الفصل الرابع - سدرة المنتهى

 



 

بعد تحليل كلمة (صاحبكم) وبيان أنّها لا تُشير إلى رسول الله، بل تشير إلى صاحبٍ متعلّقٍ بالإنسان، وهو الرّوح؛ ظهر الارتباط الوثيق بين الرّوح والوعي والإدراك لدى الإنسان. ومن خلال التّفاصيل الدّقيقة لمفهوم الرّوح، يمكن أن نفهم التعبير القرآنيّ (وما ينطق عن الهوى) الذي يشير إلى الرّوح والفؤاد. وقد بيّنّا كيف يمكن للرّوح (الأكسجين) أن ينطق عن طريق الاهتزاز؛ إذ إنّ الصوت ما هو إلا اهتزازٌ في الوسط. 

 

بعد فكّ شفرات (الصاحب) سوف نرى ارتباطًا وثيقًا بين جميع الآيات التالية في سورة النّجم، وكيف أنّها تتناول موضوعًا واحدًا بخلاف التّفسيرات القديمة، التي انتقلت بين الآيات من دون رابطٍ، أو فهم علاقة الآيات ببعضها. وسنحاول فهم باقي الآيات من خلال تقسيمها إلى مشاهد قرآنيةٍ.

 

المشهد الأول

هذا المشهد القرآنيّ يتضمّن آيةً واحدةً، وهي: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ) (سورة النّجم: آية 5) التي نستطيع من خلالها وضع اللّبنة الأساسية التي وضّحت الآيات التالية لها. 

 

عندما قال ربنا في كتابه (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ) (سورة النّجم: آية 5). أوّلت أغلب التفاسير (شديد القوى) بأنّه جبريل عليه السلام، رغم عدم تصريح الآية بذلك. وقد أعطت التفسيرات القديمة جبريل أوصافًا مختلفةً ولم تسأل نفسها: لماذا جاء في كل هذه المواضع بتسمياتٍ مختلفةٍ ومتباينةٍ بهذا الشكل؟ فهو مرةً روح القدس، ومرةً الرّوح الأمين، ومرةً شديد القوى، ومرةً جبريل، ولا أدري ما دلالة هذه التّسميات المختلفة لدى التفسيرات القديمة، ولم أقف على شيءٍ ذي معنىً بهذا الخصوص. 

 

بمجرد فهم المقصود بـ (الصّاحب) ومن ثمّ (الرّوح)، نستطيع الآن وضع أيدينا بكلّ يسرٍ على مفهوم (شديد القوى). السبب الرئيس لاهتزاز الأكسجين هو الطاقة، وجميع الجزيئات في حالةٍ مستمرّةٍ من اكتساب الطاقة وتفريغها، ولا غرابة في ذلك. تشير (شديد القوى) إلى تلك القوى التي تجعل الرّوح تنطق، أو الأكسجين يهتزّ، ومن ثمّ يمكن أن يستقبل الفؤاد تلك الطاقة، ويفكّ رموزها ويُدرك ما تعنيه.

 

عندما نأتي على مفهوم الملائكة في نهاية الفصل سوف نجد أنفسنا مدفوعين لقبول إمكانية أن يكون تعبير (شديد القوى) يصف ملكًا من الملائكة، ولكنّه ليس جبريل. ولكنّه مَلَكٌ بالمفهوم القرآني، وليس بالمفهوم الروائي الإغريقي. لا أستبعد أبدًا أن يكون تحميل الطاقة على جزيء الأكسجين يجري عن طريق قوىً أو إرادةٍ معينةٍ يصفها التعبير القرآني المذكور في سورة النجم بـ (شديد القوى).

 

المشهد الثاني 

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الأعلىٰ (7) ثمّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) (سورة النّجم: الآية 6-9).

لو وضعتَ هذه الآيات أمام متخصّصٍ، مع النتيجة التي حصلنا عليها من مفهوم (الصاحب) وهو الرّوح، وأضفت مفهوم (الرّوح) وهو جزءٌ من الهواء، بل هو الأكسجين، ثمّ أعطيته مدلول الكلمات في الآيات، سوف يدرك مباشرةً أنّ هذه الآيات تشرح عملية حمل الأكسجين للطاقة التي سوف ينقلها إلى الفؤاد. وهي عمليةٌ دقيقةٌ للغاية، تشرح انتقال الوحي للإنسان. إنّ هذه الآيات تجيب على السؤال المحيّر: كيف يتلقّى الإنسان المعرفة؟ وكيف تنشأ الأفكار لديه؟

 

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) تشير إلى المرور السريع الخاطف؛ وكأنّها تصف عملية التّعبئة، أو شحن الرّوح بالطاقة. (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الأعلىٰ) تشير إلى حالة الرّوح بعد عمليّة شحن الطاقة السريع، وهناك احتمالان لمفهوم الأفق:

الاحتمال الأول: إنّ عملية شحن الرّوح بالطاقة تجري في طبقات الجوّ العليا، ثمّ يعود مرةً أخرى، ويتنفّسه الإنسان، وتحدث عملية تبادل الطاقة.

 

لو تعمّقنا قليلًا وحاولنا أن نشير للباحثين إلى شيءٍ معينٍ يمكن تتبّعه فسوف نشير هنا إلى حالة الاتزان الموجودة في طبقات الجو العليا (الأفق الأعلى) بين الأكسجين والأوزون. إنها عمليةٌ مستمرةٌ؛ إذ ينشطر جزيء الأكسجين المُكوّن من ذرّتين بفعل طاقة الشمس. كل ذرةٍ من ذرات الأكسجين الحرة ترتبط مرةً أخرى بجزيءٍ من الأكسجين لتكوّن غاز الأوزون، والذي يتكوّن من ثلاث ذرات أكسجين. ما يلبث جزيء الأوزون أن ينقسم بفعل امتصاص طاقةٍ أعلى (الأشعة فوق البنفسجية) لينقسم إلى جزيء أكسجين وذرة أكسجين حرةٍ. تُعيد ذرة الأكسجين الحرّة الارتباط مرةً أخرى بجزيء أوزون، وتستمرّ هذه العملية في تكرارٍ واتزانٍ مستمرٍ. هل يمكن أن تكون هذه العملية بمنزلة شحن جزيء الأكسجين بطاقةٍ في مكانٍ يُعرف بـ (الأفق الأعلى)، ثمّ ما يلبث أن يعود بها الأكسجين المحمّل بهذه الطاقة إلى المستويات الأرضية، ويستنشقه الإنسان، ويحدث التفاعل؟ لا أستبعد ذلك أبدًا، وإنما ذكرتُ هذه التفصيلات والتي قد لا تفيد القارئ الذي ليس لديه خلفيةٌ علميةٌ للمساهمة فيما يُسمّى بالعصف الذهني، ومحاولة فهم كيف يمكن للأكسجين والطاقة المحمولة عليه التفاعل مع الإنسان فيما يسمى (الروح). 

 

الاحتمال الثاني: إنّ عملية الشّحن هذه تجعل الرّوح (الأكسجين) في حالة إثارةٍ، ويعرف هذه الحالة المتخصّصون، ثمّ يكون في وضع استعدادٍ لفقد هذه الطاقة بمجرد وصوله إلى مجرى الدم، واقترابه من القلب حيث الفؤاد.

 

قد يشير (الأفق الأعلى) إلى الحالة المرتفعة للأكسجين (Excitation State) أما الحالة الدنيا له فهي حالة الاسترخاء، عندما يفقد جزءًا من طاقته أو حالته العاديّة. أرجّح الاحتمال الأول بشدةٍ، ولكن يبقى الاحتمال الثاني قائمًا. بالنهاية (الأفق الأعلى) هو مستوىً تنتقل فيه الطاقة إلى (الروح) أو (الصاحب)، والذي بدوره ينقلها إلى الإنسان المستعدّ لاستقبال هذه الطاقة. 

 

لا شكّ أنّ مثل هذه المعلومات تبدو اختصاصيّةً ومعقدةً أمام القارئ العاديّ، ولكنْ لا بدّ أن نضع في الحسبان أنّ الحديث هنا عن أكثر المواضيع غموضًا، وهو الرّوح، وكيفيّة تواصل الإنسان مع الكون وربّ الكون. فهذا الأمر يشغل ذهن الفلاسفة والعلماء منذ آلاف السنين، ومازال سرًا يكتنفه الغموض. وأحاول هنا أنْ أُقرّب المفاهيم وأضع التصوّرات فقط؛ لعلّ هذا الكتاب يقع يومًا بين أيدي متخصّصين، فيقرع جرس فكرةٍ في دماغ أحدهم، ويستطيع استخلاص معلوماتٍ تدفع بالبشرية خطوةً إلى الأمام. 

(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ) هذه الآية تشير إلى وضعية الاقتراب، قبل أن يُلقي الرّوح شحنته أو أمر الله في الفؤاد، والآية التي تلت هذه الآية مذهلةٌ لأقصى درجةٍ. فما أبدع هذا التعبير! وما أعظم هذه البلاغة! عندما يقول: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ).

