الفصل الثامن عشر - الصفا والمروة
الفصل الثامن عشر
الصفا والمروة
بعد بيان مفهوم (الحج) ومفهوم
(البيت) والذي كان من أصعب المفاهيم التي واجهتنا في الفصل السابق؛ بسبب التشعب
الكبير للمعنى ودلالاته المختلفة، سوف نتناول في هذا الفصل مفرداتٍ وتعبيراتٍ
متعلقةً بعملية الحج، وكيف أنها منسجمةٌ تمامًا مع المفهوم الذي قرّره القرآن،
وتمّ استخلاصه في النهاية.
بعد سورة الحج والتي أعطتنا
صورةً متكاملةً عن مفهوم الحج، لدينا مجموعةٌ من الآيات في سورة البقرة سوف نكتشف
من خلالها مفاهيم جديدةً، ولكن قبل خوض غمار هذه الآيات سوف أقوم باستعراض مفهوم
(المسجد الحرام) مرة أخرى في ظل الفهم الجديد لـ (الحج) و(البيت). رغم تناول مفهوم
(المسجد الحرام) في الفصل السادس عند التعرض لمقدمة سورة الإسراء، وكذلك الإشارة
الخفيفة لمفهوم (المسجد الحرام) في الفصل السابق، إلا أنّ الوقت الآن أصبح مُهيّأً
تمامًا لتفصيل مفهوم (المسجد الحرام) بدقةٍ أكبر.
المسجد الحرام
تعبير (المسجد الحرام) جاء في
كلّ مواضعه في القرآن يشير إلى موضعٍ للإنسان يجب أن يأمن فيه. وإذا كان مفهوم
(البيت) الذي ارتبط بالحج لم يُشرْ إلى الإنسان، وإنما أشار بمفهومه التجريدي إلى
الفكرة الأساسية عن الإله التي أسّس لها نبي الله إبراهيم، ومفهوم البيت التجريدي
ارتبط بالأنعام والكائنات على الأرض؛ فإن المسجد الحرام يعني الموضع الذي من
المفترض أن يطمئنّ فيه الإنسان ويشعر بالأمان. إضافة لفظ (الحرام) إلى (المسجد)
تجعله أشبه بالحصن أو المكان الممنوع من الآخرين، أو المحصّن من الأذى.
قد يشمل مفهوم (المسجد الحرام)
معنى الوطن، كما جاء في شرح مقدمة سورة الإسراء؛ إذ إنّ الوطن هو أكثر الأماكن
التي تُشعر الإنسان بالاطمئنان والأمان. ولكنّ مفهوم (المسجد) بصفةٍ عامةٍ هو
مفهومٌ يشمل كلّ موضعٍ تتوافر في شروط الاطمئنان والأمان، ويأمن فيه الإنسان بصفةٍ
عامةٍ على نفسه من الأذى. فإذا لم يشعر الإنسان في وطنه بالأمان والاطمئنان فهذه
كارثةٌ؛ لأن المسجد الحرام لم يعد آمنًا ولا محل ثقةٍ، وعلى الناس أن يجعلوه آمنًا
لأهله مرةً أخرى. لن نجد صعوبةً في فهم مدلول (المسجد الحرام) المرتبط بالحج بعد
فهم الحج نفسه.
(أَجَعَلۡتُمۡ سِقَایَةَ
ٱلۡحَاۤجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ
وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَجَـٰهَدَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ لَا یَسۡتَوُۥنَ عِندَ
ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ) (سورة التوبة: آية 19).
(المسجد الحرام) هنا هو المكان
الذي يجتمع فيه الناس للحج؛ على نحوٍ يكونون آمنين تمامًا على أنفسهم في قول ما
يرغبون في قوله، ولا يخافون شيئًا أبدًا.
لو انتفى هذا المفهوم فلا يصبح
هذا المكان مسجدًا حرامًا أبدًا، بل موضعًا مروّعًا لا يمكن إقامة أيّ مناقشاتٍ
فيه، وهذا المفهوم يأخذنا إلى أقصى نقطةٍ في حرية التعبير، حيث الحجة بالحجة. فلو
تدخّل حاكمٌ أو هيئةٌ ما في إملاء ما يقوله الناس، أو توجيه ما يفكّر فيه الناس
بصورةٍ تخدم مصالحهم أو رؤيتهم، على نحوٍ يخشى الإنسان على نفسه أو غير مطمئن في
قول ما يريد قوله، فهنا لا يصبح هذا المكان (مسجدًا حرامًا). يصحّ أن يكون المسجد
الحرام للرسول هو المكان الذي يمنعه، وكان يحنّ له دائمًا، وهو وطنه الذي وُلد فيه
حيث قبيلته ومنعته.
الحقيقة أن هذه البقعة صارت
مسجدًا حرامًا بعد التمكن منها وتأمينها من قبل الرسول، ولا يمكن أن تكون موضعًا
حرامًا ما دام الناس مباحين فيها، ولا يأمن الإنسان فيها على نفسه. إنها ألفاظ
القرآن الدقيقة، والتي يجب أن يُطابق فيها الاسم المسمى، وليست تسمياتٍ من دون
مدلولٍ.
لأنّ أحداث القرآن بالنسبة إلى
المفسر دارت في البقعة الضيقة بين قرية رسول الله التي وُلد فيها والمدينة، فلم
يكن هناك تفسيرٌ أنسب للمسجد الحرام سوى المتداول حاليًا. وعندما أقام الرسول أول
حجٍّ أقامه في وطنه الأم؛ ولذلك أصبح (الحج) و(المسجد الحرام) وكلّ المفردات
الأخرى ملتصقةً بهذا المكان حصرًا، رغم عالميّتها في القرآن.
لا شك أن الإنسان يحنّ غالبًا
إلى موطنه وأهله، ويشعر بالأمان بوجودهم، وهو في منعةٍ في ظل كنفهم. إننا بشر
ومحكومون بقوانين البشر، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ. الأمر غير الطبيعي هو اقتصار الأمر
على البقعة التي وُلد فيها رسول الله، وعدم الالتفات لمفهوم المسجد الحرام الشامل
في القرآن.
ليس هناك أدنى مشكلةٍ في تثبيت
معنى (المسجد الحرام) على هذه البقعة، وإقامة (الحج) بمفهومه القرآني فيها، على
نحوٍ تُصبح ملتقىً عالميًا للأفكار والحجج القائمة على الأدلة والبراهين لا على
الأماني والهوى. لكن إذا سلبت هذه البقعة صفة الأمان والاطمئنان من روّادها، ولم
تُؤمّنهم على أنفسهم، وصار يُملى على الناس ما يقولون، عندها لا يمكن لهذه البقعة
أن تُسمى (مسجدًا حرامًا).
بعض الآيات لو فُهمت من خلال
الفهم العام لـ (المسجد الحرام) فسوف يكون لها مدلولٌ أشمل من المدلول المتوارث
مثل الآية التالية.
(وَمَا لَهُمۡ أَلَّا
یُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ یَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا
كَانُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤءَهُۥۤۚ إِنۡ أَوۡلِیَاۤؤُهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ
وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ) (سورة الأنفال: آية 34)
الصدّ عن المسجد الحرام
بالعموم هو تهديد الناس وبثّ الرعب في قلوبهم، على نحوٍ يصير المسجد الحرام فاقدًا
لمعناه. لا شك أن هذا المفهوم ينطبق على موطن رسول الله؛ إذ إنّه الموطن الذي
اختاره الرسول للحجّ بحسَب رؤيته، فلا بدّ أن يكون مسجدًا حرامًا؛ أي مكانًا آمنًا
تمامًا لا يخشى الناس فيه على أنفسهم.
من هنا نستطيع أن نفهم العلاقة
بين ما فعل الرسول والحج والمسجد الحرام، وهي أنّ الرسول اختار البقعة التي وُلد
فيها لكي يجري فيها الحج، وسوف نأتي على تفصيل السبب الذي جعله يجري بهذه الطريقة
في الفصل القادم. لكنْ هنا دعونا نوضّح العلاقة بين اختيار الرسول للبقعة ووجوب
كونها مسجدًا حرامًا. بمجرد اختيار البقعة من قِبل الرسول أصبح أساسيًا أن تكون
مسجدًا حرامًا لروّاده، على نحوٍ يأمن الناس فيه على أنفسهم داخل هذه البقعة.
مفهوم (المسجد الحرام) هو مفهومٌ متعلّقٌ
بالإنسان نفسه، وليس مفهومًا محصورًا ببقعةٍ معينةٍ دون حساب الظروف المحيطة. كما
أن (البيت الحرام) هو التجمعات التي لا يجب أن يقترب منها الإنسان، فإن المسجد
الحرام هو موضع الاطمئنان والثقة والأمان للإنسان. وسوف نجد صدى هذا المفهوم في
آيات سورة التوبة: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ
نَجَسࣱ فَلَا یَقۡرَبُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَـٰذَاۚ
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَیۡلَةࣰ فَسَوۡفَ یُغۡنِیكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۤ إِن
شَاۤءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ) (سورة التوبة: آية 28).
وجود المشركين في (المسجد
الحرام) بوصفه موضعًا للاطمئنان والأمان مُنافٍ لمفهوم (المسجد الحرام)؛ إذ يثير
وجودهم القلاقل والتوتر، فلا يجب أن يكونوا ضمن هذا المسجد.
تطبيق هذه الآية بمفهومها
التقليدي جعلها مرادفًا لمنع كلّ شخصٍ غير مسجلٍ في الأوراق الرسمية بصفة مسلمٍ من
الوصول إلى البقعة التي ولد فيها الرسول الكريم (مكة)، رغم أنّ مفهوم (المشركين)
مفهومٌ واسعٌ، ويجب تحديده حتى تصبح الآية عاملةً بصورةٍ سليمةٍ. مفهوم (الشرك) هو
خلط الأشياء معًا؛ ممّا يُسبّب ضبابيةً في الأمر، ولا يمكن تحديد المُشرك بصورةٍ
سليمةٍ إلا من خلال تحديد السياق، أو الأمر الذي يجري تناوله.
الإشراك بالله هو خلط كلمات
الله وتعليماته بأشياء أخرى رغم وضوح البيّنة وجلاء الأدلة. كذلك فإن الشرك في
مناقشة أمرٍ ما هو خلط أشياء مع الأمر الذي تجري مناقشته من دون دليلٍ؛ ممّا يسبب
ارتباكًا وفوضى، ويُفرغ المناقشة من مضمونها.
عندما نضع مفهوم (الحج) جنبًا
إلى جنبٍ مع مفهوم (المسجد الحرام)، ثم نحاول فهم (المشركين) في هذه الآية فسوف
تتضح الصورة. (الحج) هو محاججةٌ أو مناقشةٌ لأمرٍ ما، والمسجد الحرام هو المكان الذي
يجري فيه هذا النقاش، والمشركون هم الذي يدخلون على الخطّ من دون علمٍ ولا درايةٍ،
ويثيرون الصخب والضجة. هؤلاء (نجسٌ) بمعنى أنهم أخلاطٌ، ولا يجب أن يكون لهؤلاء
موضع قدمٍ بين المُتحاججين. المحاججة أمرٌ راقٍ بين مستوياتٍ فكريةٍ عاليةٍ، فلا
يجب أن يتدخل من لا علم له في أمر هذه المحاججة فيحدث الخلط والارتباك.
لتوضيح الصورة، لنفرضْ أنّ
نقاشًا أُعلن عنه لبحث أمر التطور أو تطوّر الإنسان. فهنا يجب أن يُسمح لكلّ بحثٍ
أصيلٍ ولكلّ باحثٍ صاحب رؤيةٌ حقيقيةٌ بالاجتماع، وفي الوقت نفسه يؤمّن المكان
تمامًا، على نحوٍ يكون كلّ إنسانٍ آمنًا على نفسه تمامًا، وحرًا في التعبير وتقديم
الحجج التي يراها، ويعرضها للنقاش. يجب إبعاد الأبواق التي لا تملك شيئًا سوى بعض
التصورات والأوهام التي لا ترتكز على دليل من الولوج والمشاركة في مثل هذه
المحاججات. هذا هو مقصود (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
هذا).
بفرض أنّ مفهوم الحج القرآني
قد طُبّق في العصر الأول، وأن موضوعًا مثل موضوع (القَدَر) قد أُثير من قِبل بعضهم
بعد وفاة الرسول العظيم، وفي وقت الحج هذا يجب اجتماع كلّ مَن له درايةٌ بالموضوع،
أو لديه رؤيةٌ قائمةٌ على أدلةٍ معقولةٍ، ويُقدم كلّ فريقٍ أدلّته، ويُناقَش كلّ
دليلٍ على حدةٍ، في مناخٍ يأمن الجميع فيه على نفسه. في الوقت نفسه يُبعَد كلّ مَن
ينادي بتبنّي فكرةٍ معينةٍ، وإقصاء فكرةٍ أخرى بناءً على تصوّراته أو أوهامه من
دون دليلٍ. كلّ مَن يملك دليلًا يتقدّم، وكلّ مَن يملك صوتًا مرتفعًا فقط من دون
دليلٍ فهو مشركٌ، ولا يجب أن يقترب من المكان الذي يُعقَد فيه الحج؛ حتى لا يُؤثّر
على مسار الحج ويثير القلق.
