الثنائيّةً أو الفرديّةً، رغبةً في الوصول إلى الحقيقة، وبعدها سيقوم العقل بترتيب الأفكار. وما إن تحاول التّفكّر فيها مرةً أخرى حتى تتكشّف الأمور الغامضة، وتنتظم كثيرٌ من النّقاط غير المرتّبة. وفي هذه المرحلة يبرز دور الصّاحِب الذي ذُكر في الآية (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ)؛ أي إنّ صاحبكم في هذه العلميّة غير غامضٍ، بل وستشعر بوجوده وكأنّه صوتٌ داخليٌّ يشير إليك بالأفكار، ويعيد ترتيبها معك. هذا الصّاحِب يجب أن تسمع له جيّدًا؛ لأنّه كما قال ربُّنا: لا ينطق عن الهوى، وما ضل وما غوى، وإنْ هو إلا وحيٌ يوحى. 

  ننتقل إلى الآية الثانية لنرى ملمحًا آخر لهذا الصّاحِب؛ حتى نستطيع في النهاية فهم المقصود بـ (الصّاحِب). 

 الآية الثانية:

 (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ) (سورة التكوير: آية 22).

 سورة التّكوير من السّور التي تحتاج لإعادة فهم مفرداتها وتعبيراتها؛ فالسّورة مليئةٌ بالأسرار والمعرفة، ولكن بسبب حرصنا على ألّا تتداخل الأفكار، فسوف نحاول فهم مدلول كلمة (صاحبكم) في السورة فقط. وسنحاول استكشاف إن كانت الكلمة تشير إلى رسول الله كما أوّلها المفسرون، أو أنّها تلحق بالآيات السابقة في إشارتها إلى شيءٍ آخر.

 

إنّ مدلول كلمة (صاحبكم) دفعنا للقول: إنّ اللفظ لا يُقصد به رسول الله؛ لأنّ مقام الرسالة هو المقام الذي تدور حوله مهمّة الرسول، وليس مقام الصّحبة، وإضافةً لذلك لدينا دليلٌ آخر في هذه السورة الكريمة على أنّ المقصود بصاحبكم لا يمكن أن يكون رسول الله. 

 

هذه السورة حملت الدليل القاطع على أن الصاحب لا يمكن أن يكون رسول الله محمد. لقد وردت في السورة آيةٌ تشير إلى أنّ هذا الصّاحِب غير بخيلٍ بالغيب: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)) (سورة التكوير: آيات 22-24).

فسّر المفسّرون آية (وما هو على الغيب بضنين) بأنّ رسول الله غير بخيلٍ في تبليغ القرآن، اعتمادًا على أنّ لفظ (صاحبكم) يُقصد به رسول الله، عادّين بذلك القرآن غيبًا. لكن من خلال تتبّع الآيات التي تشير إلى أمانة رسول الله في نقل الرّسالة، وتبليغ ما أوحي إليه، لا نجد أنّ القرآن وُصف بالغيب؛ وإنّما وُصف بالتّنزيل أو الذّكر أو الكتاب أو القرآن. أضف إلى ذلك أنّ العبارة تشير إلى أنّ الصّاحِب في هذه الآية على علاقةٍ مباشرةٍ بالغيب. فإذا كان الصّاحِب هذا على علاقةٍ بالغيب، أو أنّه غير ضنين به، فإنّ لدينا آيةً صريحةً في كتاب الله تنفي علم رسول الله بالغيب، وبذلك لا بدّ أن يكون هذا الصّاحِب مختلفًا عن رسول الله.

(قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (سورة الأعراف: آية 188). 


عندما نرى القرآن ينفي عن الرسول معرفة الغيب في سورة الأعراف، ثم تأتي إشارةٌ في سورة التكوير إلى أنّ الصاحب على علاقةٍ ما بالغيب؛ فلا يمكن القول: إنّ الصّاحِب في سورة التّكوير هو نفسه رسول الله. وهذا الدليل يضاف إلى الأدلّة السّابقة، ممّا يؤكّد لنا أنّ لفظ (صاحب) الذي جاء في معظم الآيات مرتبطًا بعمليّة التّفكير، وتنفي عنه الآيات الجنون والجِنّة، لا يُقصد به رسول الله، وقد ورد لفظ الجنون في مواضع أخرى خاصّةٍ بالذّكر. 

 

(فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) (سورة الطور: آية 29).

(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (سورة القلم: آية 51).

(مجنون) تعني غامضًا غير مفهومٍ، وهي أوصافٌ تصف الذّكر، غير أنّ الذكر واضحٌ ومفهومٌ لمن يريد أن يتدبّره. 


لفظ (صاحبكم) وارتباطه بالجنون أو الجِنّة، إنّما يشير إلى أنّ الأمر قد يبدو غامضًا؛ لذلك جاء نفي الجنون. ويشير كذلك إلى أنّ هناك عمليّةً تجري أثناء عمليّات التفكير، لها ارتباطاتٌ وعلاقاتٌ معقّدةٌ للغاية، سوف نتعرّف عليها تباعًا. وليس المقصود بالجنون في الآية المعنى المعاصر، وهو الخلل النفسيّ؛ وإنّما المقصود هو الغموض وعدم الوضوح، أو الاختفاء. وكأنّ الآية تشير إلى أنّ الصّاحِب ليس غامضًا ولا مختفيًا، ويشعر به كلّ إنسانٍ. 