 

بالعودة للتفسير التقليدي يجب أن نسأل: لماذا قاب قوسين؟ وما دلالة هذا التعبير؟ وكيف كان جبريل قريبًا من رسول الله قاب قوسين؟

لا شك أنّ إنسانًا ليس لديه درايةٌ كافيةٌ سيتقبّل التعبير من دون الدخول في تفاصيل قد تُسبب إرباكًا. والإنسان العادي لن يُلقي بالًا لمثل هذا التركيب ولا للمقصود منه. (قاب قوسين) تصف حالةً قريبةً لا تماسّ فيها، بل تصف كيفية انتقال الطاقة بصورةٍ مذهلةٍ. 

 

الرّوح تقترب كثيرًا لدرجةٍ تسمح بانتقال الطاقة، وكأنّها تصف اقتراب مجالٍ مغناطيسيٍّ من مجالٍ آخر، حتى نقطةٍ معينةٍ يحدث فيها الاتصال دون تلامسٍ حقيقيٍّ. الآية وصفت هذا الاتصال بصورة (قاب قوسين) أو الاتصال من عند الأطراف، وكأنّنا ننظر إلى هذا الوصف الدقيق، والذي لن يدرك فحواه إلا متخصّصون، الأمر الذي سيمنحهم معلوماتٍ غايةً في الدقة، عن عملية اتصال الرّوح بالإنسان.

سوف أضع تصورًا هنا لهذا المشهد من بدايته؛ حتى يسهل تتبّعه: 

 

في البداية يُشحن الرّوح (الأكسجين) بطاقةٍ معينةٍ، فيصبح الأكسجين مُثارًا بدرجةٍ ما؛ أي أنّه يحمل قدرًا من الطاقة. هذه الطاقة هي التي تحمل أمر الله، أو الأفكار التي سوف تنتقل للإنسان في اللحظة المناسبة. 

بمجرّد أنْ يتنفّس الإنسان الأكسجين، ويمرّ إلى القلب في رحلته المعتادة، وعند نقطةٍ معينةٍ في القلب يكون قريبًا جدًا لمجال القلب الكهرومغناطيسي، وهو الفؤاد، فتُفرّغ الشحنة أو الطاقة من الأكسجين في الفؤاد، ومن ثمّ يتمكّن الفؤاد من ترجمة هذه الطاقة إلى إشاراتٍ يمكن من خلالها للإنسان فهم أمرٍ ما، أو الحصول على فكرةٍ. 

 

لا يجب أن ننسى أنّنا نتحدّث هنا عن الوضع المثاليّ لانتقال الطّاقة إلى الفؤاد؛ فعملية الانتقال هذه تحكمها عوامل متعدّدةٌ، مثل: سلامة الشخص من التحيّز، والإنصاف، وعدم وجود ما يعكّر هذا الصفاء الرّوحي. والمشهد التالي ختم لنا كلّ ما ذكرناه، ووصفه بأنّه وحيٌّ. 

 

المشهد الثالث 

(فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) (سورة النّجم: آية 10).

لا بدّ أنْ نُشير إلى أنّ التفاسير التقليديّة أصابها ارتباكٌ في مقدمة سورة النّجم، فلم تكن منسجمةً مع بعضها؛ فنجد مرةً أنّ المقصود بالآيات رسول الله، ومرةً جبريل، ثمّ تعود التفاسير لتجعله رسول الله. 

تقول التفسيرات: إنّ المقصود من أوّل سورة النّجم وحتى آية (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ) هو رسول الله والنطق يخصّ رسول الله أيضًا، ثمّ تحوّل الحديث بعد هذه الآية الكريمة وحتى الآية (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ) من رسول الله صلوات ربي عليه إلى جبريل عليه السلام.

 

عندما قمنا بتحليل لفظ (النّجم)، واستنطاق مفهوم (الصاحب)، أصبحت الآيات الآن كلّها تدور حول هذا الصاحب، وكيفية تفاعله مع الإنسان. الصاحب وهو الرّوح هنا، هو مَن أوحى إلى عبد الله بأمر الله، ثمّ جاءت الآية التالية تؤكّد عملية الاتصال هذه بالقلب والفؤاد (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) (سورة النّجم: آية 11). 

 

تقول التفاسير عن هذه الآية: إنّ رسول الله رأى ربّه بقلبه. وهذا قولٌ عظيمٌ، لا أدري كيف لإنسانٍ يقرأ القرآن أنْ يتطرّق لمثل هذا الأمر، بل ويجادل عنه. المقصود من الآية هو الاتصال بين الرّوح والقلب (الفؤاد)، وهذا الاتصال حقيقيٌ وواقعيٌّ، وليس محض جنونٍ أو خيالٍ. والآية التالية أكّدت على حقيقة هذا الاتصال: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ) (سورة النّجم: آية 12). 

 

أصل كلمة (تمارونه) مَور؛ وتعني التردد، كما جاء في قاموس اللغة. ومن هذا الجذر يمكننا القول: عندما تُعرَض على القلب معرفةٌ ما، أو أمرٌ معيّن، فإنّه يتردّد في قبوله، وهذه مسألةٌ نشعر بها جميعًا، إذ يكون الإنسان بين التصديق والتكذيب. والآية الكريمة تشرح لنا عمليةً معقّدةً للغاية عن مصدر الأفكار، وكيفيّة قبولها. وعلاقة هذه الآية بأوّل آيةٍ في السورة شديدة الوضوح، فقد بدأت السورة بقول الله: (والنّجم إذا هوى)؛ أي النتيجة إذا تأرجحت بين القبول والرفض.

 

نتوقف هنا قليلًا لنعطي مثالًا قبل أن نستكمل باقي الآيات، حتى تكون الأمور واضحةً تمامًا:

تتحدّث سورة النّجم من بدايتها عن عملية التفكير، وكيفية نشوء الفكرة، فإنِ افترضنا أنّ إنسانًا يُفكّر في أمرٍ ما، ويبذل جهدًا في هذا الأمر، فإنّ السورة تشرح لنا ما يحدث معه بالضبط، وتُوجِّه الإنسان التوجيه الصحيح كي يستفيد من الاتصال مع الخالق من خلال الرّوح.

 

بفرض أنّ إنسانًا يفكّر في حلّ معضلةٍ وفهم آيةٍ لفظيةٍ في القرآن، أو آيةٍ كونيةٍ من آيات الكون الفسيح، مثل: ميكانيكية عمل الفيروسات، أو التطوّر، أو أيّ أمرٍ يخصّ العلم. فالنّجم تعني أنّ هذا الإنسان قد جمع كمًّا هائلًا من المعلومات، على قدر المستطاع بالنسبة إليه، ومن ثمّ يحاول معالجة هذه المعلومات. عندما تتوافر شروط التفكير السليم، وأهمّها عدم وجود فكرةٍ مسبقةٍ، أو تحيّزٍ لرأيٍ معينٍ، أو رغبةٍ في الوصول لنتيجةٍ معيّنةٍ؛ فعندها يبدأ عمل الرّوح واستقبال القلب، ويحدث التوجيه كما ذكرنا.

هذه الحالات يعرفها الباحثون جيدًا، فتجدهم يقضون وقتًا طويلًا في التفكير، ثمّ يهتدون للفكرة بصورةٍ عجيبةٍ. 

لا بدّ أنْ نعي جيدًا أنّ هذه العملية مرتبطةٌ بالإنسان نفسه، فمن يجلس منتظرًا الفكرة أن تطرق بابه دون أن تكون لديه مقدّماتٌ أو معطياتٌ؛ فلن يدخل ضمن سورة النّجم وتوجيهاتها. مقدمة سورة النّجم تضع الحدود بين التفكير السليم وبين الهوى أو المزاج، إذ يقوم التفكير على الدليل تلو الدليل، بينما يلتصق الهوى بالحيل والسراب. 

 

المشهد الرابع 

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) ) (سورة النّجم: 13-16)

في هذا المشهد القرآنيّ نرى اقتراب الإنسان من الوصول إلى الفكرة أو المعرفة، واستقراره عليها، حيث يقول الله: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ) (سورة النّجم: آية 13). 

 

هنا نرى أنّ الوحي أو اتصال الرّوح لا يتم مرةً عابرةً وحيدةً؛ بل قد يحدث مرةً أخرى، كنوعٍ من التأكيد. هذه الحالة كذلك يعرفها المتفكّرون جيدًا، عندما يحدث ما يُعرف بالحديث الداخليّ مرةً ومرةً أخرى، حتى يصل الإنسان لمرحلةٍ تُشبه اليقين. تحدث المرة الثانية -غالبًا- عندما يصل الإنسان إلى حالةٍ من الحيرة والاضطراب، ثمّ يحدث الانفراج. الآية التالية سجّلت لنا ذلك بكلّ براعةٍ، ولكن كالعادة أوّلها المفسّرون بشيءٍ آخر، ليس له علاقةٌ لا بالسورة ولا بمحورها.