آيةٌ أخرى في سورة الفتح
نستطيع من خلالها فهم مدلول (المسجد الحرام)، ولعلها هي ما جعلت مفهوم (المسجد
الحرام) مقصورًا على هذه البقعة.
(هُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟
وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡیَ مَعۡكُوفًا أَن یَبۡلُغَ
مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالࣱ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَاۤءࣱ مُّؤۡمِنَـٰتࣱ لَّمۡ
تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِیبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَیۡرِ
عِلۡمࣲۖ لِّیُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِی رَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ لَوۡ تَزَیَّلُوا۟
لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا) (سورة الفتح: آية
25).
المسجد الحرام هو المكان الذي
يأمن فيه كلّ إنسانٍ على فكرته، ولا يخاف عند قول ما يريد قوله، فعندما يقوم بعضهم
بتهديد الناس، وجعل المسجد الحرام فاقدًا لمعناه، فعندها لا يمكن للهدْي أو
الاسترشادات أن تصل وجهتها. الآية تربط الأمان والاطمئنان بوصول الهدي أو
الاسترشادات الطيبة إلى مكانها ووجهتها عند الناس.
إذا كان الرسول العظيم قد
اختار مكان ولادته ليصبح مكانًا للحج، وهو المكان الذي سوف تدور فيه المحاججة،
وينتُج عنها الهدي دون شكّ، فإنّ عمل الكافرين هو إبطال هذه العملية أو إيقافها.
وبسبب ضيق البقعة الجغرافية تمّ تحجيم مفهوم المسجد الحرام وتضييقه ليشمل هذه
البقعة فقط، في نوعٍ من التجسيد الذي جاء القرآن يُوجّه الناس للخروج من هذه
الحالة والتي كان عنواناً لها نبي الله إبراهيم الذي وضع أول بيت للناس وهو كلمات
وفكرة سليمة عن الإله كما ذكرنا.
الآية التالية في سورة الفتح
أيضًا أسست لتخصيص مفهوم المسجد الحرام
(لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ
رَسُولَهُ ٱلرُّءۡیَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن
شَاۤءَ ٱللَّهُ ءَامِنِینَ مُحَلِّقِینَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِینَ لَا
تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُوا۟ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَ ٰلِكَ فَتۡحࣰا قَرِیبًا) (سورة
الفتح: آية 27).
نعم، (المسجد الحرام) يعني
المكان الآمن الذي اختاره الرسول للحجّ، وهو المكان الذي يُشير تمامًا إلى استتباب
الأمر، إذ إنّ عدم دخول المكان الذي خرج منه يجعل نشر الدعوة صعبًا للغاية، ويظلّ
هذا المكان مصدر قلاقل وتوتراتٍ. إنه النقطة التي يجب أن تؤمّن بالكامل؛ لأنها هي
نقطة الانطلاق الحقيقية. كلنا يعلم أنّ نقطة الانطلاق للدعوة بدأت مع فتح مكة، بل
إنّ سورة الفتح تدلّ على ذلك، وما مرحلة المدينة إلا مرحلةٌ تحضيريةٌ لإعلان النصر
على البقعة التي أخرجته. كثيرةٌ تلك العوامل والأسباب التي جعلت هذه البقعة
بالنسبة إلى بداية الدعوة، وبالنسبة إلى رسول الله، بمنزلة المسجد الحرام. الآية
تشير بوضوحٍ إلى أنّ دخول هذا المكان هو إشارةٌ إلى استتباب الأمر، وأنّ الله
مُتمٌّ وعده لرسوله بدخول وطنه الذي وُلد فيه، وجعله قبلةً ومركزًا
لانطلاقه.
لو أدركنا أن الرسول في
المدينة ما هو إلا مهاجرٌ، وأن الإنسان مهما كان في رغدٍ أو حالٍ آمنٍ في غير وطنه
فهو دائمًا ما يحنّ لوطنه، وهذه الحالة ترويها لنا كتب التاريخ، من أن الرسول
العظيم لم يكن سعيدًا بالخروج من موطنه -ولا أحد يكون سعيدًا بالخروج مجبرًا- بل
تعرَّض لمضايقاتٍ كثيرةٍ في المدينة من المنافقين، من خلال اللمز بأنه جاء لبلدٍ
ليست بلده، وتمكّن فيها هو وأصحابه. العودة إلى موطنه هو بمنزلة العودة إلى مسجده
الحرام، وسوف يجعله مسجدًا حرامًا للآخرين كذلك. فلقد دخل المهاجرون المسجد الحرام
وهو وطنهم، وأصبح هذا المكان مسجدًا حرامًا لغيرهم عندما يأمنون على أنفسهم تمامًا
دون خوفٍ أو وَجَلٍ. وسوف نأتي على معنى (الحلق) في موضعٍ قادمٍ عندما نتعرّض
لعلاقة الحج بحلق الرؤوس.
وَلِّ وجهك شطر المسجد
الحرام
قبل فهم مدلول لفظ (شطر) سوف
نحاول التعرف على لفظ (فلنولّينّك) ولفظ (وَلِّ) كما جاء في الآية التي ذكرت (شطر
المسجد الحرام):
(قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ)(سورة البقرة: آية 144).
جذر (فلنولينك) هو الواو
واللام والياء، وكما جاء في قاموس اللغة هو القرب. وقد جاء لفظ (ولي) أو (تولّى)
أو (مولى) في القرآن يصف حالة القرب هذه، ويشير بصورةٍ جازمةٍ إلى أن التولية هي
نوعٌ من القرب والمتابعة والانخراط في أمرٍ ما. (الله يتولّى الصالحين) بمعنى
يعينهم ويكون معهم. (جبريل مولى رسول الله) بمعنى معه يؤيّده ويقترب منه بالتثبيت
والعون. (تولّي المؤمنين) هو أن يكون الإنسان معهم وجزءًا منهم.
عندما يقول الله: (فلنولينك قبلةً
ترضاها) فإن هذا يعني لنجعلنّك جزءًا من كيانٍ يرضيك. ثم أتبعت الآية بقول الله:
(فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام) وهذا توجيهٌ للرسول بتأسيس كيانٍ آمنٍ هو (المسجد
الحرام).
مثال ذلك رجلٌ يريد أن يبلّغ
رسالةً ما، ولكنّ المجتمع الذي يعيش فيه متقلّبٌ وغير آمنٍ، فنقول له كن جزءًا من
كيانٍ آمنٍ، و إن كانت لديك استطاعةٌ فكنْ أنت كيانًا آمنًا، وكنْ قبلةً للناس على
نحوٍ يأمنون على أنفسهم فيه. وما يؤيّد هذا المدلول كذلك هو تحليل لفظ
(شطر).
لماذا جعل المفسر لفظ (شطر)
يعني (تجاه الكعبة)؟ هل معنى لفظ (شطر) هو اتجاه؟
شطر الشيء هو قسمه، وقسم الشيء
هو جزءٌ أصيلٌ من الشيء ذاته، وهذا اللفظ متكاملٌ تماماً مع مدلول لفظ
(وَلِّ).
عندما يأتي التعبير القرآني
(ولِّ وجهك شطر المسجد الحرام)، ومن خلال مفهوم (المسجد الحرام) المرتبط بالحج نجد
التعبير شديد الوضوح، وهو أن تتوجّه لتكون جزءًا من المسجد الحرام. هذا التعبير
كالتعبير القرآني الذي يحثّ المستضعفين على الهجرة من الأرض إلى أرضٍ يجدون فيها
القوة.
(شطر المسجد الحرام) توجيهٌ
ربانيٌ للرسول وللناس بأن يكونوا جزءًا من كيانٍ آمنٍ لا يبتزّهم فيه أحدٌ، ولا
يفرض فيه أحدٌ عليهم أجندةً معينةً، أو يدفعهم لقبول ما لا يقبلونه. إنه المساحة
الآمنة التي يتمنّاها كلّ إنسانٍ في أن يقول ما يريد دون تهديدٍ لفكره ودون قيودٍ،
ويستطيع مناقشة ما يدور في رأسه دون إرهابٍ أو خوفٍ من اتهام بعض الجاهلين.
لو لاحظنا الآيات التي سبقت
الآيات التي جاء فيها تعبير (شطر المسجد الحرام) سنجدها جميعًا في سورة البقرة،
وتتحدث عن قِبلة اليهود وقبلة النصارى.
(قبلة) في القرآن تعني ما
يقبله الناس، ولا تعني نقطةً مجسدةً يتجه إليها الناس، ومن المعروف أنّ النصارى
يتجهون ناحية الشرق بصفةٍ عامةٍ في صلاتهم، ولكنهم يقولون إنّ الصلاة تصحّ في أيّ
اتجاهٍ.
الآيات في سورة البقرة تتحدّث
عن مناهج اليهود والنصارى، وأنهم لن يتبعوا ما قَبِله الرسول والمؤمنون، وأن
الرسول كذلك لن يتبع ما قبِلوه هم. (وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ
ٱلْكِتَٰبَ بِكُلِّ ءَايَةٍۢ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ۚ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍۢ
قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍۢ قِبْلَةَ بَعْضٍۢ ۚ وَلَئِنِ
ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ
إِذًا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ)
حتى نفهم ما هي (القبلة) التي
ارتضاها الله لرسوله وللمؤمنين يجب أن نقرأ الآيات في سياقها، ونفهم ما هو موضوع
الآيات، إذ إن اللفظ يُفهم من خلال السياق.
قصة (القبلة) ليست تحوّلًا في
اتجاه الصلاة، وإنما تحولًا في الفكر، وما يقبله الناس، وما لا يجب أن يقبلوه.
مدلول (القبلة) ذاته مشتقٌ من القبول أو الإقبال على الشيء.
لنحاولْ قراءة الآيات التي
قصّت هذه القصة في سورة البقرة، وكيف أنها تتكامل مع مفهوم (المسجد الحرام)، وكيف
أسّست لأول نظامٍ مدنيٍّ حرٍّ في العالم يأمن الناس فيه على معتقداتهم مهما كانت.
لقد بدأت الآيات بتوضيح ملة نبي الله إبراهيم، وهي الإسلام، والإسلام بمفهومه القرآني
هو عدم التحيز لفكرةٍ سابقةٍ، وإنما هو الإنصاف التام في التعامل مع الأفكار. هذه
هي باختصارٍ شديدٍ القبلةُ التي ارتضاها الله لرسوله ولكلّ المؤمنين.
(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ
شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ
مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)) (سورة البقرة: آيات
130-134).
أربع آياتٍ ركّزت بصورةٍ
مكثفةٍ على مفهوم الإسلام، وكيف أنّ هذا المفهوم هو وصية الأبناء جيلًا بعد جيل.
الآيات التالية تنفي تمامًا كون نبي الله إبراهيم يهوديًا أو نصرانيًا، ولو عُدنا
لمفهوم اليهودي والنصراني كما جاء في القرآن، وشُرح في كتاب قولًا ثقيلًا سنجد أن
مفهوم اليهودية والنصرانية على الجهة المقابلة من مفهوم الإسلام.
إذا كان الإسلام هو قبول الحقيقة
بتجرّدٍ فإن اليهودية منهجٌ فكريٌ متعصبٌ للموروث،معتقداً فيه الهداية. أما
النصرانية فهي مَن تناصر فكرةً وتُصرّ عليها، بغض النظر عن هذه الفكرة، بل الفكرة
ذاتها قد تكون متوارثةً. مفهوم الإسلام خالف ذلك تمامًا؛ إذ هو مفهومٌ متجددٌ
باستمرار، يسعى لتصحيح أفكاره ويعتنق الحقيقة ويسعى خلفها، ويصحّح معتقداته كلما
ظهر خطأٌ في هذه المعتقدات. المسلمون التقليديون اليوم أبعد ما يكون عن مفهوم
الإسلام القرآني، وأقرب بكثيرٍ لمفهوم اليهودية والنصرانية. أقرب الناس من وجهة
نظري لمفهوم الإسلام القرآني أولئك العلماء الذي يسعون خلف الحقيقة، ولديهم رغبةٌ
صادقةٌ في اكتشاف الحقيقة وقبولها عند وجود الدليل القوي عليها. شاهدتُ مرةً
حوارًا لريتشارد دوكنز، والذي يُعدّ من أكثر الملحدين شهرةً في عصرنا هذا، ولقد
هالني ما سمعتُ من الرجل عندما سأله المُحاور لو أن هناك دليلًا قويًا على وجود
الله هل ستقبله؟ قال الرجل: نعم، ولكن أين هو هذا الدليل؟
لو أن الرجل صادقٌ فهو بهذا
الشكل مسلمٌ بالمفهوم القرآني؛ لأنه لا ينكر الدليل كفرًا بل يبحث عن الدليل
المقنع. لكن أن تكون الأدلة الحالية لا تقنعه فهذا شأنٌ آخر، فكل إنسانٍ لديه
تكوينٌ عقلي وثقافي مختلفٌ، وما يقبله العاميّ دليلًا لا يقبله المفكر بالقدْر
نفسه؛ ولذلك يخاطب القرآن بطبيعته وتركيبته عقولًا قويةً، ويقدّم لتلك العقول
أدلةً قويةً على وجود الخالق ومراد الخالق منهم.