 الآية الثالثة:

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (سورة الأعراف: آية 184).

 

هذه الآية الكريمة مرتبطة بعمليّة التفكير أيضًا، وصفة هذا الصّاحِب فيها أنّه نذيرٌ مبينٌ، والآية التالية لها تدور حول عمليّة التفكير والاستنباط: (أَوَلَمۡ یَنظُرُوا۟ فِی مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَیۡء وَأَنۡ عَسَىٰۤ أَن یَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَیِّ حَدِیثِۭ بَعۡدَهُۥ یُؤۡمِنُونَ) (سورة الأعراف: 185).


وهذا يجعلنا نقول: إنّ لفظ (الصّاحِب) في الآية تنطبق عليه حالة الوحي، وليس رسول الله. 

إننا على أعتاب فهم النّفس البشريّة، وتفاعلاتها النّفسيّة، ونتيجة هذه التّفاعلات، التي تؤدّي بالنهاية إلى اختيار الصواب، وتجنّب الخطأ، أو حتّى فهم التّفاعلات النّفسيّة التي تُنتج معرفةً جديدةً.


قبل استكمال الآيات، لا بدّ أن نعرج قليلًا على ما سبّبه فهم لفظ (صاحبكم) بأنّه رسول الله، ومن ثمّ وصْفِ نطقه بأنّه وحيٌ يوحى. 


وصف نطق "رسول الله" بأنّه وحيٌ يوحى، جعل شريحةً كبيرةً من الناس يعتقدون أنّ السُّنّة والقرآن كلاهما خطّان متوازيان، فإن كان القرآن وحيًا فكذلك السّنّة وحيٌ، وتتساوى تمامًا مع كلام الله. لكنّ هذه الفرضيّة جعلت آياتٍ محكماتٍ في كتاب الله معطّلةً عن العمل بحجة أنّ السّنّة تشير إلى خلافها. هذا المبدأ الخطير جعل من رسول الله شريكًا لرب العالمين، حتى إنّ بعضهم ذهب بكل جرأةٍ للقول بأنّ السّنّة تنسخ القرآن الكريم، في قولٍ عظيمٍ لا يمكن أن يصدر من شخصٍ يُقدّر الله حقّ قدره.

 لا نبالغ إذا قلنا: إنّ الآيات الأولى من سورة النجم صنعت دينًا موازيًا، طغتْ فيه الرّوايات المنسوبة لرسول الله على كلام الله، وحرّفت معانيه بحجّة أنّ كلّ قول رسول الله ما هو إلا وحيٌ يوحى، وملزِمٌ مثله مثل كتاب الله. 

 

من خلال ما سبق، ومن خلال فهم العوامل التي تؤدّي إلى تكوين الأفكار لدى الإنسان، سنجد أنّ (الصّاحِب) هذا، هو أحد الأركان الأساسيّة التي تُساعد في تكوين الإنسان لأفكاره، واستنتاجه للنّتائج. وما سُمّي الصّاحِب (صاحبًا) إلا لمصاحبته وملازمته للإنسان. قد يعتقد بعضهم أنّ هذا الصّاحِب هو مَلَكٌ مُوكّل بالإنسان لدعمه روحيًّا، أو أنّ هذا الصّاحِب هو القرين الذي حكى عنه القرآن في أكثر من آيةٍ، أو حتّى هو القرآن ذاته. 

 

المفاجأة التي لم تخطر لي على بالٍ، هي أنّ الصّاحِب المقصود في سورة النّجم وفي كلّ آيةٍ ورد فيها لفظ (صاحب) هو الرّوح. نعم، هو الرّوح، وسوف نُقدّم في الفصل القادم تفصيلًا عن الرّوح والنّفس، ولماذا جاءت بصيغة (الصّاحِب)، بل وما هي الرّوح تحديدًا.


لم يكن يخطر على بالي أنّ سورة النجم سوف تفتح أمامي مفهوم الروح بهذه الطّريقة. لقد كتبتُ هذا الفصل وتركتُه مفتوحًا أبحث عن هذا الصاحب في القرآن ولم أهتدي إليه إلا بعد عامٍ كامل من كتابة هذا الفصل. 


ملخص الفصل 

  • الصّاحِب المذكور في القرآن يعني حالةَ ملازمةٍ ومرافقةٍ مستمرّةً، وليست مجازيّةً، ولا تصوّراتٍ بشريّةً ليس لها مدلولٌ حقيقيٌّ. 
  • رسول الله لم يصاحبنا حقيقةً، ولم يصاحب حقيقةً إلا نفرًا قليلًا في مواقف محدّدةٍ، وانتهت الصّحبة بانتهاء الموقف نفسه. 
  • الصّاحِب المذكور في سورة النجم، وفي القرآن عامّةً، هو الرّوح والذي سنفصّله في الفصل القادم (الروح). 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل العاشر - علمٌ للساعة