 

سدرة المنتهى

 

(عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ) (سورة النّجم: آية 14). 

لا شك أنّ أغلبنا قد مرّ عليه تفسير هذه الآية الكريمة، الذي يقول: إنّ سدرة المنتهى شجرةٌ عظيمةٌ في السماء السابعة. 

 

هذا التفسير قائمٌ على فرضية المعراج، وقائمٌ على فرضية أنّ المقصود بـ (صاحبكم) هو رسول الله، ولا علاقة لهذا التفسير بمحور السورة، وهو النّجم. يلزمنا الآن البحث عن مدلول (سدرة المنتهى) وماذا تعني في ضوء ما استجدّ من معلوماتٍ؟ لن نتكلّف وقتًا طويلًا أو جهدًا بالغًا؛ فالقرآن ميسّرٌ للتدبّر، وبمجرد اتباع منهجٍ في فهم كلماته، ستجد الكلمات تخبر عن نفسها. 

 

 جذر كلمة (سدر) هو حيرةٌ واضطرابٌ، كما جاء في قاموس اللغة لابن فارس. والحيرة والاضطراب تُرافق حالة الوحي، واتصال الصاحب بالقلب، وعملية ترجيح النتائج، وعرض الأمر على القلب مرةً ومرةً أخرى. تشير الآية الكريمة إلى أنّ الاتصال الآخر للروح بالفؤاد يحدث عند سدرة المنتهى، وهي حالةٌ قصوى من الحيرة والاضطراب تنتاب الإنسان عند محاولته الوصول للحقيقة، أو محاولته الوصول لنتيجةٍ معيّنةٍ. قمّة الحيرة والاضطراب توحي أنّ الإنسان في حالة سعيٍ مستمرٍّ للبحث عن الحقيقة، وإلا ما كان في هذه الحالة. 

الوصف القرآنيّ في حالة توافقٍ عجيبةٍ مع باقي الآيات، التي تشرح وتصف عملية الحصول على نتيجةٍ ما، أو محاولة الوصول للحقيقة. سدرة المنتهى هي بالفعل قمّة الحيرة والاضطراب، أو النقطة الأخيرة التي يصل إليها الإنسان في رحلة بحثه عن الحقيقة. 

 

لو طبّقنا هذه الآيات الكريمة على حالة نبي الله إبراهيم، لوجدنا كلّ آيةٍ تمثّل حالةً معيّنةً من حالاته، فبينما يبحث عن الخالق ويحلّل ويستنتج، لم يدخر جهدًا في محاولة الوصول إلى الحقيقة، وعند قمّة الحيرة والاضطراب، وبعد استنفاد جميع وسائله جاءه الهدى من ربه، أو ما نسمّيه بالاستقرار، وهذا الاستقرار هو جنّة المأوى التي عبّر عنها كتاب الله في الآية التالية.

 

(عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ) (سورة النّجم: آية 15).

تعبير (جنة المأوى) متناغمٌ تمامًا مع سياق الآيات، ولفظ (جنّة) في حدّ ذاته يشير إلى الشيء الخفيّ، ونسبة الجنّة إلى المأوى يعني الاستقرار. 

جذر كلمة (مأوى) هو أوى، وله أصلٌ يعنى الاجتماع، وكذلك مدلول كلمة (أوى) ومشتقّاتها في كتاب الله تدلّ على الاجتماع والاستقرار. 

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (سورة الكهف: آية 10) أوى الفتية؛ تعني اجتمعوا واستقرّوا. 

(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (سورة النازعات: آية 39) المأوى هنا: المجتمع والمستقرّ. 

 

الآية الكريمة التي نحن بصددها تشير إلى أنّ المرحلة التي بعد (سدرة المنتهى) هي (جنة المأوى)؛ أي عندما يصل الإنسان إلى قمّة الحيرة والاضطراب خلال سعيه وبحثه عن الحقيقة، سوف يحدث له اجتماعٌ واستقرارٌ بدلًا من التشتت والحيرة. جنة المأوى ليست جنةً مجسّدةً، وإنّما حالةٌ خفيّةٌ من الاستقرار والاطمئنان، يصل إليها الباحث بعد كلّ هذا العناء. إنّها جنّة بكل ما تحمله الصورة التقليدية من معانٍ، ولا يدركها إلا الباحثون عن الحقيقة. 

هذه الصورة القرآنيّة نقلتها لنا مشاهد حياة نبي الله إبراهيم، فعندما وصل إلى مرحلةٍ متقدّمةٍ جدًا من الحيرة والاضطراب، جاءه اليقين والإيمان الراسخ بوجود الله. 

الآية التالية تٌشير إلى تفاعلاتٍ نفسيةٍ كثيفةٍ في أثناء البحث عن الحقيقة، خلال مرحلة ما قبل الوصول.

 

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ) (سورة النّجم: آية 16)

الآية تشير إلى التقلّبات التي تتخلّل مرحلة الحيرة والاضطراب، والتي يعرفها كلّ من عاشها. مرحلة الاضطراب يعرفها كلّ باحثٍ، وقد يتخلّلها كثيرٌ من التجاذبات إقدامًا وإحجامًا، وهذه الآية تُصوّر هذه المرحلة بكلّ بلاغةٍ وحكمةٍ. 

 

المشهد الخامس 

(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ) (سورة النّجم: آية 17).

عند النظر إلى سورة النّجم، نجد أنّ أغلب آياتها تكون نتيجةً لما قبلها، وهذا أمرٌ في غاية العجب، فلفظ (النّجم) ذاته يشير إلى مفهوم النتيجة. وآية (ما زاغ البصر) هي تطبيقٌ عمليٌّ لذلك، فهي نتيجةٌ واضحةٌ لما قبلها. الآية تشرح لنا أنّ وصول الإنسان إلى حالة الاطمئنان والاستقرار بعد حيرةٍ واضطرابٍ كان نتيجة (ما زاغ البصر وما طغى).

الآية تشرح الطريقة المثلى للتفكّر، أو الاتصال بالرّوح، أو جعل الرّوح تعمل عملها، وهي التركيز، وعدم الانشغال بتحريك البصر في اتجاهاتٍ مختلفةٍ. (ما زاغ البصر) تصف حالة التأمل التي يجب أن يكون عليها المتفكّر إن كان يرغب حقًا في الوصول إلى الحقيقة والتأكّد من أمرٍ ما. 

لا يمكن لمَن زاغ بصره أو ذهب يمينًا ويسارًا أن ينتبه إلى ما يُلقى في قلبه؛ لذلك كان الاطمئنان أو قل الخشوع واستقرار البصر هو أهم شروط الاتصال والتلقّي الصحيح. 

بطبيعة الحال، إذا أخلص الإنسان في تفكّره، واخلص في حواسه، فلا شكّ أنّه سوف يرى من آيات ربّه، وهي العلامات التي تقوده إلى الفكرة، أو النتيجة الصحيحة، وهذا ما جاء متمثّلًا في الآية التالية من سورة النّجم: (لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) (سورة النّجم: آية 18). آياتٌ عجيبةٌ تصف للإنسان تفكيره وتفاعلاته الداخلية بدقةٍ متناهيةٍ، فهل بعدما يرى الإنسان من الآيات والعلامات التي تساعده على الوصول إلى فكرةٍ أو نتيجةٍ ما ، هل له أنْ يحيد عنها، أو يصرفها عن نفسه لحاجةٍ ما أو لسببٍ معينٍ؟

الآيات التالية في سورة النّجم تأخذنا لمرحلةٍ جديدةٍ تمامًا، وهي مرحلة الانصراف عن الوحي أو الفكرة، التي ليست على هوى الإنسان، أو لم تعجبه.

 

المشهد السادس

(أَفَرَءَیۡتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلۡعُزَّىٰ (19) وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰۤ(20) أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ (21) تِلۡكَ إِذࣰا قِسۡمَةࣱ ضِیزَىٰۤ (22) إِنۡ هِیَ إِلَّاۤ أَسۡمَاۤءࣱ سَمَّیۡتُمُوهَاۤ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُم مَّاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَـٰنٍۚ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُۖ وَلَقَدۡ جَاۤءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰۤ (23) أَمۡ لِلۡإِنسَـٰنِ مَا تَمَنَّىٰ (24) فَلِلَّهِ ٱلۡـَٔاخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ(25)) (سورة النجم 19 – 25)

لا يمكننا قبول أنّ (اللات والعزى ومناة) في سورة النّجم هي أسماء مجسّماتٍ؛ إذ إنّ دخولها على الخط يجعلها لا محل لها من الإعراب، ولكنْ يمكننا فهم هذه المُسميّات من خلال موضوع السّورة العامّ، ومن خلال فهم التعبيرات القرآنيّة السّابقة. 