هذه الملة وهذا المنهج
العظيم هو الذي ارتضاه الله للناس، وأمر رسوله والمؤمنين بقبوله، ونفى تمامًا أنّ
يكون الهدى باتباع الهُود أو النصارى.
(وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا
أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن
رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
(136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ
وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ
نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ
شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(140)) (سورة البقرة: آيات 135-140).
كما نرى، في هذه الآيات تأكيدٌ
عجيبٌ على مفهوم الإسلام مقابل مفهوم اليهودية، أو أن يكون الناس هودًا أو نصارى،
كذلك أكّد القرآن على أنّ فكرة الإسلام هي فكرة الأنبياء جميعًا. وبعد هذه الآيات
جاء التعليل الرائع، والذي نفهمه تمامًا في سياقه، إذ يقول الله: (تِلْكَ أُمَّةٌ
قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا
كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (سورة البقرة: آية 141).
ما هذه العظمة! وما هذه
البلاغة! وما هذا الإعجاز! إنه القول الحقّ الذي يخبرنا أن انقسام الناس إلى هودٍ
ونصارى قد يكون من متطلبات عصورٍ سابقةٍ؛ بسبب طبيعة الناس التي تميل للتقليد، ولا
تستطيع بشكلٍ ما فرز الأفكار باستمرار. لا يجب أبدًا تقليد فترةٍ لها ظروفها، وهي
لا شك فترةٌ بدائيةٌ مقارنةً بالعصور المتقدمة. تبلورَ التفكير العلمي اليوم،
وأصبحت المناهج أكثر رسوخًا، فليس هناك مبرّرٌ أن يُقلّد الناس أو أن يعيدوا فرز
أسلافهم، بل يجب أن يخوضوا تجربتهم، وهذا هو قلب ما جاء به الرسول العظيم، ومحور الرسالة
التي جاء بها. المنهج الذي يجب أن يقبله كلّ صاحب مبدأ شريفٍ، ولا يحيد عنه إلا
جاهلٍ بكلّ ما تحمل الكلمة من معانٍ. بعد هذا الوصف الرائع لملة نبي الله إبراهيم
والأنبياء من بعده، يقول الله في الآيات التالية مخبرًا كيف تساءل السفهاء: ما
ولّاهم عن قبلتهم؟
(سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ
النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل
لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ) (سورة البقرة: آية 142).
رسول الله كما نعمل جاء بمنهجٍ
جديدٍ تمامًا على الناس وقت نزول الرسالة، وما كان الناس يقبلون هذا المنهج
بسهولةٍ في ذلك الوقت. هذا التساؤل هو تساؤل السفهاء في كلّ عصرٍ: لماذا تُغيّر
قبلتك؟ أو لماذا تترك أفكارك السابقة؟ لماذا تقبل أشياء ليست سائدةً، أو تُغيّر
وجهتك ما دامت الأمور تبدو طبيعيةً؟.
(ما ولّاهم عن قبلتهم) يمكن
صياغتها بتعبيرات مختلفةٍ عصريةٍ، مثل: جاء ليهدم الدين، أو يبثّ الفتنة، أو ما
الذي سوف تستفيده من ذلك؟ كلّ هذه التعبيرات هي في الحقيقة (ما ولّاهم عن قبلتهم
التي كانوا عليها)، أي لماذا تتحولون عن وضع الاستقرار الذي نعرفه ونقبله جميعًا.
(المشرق والمغرب) هو بزوغٌ
وأفولٌ، والتعبير القرآني (يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يؤكّد أنّ
المقصود هو الهداية إلى منهجٍ قويمٍ وليس لبقعةٍ جغرافيةٍ. نأتي على الآية التالية
التي تخبر أن الرسول كان على قبلةٍ سابقةٍ، لنرى كيف يمكن فهمها في سياقها.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (سورة البقرة: آية
143).
(أمةً وسطًا) تعني وسطية
التفكير، ليست متعصبةً ولا تميل إلى جانبٍ دون جانبٍ، وهذا المفهوم يتوافق تمامًا
مع مفهوم الإسلام القرآني المعنيّ بالإنصاف في التعامل مع الأفكار. هذه الوسطية في
التفكير والإنصاف هي ما تؤهّل صاحبها ليكون شهيدًا على غيره، ولا شك أن الرسول هو
عنوان هذا الإنصاف دائمًا.
قول الله: (ما جعلنا
القبلة التي كنت عليها) هو تقريرٌ لحقيقةٍ نعرفها من التاريخ، وللأسف سبّبت عدم
فهم اللفظ القرآني. من خلال التاريخ والسِّيَر نعلم أن رسول الله صلوات ربي عليه
كان يُفضّل أن يوافق أهل الكتاب في ما لم ينزل فيه نصٌّ صريحٌ. من أهم مظاهر هذه
الموافقات هو اتخاذ اتجاهٍ في الصلاة كما يفعل اليهود. الاتجاه في الصلاة ليس كلَّ
الأمر، وإنما هناك أمورٌ عديدةٌ كان يوافق فيها رسول أهل الكتاب عندما لا يجدُ
نصًا في ذلك، مثل الرجم في بداية الدعوة. قبول هذه الأمور في بداية الدعوة هي
القبلة التي كان عليها وهو أمر يمكن تفهمه. لكن مع تتابع نزول القرآن كان يجب أن
يتبلور مفهوم الإسلام بصورةٍ صحيحةٍ مئةً في المئة. مفهوم الإسلام هو أن تستخدم
عقلك وتتفاعل مع النص دون تحيّزٍ بدلًا من قبول مسلمات على أها حقائق واقعة. عندما
نزلت الآية فهمها رسول الله، وبدأ فعليًا بالتطبيق، وأصبح لديه نصٌّ صريحٌ يقول له
لا داعي أن تُوافق أحدًا على ما قبِله هو، ولكن اتّخذْ طريقك.
عندما يرفض الرسول تقليد أهل
الكتاب، ويبدأ في تطبيق تفاعله مع النص، فلا شك أن ذلك سوف يُسبّب فتنةً بين
الناس، ويسألون: لماذا تُخالف ما كنت تفعله؟
لنضربْ مثالًا على مفهوم
(القبلة) من خلال مسألة الرّجم، والتي يُصرّ عليها التراثيون بأنها من كلمات الله
وأمره، رغم أنها لا تمتّ بصلةٍ لكتاب الله.
أتفهّم أن يكون الرسول قد فعل
الرجم من خلال موافقته لأهل الكتاب؛ لأنهم كانوا يفعلونه، أو أنه أمرَ بذلك في
وقتٍ مبكّرٍ قبل نزول آية الجلد في سورة النور. عندما نزلت سورة النور كان من المفروض
أن يترك الرسول تمامًا أمر الرجم ويتجه للجلد بشروطه في القرآن، ولا بدّ أنه فعل.
لكنّ ما حدث كان كارثةً، فقد سجّل الناس ما فعل الرسول في مسألة الرجم دون فهم سبب
فعله، وما هو التوجيه الرباني، ولا ظروف نزول القرآن.
حتى يومنا هذا يُصرّ التراثيون
على مسألة الرجم، وهم بذلك يُصرّون على قبلةٍ تحوّلَ عنها رسول الله، ولكنهم ما
زالوا يُصرّون على التوجّه إليها. دخول مفهوم (المسجد الحرام) على الخطّ جعل الناس
يعتقدون أنّ المقصود هو اتجاه الصلاة، ولكنّ سياق الآيات جميعها يتحدّث عن مناهج
سابقةٍ ومنهجٍ جديدٍ جاء به رسول الله. الآية التالية تُرينا كيف أنّ رسول الله
نفسه لم يكن راضيًا عن تقليد أحدٍ، ولذلك جاء التوجيه الرباني بأن يكون جزءًا من
المسجد الحرام، وليس أن يتجه بالصلاة إلى (الكعبة).
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (سورة البقرة: آية: 144).
معنى (أن تولّي وجهك شطر
المسجد الحرام) هو أن تكون جزءًا من هذا الكيان، وليس أن تجعل صلاتك ناحيته. مفهوم
(المسجد الحرام) هو المكان الآمن الذي يطمئنّ فيه الناس عند التعبير عن أنفسهم
وأفكارهم، ولا يجدون حرجًا في قول ما يرغبون في قوله، ولا يجبرهم أحدٌ على شيء.
هذا المفهوم من أعظم المفاهيم الإنسانية اليوم، ولم يستطع الإنسان القديم إدراكه
بسهولةٍ.
ليس لدي شك أن الرسول أدرك هذا
المفهوم وتطبيقاته، ولكنْ يبدو أنّ الناس لم يستوعبوا ما قام به. لقد كان الناس
يقولون ما يرغبون، بل إن بعضهم كان ينتقد الرسول بكل أريحيةٍ دون أن يخاف من شيءٍ،
وبعضهم طلب منه أن يردّ عليه بيعته؛ بمعنى أن يخرج من دينه، ومع ذلك لم يفعل له
الرسول شيئًا. بعضهم لم يدفع الزكاة ولم يطلب منه الرسول شيئًا مثل ثعلبة الرجل
الذي رفض إخراج الزكاة في عهد الرسول ولم يأمر الرسول بقتله أو إيذائه. كثيرةٌ تلك
المواقف التي أشارتْ إلى أن الرسول فهمَ ما هو المسجد الحرام، ولكن بمجرد وفاته
تحوّل الأمر، وصار المفهوم تجسيدًا، ولم يعد لمفهوم (المسجد الحرام) القرآني
وجودٌ. لقد كان الرسول -كما تخبرنا الروايات- حريصًا جدًا في تعامله مع القرآن،
ولكنّ هذا الحرص انقلب تمامًا إلى جرأةٍ غير عاديةٍ على يد رهطٍ من قومه بعد
وفاته. لقد أفتَوا في كلّ شيءٍ، ولم يتركوا آيةً إلا واعتقدوا أنهم أكثر الناس
فهمًا لها، وصدّقهم الناس، وصار فهمهم هو الدين.
أن تُولّي وجهك شطر المسجد
الحرام هو أمل كل إنسانٍ حرٍّ، في أن يكون جزءًا من مكانٍ آمنٍ يستطيع فيه التعبير
عن أفكاره دون خوفٍ أو وجلٍ، وألا يُجبَر على التحيّز وقبول فكرةٍ لا يرغب في
قبولها. إنها فكرة الإسلام التي لن تتبلور إلا في وجود مسجدٍ حرامٍ يأمن الناس فيه
على أفكارهم. ثلاث تعبيراتٍ تعمل سويًا في تكاملٍ، وهي (القبلة) و(المسجد الحرام)
و(الإسلام) لتصف أعظم المبادئ التي ينشدها الإنسان حاليًا، والتي تتبنّاها الدول
العلمانية في نظر التراثيين.
التراثيون ليس لديهم أدنى
مشكلةٍ في أن يعيشوا تحت ظلمٍ وقهرٍ، وأن يعيشوا حياتهم مخدوعين باسم الدين، إذ
تستغل السلطة الدين في كل وقتٍ لتحقيق أهدافها، وتغييب العامة، وتزوير كلمات الله،
وتستغلّ هؤلاء بسبب تواضع فهمهم، وانغلاق معارفهم. مرةً أخرى تؤكد الآيات على
مفهوم (القبلة)، وتُقارن بين ما قَبِله الرسول، وما هم عليه أهلُ الكتاب، من خلال
الآيات التالية:
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ
بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً
لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ
الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (سورة البقرة: آيات 145-148).