من خلال اللغة نجد أنّ أصل (اللات) هي جمع (لا)، وأنّ لفظ (العزى) تشير إلى التكبّر، أمّا (مناة) فهي جمع المُنى، وما يتمنّاه الإنسان. إنّها ثلاث حالاتٍ وصفتها الآية الكريمة، وهي بالترتيب: الرفض المتكرّر، والتّكبّر، والإعراض ثمّ التمنّي أو الهوى. وهذه الحالات الثلاثة هي الأعداء الرئيسة للوصول إلى الحقيقة. إذ إنّ الاعتراضات غير المبرّرة، والكبر الذي يرفض قبول الحقيقة، وتداخل ذلك مع ما يتمنّاه المرء أو هواه؛ يجعله يُحرّف الحقائق ولا يقبلها أبدًا. وهذه المعضلات الثلاثة تقف في وجه الرّوح واتصاله بالإنسان، بل وتقف في وجه وصوله للنتيجة مهما فعل. 

 

ثلاث آياتٍ لخّصت لنا المبدأ الشريف الذي ينتهجه كلّ باحثٍ، بل هو مبدأ المسلم -كما شرحناه في كتاب قولًا ثقيلًا- وهو الإنسان المنصف غير المتحيّز. 

كثير اللاءات وهو الحالة الأولى، أو من يقول لكلّ أمرٍ (لا)، من دون بيّنةٍ واضحةٍ، معزولٌ تمامًا، ولا فرصة أمامه للاتصال بالرّوح، أو أن ينهل منها. قبل أن يقول الإنسان (لا) لِما لا يدري عليه التّريّث قليلًا، ويفسح المجال للمعرفة؛ فقد يرفض الحقيقة وهو لا يدري. هذا هو الضّلال المبين، فكيف لمثل هذا أنْ يهديه الله، وهو بحدّ ذاته رافضٌ للهداية بقوله: لا، ثمّ لا، ثمّ لا.

 

أمّا الحالة الثانية فهي الكبر، وللكبر أسبابٌ عديدةٌ لن نقدر على إحصائها هنا. لكنّ الكبر والعزّة بالإثم أكثر ما منع الناس أن يؤمنوا، وبنصّ الآية فإنّ أصحاب الكبر لا فرصة أمامهم للاتصال بالرّوح أو التعامل معها.

الحالة الثالثة هي حالة التمنّي أو الهوى، وهذه حالةٌ قاتلةٌ، وتفسد عمل الرّوح، وتجعلها بلا فائدةٍ. لو أردت أنْ تصف الباحث الفاشل لن تجد أبلغ من كلماتٍ كهذه يمكن وصفه بها باقتدارٍ، فهو معترضٌ ومتكبّرٌ، ويسير حسب هواه. 

الآية تضع الشروط، أو لِنقلْ مقوّمات الاتصال بالرّوح، واستقبال الأمر الإلهيّ، عن طريق تقبّل الأفكار بحياديّةٍ، والتّواضع في التّناول، وعدم وجود فكرةٍ مسبقةٍ يسعى الإنسان لإثباتها. ومن أدرك هذه المقوّمات ثمّ سعى للفكرة، فسوف يحصل عليها، وهذا هو وعد الله للإنسان. 

الإنسان الذي يضع العراقيل أمام اتصال الرّوح به، يقول بلسان حاله: لا أريد الاتصال، وأنا من سوف يُقرّر بنفسه، والمسكين يجهل من أمر الكون، بل من أمر نفسه أضعاف أضعاف ما يدرك. قد يظن في نفسه القوة التي تُمكّنه من الوصول بنفسه للفكرة، ولا حاجة به للاتصال الرّوحي. هنا جاء الرد في الآية التالية، وهي كذلك نتيجةٌ لما قبلها (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ) (سورة النّجم: آية 21).

 

(الذَّكّر) هنا هو حالة القوّة التي لا تحتاج إلى دعمٍ، كما بيّنّا في الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب، والأنثى تُمثّل حالة ضعفٍ تحتاج إلى دعمٍ، وهذه الصّورة متوافقةٌ مع محاولات الإنسان السّاعي للوصول إلى الحقيقة. فإذا كان هذا الإنسان يظنّ أنه قادرٌ على الوصول للحقيقة الكاملة بذاته دون اتصالٍ بالرّوح، وفي ظلّ اللّات والعزّى ومناة؛ فقد جعل لنفسه (الذكر) وهي الحالة القويّة، وجعل لله الحالة الضعيفة. وهذا حال كثيرٍ مِن المغرورين؛ فتأتي أفكارهم هذيانًا . 

لقد فطن الباحث العلميّ لهذه الحالة؛ فوضعها في مناهج البحث، وأرشد الباحثين إليها، وأخبرهم أنّه من دون الإنصاف والتواضع وتنحية المزاج والهوى، فلن يستطيع التّقدّم خطوةً. اعتنق هذا الفكر من يُسمّيهم الناس الفلاسفة الملحدين، بينما غاص في الكبر والتحيّز رجالٌ احتكروا الدّين، واحتكروا الله، واحتقروا المتفكّرين.

 

لا شكّ أنّ من يفعل ذلك قد ظلم نفسه، واعتمد على هوىً لن ينفعه، وقد عبرت الآية التالية عن هذه الحالة، عندما قال الله فيها: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ) (سورة النّجم: 22). أصل كلمة (ضيزى) هو ضيَز؛ وتعني الاعوجاج، وهل يضلّ الإنسان أو يعوجّ تفكيره إلا بسبب اللات والعُزّى ومناة، التي وضّحتها الآيات السابقة.

لله الآخرة والأولى، وليس لك من الأمر شيءٌ، بل اجتهد ولا تُنصّب نفسك إلهًا تريد الحقيقة على مقاسك (فَلِلَّهِ ٱلۡـَٔاخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ) (سورة النّجم: آية 25). لو يعلم الإنسان أن ليس له من الأمر شيءٌ، وأنّه مطالبٌ بالسعي خلف الدليل وخلف الحقيقة فقط، لما اعترض ولا تكبّر أو تمنّى.

 

الآية التالية وضّحت لنا: لماذا يضل الإنسان؟ ولماذا يعوجّ طريقه الذي يسير فيه، إنِ اعتمد على مسلّماتٍ خاطئةٍ واتّخذها حقائق يجادل عنها ويرتكز عليها؟ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ) (سورة النّجم: 23). 

 

هذه الآية أرست ركيزة الانحراف، وهي التّوصيفات التي يضعها البشر دون سلطانٍ أو قانونٍ يحكمها. لو نظرنا في معارف كثيرةٍ وعلومٍ صنّفها أصحابها وحشروها حشرًا بين العلوم، لوجدنا أنّ بداياتها الأولى إنّما كانت مسلماتٍ خاطئةً بالمرّة، وبُنِيَتْ معارف على هذه المسلّمات، فأصبحت خطأً يعلوه خطأ، حتى أمسَتْ تِلالًا من الضلال. 

لقد أفردت لهذه الآية مساحةً في الجزء الثاني من سلسلة تلك الأسباب، وبيّنت كيف أنّ التسمية شيءٌ أساسيٌّ، وهي ما يحمل صفات الشيء وخصائصه، ولا بدّ أن يكون لها قانونٌ يحكمها، فإذا كانت التسمية أو وصف الشيء اعتباطيًا؛ أصبح الضلال هو سيّد الموقف. الآية تُلخّص الفرق بين الدليل الذي يقوم على السلطان، أو التّماسك القويّ، وبين الحيَل التي تأسّست على شفا جرفٍ على شفير الانهيار. 

 

تعود الآيات مرةً أخرى لتُحذّر من التمنّي مقابل الإنصاف: (أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ) (سورة النّجم: آية 24). وهذه الآية كذلك نتيجةٌ لما قبلها؛ فكلّ المسّلمات التي يعتنقها الإنسان دون أساسٍ متينٍ هي من فعل الأمنيات، وليست من فعل الفكر والتدبّر.

 لعلّ الباحثين الذين تبنّوا علومًا قامت بالأساس على ما دوّنه الإنسان القديم، وتعاملوا مع هذه المدوّنات على أنّها حقائق لا مناص منها، عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وأن يضعوا احتمال أن تكون هذه المسلمات التي انطلقوا منها خاطئةً بالأساس. يمكن فعل ذلك بسهولةٍ مع تقدّم الأدوات، وإعادة البحث مراتٍ ومراتٍ، وفي كلّ مرةٍ يجب أن يُفرّق الباحث بين الحقائق الثابتة والمسلّمات التي وضعها الإنسان نفسه، مهما كان هذا الإنسان. 

 

في سلسلة تلك الأسباب، كثيرًا ما حصلتُ على فكرةٍ تُعارض التاريخ، أو لا تتّفق مع المعلومات العلمية الحاليّة، وطلبتُ من الباحثين إعادة النظر مرةً اخرى، أو النظر من زاويةٍ جديدةٍ، وهذا ما تُقرّره الآية. لا تجعلوا مسلّماتٍ بشريةً تقف عائقًا أمامكم في طريق الهداية، بل انطلقوا من منطلق الإنصاف الكامل. 