الآيات تتحدث عن منهج أهل
الكتاب واعتقادهم، وتُحذّر الرسول من اتباع أهوائهم، ولو اتبع هواهم فسوف يضلّ. ما
علاقة التحوّل في اتجاه الصلاة بكلّ هذا التحذير من الاتباع والهوى، وذكر أهل
الكتاب؟ إنه التحذير الشديد من التقليد رغم الحرية الممنوحة لك في أن تكون مسلمًا
منصفًا غير متحيّزٍ في تقبّل كلّ معرفةٍ جديدةٍ وأن تخوض تجربتك بنفسك. خُتمت هذه
الآيات بقول الله (استبقوا الخيرات) وهو المنهج العام الذي يجب أن يلتزم به أهل
كلّ منهجٍ وأهل كل اعتقادٍ، ولذلك بدأت الآية بقول الله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا). في الآيات التالية جاء ذكر التوجيه الرباني للرسول وللناس بصفةٍ
عامةٍ بأن يُولّوا وجوههم شطر المسجد الحرام.
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ
الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)) (سورة البقرة: آية
149-150).
هل من الإنصاف أن تكون الآيات
منذ بدايتها تسوق حديثًا عن المقارنة بين منهج الرسول والذين آمنوا معه ومنهج أهل
الكتاب، ثم يحصرها الناس في اتجاه الصلاة؟
لا شك أن الاتجاه في الصلاة هو
أمرٌ وافق الرسول فيه أهل الكتاب بدايةً، ولكنه أمرٌ فرعيٌ للغاية، والآيات تختصّ
بعدم الاتباع والتقليد بصفةٍ عامة. العجيب أن الآية تقول: (من حيث خرجت فولّ وجهك
شطر المسجد الحرام) وليس من حيث أقمت الصلاة فول وجهك شطر المسجد الحرام. (من حيث
خرجت) تعني كلّ خروجٍ وكلّ هجرةٍ يجب أن يكون هدفها أن تكون جزءًا من هذا المسجد
الحرام أو المكان الآمن المحصّن الذي لا يخاف فيه الناس على اعتقاداتهم. لفظ
الخروج لا يحتاج لجهدٍ لفهم أن المقصود هو التحرّك أو التحوّل نحو أرضٍ أو مسجدٍ
حرامٍ آمنٍ، وليس تغيير بوصلة الصلاة. لقد علّلت الآية الثانية لماذا يجب على
الناس التوجّه إلى المسجد الحرام، وهذه العلة بنص القرآن (لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ). ما علاقة الحُجّة بالصلاة؟
لا علاقة بين الحُجة والصلاة،
ولكن لو أنّ المقصود هو المنهج والاعتقاد بالكلية فستصبح الحُجة هنا لها معنىً
واضحٌ. أن يكون الإنسان جزءًا من وطنٍ محصّنٍ آمنٍ، يكفل المساحات الشخصية للناس
للتعبير عن آرائهم وأفكارهم واعتقاداتهم، هو عين مراد الله للناس، على نحوٍ يخوض
كلّ إنسانٍ اختباره، ولا يبقى له حجةٌ في أنّ أحدًا أجبره أو أرهبه. في ظلّ هذا
الجوّ المفعم بالحرية لن يكون هناك حجةٌ تمنع الناس من قبول الحق، إلا مَن في
قلوبهم مرضٌ، وهؤلاء هم الذين ظلموا. خُتمت الآية بقول الله: (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). من أهم
خصائص المسجد الحرام أن الناس لا تخشى فيه غير الله، وهذه هي نعمة الله على
الإنسان، ومن سلك طريقًا يبتغي فيه الحق فلا بدّ أن يهتدي.
ما يؤكد أن المقصود بتعبير
(شطر المسجد الحرام) هو أن يكون الإنسان جزءًا من هذا الكيان، ويدخل فيه، وأنه ليس
له علاقةٌ بالتوجه في أثناء الصلاة، الآية الواردة في سورة البقرة، والتي ذكرت
(المساجد) دون إضافتها إلى لفظ (الحرام).
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن
مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)) (سورة البقرة: آية 114- 115).
(المساجد) هنا تعني حرفيًا
مكان العبادة، أو حتى مكان الدراسة، أو كل مكانٍ من شأنه أن يُذكر فيه اسم الله.
ذكر اسم الله يشير إلى استحضار صفات الله وكلّ صفةٍ متعلقةٍ بالعمل الذي يقوم به
الإنسان في ذلك الوقت. لو أن الإنسان يصلي بمعنى يتّصل روحيًا بالخالق، فذكر الله
هنا هو استحضار عظمة الله والتجرد من كلّ ما يمكن أن يعكّر صفو هذا اللقاء الروحي.
ولو أن العمل الذي يقوم به الإنسان دراسةٌ فإنّ ذكر الله هو بذل الجهد والسعي
للتحصيل بتجردٍ مع رغبةٍ في الإنصاف والوصول للحقيقة. كل عملٍ يقوم به الإنسان
يحتاج أن يجري في بيئةٍ من الاستقرار والطمأنينة، وهذه البيئة تُسمى المساجد.
الآية الكريمة تُطمئن الناس بأنّ المشرق والمغرب لله طالما الغاية ذكر الله أو
استحضار الله. (المشرق والمغرب) ليست اتجاهاتٍ كما نراها؛ لأن الاتجاهات التقليدية
ليست مشرقًا ومغربًا فقط. أيُّ نقطةٍ على سطح الكرة الأرضية لها ستة اتجاهاتٍ، وهو
ما يُسمّى البعد الثلاثي. (المشرق والمغرب) بمفهومه القرآني لا يُمثّل الاتجاهات،
وإنما يُمثّل حالةً من البناء والهدم أو الظهور والأفول.
عندما يقول الله: (لله المشرق
والمغرب) فهذا يعني أن كل هذه الحالات التي تعتري الإنسان ومكوّنات الكون هي لله،
فلا يجب أن يحزن الإنسان، فأينما يولّي هذا الإنسان فثمّ وجه الله، بمعنى أينما
يكون الإنسان في حالة شروقٍ أو غروبٍ فهو متوجّهٌ لله طالما أنه يذكر اسم الله أو
يستحضر الله.
هذه الآية من أرحب الآيات التي
تبعث على الطمأنينة؛ لأن الإنسان بصفةٍ عامةٍ متقلّب الحالة، وحياته مراحل من
الصعود والهبوط؛ فهنا يجب أن يطمئنّ الإنسان طالما هو متوجّهٌ لله ومخلصٌ لله. ليس
عليه أن يأسى على ما فاته أو يفرح بما أوتي طالما أن سعيه خالصٌ لله.
الآية أرحب وأوسع من مفهوم
الصلاة التقليديّ، لا سيما أن لفظ الصلاة لم يرد فيها، وإنما جاء فيها تعبير (ذكر
اسم الله) وهو التعبير الأكثر شمولًا وأكثر عموميةً من مفهوم الصلاة. لكن لا ضرر
لو طبّقناها على مفهوم الصلاة، إذ تشير الآية إلى أن استحضار الله في حالة الصلاة
هو المطلوب، وليس المطلوب شيئًا آخر. لفظ (تُولّوا) في هذه الآية كذلك لا يمكن
حمله على الاتجاه، ولكنّه كسابقه من التولّي أو القرب من الشيء. بذلك يصبح تعبير
(فأينما تولّوا) يعني أينما تقتربوا من حالة الشروق أو الغروب فثمّ وجه الله، ولكن
بشرط أن يكون الإنسان مستحضرًا لله كما ذكرت الآية السابقة لهذه الآية. يكون الظلم
في منع المساجد أن يذكر فيها اسم الله بفرض أجنداتٍ معينةٍ على هذه الأماكن، على
نحوٍ تجعل الإنسان في هذه الأماكن متحيزًا لشيءٍ ما وغير منصفٍ. عدم الإنصاف هو
عين نسيان الله؛ ولذلك كان القرآن كثيف الإشارة إلى تحرّي مفهوم الإنصاف والحث
عليه؛ لأنه هو المفهوم الذي يقود إلى الحقائق.
لنضرب مثالًا لفهم حالة المسجد
وحالة ذكر اسم الله، وكيف يمكن للإنسان أن يتولى غير وجه الله: لنفرضْ أن لدينا
مكانًا للدراسة أو البحث، مثل الجامعة أو مركز البحوث، وهذه الأماكن هي مساجد
بالمفهوم القرآنيّ دون أدنى شكٍّ؛ لأنها توفّر الاستقرار والطمأنينة لمن يذكر اسم
الله فيها. كيف يذكر الناس اسم الله في هذه الأماكن؟
البحث والدراسة والسعي بإنصافٍ
هي الطريق السليمة في التعرف على الحقائق، وخلف كل الحقائق سوف نجد الله. التجرد
لفهم الحقائق دون أيّ أجنداتٍ ودون فرض رؤىً متحيزةٍ هو عين ذكر الله، فإذا تدخّلت
قوةٌ أو سلطةٌ لفرض إرادةٍ معينةٍ فإنما هي تسعى في خراب هذه المساجد؛ لأن اسم
الله لن يذكر في هذه الحالة، بل سوف تُذكر السلطة والتوجّهات السياسية.
(المساجد) بمفهومها التقليدي
يجب أن تكون دار علمٍ ومعرفةٍ، ويجب أن يتلقّى الناس فيها هذا العلم وهذه المعرفة
رغبةً لله، وأن يكون الناس آمنين تمامًا في هذه المساجد. فرض أجنداتٍ على المساجد
بشكلها التقليدي بنحوٍ يصبح تناول العلم والمعرفة فيها تحت سيطرة السلطة، وموجّهًا
لمصالح معينةٍ، هو عين السعي في خراب هذه المساجد. كم من تلك البلاد التي توجه
الخطاب الديني حتى فقد الناس الثقة في هذا الخطاب! وكم من الناس يشترون بكلمات
الله ثمنًا قليلًا؛ وكم من الناس يقولون كلمات الله تبعًا لتوجّهات السلطة أينما
وُجدت؛ هؤلاء جميعًا يولّون وجوههم ثمّ وجه السلطة، ولا علاقة لهم بالتولي ثمّ وجه
الله. اختزال فكرة المسجد في إقامة طقوس الصلاة بمفهومها الحالي هو نتيجةٌ حتميةٌ
للتدخّلات السياسية على مر العصور، والتي أفرغت المسجد من دوره. لو أن الأمة
انتبهت لمفهوم (المسجد) كما ذكره القرآن لكان لدينا اليوم أعرق جامعات العالم، ولكان
اسمها تغيّر من جامعةٍ إلى مسجد كذا، والذي يُعَدّ قلعةً في الحرية والتعبير. إننا
نرى تعبير (المسجد) أقرب بكثيرٍ لمكان التعلم والدراسة والبحث من دارٍ لإقامة بعض
الطقوس، والعجيب أنّ لفظ (الجامع) الذي يستخدمه الناس اليوم يُطابق لفظ (الجامعة)
التي تشير إلى مدارس العلوم.
لذلك عندما نحاول فهم مدلول
(المسجد الحرام) سنجد أنه المكان الأكثر خصوصيةً والأكثر أمانًا، والذي يجب أن
يُقام فيه الحج. ولن يجد الباحث أو الدارس أو المطّلع صعوبةً في فهم مدلول (المسجد
الحرام) ومدلول (المساجد) والفرق بين المدلولين إذا استحضر مفهوم الجامعات العريقة
في العلم، وكيف أن المؤتمرات الكبيرة تُقام في الجامعات العريقة، ويجب أن أن
تتوافر خاصية الأمان والحرية، وأن تكون على أولويات اختيار المكان الذي يجب أن
يُعقد فيه المؤتمر.
وصف المساجد بـ الجامعات
والمراكز البحثية، وارتباط المسجد الحرام بذلك، ليس من بنات أفكار الكاتب، بل
مدلول (الحج) ومدلول (ذكر اسم الله) قادنا لهذا المفهوم، إضافةً إلى أن التفكير
الموضوعي وصورة المسجد في الماضي تشير إلى ذلك، وأنها كانت نواة الجامعات ومراكز
العلم. وإنما تقزيم دور هذه المساجد وإخراجها من الخدمة هو مسؤولية أمةٍ لا تقرأ
كتاب ربها.
تعبيراتٌ قرآنيةٌ مستقرةٌ في
وجدان الملايين، والتخلص منها غايةٌ في الصعوبة، ولكنّ الأمل كله أن يتلقى هذه
الأفكار مَن يؤمن بالله وبكلمات الله، ويتولّاها بالإنصاف دون تحيّزٍ، مساهمةً في
رفع الجهل وبيان كلمات الله للناس.
بعد بيان مفهوم (المسجد
الحرام) ومفهوم (شطر المسجد الحرام) الذي أسّس لعلمانية رسالة الإسلام حرفيًا،
نتوجّه صوب الصفا والمروة لفهم المقصود بهذا التعبير.
الصفا والمروة
(إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ
مِن شَعَاۤىِٕرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَیۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ
عَلَیۡهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَإِنَّ ٱللَّهَ
شَاكِرٌ عَلِیمٌ) (سورة البقرة: آية 158).
واحدةٌ من تلك المعضلات التي
تبدو صعبة الحل هي مفهوم (الصفا والمروة)، فقد تعارف الناس على أنّ الصفا والمروة
جبلان، وعلى الحاج أن يسعى بينهما سبعة أشواطٍ أو سبع دورات. لكن مع وضوح مفهوم
(الحج) نستطيع الآن تحليل لفظي (الصفا) و(المروة)، ثم فهم سياق الآيات، لفهم مراد
الله تعالى من أمره.
مدلول لفظ (الصفا)
أصل لفظ (الصفا) هو صفو، ويعني
النقاء من الشوائب، ويقال صفا بمعنى خلص. الجذر الثنائي وهو (صف) يشير إلى حالةٍ
من الاصطفاف أو الانتظام في جماعةٍ بشكلٍ متّسقٍ. الصفو في حد ذاته هو حالةٌ من
الانتظام، ويعرف هذه الحالة أهل التخصّصات العلمية، فالاصطفاف هو حالةٌ من التنقية
من الشوائب فيما يسمى بعملية البلورة. التخلص من الشوائب أو الانتظام هما حالتان
متكاملتان، وقد جاء الجذر (صف) في كتاب الله يحمل هذا المدلول.
في سورة الصف جاء هذا التعبير
واضحًا لا يقبل الجدل: (إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی
سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ)(سورة الحشر: آية 4).
المقصود من (الصفا) هنا هو
الاصطفاف مع ما يراه الإنسان من حججٍ قويةٍ جديرةٍ بالاصطفاف خلفها، ولكن يجب ألا
نُغفل حالة اللفظ التي تشير كذلك إلى التخلص من الشوائب أو ما يعكّر حالة الصفّ
هذه. لفظ (الصفا) يشير إلى حالة إعادة ترتيب الإنسان لأفكاره، بنحوٍ ينفي عنها ما
ثبت خطَؤُه، و يقف في جانب ما عليه دليل.
(الصفا) أو الاصطفاف من شعائر
الله، لا شك في ذلك، إذ يُعرف الله وصفاته بالاصطفاف خلف الحجج القوية والدليل
القوي، وترك الضعيف أو المتهاوي. إنها السبيل الوحيد لكي يُدرك الإنسان بيت الإله
المكوّن من الصفات الحسنة، وعنوانه القدرة المحيطة والعلم المحيط. معنى (الصفا)
بأنها الاصطفاف خلف الحجة القوية هو مفهومٌ منسجمٌ تمامًا مع مفهوم (الحج)، وأصبح
ذا معنىً، وأصبح فهم أن يكون (الصفا) من شعائر الله أمرًا لا يحتاج إلى
بيّنةٍ.
رأينا تعبير (طواف) و(يطوف) قد
جاء كثيرًا مع (الحج) و(البيت)، وها هو هنا مع مفهوم (الصفا والمروة)، فما دلالة
ذلك؟
أهم ميزةٍ من ميزات (الطواف)
هو الإقامة السريعة، فإذا كان الإنسان (يقيم) في موطنه، فهو (يطوف) في المكان الذي
جاء لأداء مهمةٍ معينةٍ فيه؛ أي يمرّ بالشيء.
الطواف بالبيت العتيق -كما
رأينا- هو المرور بذلك الجزء المُحدّد في الأنعام طعامًا، والطواف بالصفا والمروة
هو المرور بهما. هذا المرور لا يلزمه قدرٌ معين، فبقدر حاجة الإنسان يأخذ، فمَن
رأى حجةً واضحةً فعليه الاصطفاف، ومن رأى حجةً أخرى غير واضحةٍ بالنسبة إليه فيمكن
أن يطوف بالمروة. فما هي المروة؟
مدلول لفظ (المروة)
هناك صعوبة في فهم لفظ
(المروة)؛ بسبب عدم وجود قرينةٍ قويةٍ نستطيع من خلالها فهم مدلول لفظ (المروة)؛
إذ لم تقل المعاجم عنه أنه حجارةٌ بيضاء أو شيءٍ من جنس الحجارة على العموم. أصل
لفظ (مروة) يمكن فهمه من خلال فهم لفظ (روى) ولفظ (رأي)؛ فثمّة اشتراكٌ واضحٌ في الصوت
بين (المروة) و(روى). روي من شرب الماء كما تقول المعاجم، ورأيٌ هو تكوين وجهة
نظرٍ عن شيءٍ ما، كما شُرح في هذا الكتاب، حيث الفرق بين (رأى) و(بصر)
و(نظر).
نقول في لغتنا المعاصرة تروّى
بمعنى أخذ قسطًا من الوقت في دراسة أمرٍ ما وتباحثه. هذا المفهوم هو عين (المروة)
التي طلب الله سبحانه من الإنسان أن يطوف بها.
(المروة) تعني التروّي، وهو
خيارٌ لكلّ إنسانٍ لم تقنعه الحجة، إذ يمكن أن يأخذ وقتًا كافيًا لمراجعة الأفكار،
وفهم المقدمات والنتائج. الفرق من وجهة نظري بين مفهوم (المروة) ومفهوم (رأي) أنّ
الرأي يجوز فيه نقله للآخرين، أما لفظ (المروة) بإضافة حرف الميم فقد أضاف حالةً
من التموضع، جعلت (المروة) حالةً خاصةً لا يلزم فيها نقلها للآخرين.
لذلك نقول إن (المروة) هي
حالةٌ من التروّي وبحث الأمر بشيءٍ من التفصيل والعمق، ولا يلزم في هذه الحالة أن
ينقل الإنسان ما يراه لغيره؛ لأنها حالةٌ خاصةٌ بصاحبها.
الآن أصبح مفهوم (الصفا
والمروة) ينطق بالحجّ ودلالة الحجّ، بل يُخبر عن الخالق ومراد الخالق من
عباده.
المُلاحظ في الآية أنّ هناك
اختيارين لا ثالث لهما للإنسان، وهما إمّا الاصطفاف، وإما التروّي، أما التغافل أو
الإعراض، أو الجدال دون علمٍ، فهذا ليس مكانه الحج أبدًا.
هل نفّذ المؤمنون بالقرآن هذه
التعاليم؟ أم يعبدون شيئًا آخر، ويظنون أنهم يسمعون كلام الله؟
لو تتبّعنا الآيات التي جاءت
بعد قول الله سبحانه: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) لوجدنا مفهوم (الصفا
والمروة) متمثّلًا في كلّ آيةٍ بصورةٍ مذهلةٍ.
الآيات التي تلتْ آية الصفا
والمروة
الآية الأولى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللاَّعِنُونَ) (سورة البقرة: آية 159).
ليس أدلّ على مفهوم (الصفا
والمروة) من ذلك التحذير مِن كتمان ما أنزل الله الذي احتوته الآية. لا خيار ثالثٌ
مع الحجج القوية، إمّا الاصطفاف أو التروي، أما مَن يكتم البينات فقال الله عن
هؤلاء أنه يلعنهم، ويلعنهم اللاعنون.
أتعجّب كثيرًا من أولئك الذين
يقتنعون بالفكرة، ولكنهم لا يملكون شجاعة الاصطفاف معها، أو أولئك الذين لا
يتروَّون ويتعجّلون ويُكذّبون بما لم يحيطوا به علمًا. لعلّ هؤلاء يعلمون الآن
موقعهم في كتاب الله، وكيف قال الله فيهم (يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون). الحديث
هنا عن شعائر الله (الصفا والمروة) تحديدًا، وكيف أن بعضهم لا يطوف بهما؛ ممّا يؤدي
إلى كتمان ما أنزل الله من البينات. يستحقّ كل كاتمٍ للحق يخشى الناس أو يخشى فقدَ
مكانته اللعن، ولا شك في ذلك؛ فهو قد ضيّع الفرصة على الحق أن يعلو ويزدهر، وأعطى
ميزةً للباطل والجهل كي يسود.
الآية الثانية: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ
وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ) (سورة البقرة: آية 160).
هذه الآية استثناءٌ لكل مَن لا
يعلم موقعه إن هو لم يصطفّ مع الحق، أو يأخذ وقتًا للتروّي، ومع ذلك لا بدّ من
التبيُّن وعدم الوقوف على الحياد. رفع صوت الحق عاليًا هو ما يضمن إسكات صوت
الباطل، أما الانصراف عن الحجج القوية وقتلها بالسكوت عنها لا يفعله إلا ملعونٌ في
كتاب الله، يُعطّل سير الحق، ويعطي للباطل فرصةً للاستقواء بالجهلاء.
الآية الثالثة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ) (سورة البقرة: آية 161-162).
مرةً أخرى توعّد القرآن الذين
كفروا، وهؤلاء يختلفون عن الذين كتموا ما أنزل الله من البينات، فهؤلاء الكفار
جحدوا الحق، لذلك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أيضًا. سوف يلعنهم الناس -ولا
غرابة في ذلك- عندما تتكشّف الحقائق، ويدرك الناس دور هؤلاء الملاعين في طمس الحق
وتأخير البشرية عن الوصول إلى مبتغاها.
الآية الرابعة: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن
كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ
السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (سورة البقرة: آية 163-
164).
هاتان الآيتان تشيران إلى
الأساس، أو إلى بيت الله الذي بُني عليه كل شيءٍ، وهو الإله الواحد، وخلقُ السموات
والأرض وتصريف الحياة، وهي محور الحجّ الذي تناولناه من خلال المفهوم الجديد للحج.
لا شك أن الآيات التي وضعها الله للناس تدلّ عليه، وتشير إلى صفاته، والتي لا يمكن
التوصّل إليها إلا من خلال نقاشٍ وحوارٍ في مناخٍ حرٍّ تمامًا، وهي فقط لمَن يعقل،
وليست للمقلّدين.
الآية الخامسة: (وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ
اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ
عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)) (سورة البقرة: آيات
165-167).
هذه الآيات تحدّثت عن جانبٍ
آخر، وهو كذلك له علاقةٌ مباشرةً بالصفا والمروة؛ إذ نرى في الآيات وصفًا لمن
جعلوا الناس بينهم وبين الله، أو أنهم اتبعوا دون عقلٍ كبراءهم، واتبعوا أساطير
مقابل الحجج القوية. بدلًا من أن يصطفّ هؤلاء مع الحُجج القوية، أو يمنحوا أنفسهم
فرصةً للتروّي بصدقٍ، اختاروا طريق الاتباع الأعمى، ظنًا أنه النجاة.
الآية السادسة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
(169)) (سورة البقرة: آية 168-169).
مرةً أخرى تذكر الآيات الإنسان
وعلاقته بما حوله، وتُحذّره من الانجراف خلف الشيطان، وأهم حبائل الشيطان هي القول
على الله بما لا يعلم الإنسان.
الآية السابعة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ)
(سورة البقرة: آية 170).
الآية تُخبرنا عن الذين إذا
قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، جنحوا لما قال لهم آباؤهم، وإن كان آباؤهم لا
يعقلون. لم أرَ آيةً أوضح ولا أكثر صراحةً من هذه الآية في توصيف العامة الذين
يعارضون دائمًا ما لا يعرفون بقولهم: وهل ما وجدنا عليه آباءنا غير صحيح؟ هل أخطأ
كل أسلافنا؟ رغم أن هؤلاء أنفسهم يؤمنون أنّ أممًا كاملةً بالمليارات مخطئون في
نظرهم منذ آلاف السنين، ولكنهم لا يستطيعون إسقاط الفرضية نفسها على أنفسهم. يظنون
أنهم مستثنَون، أو أن لهم الحظوة عند الله بما قال لهم بعض آبائهم الذين لا
يعقلون.
الآية الثامنة: (وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) (سورة البقرة: آية 171).
خُتمت مجموعة الآيات التي جاءت
بعد (الصفا والمروة) بهذه الآية التي تصف صنفًا أحمق من البشر، منتشرين في ربوع
الأرض وفي الأركان، يُردّدون كلام غيرهم، وكأنهم لا يسمعون ولا يعقلون. لا هو
استبان الحُجة واصطفّ معها، ولا هو تروّى وحاول الفهم والبحث، بل أصرّ إصرارًا
يملؤه الكفر بما سمعه، وكأنّه لا يسمع غيره. لقد أبان كتاب الله مفهوم (الصفا
والمروة) كما أبان مفهوم (الحج) ومفهوم (البيت)، ولكنّ الناس يأبون إلا تجسيد هذه
الشعائر، وعدم إدراك معانيها المجردة التي أحاط بها كتاب الله.
الآية التي شملت (الصفا
والمروة) شملت كذلك لفظ (اعتمر) فما هو الاعتمار؟
العمرة
(إِنَّ ٱلصَّفَا
وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَاۤىِٕرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَیۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَإِنَّ
ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِیمٌ) (سورة البقرة: آية 158).