سورة النّجم كنزٌ لا ينضب، وبعد أن فتحت أمامنا بابًا لفهم الرّوح والنفس، ها هي تفتح الباب تلو الباب لفهم الملائكة ومدلول المَلك.

 

المشهد السابع

الملائكة 

(وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) (سورة النّجم: آيات 26-27). 

هذه الآيات هي المفتاح الذي فكّ شفرة لفظ (الملائكة)، فمن خلال سياق الآيات سنجد أنّ مفهوم (المَلَك) بدا واضحًا بصورةٍ كبيرةٍ. الآيات التي سبقت هذه الآية تحدّثت عن الإنسان، الذي يتبع هواه غالبًا، ويتمنّى، ولديه اعتراضاتٌ وكبرٌ وأمانٍ من نوعٍ معيّنٍ. ثمّ جاءت الآية (كم من ملك لا تغني شفاعتهم شيئًا)، ماذا يعني هذا؟ 

من خلال مفهوم (السجود) الذي شُرح في الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب، وجدنا أنّ سجود الملائكة يعني التثبيت والدعم والقوة للإنسان، فيما يشبه المساندة المعنوية وليس المادّية. مدلول كلمة (مَلَك) ذاته يعني قوّة الشيء. هذه المعطيات تقود إلى أنّ (المَلك) هو حالةٌ تمنح الإنسان قدرةً معيّنةً. مرةً أخرى ما معنى ذلك؟

 يبدو أنّنا ندرك معنى (الملك) جيّدًا، وتعرفه شعوب العالم؛ ولكنْ -للأسف- يُسمّونه تسمية الأنثى، كما ذَكرت الآية في سورة النّجم. 

لو بحثنا في القدرات التي يُسمّيها الناس تسمية الأنثى، وتنطبق عليها صفة القوّة، فهي -لا شكّ- ما نسمّيه نحن المَلَكة، أو ما يُسمّيه الإغريق ربّة الشيء. مثال ذلك: ربّة الشعر، أو ربّة الموسيقى، أو ربّة المنطق، أو ربّة الفلسفة، أو ربّة الخطابة، أو ملَكة القيادة، أو ملَكة الرياضة، أو ملَكة اللغة وغيرها. هذه الصفات القويّة أو الملَكات أو الرّبات، هي في الحقيقة -كما قادتنا الاستنتاجات- تُشير إلى الملائكة.

 

كما ذكرنا في السابق، إنّ جبريل وميكال ليسوا من الملائكة؛ وقد جاء وصف الملائكة دقيقًا في أغلب آيات القرآن، ويشير إلى أنّها قدراتٌ معيّنةٌ تزيد من مهارات الإنسان، أو هي قوىً بصفةٍ عامةٍ. من هنا أودّ أن أصحّح هذا المفهوم، فهي ليست ملكاتٍ أو ربّاتٍ؛ بل هي (الملائكة)، ومعنى رفض القرآن تسميتها بالأنثى، يشير إلى قوّتها بذاتها، ويشير أيضًا إلى أنّ الناس يصفونها على الحقيقة بصفات الأنثى كما بيّنّا. 

 

هذه الملائكة أو ما نُسمّيه نحن القدرات هي مخلوقات الله، ويبدو جليًا أنّ لها وجودًا غير منظورٍ لنا، كما سوف نرى بعد قليلٍ، من خلال استعراض الآيات التي جاء فيها ذكر الملائكة. 

سوف أستعرض سريعًا بعض الآيات التي توضّح مفهوم (الملائكة)، وسأتطرّق لبعض الآيات التي قد يَفهم منها القارئ تعارُضًا مع الفرضيّة التي أفترضُها هنا. 

الآية في سورة النّجم: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) (سورة النّجم: آية 26) جاءت نتيجةً لما قبلها، وهي الآيات التي تُوجّه الإنسان إلى الابتعاد عن الغرور والكبر واتباع الهوى؛ لأنه قد ينزلق بصاحبه إلى الضلال. هذه الآية تؤكّد هذا المعنى، وكأنّ هذا الشّخص وإن كان موهوبًا في أمرٍ ما، أو لديه قدرةٌ عظيمةٌ في أمرٍ معيّنٍ، فإنّ هذه القدرة أو هذه الخاصيّة لن تشفع له إن اتّبع هواه. 

الإذن لـ (الملك) هنا هو الإذن باستغلال هذه القدرة أو الملَكة بلغتنا المعاصرة، ولا تنفع الإنسان المتكبّر أو كثير الاعتراض دون سببٍ وجيهٍ، أو المتبّع لهواه. لنضربْ مثالًا على ذلك لبيان المقصود، إنْ فرضنا أنّ شخصًا لديه ملَكةٌ -كما نسمّيها اليوم- في علم الرياضيات، ولكنّه يرفض الحقّ باستمرارٍ، ولديه كبرٌ، وكذلك يتبّع هواه؛ فلن تنفعه هذه الملَكة بشيءٍ.

الملائكة بهذا التعريف هي: كلّ القدرات الكامنة في الأشياء، والتي حتى يومنا هذا لا نعلم عنها شيئًا، أو يغيب عنا أغلب التفاصيل الخاصة بها، وسنحاول استعراض الآيات التي جاء فيها ذكر (الملائكة) لكي تُصبح الصورة أكثر وضوحًا. 

الآيات التي ورد فيها ذكر (الملائكة) 

الآية الأولى: (وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) (سورة البقرة: آية 30). 

هذا المشهد المشهور للملائكة، عندما يقول لهم الله: (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً)، هو المشهد الأكثر حضورًا للملائكة في القرآن، ونستطيع الآن فهم: لمَ قال الله للملائكة ذلك؟

 

لأنّ الملائكة ستكون عونًا للإنسان، وستمنحه قدراتٍ مميّزةً يستطيع من خلالها تأدية وظائفه بكفاءةٍ أكبر وأقدر. مشكلة الإنسان بصفةٍ عامةٍ، وتحديدًا الإنسان القديم، أنّه لا يستطيع أن يفهم مكنون الشيء أو ماهيّته إلا من خلال تجسيده؛ ولذلك جسّد الملائكة في رواياتٍ مختلفةٍ، رغم عدم وجود أيّ إشارةٍ إلى هذا التجسيد. وعلى خلاف ذلك تمامًا نجد أنّ القرآن عندما يتحدّث عن تدخّل الملائكة، فهو يشير بكلّ وضوحٍ إلى قدراتٍ غير مرئيّةٍ تُستَخدم من خلال الإنسان ذاته. الآيات ذكرت أنّ الله يُمِدُّ المؤمنين بعددٍ من الملائكة في معاركهم، ورغم ذلك لم يسجّل لنا التاريخ أيّ تدخّلٍ خارجيٍّ. 

(إِذۡ تَقُولُ لِلۡمُؤۡمِنِینَ أَلَن یَكۡفِیَكُمۡ أَن یُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَـٰثَةِ ءَالَـٰفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُنزَلِینَ) (سورة آل عمران: آية 124)

كتب السِّيَر والتاريخ سجلت قتلى المشركين وقاتليهم بالاسم، إذًا السؤال المنطقي: إنْ كان الملائكة كيانًا مجسّدًا، والمَلَك الواحد حسب الروايات يستطيع حمل الأرض بما عليها، فهل كان سيبقى من المشركين أحدٌ؟ 

الإجابة: لا بالتأكيد، ولكنْ اختلط الأمر على الناس، وظنّوا أنّ الملائكة كياناتٌ مجسّدةٌ، ولم يفطنوا إلى الإشارات القرآنيّة التي تشير إلى أنّها قدراتٌ، لو امتلك الإنسان بعضًا منها يصبح متميّزًا. 

نستطيع القول الآن: إنّ الملائكة التي دعمت المؤمنين هي قدراتٌ، مثل: الشجاعة، والإقدام، والطمأنينة، وتقدير الموقف، وصفاتٌ وقدراتٌ كهذه بأعدادٍ مهولةٍ لا نعلم منها سوى القليل. هذه القدرات مكّنت هذا العدد الصغير الضعيف من هزيمة عددٍ كبيرٍ، أكثر عدةً وعتادًا. 

آيةٌ أخرى في سورة آل عمران وضّحت بصورةٍ لا تقبل الشكّ وظيفة الملائكة في المعركة، وأكّدت لنا أنّها قدراتٌ تُميّز الإنسان، وتجعله أكثر كفاءةً في أمرٍ ما. 

(بَلَىٰۤۚ إِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَیَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَـٰذَا یُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَـٰفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُسَوِّمِینَ) (سورة آل عمران: آية 125). 