أصل كلمة (العُمرة) هو عَمَرَ،
وكما جاء في قاموس اللغة لها أصلان: الأول: يدُلُّ عَلَى بَقَاءٍ وَامْتِدَادِ
زَمَانٍ، وَالْآخَرُ عَلَى شَيْءٍ يَعْلُو، مِنْ صَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ. من خلال
كتاب الله سنجد أن لفظ (عمر) ورد في مواضع عديدةٍ يصف حالةً من الحركة والبناء،
والعمل بصورةٍ دائمةٍ.
(وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ
ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَیَوٰةࣲ وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۚ یَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ
یُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةࣲ وَمَا هُوَ بِمُزَحۡزِحِهِۦ مِنَ ٱلۡعَذَابِ أَن
یُعَمَّرَۗ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِمَا یَعۡمَلُونَ) (سورة البقرة: آية 96).
(يُعمّر) يعني يبقى حيًا، مزاولًا حياته في حركةٍ مستمرةٍ.
(مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِینَ
أَن یَعۡمُرُوا۟ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ شَـٰهِدِینَ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ
أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ وَفِی ٱلنَّارِ هُمۡ خَـٰلِدُونَ) (سورة
التوبة: آية 17). (يعمروا مساجد الله) أي يكونون من روّادها، ودائمي الحركة إليها،
و(مساجد الله) هي المواضع التي يطمئنّ فيها الناس باسم الله ولذكر الله كم
ذكرنا.
(أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی
ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ
كَانُوۤا۟ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَأَثَارُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَاۤ
أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِۖ فَمَا
كَانَ ٱللَّهُ لِیَظۡلِمَهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ) (سورة
الروم: آية 9). إعمار الأرض هو إنشاء كلّ ما يقيم الحياة بصورةٍ دائمةٍ.
من خلال جذر (عمر)، ومدلوله في
كتاب الله نستطيع القول: إن (عمر) تعني عملية البناء المستمرّ مع الحركة، دون
ركونٍ أو سكونٍ.
عندما نضيف هذا المعنى للحج،
ومعنى (الحج) هو مناقشة الحجج، سنجد أن (العمرة) هنا هي تطبيقٌ لهذه المناقشة،
ممّا يجعلها واقعًا يمكن أن يُؤثّر في حياة الناس أو يجعلها عامرةً.
كل الأفكار التي قامت على حججٍ
يلزم لها جانبان هامان، الجانب الأول: هو مناقشتها ودراستها باستفاضةٍ، وهذا هو
الحج. والجانب الآخر: تطبيق هذه الأفكار على أرض الواقع، أو كيفية الاستفادة منها.
الاعتمار هو الاستفادة من توصيات الحج على نحوٍ تصبح واقعًا يؤثر في الحياة، وكأنه
يعمُرها. لا شك أن الحج هو الأساس، وأن العمرة تابعٌ للحج، إذ إنّ تأسيس الفكرة هو
القاعدة التي تنطلق منها التطبيقات، أو ما يُسمّى حالة الإعمار بعد ذلك. تبعًا
لمفهوم الحج والعمرة الجديد، يمكننا القول: إن مفهوم الحج قد يقتصر على فئةٍ
معينةٍ من أصحاب الحجج والمهتمين، وهم في الغالب الفئة الأولى، والأقل عددًا في
كلّ مجالٍ، أما العمرة فتأتي في المرتبة الثانية، إذ إنّ تطبيق الأفكار يمكن أن
يقوم به عددٌ أكبر من الناس. من هنا كان الحج لمَن استطاع إليه سبيلًا، إذ إنه ليس
متاحًا لكل البشر، أما العمرة فلم يرد معها ذلك؛ لأنها التطبيق، ويمكن أن تكون متاحةً
لكل البشر، كلٌّ على قدر مقدرته. هذا هو معنى أن يطوّف بهما، أي أن يأخذ الإنسان
منهما قدرًا معينًا، أو أن يمرّ عليهما ولا يُعرض سواء الحج أو العمرة.
قد تكون هناك حججٌ قويةٌ وسهلة
الفهم، وهناك حججٌ ليست بالقوة ذاتها، وتطبيقاتٌ لهذه الحجج واضحةٌ وسهلةٌ، وتطبيقاتٌ
تحتاج لجهدٍ. يختلف استيعاب الناس و استطاعتهم باختلاف عوامل كثيرةٍ، فليس مطلوبًا
من كل الناس أن يكونوا على قدم المساواة، ولكن لينهلْ كلّ إنسانٍ مما يستطيع أو
يطوّف بهما، ولكن حذار أن يترك الأمر وينصرف عنه.
يجب أن نقف عند الآية التي جاء
فيها ذكر (العمرة) لفهم بعض المفردات التي وردت بها، مثل (حلق الرأس).
لا تحلقوا رؤوسكم
(وَأَتِمُّوا۟
ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ
ٱلۡهَدۡیِۖ وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ
فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن
صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ
بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۚ فَمَن لَّمۡ
یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ
تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ ذَ ٰلِكَ لِمَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ
ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ)
(سورة البقرة: آية 196).
الآية تشير إلى أن يجعل الإنسان
الحج بمعنى المناقشة، أو مقارعة الحجة بالحجة، أو العمرة بمعنى تطبيق الأفكار لله
سبحانه؛ أي ينزّه هذه العمليات عن المصالح الضيقة، وأن يكون مُنصفًا. فإن حدث
مانعٌ، وهو الحصر، فإن الآية تشير إلى ما استيسر من الهدي. المفسر قال إن الهدْي
هو ذبح شيءٍ من الأنعام، ولكنّ المعنى هنا واضحٌ جدًا، ويعني التزوّد بما يستطيع
الإنسان من الاسترشادات، وهي الهدْي المقصود. هذا الخبر في الآية يقول للإنسان: إن
لم تتمكّن من الحج بصورته الكلية، أو العمرة، فعليك بما تستطيع من الهدْي، مثل
قراءة شيءٍ، أو محاولة فهم أمرٍ؛ فلا تخرج من هذه العملية خالي الوفاض. ثم تخبر
الآية بقول الله: (لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله). التفسير التقليدي يقول:
لا تزيلوا شعر الرأس حتى تصل الذبيحة إلى مستحقيها.
(تحلق) لفظٌ فسره المفسر على
أنه إزالة الشعر، وأعتقد أن هذا المعنى فرعيٌّ للغاية من معنى الحلق الأساسي،
وربما ساعد على ثبات هذا المعنى لدى الإنسان هو ارتباطه بالرأس.
لفظ (حلق) -كما جاء في قاموس
اللغة- له أُصُولٌ ثَلَاثَةٌ: فَالْأَوَّلُ: تَنْحِيَةُ الشَّعْرِ عَنِ الرَّأْسِ،
ثُمَّ يُحْمَلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنَ
الْآلَاتِ مُسْتَدِيرٍ. وَالثَّالِثُ: يَدُلُّ عَلَى الْعُلُوِّ. من الواضح جدًا
أن أصل الكلمة الشائع، وهو إزالة الشعر من الرأس، قد استقاه المعجم من تفسير
المُفسّر لمثل هذه الآية.
كما ذُكر في فصل الواقعة،
وتفسير قول الله: (فلولا إذا بلغت الحلقوم)، ومن خلال دمج الأصول الثلاثة لفهم
اللفظ، سنجد أن (حلق) تعني حركةً دائريةً من علوٍّ معينٍ، ومنها تحليق الطائر في
لغتنا المعاصرة. حتى معنى (الحَلْق) الذي يصف مكان بلع الطعام، هو كذلك معنىّ
فرعيٌّ، وقد يكون سُمّي بذلك بسبب حركة الطعام الدائرية، وكأنها تُحلّق وهي تنزل
إلى المعدة. نستخدم هذا الفعل بكفاءةٍ عاليةٍ اليوم لوصف تحليق الطائرة عاليًا، أو
حتى لوصف الأفكار بقولنا: حلّقت الأفكار عاليًا.
الرؤوس هي مجمع الحواس، فعندما
تقول الآية: (لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله)، فنحن نعلم مِن تحليل لفظ
(الهدي) أن المقصود هو الهداية والاسترشاد. الحواس هي المحطة الأولى التي يمكن من
خلالها التعامل مع الهداية، فمن دون بصرٍ وسمعٍ يكون من الصعب إدراك أيّ هدايةٍ.
السمع والبصر هما من القنوات الرئيسة التي تلتقط الهداية، ثم بعد ذلك تُعالج
وتُستخلَص الفكرة.
(لا تحلقوا رؤوسكم) أي لا تذهبوا
بها بعيدًا حتى تستطيعوا التقاط الهداية، فمن انشغل لن يستطيع التقاط شيءٍ. هنا
تشير الآية للإنسان بأن يكون أكثر تركيزًا، فهو في حاجةٍ ماسةٍ إلى التقاط أكبر
قدرٍ من الهداية، فلا يجب أن يُحلّق بعيدًا عما جاء من أجله، أو عن الغرض الرئيس
من الحج والعمرة.
استكملت الآية فكرة حلق الرأس
عندما قالت: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ
فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ)كأنّ الحلق إذا كان نتيجةً
لمرضٍ أو أذىً فعندها يجب الصيام أو الصدقة أو النسك. المعنى هنا يشير إلى مَن كان
مريضًا، والمرض مانعٌ للهدى؛ لأن الإنسان بسبب المرض مشتّت الفكر. والأذى في الرأس
يشمل أيضًا كل أذىً سواءٌ كان ماديًا مثل تعطّل أيٍّ من الحواس في الرأس، أو أذىً
غير ماديٍّ مثل الانشغال الذي يعوق الاستيعاب. كل هذه الأمور تتسبب في حلق الرأس،
وهو انشغالها بعيدًا عن لبّ الموضوع الذي جاء من أجله الإنسان.
إنها آيةٌ ترفع الحرج عن
الإنسان إذا أصابه عارضٌ، فليس عليه أن يحزن، وليعلمْ أنّ الله خفّف عنه. لو أن
باحثًا متوجهًا إلى مؤتمرٍ ما ثمّ أصابه عارضٌ عطّله عن الاستفادة القصوى من هذا
المؤتمر، فإن قدر الحزن الذي يصيبه بسبب فوات فرصة الاستفادة من المؤتمر سيكون
عظيمًا. قد يكون هذا العارض -كما ذكرتُ- مرضًا أو انشغالًا، كظرفٍ طارئٍ سبّب
انشغاله. حتى يصير الأمر سهلًا وميسّرًا جاءت هذه الآية تُزيل الحرج تمامًا عن مَن
أصابه ذلك وهو متوجّهٌ بقصد الحج أو بغرض العمرة.
ما يُثبت فكرة (الحلق) هي
الآية التالية، والتي ذكرت الحلق مع المسجد الحرام في سورة الفتح.
(لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ
رَسُولَهُ ٱلرُّءۡیَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن
شَاۤءَ ٱللَّهُ ءَامِنِینَ مُحَلِّقِینَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِینَ لَا تَخَافُونَۖ
فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُوا۟ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَ ٰلِكَ فَتۡحࣰا قَرِیبًا) (سورة الفتح: آية
27).
لاحظْ في التفسير التقليدي أنّ
الآية الأولى تشير إلى حلق الشعر بعد أن يبلغ الهدي محلّه، ويفعله الناس اليوم بعد
أداء الحج بالشكل التقليدي. أما الآية في سورة الفتح فتشير إلى الحلق قبل دخول
المسجد الحرام، أو على أكثر تقديرٍ في أثناء دخول المسجد، وهنا نجد اختلافًا
واضحًا، هل الحلق بعد أداء الحج، أم في أثناء دخول المسجد؟
لو أدركنا أن الحلق المشار
إليه هنا في الآيات يعني الذهاب بالرؤوس بعيدًا، أو أن عدم حلق الرأس يعني التركيز
الشديد لغرض التقاط شيءٍ ما، وهو في حالة الحج الهداية، فإنّ سورة الفتح تشير إلى
المعنى نفسه.
الآية في سورة الفتح تشير إلى
فتح موطن رسول الله، والمسجد الحرام -كما ذكرنا- هو موطنه الآمن، فعندما يُبشّرهم
الله بأنهم سيدخلون هذا الموطن مُحلّقين فيعني أنهم ليسوا في حالة انتباهٍ شديدة،
وليس هناك ما يخيفهم أو يجعلهم في هذه الحالة. في حالة الخوف من أمرٍ ما يصبح
الإنسان في حالة تركيزٍ شديدةٍ جدًا، لدرجةٍ قد تؤثر عليه سلبًا، وفي حالة الأمان
يصبح الإنسان في حالة استرخاءٍ؛ ممّا يسبب له السعادة والراحة. الآية في سورة
الفتح تتحدّث عن فتح المسجد الحرام بالنسبة إلى الرسول، وليس الحج، وهي تحمل معنى
التحليق نفسه، وهو دخولهم المسجد الحرام مُحلّقين؛ بمعنى في حالة استرخاءٍ، ثمّ
فصّلت الآية حالة الاسترخاء هذه عندما قالت: (مُقصّرين لا تخافون).