عندما تُحاول فهم لفظ (مسوّمِين) سوف تجد العجب في التفاسير، رغم وضوح اللفظ كثيرًا. (مسوّمِين) بكسر الميم الثانية تعني أنّ الملائكة تجعل الناس ذوي سماتٍ. ذوي سماتٍ تعني متميّزين، وهذا هو دور الملائكة الحقيقيّ. المَلك بصيغة المفرد هو قدرةٌ مطلقةٌ أو ملَكةٌ بلغتنا المعاصرة، فلو جاز لنا التعبير، وقلنا ملَك البرد أو ملَك الرياح؛ فهذا يعني القدرة الكامنة في هذه الأشياء. لو أردنا أن نشير إلى أمرٍ متعلّقٍ بالإنسان، وقلنا ملَك الخطابة، فهي قدرة الخطابة التي تجعل هذا الإنسان متميّزًا في هذا النوع. 

 

الآية الثانية: (وَقَالَ لَهُمۡ نَبِیُّهُمۡ إِنَّ ءَایَةَ مُلۡكِهِۦۤ أَن یَأۡتِیَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِیهِ سَكِینَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِیَّةࣱ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَـٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ) (سورة البقرة: آية 248). 

هذه الآية أسهمت بصورةٍ كبيرةٍ في تجسيد صورة الملائكة، وليس مستبعدًا أبدًا أنّ من جسّد الملائكة في المعارك سيتقبل تجسيد الملائكة وهي تحمل تابوتًا بمعنى صندوق. الملائكة مخلوقات الله غير المنظورين بنصّ القرآن ذاته، ومن خلال عددٍ من المشاهد القرآنيّة. 

(مَا نُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَمَا كَانُوۤا۟ إِذࣰا مُّنظَرِینَ) (سورة الحجر: آية 8). 

عندما فسّر المفسّر هذه الآية قال: إنّ المقصود بـ (منظَرين) أي مُمهِلين. الآية جاءت في معرض الحديث عن طلب الناس إنزال الملائكة، كنوعٍ من إثبات النبوّة أو الرّسالة: (لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(8)مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ(9)إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(10) (سورة الحجر: آية 8-10) فجاء الرد أنّهم لا ينزلون إلا بالحق، فإنْ أنزلهم الله فليس لمجرّد الاستعراض، وفي حالة نزلوهم لا يكونون منظَرين؛ أي ليس في استطاعة الناس إدراكهم على وجه الحقيقة. 

(منظَرين) أصلها نَظَر، والنظر كما سوف يأتي في الفصول القادمة هو التّأمّل، وهو مرحلةٌ تأتي بعد البصر. إذا كان البصر هو قدرة العين أو قدرة الحاسة على التقاط الصورة، فإنّ النظر هو التقاط تفاصيل هذه الصورة. التقاط التفاصيل يحتاج لوقتٍ وتريّثٍ، لذلك عندما نقول نظره ليوم كذا؛ يعني أعطاه فرصةً لالتقاط الصورة كاملةٍ من حوله. وعندما أخبر الله إبليس بأنّه من المنظرين؛ أي أنّه أخذ فرصةً لترتيب أوراقه أو غواية البشر. 

النظر هو وقتٌ لعمل شيءٍ، وليس مجرّد وقتٍ دون فائدةٍ. عندما يقول ربنا عن الملائكة ما كانوا منظَرين؛ أي إنّهم خارج الوقت، وخارج قدرة الإنسان ذاته على التقاط تفاصيلهم. هذه الآية تشير إلى أنّ الملائكة بالنسبة إلى الإنسان مخلوقاتٌ غير منظورةٍ، وذلك شبيه بما نقول اليوم عنه: الكون غير المنظور؛ بمعنى الذي لا نملك عنه معلوماتٍ، ولا نستطيع إدراكه. 

 

هناك اختلافٌ بين أن تكون الملائكة غير منظورةٍ، وأنّها تدعم الإنسان؛ فالله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، ولن يراه أحدٌ، ولكنّ قدرته محسوسة، ويده في كلّ أمرٍ. الرّوح منذ قليل كان غير منظورٍ، ولكنّ تأثيره ملموسٌ، وبعد تفسيره أصبح قاب قوسين من أن يكون منظورًا من خلال الدليل العلميّ. أمّا قول الله عن الملائكة (ما كانوا إذًا منظرين)؛ أي إنّ وجودهم خارج الإطار المعرفيّ للناس. 

 

الآيات والدلائل على أنّ الملائكة غير منظورةٍ، أو لا يستطيع الإنسان إدراك وجودها الماديّ كثيفةٌ للغاية، وسوف نأتي على كلّ الآيات التي يظنّ النّاس أنّها تُعارض ذلك، أو أنّ الملائكة تجسّدت لبعض الأنبياء. 

نعود لقصة التابوت والتي ذُكرت في موضعين من كتاب الله. الأولى هي الآية التي نحن بصددها، والثانية خاصّةٌ بقصة نبي الله موسى، و(التابوت) في هذه القصة يعني الشيء المحكم الممهّد، والآمن لحمل الرضيع موسى وقتها. قد يكون صندوقًا، ولكنّ مفهوم التابوت بالأساس يمكن استنباطه من خلال مقطعين: المقطع الأول (تاب) وهو من التوبة، والتوبة تعني التوقف عن فعلٍ ما بثباتٍ لا رجوع فيه. والمقطع الثاني الواو والتاء، والذي أعطى الكلمة حيّزًا، مثال: طالوت وجالوت. 

 

(طالوت) أصله طال، وهو الإنسان الذي ذكره الله في القرآن، وقد منحه بسطةً في الجسم والعلم، والاسم يحمل الصفات نفسها، إذ إنّ طال تعني الامتداد، والواو والتاء جعلت هذا الامتداد داخل حيّزٍ. لو كانت (طال) مطلقةً لظهرت فرضيّةٌ تُفيد أنّه خارج المألوف، ولكنّ الواو والتاء جعلت الإطالة في حيّزٍ محكمٍ. 

كذلك (جالوت) أصله جال، ويعني الدوران، وهذا يعني أنّه كان كثير الجولات، وجاء الواو والتاء ليضعه في حيّزٍ محكمٍ. فهو يجول في حدودٍ، وليس مثل ذي القرنين. 

 

دلالة الواو التاء في لفظ (تابوت) كذلك، يمكن فهمها على أنها جعلت لفظ (تاب) الذي يعني التوقّف وعدم العودة للخلف داخل حيّزٍ. لذلك يصحّ إطلاق لفظ (تابوت) على كلّ شيءٍ يحمل هذه الخصائص، وبذلك سندرك أنّ أمّ موسى وضعته في حيّزٍ محكمٍ مستقرٍّ، لا خوف عليه من أن ينقلب أو يتحرّك بصورةٍ خاطئةٍ. لا أُرجّح أنّه كان صندوقًا بالمعنى المتداول اليوم، بل هو كيانٌ مكشوفٌ لضرورة حياة الطفل، ومن أجل ملاحظته من بعيدٍ بواسطة أخته، ولكنّه محكم التثبيت، ولا خوف عليه من الانقلاب في المياه.

 

التابوت في الآية الخاصة بالملائكة، هو حالةٌ تصف تمامًا هذه الهيئة، ولكنْ لأنّ الملائكة غير منظَرين، فلا بدّ أنْ يكون التابوت غير ماديٍّ هنا. معنى هذا أنّ الملائكة أو القدرات التي تدعم الإنسان حملت مزيدًا من التثبيت والاطمئنان والأمان، مثل ما عهده القوم أيام هلاك فرعون، وسيادتهم بعد غرق الطاغية. التابوت فيه سكينةٌ، والسكينة أمرٌ غير ماديٍّ، فلماذا ذهب المفسّر خلف الروايات القديمة، والتي تقول: إنّ التابوت صندوقٌ فيه الألواح. لقد كان التابوت آية مُلك طالوت كما بيّنت الآية التي سبقت آية التابوت في سورة البقرة. 

(وَقَالَ لَهُمۡ نَبِیُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكࣰاۚ قَالُوۤا۟ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَیۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ یُؤۡتَ سَعَةࣰ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَیۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةࣰ فِی ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ یُؤۡتِی مُلۡكَهُۥ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمࣱ) (سورة البقرة: آية 247).

آية ملكه -كما يبدو من سياق الآيات- أنْ يطمئنّوا ويأمنوا، كما حدث على عهد نبيّ الله موسى بعد معاناةٍ طويلةٍ. هذا هو التابوت، ولو كفّ الناس عن ترديد الأساطير لانتهت كثيرٌ من المشكلات السياسية والحروب بين الناس. المعرفة القائمة على الدليل كفيلةٌ بأن تُنهي جميع الخلافات، ولن يبقى إلا المتعصّبون الذين يسيرون خلف حتفهم بأيديهم، وهم لا يشعرون. 

الآية الثالثة: (فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُوَ قَاۤىِٕمࣱ یُصَلِّی فِی ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدࣰا وَحَصُورࣰا وَنَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ) (سورة آل عمران: آية 39). 