(مُقصّرين) ليست كما فسّرها
المُفسر تقصير الشعر، بل هي وصفٌ لحالة الأمن؛ وهي خلاف التطاوُل. وأصل مقصّر في
قواميس اللغة يعني أَلَّا يَبْلُغَ الشَّيْءُ مَدَاهُ وَنِهَايَتَهُ. (مقصرين)
تعبيرٌ عن حالة الاسترخاء التي لن تصل إلى حالة البلادة. قد يوحي لفظ (محلّقين)
منفردًا بعدم الانتباه، ممّا يشير إلى حالةٍ سلبيةٍ، فجاء لفظ (مقصّرين) ليشير إلى
أن حالة الحلق هذه متبوعةٌ بالتقصير؛ أي لا ينبغي أن يبلغ الحلق أو التحليق
منتهاه، وإنما هي حالةٌ معتدلةٌ. (لا تخافون) قطعت كل قولٍ، وبيّنت علاقةً قائمةً
بين حلق الرؤوس والخوف، إذ لا يُحلّق الإنسان بعيدًا، ولا يكون في حالة استرخاءٍ
إلا في حالة الأمان وعدم الخوف.
لفظ (لا تحلقوا رؤوسكم) في
الحج فهو بمعنى لا تذهبوا بعيدًا وكونوا شديدي التركيز، متوافقين تمامًا مع مفهوم
(الحج) بمعنى المناقشة، أما إزالة الشعر فهو فعلٌ يبدو غير مبررٍ، وهذا لا ينفي ولا
يُقلّل من النظافة الشخصية للإنسان بصفةٍ عامةٍ.
الآية التي ربطت (لا تحلقوا)
بالهدْي بصفةٍ عامةٍ، تشير كذلك إلى عدة أيامٍ في الحج، وأن يكون الناس حريصين على
ذلك؛ لأن الحج -كما ذكرنا- هو أحد أهم الركائز التي يرتكز عليها العلم، ومن ثم
إدراك بيت الله، بل الانطلاق من بيت الله وهو فكرة وجود الله لفهم علاقة الإنسان
بمحيطه.
(النُسُك) له أصلٌ، وهو تصفية
الشيء من الأدران العالقة بأثنائه - وتماسكُه على نقائه. كاستخراج وَسَخ الثوبِ،
كما جاء في المعجم الاشتقاقي. أرى أن (النسك) لا يذهب بعيدًا عن هذا المعنى، فقد
طلب الله من الإنسان -إن تعذّرت عليه الاستزادة من الحج أو العمرة- أن ينظر في ما
معه من هديٍ أو حججٍ أو فكَرٍ ويُطهّرها؛ بمعنى يراجع أفكاره ويعيد النظر فيها
مرةً بعد مرةٍ. والمقصود هنا هو دوام الاشتغال، وعدم السكون، فإنّ في السكون
موتًا. الأوامر في الحج والعمرة والمناسك كلها تدور حول القدرة على مناقشة الأفكار
وتحليلها، ومدى تطبيقها، والاصطفاف معها، أو إعطاء النفس فرصةً للنظر فيها مرةً
بعد مرةٍ. هذا هو الحج وهذه هي شعائر الله.
السؤال الآن: هل الحج أيامٌ
معدوداتٌ أم أشهرٌ معلوماتٌ؟
تبعًا للآية التي تناولناها في
السطور السابقة: (وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ
أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۖ وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ
حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ
أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ
فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا
ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۚ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ
فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ ذَ ٰلِكَ لِمَن لَّمۡ یَكُنۡ
أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟
أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ) (سورة البقرة: آية 196).
فإن الحج أيامٌ
معدوداتٌ، إذ تُشير الآية إلى الصيام ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعةٍ إذا رجعتم.
أستطيع أن أقول إن أيام الحج يمكن أن تكون ثلاثة أيامٍ، والعجيب أن أغلب مؤتمرات
العالم تستخدم عِدَّة هذه الأيام في إقامة مؤتمراتها، وهي عِدةٌ مناسبةٌ بالفعل
لمناقشة القضايا وعرض الجديد دائمًا. لدينا أيضًا آيةٌ أخرى تشير إلى هذا المعنى،
وهو قول الله في معرض الحديث عن الحج: (وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن
تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (سورة البقرة: آية 203). أعتقد أن هذه الآية وضعت
الحد الأدنى للحج، وهو يومان، أما ثلاثة أيام فهي المدة المثالية، وإن أراد
الإنسان الزيادة فإن الآية تخبرنا أنه لا شيء في ذلك.
الآن كيف نفهم الآية التي
قالت: إن الحج أشهر معلومات؟
(ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرࣱ
مَّعۡلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا
جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ
وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَیۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ یَـٰۤأُو۟لِی
ٱلۡأَلۡبَـٰبِ) (سورة البقرة: آية 197).
الغريب أن هذه الآية وصفت
الأشهر بوصف الأنثى، فقد قالت: فمن فرض (فيهن)، لكنّ لفظ (أشهر) ذاته جاء في آيةٍ
أخرى بصيغة المذكر، عندما جاء وصف الأشهر بلفظ (انسلخ) وليس انسلخت.
(فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ
ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ
وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُوا۟ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدࣲۚ فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟
ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِیلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ
غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ) (سورة التوبة: آية 5).
كنا قد بيّنّا مدلول (الأشهر
الحرم)، وهي الشهور الزمنية، فكيف صار لفظ (الأشهر) الخاص بالحج بصيغة
المؤنث؟
صيغة هذه الآية التي وصفت أشهر
الحج بالمؤنث يدفعنا للقول: إن (الأشهر المعلومات) لا تعني شهورًا، بل هي من
الشُهرة أو الإظهار. هذا يعني أنّ وقت الحج يجب أن يكون مُعلنًا ومشهورًا بالنسبة
إلى الناس، وكذلك مواضيع الحج يجب أن تكون معلوماتٍ أيضًا.
كيف يصبح الحج أشهرًا
معلومات؟
المؤتمرات جميعها لها أجنداتٌ
معلنةٌ، ويعرف الناس جيدًا ما هي المواضيع التي ستُناقش، وما هي النقاط التي سوف
تُثار، أو حتى المواضيع محل الاهتمام في هذا الوقت. الحج بالكيفية نفسها، يجب أن
تكون الموضوعات محل الاهتمام أو النقاط المُثارة معلومةً للجميع، حتى يتم التحضير
لها بوقتٍ كافٍ.
لدينا آيةٌ أخرى تحمل المعنى
نفسه، وتشير إلى وجوب أن يكون موعد الحج معلومًا.
(یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ
ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِیَ مَوَ ٰقِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَیۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن
تَأۡتُوا۟ ٱلۡبُیُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ
وَأۡتُوا۟ ٱلۡبُیُوتَ مِنۡ أَبۡوَ ٰبِهَاۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ) (سورة
البقرة: آية 189).
هذه الآية تشير إلى أهمية أن
يكون الحج محددًا بوقتٍ معينٍ، وهذا لا شك من متطلبات الحج، حتى يستطيع كلّ حاجٍّ
أن يُقدّم ما لديه ويحضّره بوقتٍ كافٍ.
الآية حملت بعض التعبيرات التي
تؤكد مفهوم (الحج) مثل: (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). الجدال معروفٌ، والذي
حذّر منه القرآن في سورة الحج، والعلاقة بين الحج والجدال لا تحتاج لإعادة توضيحٍ
مرةً أخرى. سوف أحاول هنا فهم معنى (الرفث) ومعنى (الفسوق) ومدى ارتباطهم بالحج.
مفهوم لفظ (رفث) و(فسوق)
الرفث -كما جاء في قاموس
اللغة- هو كُلُّ كَلَامٍ يُسْتَحْيَا مِنْ إِظْهَارِهِ، إن نظرنا لمفهوم (الرفث)
في كتاب الله، والذي جاء يصف علاقة الرجل بالمرأة في غير وقت الصيام فسوف يتضح
المعنى.
(أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ
ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسࣱ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ
لِبَاسࣱ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ
فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُوا۟
مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ
ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ
أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ
عَـٰكِفُونَ فِی ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ
كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ
ءَایَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ) (سورة البقرة: آية 187).
رغم أن المفسرين فسروا (الرفث)
في الآية بالجماع، لكننا نجد المعنى أكثر شمولًا عند النظر إلى جذر الكلمة. يبدو
أن (الرفث) هو كل فعلٍ أو قولٍ غريزيٍّ لا يصحّ إظهاره أمام الناس. رفثَ الرجل إلى
زوجته هو ما يفعله الرجل ولا يحب أن يطلع عليه أحد بالطبع، وهو في الغالب يكون
أقرب إلى التصرفات الغريزية.
من هنا يكون (لا رفث في الحج)
ليس معناه لا جماع في الحج، فالأمر أكبر من ذلك، وحتى مفهوم الحج التقليدي لا مجال
فيه لمثل هذه الأمور. إنما لكي يكون (الرفث) منسجمًا مع مفهوم الحج فيمكن وصفه
بأنه القول أو التصرف المزاجي أو غير المنضبط وهو مرفوضٌ في الحج. إنه التوجيه
الإلهي مرةً أخرى على جدية الحج، واستبعاد كلّ ما من شأنه تعكير هذا المناخ
الثقافي المميز.
(الفسوق) كذلك هو الخروج عن
المألوف في الحج، فالحج ليس مكانًا للمهرّجين، ولا لكل أمرٍ غريب؛ بل هو مكانٌ
للحجج والبراهين القابلة للنقاش والرد.
مفهوم (عرفات)
ها هو المفسر يُفسِّر (عرفات)
بأنه جبلٌ، في دلالةٍ واضحةٍ على قطع صلة الدال بالمدلول، ما الذي جعل اسمه
(عرفات)؟
الإجابة هي أن الناس عندما لم
يجدوا مسمىً مطابقًا لهذا الاسم قاموا بتقريب المعنى لأقرب صورةٍ لديهم، ومن ثم
قالوا هو جبل كذا.
الآن، بعد فهم الحج لم يَعُدْ
مفهوم (عرفات) والمشتق من (عرفَ) بحاجةٍ إلى توضيح. (لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ
أَن تَبۡتَغُوا۟ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَاۤ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَـٰتࣲ
فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا
هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ) (سورة البقرة: آية
198).
(أفضتم من عرفات) تعني أفضتم من المعرفة، و(عرفات) بصيغة الجمع تشير إلى تعدّد المعارف،
و(الإفاضة) نوعٌ من تحصيل الأشياء بمقدارٍ ما. يُقال: أفاض من الماء؛ أي حصل على
الماء بقدرٍ كبيرٍ، وهكذا جاءت الإفاضة في كتاب الله.
(وَنَادَىٰۤ أَصۡحَـٰبُ
ٱلنَّارِ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَنۡ أَفِیضُوا۟ عَلَیۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ أَوۡ
مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُۚ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى
ٱلۡكَـٰفِرِینَ) (سورة الأعراف: آية 50).
لقد حملت الآية كذلك تعبير
(المشعر الحرام)، فما هو (المشعر الحرام)؟
جذر (مشعر) هو شعر، وهو من
الإدراك والحس، وسوف يأتي مزيدٌ من التحليل للفظ (شعر) في الفصل القادم. لدينا في
الآية إفاضةٌ من المعرفة، وتنبيهٌ من الله للناس ليذكروا الله عند المشعر الحرام.
(المشعر) هو موضع الشعور، و(الحرام) هو المنع المطلق، فيصبح التعبير القرآني
توجيهًا للناس ليستحضروا الله عند تحريم شيءٍ نابعٍ من الشعور، والشعور ذاته
مرتبطٌ بزيادة المعرفة.
لكي نفهم هذا التعبير العظيم
سوف نحاول ربط آيات الحج وتوجيهاته سويًا لاستخراج مفهوم (المشعر الحرام) بدقةٍ.
علاقة الحج بالأنعام بيّنت للإنسان حدود ما يحقّ له وما لا يحقّ له، وآيات الصيد
ومدلول (الكعبة) الذي دار حول الكائنات الحية وحول الأنعام، و(الأشهر الحرم)
و(البيت الحرام) كلّها تعبيراتٌ تتعلّق بالكائنات الحية، وتحديدًا بالأنعام وما
يستخدمه الإنسان في حياته ويستفيد منه.
ربما مع زيادة المعرفة يتطرّق
الإنسان إلى تحريم شيءٍ ليس بحرامٍ بدافع الشعور، وليس بدافع الدليل البيّن، وهذا
المثال واضحٌ جدًا في ظاهرة ما يُسمّى النباتيون. إذ يُصرّ النباتيون على عدم أكل
اللحوم، ويحاولون إقناع الناس بمنعها المطلق، وهذا -كما رأينا- ليس الصواب؛ بسبب
علاقة الأنعام بالإنسان والكون، في سلسلةٍ غذائيةٍ لها أهميتها.
معنى (اذكروا الله عند المشعر
الحرام) أي استحضروا الله، وكونوا منصفين في تعاملكم مع المعلومات المتاحة، ولا
تنجّروا خلف الشعور بتحريم شيءٍ ليس بحرامٍ.
تستكمل سورة البقرة الإشارة
والحثّ على أن يستفيض الناس؛ لأنه وقتٌ لا مثيل له لنشر المعرفة وتبادلها. (ثُمَّ
أَفِیضُوا۟ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ
غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ) (سورة البقرة: آية 199).
تعبير من حيث أفاض الناس تعبير
يشير إلى عالمية المعرفة وتقضى تمامًا على التقوقع وتنهي حقب الانغلاق ورفض
المعرفة بحجج سخيفة.
آياتٌ بيناتٌ في كتاب الله تصف
الحج، بوصفٍ ليس هناك أروع منه. وكلّ آيةٍ أجْلتْ حقيقةً وأماتتْ خرافةً، وتنتظر
المؤمنين كي يجعلوا كلمة الله هي العليا.
الحج الأكبر
أصِل الآن إلى الآية الأخيرة
التي ذكرت (الحج الأكبر) ولم نتعرض لها، وهي في سورة التوبة.
(وَأَذَ ٰنࣱ مِّنَ ٱللَّهِ
وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلنَّاسِ یَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِیۤءࣱ
مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ وَإِن
تَوَلَّیۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُمۡ غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ
ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ) (سورة التوبة: آية 3).
اختلفت أقوال المفسرين في
(الحج الأكبر)، منهم من قال: هو يوم عرفة، ومنهم من قال: يوم النحر، ومنهم من قال:
بل هو الحج كله، والحج الأصغر هو العمرة. وذهب بعضهم للقول بأن الحج الأكبر هو
القرآن، وبذلك نرى الاختلاف قائمًا بين المفسرين؛ والسبب الرئيس في ذلك هو غياب
مفهوم (الحج) من الأساس.
بمجرد فهم مدلول (الحج) بصفةٍ
عامةٍ يصبح مفهوم (الحج الأكبر) واضحًا جدًا، وهو يوم المحاججة الكبرى. بذلك
يمكننا أن نضع احتمالين لا ثالث لهما عن مفهوم (الحج الأكبر):
الاحتمال الأول: هو يوم أداء النبي للحج، إذ
يُعدّ أول تطبيقٍ لمفهوم الحج بعد عهود الوثنية، وهذا الاحتمال ضعيفٌ؛ لأن الحج
بمفهومه الذي وصلنا إليه لم يتحقّق بالكامل، وسوف نتطرّق إلى سبب عدم تحقّق مفهوم
الحج في عهد الرسول بصورةٍ كاملةٍ.
الاحتمال الثاني: هو أن يوم الحج الأكبر قادمٌ
في المستقبل، وأنّ هناك محاججةً سوف تحدث، وسوف يترتّب عليها تغيّراتٌ جذريةٌ،
ذُكر بعضها في سورة التوبة، ولن نتطرّق إليها في هذا الكتاب. وهذا هو الاحتمال
الأقوى عندي، وأراه قادمًا في المستقبل.
مفهوم (الحج الأكبر) مرعبٌ؛
لأن فيه براءةً من المشركين، والمُشرك -كما بيّنّا في أكثر من موضعٍ- هو من خلط
الأمور بعضها ببعض. في هذا السياق نجد بكلّ وضوحٍ أن المُشرك هو من يخلط كلمات
الله بأساطير وأوهامٍ رغم جلاء الحقيقة ووضوحها. في يوم الحج الأكبر لن يكون
لهؤلاء موضع قدمٍ، ولا يجب أن يُسمح لهم بعد الحج الأكبر بالاقتراب من المسجد
الحرام. نعم، المسجد الحرام لكل من يريد أن يُعبّر عن أفكاره، ويناظر الحجج، لا
مَن يخلط الأوراق ويُشكّك من دون علمٍ ولا هدىً.
حتى نفهم كيف يُستَبعد
المشركون بعد الحج الأكبر علينا أن نتخيّل أن أستاذًا جامعيًا يقف أمام طلابه
اليوم، ليشرح لهم أن الأرض مسطحةٌ بناءً على تصوراتٍ شخصيةٍ غير قائمةٍ على دليلٍ.
ويستخدم سُلطته في تضليل الناس بصورةٍ فجةٍ، فهل يُسمح لهذا الأستاذ بالاستمرار في
ممارسة مهنة التدريس والتأثير في عقول الطلاب؟
هذا الأستاذ مثالٌ حيٌّ
للمُشرك الذي يخلط الأوراق، ويخلط بين الدليل والحيل، واستبعاده واجبٌ ضروريٌ،
وإلا سوف تصبح المفاهيم غائمةً. لِيقلْ المشركون ما يرغبون في قوله، ولكن لا ينبغي
إفساح المجال لهم رسميًا لبثّ الجهل وخلط الأوراق. أمر الحج أمرٌ عظيمٌ، وليس
نزهةً أو رفاهيةً فكريةً، بل هو أعظم المؤتمرات العلمية، والتي يجب أن يمتثل لها
الإنسان، فيُقارع الحجة بالحجة. هل رأيت مؤتمرًا علميًا يدعو مُخرّفًا أو سطحيّ
المعرفة بحجة إتاحة حرية التعبير؟
يجب أن نفرّق بين حرية التعبير
الشخصية وحرية الجهل؛ فلكل إنسانٍ الحرية فيما يقول ويعتقد، من خلال ضوابط عامةٍ
تضمن عدم إضراره بغيره، لكن ليس له أن يبثّ الجهل بين الناس من خلال منبرٍ
حقيقيٍّ. ليس هناك فرصةٌ لأيّ مُدّعٍ أن يهرِفَ بما لا يعرف في المؤتمرات، أو أن
يقول وجهات نظرٍ تُعارض العلم والدليل دون دليلٍ. مفهوم (الحج الأكبر) هو ذلك
المفهوم الذي يعني ظهور الحجج بأدلةٍ قاطعةٍ بيّنةٍ؛ إذ إن لفظ (الأكبر) يعني
الأكبر على الإطلاق، وأظنه هو مفتاح الساعة، أو أولى خطوات الساعة الحقيقية. أرى
أنّ الحج الأكبر سوف يتبعه دخول الناس في دين الله أفواجًا بصورةٍ حقيقيةٍ
وقرآنيةٍ، من خلال فهمهم لمفهوم الإسلام القرآني، وانصياعهم للعقل والدليل.
الشقاء والحسرة على الذين لا
يدركون معنى الإسلام القرآني، ويُصرّون إصرارًا عجيبًا على الشرك بالله، وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. هل ظلمتهم الظروف أم الأنظمة التعليمية أم أنظمة الحكم
القهرية؟ لا أدري، ولكنّنا اليوم نرى أن المعلومات متاحةٌ أمام الناس بصورةٍ لم
يسبق لها مثيلٌ، فكيف يضلّ الإنسان، ويبقى أسير فكرةٍ خرافيةٍ لا أساس لها من
الصحة؟
دعوني أضع تصوّرًا لما يجب أن
تكون عليه أمةٌ تدّعي أنها تقرأ كلمات الله لو أنها طبّقت مفهوم الحج منذ عصرها
الأول، وظلت تترقى في هذا المفهوم مع ترقّي الفكر الإنساني وزيادة المعرفة
البشرية.
كانت هذه الأمة ستؤسّس لأول
مؤتمرٍ علميٍّ بامتيازٍ، وما كان إلا قرنٌ أو قرنين وانتشرت المساجد الحرام وهي
مراكز التعليم، وبعدها مراكز البحث في كل بقعةٍ يطؤها المؤمنون بالقرآن. كانت هذه
الأمة ستُقدّم للعالم أعظم الهبات في حرية التفكير والمنطق والعقل، ودعت كلّ الأمم
للمحاجّة، والتي كانت ستعود بكلّ الخير على كلّ البشرية.
المجتمع الذي يؤمن بالقرآن يجب
أن يكون همّه الأول والأخير هو التعليم والمراكز العلمية، وحرية التعبير، وتوفير
أماكن آمنةٍ، وبيئةٍ مناسبةٍ يُقدّم من خلالها للعالم صورةٌ من أنقى صور الحياد
والإنصاف، تدعو الجميع إلى النقاش، ويكون عنوانها الحجة بالحجة، ويُفسح المجال
لكلّ رأيٍ مخالفٍ يسعى بصدقٍ للحقيقة مهما خالفت تصوراته. إنه مجتمعٌ يقود العالم
إلى المعرفة ويُعلي قيمة الإنسان وقيمة كل المخلوقات الأخرى.
يحمل على عاتقه مهمة الانسجام
مع كل مكونات الكون، ويسعى بجدٍّ لعرض الحجج التي تحمل البراهين على كل فكرةٍ
يقدمها للعالم. يجب أن يتوقف فورًا التعصب المقيت واحتكار الهدى، والظن الساذج أن
منتهى كلمات الله كان عند قومٍ عاشوا منذ مئات السنين، وكأنّهم اتخذوا عند الله
عهدًا. الله ليس متحيّزًا ليمنح فلانًا صكًا بالفهم دون غيره، أو يعطي فلانًا
شيكًا على بياضٍ لكي يحتكر الكلام باسمه، إنما هو استحقاقٌ، وكلّ مَن يسعى بجدٍّ
وإخلاصٍ سوف يفتح الله على يديه بقدرٍ ما، وهذه سنة الله في الكون.
بعد تحليل مفهوم (الحج)
وعلاقته بـ (الأنعام) يمكن أن ننظر إلى ما يفعل الناس حاليًا، مدّعين أنهم ينفّذون
أمر الله. ليس هناك أيّ نوعٍ من النقاش، بل هي طقوسٌ، وتوجّهٌ إلى مجموعةٍ من
المجسّمات، ولا أثر لأيٍّ علمٍ يُدرَس ويُناقش هناك.
الإرشاد الكثيف للحفاظ على
أنواع المخلوقات المختلفة، والتعامل مع الأنعام بحرصٍ شديدٍ أصبح يومًا يذبح فيها
أكبر قدرٍ من تلك الحيوانات. ليس لدي اعتراضٌ على ذبح الحيوانات طالما هي طعامٌ
للناس، ولكنّ الاعتراض على تحوّل فهم التوجيهات بالمحافظة على الأنعام وكيفية
التعامل معها إلى يومٍ لذبحها دون فهم المقصود من تلك العلاقة الواضحة بين الأنعام
والحج.
الآن، آتي للسؤال الهام، وهو:
لماذا لم يفعل الرسول الحجّ بالطريقة التي ذكرتُها؟ وكيف لم يعرفها؟ ألم يكن
الرسول يعرف أمر الحج؟ ولماذا لم يُخبره الله بالتفاصيل بوضوحٍ؟
أسئلةٌ كثيرةٌ تدور في الأذهان
بعد هذا الانقلاب المعرفي الهائل في مفهوم الحج، ويجب أن نشير إليها، وإن كنّا قد
أشرنا إليها في أكثر من موضعٍ في كتاب قولًا ثقيلًا، ولكن لا بأس أن نُخصّص لها
فصلًا نجيب فيه على مثل هذه الأسئلة.
ملخص الفصل
- استكمالًا لتعبير (المسجد الحرام) الذي جاء تفصيله في
أكثر من موضعٍ داخل هذا الكتاب، تطرّقنا لتعبير (شطر المسجد الحرام)، وهو
تعبيرٌ يؤسّس لمفهوم علمانية الرسالة، وليس له علاقةٌ بالتوجّه في
الصلاة.
- تعبير (الصفا والمروة) يشير إلى حالتين يجب على الإنسان
أن يتبعهما في حالة الحج بمفهومه القرآني، وهو المناقشة والمحاججة، وما يتبعه
من عمرةٍ، إذ يعني (الصفا) الاصطفاف مع الحجج القوية أو التي تقنعه.
و(المروة) هي التروّي في حالة عدم الاقتناع بالحجة، وإجراء مزيدٍ من البحث
والتقصّي، والنظر في المخرجات، لتكوين رأيٍ سديدٍ.
- لفظ (عرفات) لا علاقة له بالجبل؛ وإنما هو لفظٌ مشتقٌ من
المعرفة، وهي توصيةٌ من الله للإنسان بأن يُفيض من المعرفة، وهذه الإفاضة لها
علاقةٌ وثيقةٌ بمفهوم الحج القرآني، وهو المحاججة.
- تعرضنا في نهاية الفصل لمفهوم (الحج الأكبر)، والذي نرى
أنه لم يأت بعد، وأنه أمرٌ قادمٌ في المستقبل، ويضع النهاية لكلّ الجدالات
القائمة، والاختلافات الكثيرة الحالية.
Comments
Post a Comment