هذه الآية أيضًا ساهمت في الصورة التجسيديّة للملائكة، لكنّ الله يقول في آياتٍ أخرى أنّه نادى، فهل تجسّد الله؟ بالتأكيد لا. عندما تطرّقنا للروح وكيف تنطق، أدركنا أنّ الإشارات القرآنيّة تشير إلى أنّ كلّ المخلوقات لها تفاعلٌ خاصّ بها، ونداء الملائكة من هذا النوع. 

الملائكة مخلوقاتٌ خاصةٌ جدًا، وجاءت التعبيرات القرآنيّة تحثّ على الإيمان بها، وهذا يشير إلى الجانب الغيبيّ الكبير الذي يلفّ الملائكة. لماذا يذهب المفسّر إلى التجسيد رغم وجود رحابةٍ في الآيات تعطي فرضياتٍ أخرى متسقةً مع آياتٍ أخرى كثيرةٍ؟ 

على هذا المنوال سارت مجموعةٌ من الآيات، جاء فيها (قالت الملائكة)، كما في سورة مريم وآل عمران: 

(وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَاۤءِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ) (سورة مريم: آية 42)

(إِذۡ تَقُولُ لِلۡمُؤۡمِنِینَ أَلَن یَكۡفِیَكُمۡ أَن یُمِدَّكُمۡ رَبُّكُم بِثَلَـٰثَةِ ءَالَـٰفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُنزَلِینَ) (سورة آل عمران: آية 124). 

قول الملائكة كذلك مثل نطق الرّوح، مثل نداء الله، مثل الوحي، لا يمكن أن يُحمل على الصورة التجسيديّة، إلّا إذا عدنا للعصور القديمة مرةً أخرى. عجيبٌ أمر هذا الإنسان، فهو ما بين روحٍ توحي له بالخير، وملائكةٍ حريصةٍ على توجيهه ودعمه ومساندته، ومع كلّ ذلك ظلومٌ جهولٌ. 

قبل أن أغادر هذه الآية لا بدّ أن أطرح سؤالًا: هل هناك آياتٌ وصفت تجسُّد الملائكة مباشرةً؟

الإجابة: لا يوجد، ولكنّ المفسّرين والشرّاح يقولون: نعم يوجد، ويستدلّون بمجموعةٍ من الآيات، لا علاقة لها بتجسيد الملائكة، وهي آياتٌ في سورة هود.

(وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡ رُسُلُنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوا۟ سَلَـٰمࣰاۖ قَالَ سَلَـٰمࣱۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاۤءَ بِعِجۡلٍ حَنِیذࣲ) (سورة هود: آية 69)

(قَالُوا۟ یَـٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن یَصِلُوۤا۟ إِلَیۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعࣲ مِّنَ ٱلَّیۡلِ وَلَا یَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِیبُهَا مَاۤ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَیۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِیبࣲ) (سورة هود: آية 81)

تقول الآيات (رسلنا) و(رسل ربك) ولم تقل ملائكة، فلماذا تخطّى الناس هذا المعنى، وفسّروها على أنّها ملائكة؟ إنّه الاستسهال أو الروايات القديمة، رغم عدم تصريح القرآن بذلك. فإذا لم تكن رسل ربك هنا ملائكةً، فماذا تكون؟ 

الإجابة: لا ندري بالتحديد، ولكنّها ليست ملائكةً. الاحتمالات مفتوحةٌ إلى ما لا نهايةٍ، ومخلوقات الله لا نحصيها، ولا نعلم منها إلا ما تيسّر، ولا نُدرك خواصّها وصفاتها إلا بقدرٍ ضئيلٍ، فلماذا التعجّل وجعل الرّسل في الآية ملائكةً، رغم عدم تصريح القرآن بذلك؟

قد تكون (رسل ربك) هنا تصف بشرًا آخرين أو أي شيءٍ من هذا القبيل، ولكن تبقى كلها احتمالاتٌ، ولا يجب أن نحملها على وجهٍ واحدٍ وهو الملائكة، ثم ننطلق من هذه الآية للقول بتجسيد الملائكة. 

لدينا آيةٌ اخرى يستدلّ بها المفسّر على تجسيد الملائكة في سورة مريم: (فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابࣰا فَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرࣰا سَوِیࣰّا) (سورة مريم: آية 17). لقد شرحنا هذه الآية من قبل، واستنتجنا أنّ الرّوح حلّ في بشرٍ، ولم يتحوّل الروح إلى بشر، وليس ملَكًا في النهاية، والآية لم تصرّح بذلك.

 

لن تجد آيًةً في القرآن تشير مباشرةً إلى تجسيد الملائكة، بل هناك آياتٌ تشير إلى خلاف ذلك ومباشرةً، ومع ذلك يُصرُّ بعضهم أن يبقى في بوتقته، ويظنّ أنّ حدود العالم والكون تنتهي عند حدود معرفته. هذا الكون المترامي الأطراف والذي نجهل منه أضعاف ما نعرف هو من صنع خالقٍ هو مَن أنزل هذا الكتاب، فلماذا الإصرار على تضييق المفاهيم لتصبح قاصرةً على بيئةٍ جغرافيةٍ وزمنيّةٍ محدودةٍ، رغم توجيه القرآن بخلاف ذلك تمامًا؟

 

الآية الرابعة: (إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰسِعَةࣰ فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا) (سورة النساء: آية 97). 

(توفّاهم الملائكة) تشير إلى تلك القدرة على الاستيفاء أو آلية الاستيفاء، وليس فيها تعارضٌ مع وصف الملائكة في كتاب الله. أفهم من هذه الآية أن الملائكة تتوفّى الإنسان أو الذين ظلموا أنفسهم؛ بمعنى أنهم لم يستفيدوا من الدعم المقدم من الملائكة، رغم أنه كان في متناولهم.

 

 أضرب مثالًا لتقريب المعنى: لنفترض أن رجلًا لديه تميّزٌ في علم الطب أو المحاسبة، ولكنه ظلّ يتخبّط في حياته هنا وهناك، ولا يستفيد من هذا العلم ولا ينتفع به ولا ينفع به أحدًا. في هذه الحالة سنجد أنّ العلم أو القدرات التي كانت متاحةً لديه سوف تغادره عند لحظة موته، وهو في هذه اللحظة ظالمٌ لنفسه بعدم استيعابه واستفادته من هذه القدرات. إنها الحسرة على العمر الذي ضاع دون أن يستفيد من سجود الملائكة له.  

الآية الخامسة: (هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن تَأۡتِیَهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَوۡ یَأۡتِیَ رَبُّكَ أَوۡ یَأۡتِیَ بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَۗ یَوۡمَ یَأۡتِی بَعۡضُ ءَایَـٰتِ رَبِّكَ لَا یَنفَعُ نَفۡسًا إِیمَـٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِیۤ إِیمَـٰنِهَا خَیۡرࣰاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوۤا۟ إِنَّا مُنتَظِرُونَ) (سورة الأنعام: آية 158). 

هذه الآية تؤكّد على مفهوم الملائكة غير المنظور، فقد جُمعت الملائكة مع (ربّك) و(آيات ربّك). الآيات تشير إلى إدراك الإنسان للحقائق، ولكن بعد فوات الأوان وهذا مصير كل الغافلين. 

الآية السادسة: (لَا یَحۡزُنُهُمُ ٱلۡفَزَعُ ٱلۡأَكۡبَرُ وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ هَـٰذَا یَوۡمُكُمُ ٱلَّذِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ) (سورة الأنبياء: آية 103). 

(تتلقّاهم الملائكة) أي يتلقّاهم الفرح والسعادة والرضا والاطمئنان؛ فكلّ هذه المعاني رأيناها كثيرًا ما تؤيّد الإنسان وتدعمه في المواقف الصعبة. هذه الآية شبيهةٌ بالآيات التي تحدثت عن مدد الملائكة للمؤمنين ودعمهم وتثبيتهم لهم. (تتلقاهم الملائكة) أي كلّ المشاعر الإيجابية التي تمنح النفس السعادة والاطمئنان. 

ملك الموت ليس شخصًا كالبشر، أو كما وصفتْ لنا الروايات أنّه شخصٌ مخيفٌ؛ بل هو قدرة الموت أو حتى سُنّة الموت التي تضرب كل شيءٍ. 

بعد فهم مدلول كلمة (ملَك) يمكن أن نسحب صفة ملَك على كلّ أمرٍ من الأمور، مثل: الرحمة، التسامح، الحياة، بل وجميع العمليات الحيوية داخل جسم الإنسان، مثل: الهضم والتنفس ودورة الدم وحركة الأعصاب، والتفكير، وهلمّ جرًا.

عملية الموت على مستوى الخلية تجري عن طريق ما يمكن تسميته: برنامج التدمير الخلويّ الذاتيّ، عندما تُصبح الخليّة عديمة الفائدة. وهذا البرنامج الذاتيّ أو هذه القدرة يمكن أن نطلق عليها ملَك الموت. 

الآية السابعة: أقف هنا مع هذه الآية؛ لأنها ستُعطينا لمحاتٍ جديرةً بالاهتمام عن صورة الملائكة: (ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ رُسُلًا أُو۟لِیۤ أَجۡنِحَةࣲ مَّثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۚ یَزِیدُ فِی ٱلۡخَلۡقِ مَا یَشَاۤءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ) (سورة فاطر: آية 1). 

الجناح في اللغة هو الميل مع التوازن، ويُسمّى الجناح في الطائر جناحًا؛ لأنّ تحريك الطائر له يُمكّنه من الحركة والتحليق مع الاتزان. تعدّد الأجنحة إشارةٌ إلى القوّة، فعندما نرى قول الله (جاعل الملائكة رسلًا أولي اجنحةً) فهي في حالة حركةٍ متوازنةٍ، و(مثنى وثُلاث ورُباع) تُشير إلى تفاوت القوة. ماذا يعني هذا التعبير؟

بفرض أنّ مجموعة أشخاصٍ لديهم قدرات الخطابة، فهل كلّ الأشخاص لديهم القدرة نفسها أم أنّهم متفاوتون؟

الإجابة: يتفاوت النّاس –بالتأكيد- في القدرات والملكات المختلفة، من حيث القوّة والضّعف. من هنا يمكننا فهم تعدّد الأجنحة؛ لأنها تشير بدقةٍ إلى تفاوت القدرات، بل تفاوت نواحٍ معينةٍ من القدرات. 

فهناك شخصٌ هادئ الخطابة، وبهدوئه قد يستميل القلوب، أو يثير الحماس، أو يحفّز العقول، كلّ هذه أجنحةٌ متفاوتةٌ، ويتفاوت الناس في النوع الواحد من أنواع الخطابة. 

يمكننا فهم التعبير القرآني أولى أجنحة من خلال فهم التعبير المعاصر قدرات متعددة الجوانب وهي كذلك متفاوتة في الدرجات. الفلاسفة متفاوتون وعلماء الفلك درجات وهكذا كل الهبات والقدرات لدى الناس متفاوتة ولها جوانب متعددة وهذا ما أراه ينطبق على قول الله ( جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ رُسُلًا أُو۟لِیۤ أَجۡنِحَةࣲ مَّثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۚ )

الآية الثامنة: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ) (سورة التحريم: آية 6). 

في الآيات المتعلقة بالنار، ذهب المفسّر كذلك إلى التجسيد، رغم أنّ مفهوم القدرة هو الأنسب هنا، وتحديدًا في الآية التالية: (وَمَا جَعَلۡنَاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰۤىِٕكَةࣰۖ وَمَا جَعَلۡنَا عِدَّتَهُمۡ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِیَسۡتَیۡقِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَیَزۡدَادَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِیمَـٰنࣰا وَلَا یَرۡتَابَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَلِیَقُولَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ مَاذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلࣰاۚ كَذَ ٰلِكَ یُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَمَا یَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَۚ وَمَا هِیَ إِلَّا ذِكۡرَىٰ لِلۡبَشَرِ) (سورة المدثر: آية 31)

(أصحاب النار) أي المصاحبين للنار، وهذا يُشير إلى أنّ النار هي من مخلوقات الله، ويقوم على قدرتها وصفاتها وخصائصها ملائكةٌ بالمفهوم غير المنظور. (ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ) تشير إلى خواصّ النار القوية الشديدة، ولا تشير بالضرورة إلى صورةٍ تشخيصيةٍ نفاها القرآن في أكثر من موضعٍ. 

مفهوم (الملائكة) مفهومٌ صعب المنال؛ بسبب طبيعة الآيات التي تناولته، رغم أنّ هناك آياتٍ صريحةً تشير إلى مفهوم الملائكة المجرّدٌ، إلا أنّ بعض التفسيرات لبعض الآيات جسّدت صورة الملائكة؛ لأنّ تجسيدها يجعلها قريبةً للفهم، إذ لا يمكن فهم المُجرّد بسهولةٍ، لا سيما في المجتمعات القديمة أو البسيطة. 

 

سورة النّجم فتحت الطريق أمامنا لفهم (الملائكة)، عندما قرنت شفاعة الملَك التي لا تنفع الإنسان صاحب الهوى أو المتكبّر، ثمّ أشارت إلى تسمية الأنثى التي ينتهجها النّاس في تسمية الملائكة. قول الله سبحانه عن الملائكة (ما كانوا إذًا منظرين) يجعل وضع تصوّرٍ دقيقٍ لهم ليس في المتناول، ولكن تكفينا هنا هذه الإشارة، ونفي الصورة المجسّدة للملائكة التي تعجّ بها الكتب. 

نعود لسورة النّجم، ولْنختمْ هذه السورة العظيمة بمجموعةٍ متفرّقةٍ من الآيات المتبقية منها، وهي مجموعة آياتٍ تُشير إلى سعي الإنسان، ثمّ نختم بالآيات الأخيرة من السورة. 

سعي الإنسان

(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41) (سورة النّجم: آيات 39-41). 

هذه الآيات تُجيب ببساطةٍ على سؤالٍ شديد الحساسية، وهو: ماذا لو حاولت واجتهدت ولكنّني لم أصل للحقيقة؟ الإجابة هي: إنّ مجرّد السعي بإخلاصٍ مدعاة الجزاء الأوفى، بغضّ النّظر عن النتائج. 

كثيرًا ما يتبادر إلى ذهن الإنسان أنّ النّاس متفاوتون في القدرات، وهذه حقيقةٌ واقعةٌ، لكنّ هذا لا يجب أن يكون عقبةً أمام الإنسان. أنت مطالبٌ بالسعي قدر استطاعتك فقط، لا تكن معترضًا بلا سببٍ، ولا تكن متكبّرًا، ولا تتّبع الهوى. 

الآيات الأخيرة

(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ(60)وَأَنتُمْ سَامِدُونَ(61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا(62) (سورة النّجم: آيات 59-62). 

(أفمن هذا الحديث تعجبون)؛ وهل هناك حديثٌ أعجب من علاقة الرّوح بالإنسان، والذي تناولته سورة النّجم. إنه حديثٌ مليءٌ بالغموض؛ ولذلك ظلّت هذه السورة تشرح أشياء لا علاقة لها بالرّوح، أو بالنظام المعرفيّ للإنسان، أو بكيفية تكوُّن الأفكار أمدًا بعيدًا. هذه السورة ليست سهلةً أبدًا؛ ولكنّها تحمل أسرارًا من أعظم أسرار علاقة الإنسان بالكون والله. إنّه حديثٌ مهمٌّ، ويجب أن يُؤخذ على محمل الجدِّ؛ لأنه يشير إلى كميّة الدعم والمساندة التي يتلقّاها الإنسان، ومع كلّ ذلك يضلّ وينحرف، أو يظلّ يسبح في الجهل. ماذا بقي للجاهل أو للمتكاسل بعد سورة النّجم، وهي التي كشفتْ نظام الإنسان المعرفيّ، وفضحتْ تخاذله أمام نفسه.

(سامدون) تعني ماضون قدمًا، لا تنظرون قليلًا، والآية تشرح أنّ الإنسان مستمرٌّ في طريقه، لا يرغب في التوقف قليلًا، وأخْذ فرصةٍ للتفكير. إنّها آيةٌ تصفنا بكلّ دقةٍ؛ إذ تمرُّ علينا الآيات تلو الآيات ونحن ماضون لا نلتفت، ولا نلوي على شيءٍ. أنهت السّورة هذا الحديث الرائع بقول الله: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا). أمّا السجود فهو الاقتراب من الله، وأمّا العبادة فهي تحمّل المسؤوليّة، كما جاء شرحها بالتفصيل في الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب. 

ملخص الفصل 

  • تطرّقت سورة النجم في منتصفها إلى فئةٍ من البشر لا يستطيعون التواصل مع الرّوح؛ بسبب سماتٍ شخصيةٍ، مثل: الاعتراض غير المبرّر، والكبر، والهوى.
  • سدرة المنتهى التي نسج حولها المفسّرون أساطير لا حدود لها، إنّما تشير إلى حالة حيرةٍ واضطرابٍ تُصيب الإنسان خلال سعيه للوصول إلى فكرةٍ أو نتيجةٍ ما.
  • أفاضت علينا سورة النّجم بمفهوم الملائكة، ومدلولٍ أكثر عمقًا من ذي قبل، وهو مفهوم الملائكة غير المنظور.

الملائكة بلغتنا المعاصرة هي القدرات أو المَلََكات، وقد أشار القرآن إلى عدم صحة تسميّة هذه الأشياء تسمية الأنثى؛ إذ إنّ ذلك يضعها في حالة ضعفٍ، وهو ما لا يتناسب مع اسم الملَك وصفته التي تحمل القوّة والقدرة.  

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة