الفصل الرابع عشر - أين المفر

 

الفصل الرابع عشر 


أين المفر 


 

دائمًا نُحذّر من خلط المفاهيم، وطالما أنّ الله أعطى تسمياتٍ مختلفةً للأمور فهذه المُسمّيات تحمل صفاتٍ مختلفةً، ولا يصحّ لباحثٍ وضعها جميعًا في سلةٍ واحدةٍ ثمّ القفز إلى النتائج. 

لقد أوردنا أدلةً كثيفةً على أنّ الآخرة مرحلة عملٍ، وأنّ مواصفاتها تكاد تتطابق مع مواصفات الحياة الدنيا، غير أنّها مرحلةٌ يسود فيها الصالحون ويُحجَّم الفاسدون. 

كذلك فقد جاء في الفصل السابق أنّ بعض الناس لن يمرّوا بمرحلة الآخرة، وهؤلاء الذين قال عنهم القرآن (لا خلاق لهم)، وهؤلاء سوف يواجهون يوم القيامة مباشرةً، ثمّ يحكم الله بين الناس، ويجازي كلّ إنسانٍ بما قدّم. كذلك هناك آياتٌ في كتاب الله أشارت إلى يوم القيامة مباشرةً؛ ممّا يوحي لبعضهم أنّ يوم القيامة يأتي مباشرةً بعد الحياة الدنيا، مثل الآيات التالية: 

الآية الأولى: 

(ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِیقࣰا مِّنكُم مِّن دِیَـٰرِهِمۡ تَظَـٰهَرُونَ عَلَیۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِ وَإِن یَأۡتُوكُمۡ أُسَـٰرَىٰ تُفَـٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَیۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ) (سورة البقرة: آية 85). 

الآية تتحدّث عن الذين ينقضون عهد الله ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، ويبدو لي من الآية أنّهم من الذين لا خلاق لهم في الآخرة، بمعنى لا وجود لهم في الآخرة، وموعدهم يوم القيامة. هذه الآية عندما نضعها بجانب الآية التي تقول لا خلاق لهم في الأخر لا بدّ أن نصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّ الآخرة ليست يوم القيامة.

(إِنَّ ٱلَّذِینَ یَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَیۡمَـٰنِهِمۡ ثَمَنࣰا قَلِیلًا أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَا خَلَـٰقَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَا یُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا یَنظُرُ إِلَیۡهِمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَلَا یُزَكِّیهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ) (سورة آل عمران: آية 77).على هذا المنوال سارت آياتٌ أخرى تتحدّث عن مآل الكافرين، وتحديدًا الذين يُكذّبون آيات الله، ويحرّفون الكلم، ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا. 

الآية الثانية: 

الآية الثانية هي آيةٌ تتحدّث عن نبي الله عيسى ومن تَبِعه، وهذه الآية لو تريّثنا قليلًا فسوف تُعطينا لمحةً رائعةً يُمكن من خلالها فهم الفرق بين الآخرة ويوم القيامة. كما نعلم من خلال كتاب الله أنّ يوم القيامة هو يوم الحكم بين العباد، كلّ العباد ومن بينهم الأنبياء، وهذا المبدأ قُرّر من خلال هذه الآية:

(إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَىٰۤ إِنِّی مُتَوَفِّیكَ وَرَافِعُكَ إِلَیَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَجَاعِلُ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡ فِیمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ) (سورة آل عمران: آية 55). 

 

نلاحظ هنا أنّ الله يقول مباشرةً بعد ذكر يوم القيامة (ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم) ولفظ (بينكم) هنا يدخل فيه نبي الله عيسى. إذن الحكم بين العباد يكون يوم القيامة، وليس هناك تحديدٌ لمصير أحدٍ قبل هذا اليوم. وعندما تحدّثنا عن الآخرة وجدنا آيةً كريمةً تخبرنا أنّ عيسى وجيهٌ في الدنيا والآخرة.

(إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةࣲ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ وَجِیهࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ) (سورة آل عمران: آية 45). 

كيف يقول الله إنّه يحكم بين العباد يوم القيامة، والحديث موجّهٌ لنبيّ الله عيسى، وقد قال عنه الله: (وجيهًا في الدنيا والآخرة) إلّا إذا كانت الآخرة تختلف عن يوم القيامة، بل كما ذكرنا أنّها تسبق يوم القيامة. 

الآية الثالثة:

(كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ) (سورة آل عمران: آية 185). 

كنّا قد تناولنا لفظ (الوفاة) بشيءٍ من التفصيل، وقلنا إنّه استكمال كلّ شيءٍ، ولا بدّ من ملاحظة عموميّة لفظ (النار) ولفظ (الجنة)؛ لأنّ القرآن يحوي ألفاظًا عموميةً، وألفاظًا خاصةً تصف حالةً محدّدةً. الجنة والنار بصفتهما العمومية هما في الدنيا والآخرة وبعد يوم القيامة. نعم، في الدنيا عذابٌ وجنّةٌ، ذكرهما الله في أكثر من موضعٍ، وكنّا قد مررنا على هذه المواضع. 

الآية الكريمة تتناول ما يُشبه الحساب الإجماليّ، والذي ينتهي بتوفّي الأنفس تمامًا، ثمّ الجزاء النهائي. في فصل الجنة سوف نتناول مفهوم (الجنة) ومفهوم (النار)، وسوف ندرك أنّ هناك أنواعًا مختلفةً من الجنّات، وأنواعًا مختلفةً من العذاب، منها ما هو في الدنيا، ومنها ما هو في الآخرة، ومنها ما هو بعد يوم القيامة. بل أكثر من ذلك، سوف نرى أنّ كلّ ما هو مخصّصٌ للآخرة مشمولٌ بتفاصيل كثيرةٍ، بخلاف ما هو مُخصّصٌ ليوم القيامة. هذه الآية مِن هذا النوع الذي يتحدّث عن يوم القيامة، ولا يعطي تفاصيلَ عن النار أو الجنة. 

الآية الرابعة:

(وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا لَیُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا) (سورة النساء: آية 159). 

في هذه الآية أوافق رأي المفسر الذي قال: (إن الضميرَين في (به) و(موته) لعيسى، والمعنى أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابيٍِّ في عصره) سياق الآيات يؤيد ذلك بالفعل، (أهل الكتاب) في عصره هم لا شك أهل المعرفة، ويؤمنون به بسبب قوة حجته، وسوف يكون عليهم يوم القيامة شهيدًا.

لفظ (شهيد) كذلك يعني حاضرًا؛ ممّا يُعزّز فرضية أن المعنيين هم المعاصرون لنبي الله عيسى. لا سبيل للقول إن هذه الآية تصف عودة المسيح للأرض ثانيةً لِما تَقدّم في هذه المسألة. 

 

أرى أن الآية تتكامل مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن فهمه وإدراكه ونطقه الحق، حتى أن أهل الكتاب وهم (أهل المعرفة في ذلك الوقت) يدركون صوابه، ولكن يبدو أنهم لا يتبعونه. من هنا جاء تعبير (ثم يوم القيامة يكون عليهم شهيدًا) بمعنى يشهد أنه بلّغ الحجة، ولم يتبعوه رغم إيمانهم بهذه الحجة.

هذه الآية تشبه الآية التي تخبرنا عن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا، فبرغم معرفتهم اليقينية بالأمر إلا أنهم يُغيّرون ويبُدّلون و يشترون بعهد الله ثمنًا قليلًا. هؤلاء جليٌّ أنه لا خلاق لهم أو لا وجود لهم في الآخرة؛ لذلك مردّهم إلى يوم القيامة، حيث يكون النبي عيسى صلوات ربي عليه شهيدًا عليهم.

لدينا آيةٌ في كتاب الله تدعم القول بأن المقصود هو إيمان المعاصرين به قبل موت عيسى نفسه، وهي الآية التي قال فيها ربنا لنبيه (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله).

(وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَـٰهَیۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أَقُولَ مَا لَیۡسَ لِی بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِی وَلَاۤ أَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ)(سورة المائدة : آية 116). 

جاء رد نبي الله عيسى أنه ما قال لهم إلا ما أمره الله به، وقد كان شهيدًا عليهم ما دام فيهم. هذا ينفي أن يكون شهيدًا في حالة غيابه كما يقول بعض المفسرين. شهادته يوم القيامة ناتجةٌ عن حضروه، وهذا كان في المعاصرين له. إنها آيةٌ تُضيف لنا دليلًا جديدًا على أن الذين يشترون بعهد الله ثمنًا قليلًا لا خلاق لهم في الآخرة، وأن مردّهم إلى يوم القيامة. 

لا يمكن لإنسانٍ أن يشتري بعهد الله ثمنًا قليلًا إلا بعد إدراكه لهذا العهد، وهذا ما أشارت إليه الآية، من أنهم يؤمنون به قبل موته. المشكلة كانت في أنهم لم يتبعوه، أو أنهم لم يُغيّرو اعتقاداتهم رغم إيمانهم به، ولم ينهجوا نهجه. إنه إيمانٌ بلا عملٍ ولا ثمرةٍ، وما كان إيمانًا إلا بسبب وضوح الحجة عليهم من نبي الله عيسى، ولكنّ النفوس أبت التطبيق العملي للإيمان. 

سوف نتناول في السطور التالية مقدّمة سورة القيامة، والتي نرى أنّها وضّحت الغموض الذي يلفّ الآخرة، بل شرحت كيف أنّ القيامة أشمل وأعمّ من حيث البعث والإحياء. وأنا أحسَبُ أنّ هذه السورة تحديدًا موجّهةٌ للإنسان في الآخرة، أو بعد قدرته على إحياء الموتى والخلق، حيث يتساءل المكذّبون (أيّان يومُ القيامة).

الآيات في مقدمة سورة القيامة

الآية الأولى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (سورة القيامة: آية 1)

كما تعوّدنا أنّ أسماء السور في كتاب الله هي محور السورة، فإن أراد الباحث استخلاص أكبر قدرٍ من المعلومات عن شيءٍ ما، فإنّ وجود سورة باسم هذا الشيء هي فرصةٌ عظيمةٌ يمكن من خلالها أن يستنبط الباحث أكبر قدرٍ من المعلومات. 

عندما نتعرّض للتّعبير القرآنيّ (لا أقسم) في كتاب الله تتملّكنا الحيرة من حرف (لا) الذي يسبق التعبير، وتزداد الحيرة عندما نطالع أقوال المفسّرين التي اختلفت اختلافًا كبيرًا في تأويل حرف (لا). يقول بعض الشرّاح عن (لا) وتحديدًا النحويّون أنّ (لا) هنا زائِدَةٌ، والمَعْنى: فَأُقْسِمُ. وقال بعضهم هي نافِيَةٌ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: فَلا صِحَّةَ لِما يَقُولُهُ الكُفّارُ، ثُمَّ ابْتَدَأ تَبارَكَ وتَعالى فَقالَ: (أُقْسِمُ).

كذلك قال بعضهم أنّها نافيةٌ للقسم، ولكنّهم وقعوا في إشكالية أنّ بعض الآيات التي ورد فيها هذا التعبير جاء بعدها تأكيدٌ على القسم، مثل (فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَوَ ٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)) (سورة الواقعة: آية 75- 76). إذ كيف تكون (لا) نافيةً للقسم، ثم يُؤكّد القسم؟ 

حلّ هذه الإشكالية يمرّ عبر استعراض جميع الآيات التي ورد فيها التعبير القرآني (لا أقسم)، ثمّ عقد مقارنةٍ لاستخراج السّمة المشتركة بين التعبيرات المختلفة، ومن ثمّ نستطيع فهم المقصود. 

ورد تعبير (لا أقسم) في كتاب الله في ثمانية مواضع، هي كما يلي: 

(فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَوَ ٰقِعِ ٱلنُّجُومِ) (سورة الواقعة: آية75)

(فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَا تُبۡصِرُونَ) (سورة الحاقة: آية 38)

(فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَـٰرِقِ وَٱلۡمَغَـٰرِبِ إِنَّا لَقَـٰدِرُونَ) (سورة المعارج: آية 40)

(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (سورة القيامة: آية 1)

(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (سورة القيامة: آية 2)

(لَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ) (سورة التكوير: آية 15)

(فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ) (سورة الانشقاق: آية 61)

(لَاۤ أُقۡسِمُ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ) (سورة البلد: آية 1)

لنحاول بدايةً فهم المُقسَم به في الآيات التي نملك معرفةً عنها، ثم ننطلق لفهم المُقسَم به في الآيات التي لا نملك معرفةً عنها. (مواقع النجوم) و(الشفق) و(ما تبصرون) هي أكثر الأشياء التي يمكن أن تقودنا لفهم صيغة القسم. مواقع النجوم هي مواقع افتراضيةٌ، إذ من خلال العلم نجد أنّه بسبب بُعد المسافة بيننا وبين النجوم فإنّ اللحظة التي ننظر بها إلى النجوم تكون النجوم قد غادرت هذا المكان، وبالتالي نحن ننظر إلى تأثير النجوم في هذا المكان.

بالمثل، الشفق هو تأثير انعكاس الضوء بشكلٍ معينٍ في طبقات الغلاف الجوي. والأشياء التي نبصرها هي كذلك نتيجةٌ لانعكاس الضوء من هذا الشيء، فكأنّنا نرى صورة الأشياء، وليس الأشياء ذاتها. من خلال المقارنة نجد أنّ السّمة المشتركة والأبرز بين الأشياء المُقسَم بها هي وجود تأثيرها، وليس وجودها الحقيقيّ أو الماديّ. النفس اللوامة كذلك، ومن خلال الفصل الثالث، هي مخرجات هذا الجسم وأفعاله أو تأثيره. 

يمكننا الآن رؤية تأثير (لا) النافية على التعبير القرآني، فقد نفتْ جنس الشيء المُقسَم به كحقيقةٍ ماديةٍ، وأثبتت تأثيره. 

بذلك يمكننا القول إنّ يوم القيامة هو تأثيرٌ ما، وليس كما يُصوِّره التقليديّون، وكأنّه محاكمةٌ حقيقيةٌ تُنصَب فيها الموازين مثل المحاكمة البشرية. التعبير القرآني يُحيلنا إلى أنّ يوم القيامة أشبه بيوم ظهور النتيجة الدراسية، فهو ليس يومًا له مراسم معينةٌ كيوم الزفاف مثلًا، بل هو أمرٌ أشبه بالافتراض، حيث ينال كلّ إنسانٍ نتيجة أفعاله. التعبير القرآني ينفي الفكرة التقليدية التجسيدية التي يتصوّرها الناس، من أنّ الناس يجتمعون يوم القيامة عراةً ويتصايحون، والملائكة تروح وتجيء، ويُنصب الميزان، وتتمّ محاسبة الناس بهذه الطريقة التصويرية. سوف نعيش تأثير القيامة، وليس واقعًا نعاينه بشكلٍ تجسيديٍّ، وهذا كلّ ما في الأمر. 

هذه الآية تشير إلى أمرٍ خطيرٍ، وهو أنّ الصورة التي رسمناها في مخيلاتنا عن تدمير الأرض وانطفاء الشمس وانفجاراتٍ وسقوطٍ، وانقلابٍ في كلّ شيءٍ وكأنّها حربٌ مشتعلةٌ لا هوادة فيها، هو أمرٌ ليس له علاقةٌ بمفهوم يوم القيامة. سوف نتعرّف أكثر على الوقائع المختلفة التي استقى منها الإنسان الأحداث التدميرية في نهاية الفصل، عند الحديث عن الحاقة والقارعة والواقعة. 

الآية الثانية: 

(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (سورة القيامة: آية 2)

هذه الآية تؤسّس للمبدأ نفسه، وأننا سوف نعيش تأثير يوم القيامة، إذ يبدو أنّ النفس اللوامة والتي جاءت بعض صفاتها في فصل الروح هي مَن تملك الوزن الثقيل في مسألة يوم القيامة. التلاوم والندم والمراجعات هي أهمّ سمات يوم القيامة، وها هي النفس اللوّامة تأخذ مكانها وتفصح عن سمةٍ أساسيةٍ من سمات يوم القيامة. عندما يُبعث الناس يوم القيامة سوف تكون نفوسهم مرتبطةً بهم، وهي مخرجاتهم التي فعلوها على مدار حياتهم، سواءٌ في الدنيا أو في الآخرة، وعندما يُعاين الناس الحقيقة التامة سوف تصبح المخرجات عبارةً عن تلاومٍ، وهذه هي النفس اللوامة. لو نظرنا إلى الطالب عندما يرى نتيجة دراسته سنفهم ما معنى النفس اللوامة، فعندما يرى الطالب درجاته حتى وإن كان متفوّقًا وفقَدَ بعض الدرجات فسوف يلوم نفسه على التفريط؛ لأنه رأى ثمرة ما فعل. 

الآية الثالثة: 

(أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ) (سورة القيامة: آية 3). 

بالنظر إلى فصل البعث واستطاعة الإنسان إعادة إحياء الموتى، والتي يبدو أنّ من شروطها وجود تكوينٍ ماديٍّ يُمكن من خلاله إعادة بناء الجسد، ويرتبط غالبًا بالعظام. ونجد أنّ هذه الآية تُشير إلى بعدٍ آخر، وهو أنّ يوم القيامة سوف يكون مختلفًا، وجمع العظام هو أمرٌ مسلّمٌ به. هذه الآية من وجهة نظري سوف تزداد وضوحًا عندما يستطيع الإنسان إعادة الحياة للموتى. لو افترضنا أنّ إعادة الإنسان إلى الحياة يُشترط لها وجود خليةٍ واحدةٍ سليمةٍ على الأقل من خلايا العظام، هذا الشرط هو الفرق بين الإنسان والخالق. فالإنسان يعمل تحت ظلّ القدرة، أمّا الخالق فمُطلق القدرة، ولذلك إنْ كان الإنسان يحتاج لخليةٍ واحدةٍ سليمةٍ من خلايا العظام، فإنّ الخالق لا يحتاج لذلك، وسوف يجمع ما قد يظنّ الإنسان أنّه لا يُجمع. 

الآية الرابعة: 

(بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) (سورة القيامة: آية 4)

قال المفسرون عن لفظ (بنان) الذي جاء بالآية أنّه يعني الأصابع أو أطراف الأصابع، ومفردها (بنانة). وفي شرح سبب تسمية الأصابع أو أطراف الأصابع (بنانًا) يقول الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز أنها سُمّيت بذلك لأنّها تُمكّن الإنسان من بناء ما يقيم فيه.

لكنْ لي وجهة نظرٍ في هذا اللفظ، إذ يُشير اللفظ إلى حالة البناء تحديدًا، وأمّا تسمية الأصابع بالبنان فقد تكون تسميةً فرعيةً لما أورده الفيروز آبادي، ولكنْ بالنظر إلى السورة الكريمة التي ورد فيها اللفظ، والآية التي تسبقها، نرى علاقةً واضحةً بين جمع العظام ثمّ تسوية البنان، إذ يصبح البنان هنا إشارةً واضحةً لبناء شيءٍ من الإنسان. إذا كانت الآية التي تسبق هذه الآية تتحدّث عن جمع العظام، وهذه الآية تُشير إلى ما هو أدقّ، عن طريق استخدام لفظ (بنان)، فإنّنا نُرجّح أنّ لفظ (بنان) هنا يشير إلى الوحدات البنائية التي يتكوّن منها الإنسان، وليس أطراف الأصابع. 

 

من المعروف أنّ الوحدة التي يتكوّن منها الكائن الحيّ عامةً هي الخلية، وأنّ أبحاثًا علميةً تتحدّث عن إمكانية إعادة الحيوانات المنقرضة، بشرط سلامة الشريط الوراثي في الخلية. هذا يعني بصورةٍ ما أنّ سلامة الخلية أو على الأقل سلامة خليةٍ واحدةٍ هو شرطٌ أساسيٌ للتفكير في إمكانيّة إعادة المنقَرِض إلى الحياة. هذه الآية ذهبت أبعد من ذلك، وقالت إنّ إصلاح وتسوية البنان -وهي الوحدات البنائية للإنسان- هي المقصودة، في إشارةٍ إلى قدرةٍ تفوق استطاعة الإنسان، وتشير إلى ظروفٍ مختلفةٍ يوم القيامة. كأنّ الآية تخبر الإنسان الذي وصل إلى ذروة العلم بأنّه ما زال هناك كثيرٌ لا يعلمه، وأنّ يوم القيامة أشمل ممّا يظنّ ويعلم. 

الآية الخامسة: 

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) (سورة القيامة: آية 5). 

أغلب التفاسير أشارت في هذه الآية إلى أنّ الإنسان يُرِيدُ أن يَدُومَ عَلى فُجُورِهِ فِيما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الأوْقاتِ، وفِيما يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ الزَّمانِ، لا يَنْزِعُ عَنْهُ. ومن التفاسير من قال إنّ المقصود هنا هو الأمل، وأنّ الإنسان ما زال لديه أملٌ، ومنهم من قال إنّ معنى ذلك أنّ الإنسان يُكذّب بما أمامه من يوم الحساب. 

لا أذهب بعيدًا عما جاء في التفاسير، ولكن يمكنني إعادة صياغة التفسير بناءً على ما تقدًم. الفجور بصفةٍ عامةٍ هو نوعٌ من التمادي أو الانبثاق المتكرّر. انفجار النهر هو جريانه باستمرار وبسرعةٍ ما، وانفجار عين الماء يعني تدفّق الماء منها، والفجور في حقّ الإنسان هو تمادٍ في فعلٍ ما. 

الحديث في الآيات الكريمة يتعلّق بيوم القيامة، فيصبح هنا أنّ الإنسان يريد –بالفعل- أنْ يفجر أمامه، أي يتمادى فيما يفعل، وهو الأمل، وهذا الأمل إنْ دلّ على شيءٍ فإنّه يدلّ على أنّ الإنسان حتى يوم القيامة يعمل بجدٍ ونشاطٍ، ولديه كلّ يومٍ جديدٌ.

في ظلّ النتائج التي توصّلنا إليها من قبل، نجد أنّ هذه الآية تضيف لنا بعدًا جديدًا بأنّ حياة الإنسان حتى يوم القيامة حياةٌ متجدّدةٌ ومستمرّةٌ بتدفّقٍ لا مثيل له. بالتأكيد لا نتحدث هنا عن المفهوم التقليدي ليوم القيامة، بل نتحدّث عن المفهوم الجديد الذي سبقته الآخرة. هذه الآية تبعث برسالةٍ لأولئك الذين سوف يحيون في الآخرة، وربما تُساورهم الشكوك بأنّ بعد الوصول لذروة العلم سوف تصبح الحياة مملّةً ومكرّرةً ورتيبةً. هذه الآية تضع الخطوط الفاصلة في أمر الإنسان حتى يوم القيامة، فهو مستمرٌّ في الأمل، والأمل المتدفّق، وذلك من خلال دلالة لفظ (يفجر). 

مسألة الخلود لدى بعض الفلاسفة محيرةٌ، إذ إنها تبدو مملةً وليست ذات فائدةٍ، فالإنسان مهما كانت إمكانياته فإنّه بالتعوّد يملّ، وهذا في حياةٍ قصيرةٍ. فما بالكم بحياةٍ طويلةٍ جدًا يتوافر فيها كلّ شيءٍ؟

لقد ضربت حالاتُ الانتحار والأمراض النفسية بعضَ من توافرت لديهم جميع الإمكانيات، ولم يجدوا جديدًا لكي يفعلوه في حياتنا هذه. هذه الآية إنّما تُطمئن الناس بأنّ الأمل والرغبة في الاستمرار مستمرةٌ حتى يوم القيامة. ولو افترضنا أنّ الحياة الآخرة سوف تستغرق ملايين السنين التي سوف يعيشها الإنسان الصالح منعّمًا فإنّها حياةٌ يحدوها الأمل، وسوف يستمرّ الإنسان في تنفيذ إرادة الله في الآية، ولكن بعلمٍ أغزر واستطاعةٍ أكبر. 

من الآية السادسة وحتى الآية الثانية عشرة: 

)يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)) (سورة القيامة: آيات 6-12).

 

هذه الآيات تجيب عن أكثر الأسئلة غموضًا بشأن يوم القيامة. مَن يقول أنه لا سبيل لمعرفة يوم القيامة؟ لا أدري من أين لهم بذلك، وهنا في سورة القيامة نجد دلائل على ذلك. عندما يعطي القرآن تفاصيل فهو يمنحك معرفةً؛ فيجب أنْ تقتنص الفرصة وتبذل الجهد في استخلاص هذه المعرفة. 

بعد آية (يسأل أيان يوم القيامة) جاءت آية (فإذا برق البصر) لتشير إلى السرعة التي سوف يحدث بها الأمر. هناك فرقٌ بين السرعة والمفاجأة. (برق البصر) تشير إلى حالة السرعة التي سوف تتتابع فيها الأحداث وتتسارع وتيرتها. وأول هذه الأحداث هو خسف القمر، وكما أشرنا في الجزء الثاني من سلسلة كتب تلك الأسباب أنّ خسف القمر هو ابتلاعٌ كاملٌ أو اختفاءٌ كاملٌ، وليس مجرد حجب ضوء القمر كما نعتقد. آية (وجمع الشمس والقمر) تشير إلى تكملة الحدث، إذ إنّ خسف القمر هو غيابه وضياعه، واختفاءٌ يتبعه سقوطه في الشمس. 

عندما تعرّضنا لآية (اقتربت الساعة وانشق القمر) قلنا إنّ هذه الآية ربما تكون مؤشّرًا على بدء الحياة بصفةٍ عامةٍ على سطح الأرض، وها نحن نعود للقمر مرةً أخرى، وأهم مظهرٍ من مظاهر النهاية هو ابتلاع القمر داخل الشمس. ما بين انشقاقٍ وجمعٍ تتموضع الحياة، من الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وها هي تصل إلى يوم القيامة، وهو يومٌ تحدث فيه مباشرةٌ حقيقيةٌ لما حُقّق في ما سبق. 

تقول الحسابات العلمية إنّ القمر يبتعد عن الأرض كلّ عامٍ، بمعدل 3.75 سم تقريبًا، فإن سار القمر بهذا المعدل فهل يمكن أن ينفلت من مساره ويسقط في الشمس؟ لو سار القمر مبتعدًا عن الأرض بهذا المعدّل فهو يحتاج لما يقرب من 15 مليار سنةٍ لكي يترك مداره حول الأرض. أما الشمس فيُتوقّع لها أن تدخل مرحلة العملاق الأحمر بعد حوالي 6 إلى 7 مليار سنةٍ، وهذ المرحلة تخبو فيها جذوة الشمس، ويُتوقّع أن تبتلع الشمس فيها الكواكب الداخلية، والتي من ضمنها الأرض، وتابعها القمر بكلّ تأكيد. تبعًا لهذه الحسابات فإنّ الشمس سوف تبتلع الكواكب الداخلية بما فيها الأرض، قبل أن يترك القمر مداره حول الأرض.

هل من الممكن حدوث أمورٍ تُسبّب تسريع هذه العلمية أو إبطاءها؟

بكلّ تأكيدٍ، كلّ الاحتمالات قائمةٌ، وهذه الحسابات تقريبيّةٌ. ربّما عندما نستطيع فهم كلمات الله بصورةٍ سليمةٍ فسوف يكون لدينا إلمامٌ كاملٌ بما يحدث وسوف يحدث، ومن ثمّ يمكننا العمل بكلّ مثابرةٍ على جعل كلّ أمرٍ يسير بأمانٍ، أو نعمل على إيجاد بدائل. 

ألفاظٌ مثل (القارعة) و(الحاقة) و(الواقعة) ربّما تُغيّر كلّ الحسابات، وتعطينا ملامح المستقبل على الأرض كما يرويها القرآن. 

لا أزعم أنّي أملك إجاباتٍ لكلّ ما يدور في الذهن عند هذه اللحظة، ولكن ما أتوقّعه هو تكشّفٌ للأمور رويدًا رويدًا، مع سبر أغوار اللفظ القرآني بمزيدٍ من العمق المعرفي في المستقبل. 

على كلّ حالٍ يمكنني هنا أنْ اضع تصوّرًا عن الأحداث التي تسبق هذا اليوم من خلال النتائج التي توصّلت إليها، إذ يبدو أنّ الإنسان في وضعٍ مستقرٍّ نسبيًا، وقد يكون الإنسان قد غادر الأرض ليستعمر كواكب أخرى بالفعل، وهذا ليس معناه أنّه لم يعد على الأرض بشرٌ، بل أقصد أنّ التواجد البشري قد تمدّد إلى خارج الأرض. مثل كلّ الهجرات، تصبح المجتمعات الجديدة أكثر تقدّمًا وازدهارًا، والمجتمعات القديمة تركن قليلًا إلى ماضيها، ممّا يؤثّر على مسيرة تقدّمها. يبدو أنّ هذا السيناريو غير مستبعدٍ، وأنّ أهل الأرض قد يأخذهم الغرور بشكلٍ ما، أمّا البشر الذين استعمروا الكواكب الأخرى فهم في عملٍ مستمرٍّ. 

عند حدوث خللٍ ما، وسقوط القمر في الشمس، أو حتى تتابع سقوط الكواكب الداخلية، عندها يمكن أنْ يقول الإنسان: أين المفر؟ (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) (سورة القيامة: آية 10). يبدو الارتباك جليًّا؛ إذ تتسارع الأحداث بصورةٍ مثيرةٍ. عند هذه اللحظة نرى آية النفخ في الصور قد حضرت، وكأنها تُنقذ الموقف وتعلن عن يد الإله العليا.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68)) (سورة الزمر: آية 68). 

هذا النفخ يشبه عملية التخدير التي تسبق العملية الجراحية، وهو التأثير نفسه الذي أصاب نبي الله موسى عندما تجلّى ربه للجبل. إنّها نهاية مرحلةٍ سوف يرتقي فيها مَن يستحقّ إلى المرحلة التالية، وهي اليوم الآخر، أو الدورة الأخرى، في حين سيُعاقب أو يُعذّب من فشل ولا يستحقّ المرور. 

في النفخة الثانية سوف تبدو الحقيقة جليةً، ويُجمَع كلّ الناس دون استثناء، وتبدأ عملية المحاسبة. عند هذه النقطة لا أدري هل سينتقل الإنسان إلى مرحلةٍ أخرى ونظامٍ آخر، أم أنّ الأرض سوف ينتابها أمرٌ ما، وهل هذا الأمر مرتبطٌ بقول الله سبحانه: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (سورة إبراهيم: آية 48)؟

 كل ما يمكن استنتاجه هو كما قال الله (كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)). آية (لا وزر) هي بالنسبة لي من أكثر الآيات رجاءً في كتاب الله، عندما ندرك مدلول كلمة (وَزَر). 

(وَزَر) تعني الثقل أو الحمل الثقيل، ولكن لو تتبّعنا لفظ (وَزَر) في كتاب الله، فهو يعني كذلك حملًا ثقيلًا يدفع صاحبه في اتجاهٍ معيّنٍ. 

(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ وَإِن تَدۡعُ مُثۡقَلَةٌ إِلَىٰ حِمۡلِهَا لَا یُحۡمَلۡ مِنۡهُ شَیۡءࣱ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۤۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَیۡبِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا یَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِیرُ) (سورة فاطر: آية 18). 

من خلال فهم كلمة (وَزَر)، وفهم السياق الذي وردت فيه في سورة القيامة، وصورة أحداث النهاية وجمع الشمس والقمر، فإنّنا نستطيع القول إنّ آية (كلا لا وَزَر) تعني السقوط تحت تأثير الثّقل. الآية تصف حقيقةً تعجز عن وصفها أعتى القواميس من حيث قوة التعبير. الآية تقول للصالحين: لا سقوط تحت تأثير ثقل الذنوب، وكذلك لا سقوط تحت تأثير الجاذبية، والتي سوف يكون من نتائجها أن تبتلع الشمس القمر. 

إذا حدث انهيارٌ في النظام الشمسي فإن الشمس سوف تبتلع الأرض وما عليها تحت تأثير الجاذبية، وهذه الآية تقول: (كلا لا وزر) بمعنى أنّ النفخ في الصور سوف يسبق هذه اللحظة. 

الاطمئنان عاد مرةً أخرى مع قول الله (إلى ربك يومئذٍ المستقر). هل هناك اطمئنانٌ أكثر من قول (إلى ربك المستقر)، وهل الإنسان في حاجةٍ إلى أنْ يُنكر ربّه أو يصيبه الغرور بعد هذا الإعلان المدوّي. إنها ساعة الحقيقة، والانتقال للمهمّة التالية، والتي لا نعلم عنها حتى الآن شيئًا. وما أقصده هو (اليوم الآخر) وليس (الآخرة)؛ لأن التعبيرين مختلفان تمامًا، وما نملك عنه معلوماتٍ من خلال كتاب الله هو مفهوم الآخرة، أمّا (اليوم الآخر) فيحيطه الغموض، والإنسان مطالبٌ بالإيمان به. 

في السطور المتبقية سوف أمرّ سريعًا على بعض المفردات التي أشكلت على الناس، وجعلوها بمعنى يوم القيامة نفسه، ولكنْ بمدلولاتٍ مختلفةٍ.

 

مفردات لها دلالات مختلفةٌ عن يوم القيامة.

 

أولًا: الحاقة

 

جاء لفظ (الحاقة) في كتاب الله ثلاث مراتٍ، كلّها في سورة الحاقة، وعندما شرح المفسّرون اللفظ قالوا عنه أنه يوم القيامة، اعتمادًا على الأحداث التي جاءت في سورة الحاقة. لو تتبّعنا آيات السورة سنجد أنّها تذكر أحداثًا حدثت في الماضي، مثل القارعة التي أصابت قوم عادٍ وثمود، وما أصاب فرعون وقومه، وكذلك ذكرت أحداثًا مستقبليةً. المشترك بين هذه الأحداث هو وقوعها على وجه الحقيقة، ولفظ (الحاقة) ذاته يشير إلى ذلك، وهو تحقّق الشيء، أي -كما ذكرنا- وقوع الأمر على حقيقته. (الحاقة) ذاتها لا تعني يوم القيامة تحديدًا، ولم يأتِ ذكر (يوم القيامة) في السورة أبدًا.

ابتدأت السورة بذكر (القارعة)، وقد فسّر المفسّرون (القارعة) على أنّها يوم القيامة أيضًا، لكنّ لفظ (القارعة) ليس شرطًا أن يكون يوم القيامة، بل هو حدثٌ عظيمٌ حدث في الماضي، وسوف يحدث في المستقبل.

أمّا القارعة التي كانت في الماضي فقد أخبر عنها القرآن من خلال الآيات التالية: 

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8)) (سورة الحاقة: آيات 4-8). 

القارعة ليست يوم القيامة؛ لأن الآيات تحكي قصةً مكتملةً، من مقدماتٍ ونتائج، أما المقدمات (كذبت ثمود وعاد القارعة)، ولكي يُكذّبوا بها فلا بدّ أنْ يكون هناك نذيرٌ قد أنذرهم مِن هذه الحادثة. ما حدث بعد ذلك متعلّقٌ بالقارعة، بل ما حدث تحديدًا هو نتائج القارعة. قد يقول أحدهم إنّ تكذيبهم بيوم القيامة هو ما أدّى إلى ذلك. 

القرآن لا يتعامل مع الأحداث هكذا، إنما يُعطي معلوماتٍ ويستخدم مفرداتٍ تُخبر الإنسان عن حقائق تحقّقت، وليس الأمر مجرّد مبارزةٍ لفظيةٍ. 

لفظ (قرع) ذاته يشير إلى عملية اصطدامٍ ضخمةٍ. ويُفهم ممّا قصّه القرآن أنّ أنبياءهم قد أنذروهم من هذا الأمر، ولكنّهم كذّبوا واستكبروا، فكان ما كان من أمر القارعة. نتائج القارعة كما جاء في الآيات هي هلاك ثمود بما يُسمى (الطاغية)، وهلاك عادٍ بريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ. كلٌّ من الطاغية والريح الصرصر العاتية جاء ذكرهما في موضعٍ آخر في القرآن بوصف (صاعقة). 

(فَإِنۡ أَعۡرَضُوا۟ فَقُلۡ أَنذَرۡتُكُمۡ صَـٰعِقَةࣰ مِّثۡلَ صَـٰعِقَةِ عَادࣲ وَثَمُودَ) (سورة فصلت: آية 13). 

(الصاعقة) كما بيّنا في الجزء الثاني من كتاب تلك الأسباب ما هي إلّا صوتٌ شديدٌ، وهي السبب المباشر في هلاك القوم. من خلال مدلول (القارعة) ومدلول (الصاعقة) ثم لفظ (الطاغية) وتعبير (ريح صرصر عاتية) نستطيع استنتاج أنّ القارعة ما هي إلا حدثٌ بيئيٌّ عظيمٌ، مثل ارتطامٍ شديدٍ تسبّب في تغيّراتٍ مناخيةٍ عاتيةٍ، كان من نتيجتها هلاك ثمود وهلاك عاد. 

هذا الاستنتاج له ما يقوّيه عندما نستعرض سورة القارعة ذاتها، وبالتحديد مقدّمة السورة التي تحكي قصة القارعة.

 

ثانيًا: القارعة 

 

(الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ(5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (10) (سورة القارعة).

سورة القارعة تحكي قصة حدثٍ سوف يحدث في المستقبل لا محالة، وهو حدثٌ مرتبطٌ بالتغيّرات البيئية كما هو واضحٌ من سورة الحاقة، وكما هو واضحٌ من الأحداث التي سوف تُصاحب القارعة. 

سوف يكون الناس كالفراش المبثوث، بمعنى انعدام الوزن تقريبًا، وهو حدثٌ مرتبطٌ بالجاذبية. وتكون الجبال كالعهن المنفوش، والعهن المنفوش هو تصويرٌ لحالةٍ من انخفاض الكثافة، مثل اللبن المخفوق، وهذا أيضًا من تأثير نقص الجاذبية. يبدو واضحًا أنّ القارعة سوف تتكرّر في المستقبل، وأنها حدثٌ عظيمٌ للغاية، ولعلّ إخبار القرآن بها هو إعلانٌ من رب العالمين عن أنّ هذا الكلام كلامه، وعلى الناس اتخاذ احتياطاتهم. 

عندما قال القرآن (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) (سورة القارعة: آية 6-7). حمل المفسّر ثقل الموازين على المجاز، وأنّها تعني ثقل ميزان الأعمال الصالحة. سياق الآيات لا يُؤيّد ذلك، بل يُشير إلى حالةٍ حقيقيةٍ، إذ تضرب قارعةٌ بقوةٍ ويتطاير الناس كالفراش المبثوث، وتقلّ كثافة الجبال بشكلٍ كبيرٍ جدًا، فمن المنطقيّ أن يكون العلاج، أو محاولة التغلّب على المشكلة قدر المستطاع، من خلال الأثقال.

 

الإشارة في السورة تؤكّد هذا المعنى؛ إذ تُصوّر السورة الناس خفيفة الوزن تتطاير مثل الفراش المبثوث، في حين أنّ الجبال ثقيلة الوزن قد حدث لها خلخلةٌ ونقص كثافةٍ. السورة تخبر الإنسان بعمل أثقالٍ ضخمةٍ تحفظه من التطاير إذا حدثت القارعة. هذه السورة إرشادٌ من الله للناس بما سوف يحدث، وما سوف ينجّيهم إن هم قرؤوا وفهموا كلمات الله. 

لدينا دليلٌ إضافيٌّ على أنّ هذه الأحداث سوف تحدث في هذه الحياة، وهو قول الله: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)) (سورة القارعة: آيات 6-9). العيشة الهنية هي عيشة الدنيا، والتي ذكرها ربّنا في أكثر من موضعٍ في كتابه، والآية تشير إلى اتصال الأحداث، فليس هناك حسابٌ أو حكمٌ أو فصلٌ. بل هناك قارعةٌ تضرب، وأناس احتاطت فنجت، فهم في عيشةٍ هنيةٍ، هذا كلّ ما في الأمر. لفظ (معيشة) كذلك يصف المعيشة في حياتنا العادية وليس بعد يوم القيامة. 

(وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ) (سورة طه: آية 124). 

السورة تخبرنا أنّ تثقيل الموازين سوف يتسبّب بشكلٍ مباشر في العيشة الهنية، أمّا إذا خفّت موازين الإنسان فأمّه هاوية، وهذا يعني أنّ أصله متأرجحٌ، وهذا التأرجح يتسبّب في هلاكه من خلال نارٍ حاميةٍ. 

التعبير القرآني (نار حامية) يصف شيئًا في هذه الأثناء مصاحبًا لما حدث، وأنّ تطاير الناس سوف يتسبّب في أن يقعوا في نار حاميةٍ، والتي قد تكون حرائق أو براكين أو أيّ شيءٍ من هذا القبيل. لكن تخيّل لو حدث أمرٌ أدّى إلى تطاير الناس في الهواء، فلا شكّ أنّهم معرّضون لكلّ الاحتمالات، أمّا الذي احتمى من القارعة فهو آمنٌ. 

عندما تناولتُ فصل التنّور في الجزء الثاني من سلسلة تلك الأسباب، وذكرت أنّ التنّور هو وصفٌ للبركان الثائر، لفت نظري أحدهم إلى قول الله تعالى عندما ذكر قوم نوح وغرقهم، وعملية فوران التنور: (مِّمَّا خَطِیۤـَٔـٰتِهِمۡ أُغۡرِقُوا۟ فَأُدۡخِلُوا۟ نَارࣰا فَلَمۡ یَجِدُوا۟ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارࣰا) (سورة نوح: آية 25). 

هذه السرعة العجيبة تشير بالفعل وتؤكد أنّ التنّور هو بركانٌ ثائرٌ؛ إذ إنّ احتمال انجراف الناس إلى البركان أمرٌ واردٌ بقوةٍ، ولعلّ السرعة التي عبّر عنها القرآن في هذا الحدث كانت تشير إلى ذلك. 

 

لنضع تصوّرًا مختصرًا لما أخبرتْنا به السورة، تبعًا لما قرأناه: 

سوف يحدث أمرٌ عظيمٌ في المستقبل، وهو القارعة أو ارتطامٌ عظيم بالأرض، سوف يتسبّب في خللٍ كبيرٍ جدًا، ونتائجُ هذا الخلل هي انخفاضُ الجاذبية، وقد يكون هذا الانخفاض لمدةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ كنتيجةٍ للحظة الاصطدام. النجاة من هذا الاصطدام تكون عن طريق صنع أثقالٍ ضخمةٍ يمكن أن تحفظ الإنسان من التطاير نتيجة هذه الاصطدام. 

هذه الأثقال قد تكون من موادٍ تقاوم عملية الخلخلة ذاتها، أو عن طريق تقنياتٍ عمليةٍ حديثةٍ، على نحوٍ لا تتأثر بما سوف يحدث. لا شك أن القارعة حدثٌ وقتيٌّ، وأنّ أعظم تأثيرٍ لها يكون في بدايتها ،ثم يختفي التأثير تدريجيًا حتى تعود الأمور إلى نصابها. المطلوب من الإنسان هو امتصاص الصدمة والاستعداد الجيد لهذا الحدث. 

لا شك أنّ التغيّرات العظيمة قد يصاحبها تطوراتٌ كثيرةٌ، مثل الزلازل والفيضانات والحرائق أو البراكين؛ لذلك مَن لا يأخذ احتياطاته من الناس فسوف يتعرّض لمخاطر جمةٍ. 

 بعد القارعة وهي الحدث الأكبر أو قل الاصطدام الأكبر تأتي الواقعة. تبدو لي الواقعة أنّها الفاصل بين الحياة الدنيا والآخرة. قد يكون أمر القارعة نتيجةً مباشرةً لقيام الساعة، وهو تطبيق العلم الذي حصل عليه الإنسان بغزارةٍ. لا أستبعد أّنّ تجارب الإنسان، والعبث بالمجالات الكهرومغناطيسية للأرض، قد يتسبّب في حدوث أمرٍ عظيمٍ. 

تطالعنا اليوم بعض المعلومات عن دعوة بعضهم لتفجير القمر وتدميره، بدعوى أّنّ تدميره سوف يؤدّي لاعتدال مناخ الأرض. هل القارعة حدثٌ طبيعيٌ أم أنّها حدثٌ قد يتسبّب فيه الإنسان؟ هذا ما لا أستطيع الجزم به. ولعلها حدثٌ ينقل الإنسان من طور التهوّر إلى طور العقل والعمل تحت المظلة الإلهية، بدلَا من الشرود أو ظنّ الغرور. 

يبدو أنّ إدراك الناس لوقوع الحقائق سيجري بمثل هذه الوقائع، والواقعة كذلك هي وصفٌ تكميليٌ لما سوف يحدث نتيجة القارعة. 

 

ثالثًا: الواقعة

 

لقد جاء ذكر (الواقعة) في سورة الحاقة كذلك، وهذا معناه أنّ تحقّق وقوعها وأحداثها مشابهةٌ تمامًا لأحداث القارعة، إلا أنّها تُعطي مزيدًا من المعلومات عن هذه الأحداث. 

لنحاول في البداية فهم الواقعة من خلال سورة الحاقة، وسوف نستعين بسورة الواقعة ذاتها لفهم الأحداث؛ لأنّ هذه الأحداث خطيرةٌ لدرجة لا يمكن تخيّلها. هذا التحذير والوصف التفصيليّ هو وصفٌ تحذيريٌّ للإنسان، ولو أنّ الأمر سيحدث يوم القيامة لما وجدنا كلّ هذا التفصيل والألفاظ الدقيقة لما سوف يحدث، بل توجيه النصح والإرشاد بكلّ هذه الكثافة. لقد رأينا سورةً كاملةً ليوم القيامة مرّت هادئةً ليس فيها كلّ هذا القدر من الأحداث، فكيف لسورةٍ اسمها القيامة أن تمرّ هكذا دون الالتفات للوقائع الجسام التي سوف تحدث؟

إنّما سورة الحاقة، والتي تعني تحقُّق وقوع الأشياء، والقارعة التي أشارت إلى أمثلةٍ سابقةٍ، ثمّ الواقعة وتفصيلاتها، هي جرس إنذارٍ لقلوبٍ واعيةٍ وآذانٍ مصغيةٍ، كما ذكرت ذلك سورة الحاقة ذاتها:

(لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (سورة الحاقة: آية 12). لقد جاءت هذه الآية بعد ذكر القارعة وتأثيرها، وما حل بفرعون وقومه، ثمّ ذكرت الآية أنّها تذكرةٌ وتعيها أذنٌ واعيةٌ. لا شكّ أنّ المعنى القريب هو التذكير بيوم القيامة وما سوف يحدث للإنسان، لكي يعمل صالحًا ويستقيم. لكنّ الأمر الأبعد هو أنها تحذيراتٌ شديدة اللهجة بشأن أحداثٍ عظامٍ سوف تحدث لا محالة، أو سوف تتحقّق لا مفرّ منها، وهذه هي دلالة اسم السورة ذاته. 

لنتناول الآيات التي فصّلت الواقعة وما بعدها حتى تكتمل الصورة:

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ) (الحاقة: الآيات 13-37).

 

الآية الأولى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) (سورة الحاقة: آية 13)

قد يتبادر إلى الذهن أنّ الواقعة هي يوم القيامة؛ لأنّ الآية تذكر النفخ في الصور، وهو النفخ المصاحب ليوم القيامة. لكنّ هذه الآية تؤكّد ما ذهبنا إليه من أنّ الواقعة ليست يوم القيامة، بل هي حدثٌ دنيويٌّ؛ لأنّ الآية قالت وبصراحةٍ: (فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدةٌ). ولا بدّ أن نقف كثيرًا أمام لفظ (واحدة)؛ لأنها تختلف تمامًا عن النفخ في الصور الخاصّ بيوم القيامة، إذ هما نفختان متتاليتان. 

(وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَاۤءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِیَامࣱ یَنظُرُونَ) (سورة الزمر: آية 68). 

التأكيد في سورة الحاقة على أنّ النفخ في الصور الذي يُصاحب الواقعة هو نفخةٌ واحدةٌ كأنما يرفع التنبيه أمام المتدبّر، ليُلاحظ الفرق بين النفخة الواحدة و النفختين يوم القيامة. 

الآية الثانية وحتى الرابعة: (وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَة (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)) (سورة الحاقة: آيات 14- 16).

هذه الآيات تحكي قصة اضطراباتٍ عظيمةٍ، وهي لا شكّ نتيجةٌ لما سبق من قرع القارعة. يبدو الأمر عظيمًا للدرجة التي جاء الحديث عنه في أكثر من موضعٍ، بل إنّ ثلاث سورٍ كاملةً تُشير إلى هذا الأمر، وهي سورة الحاقة التي نحن بصددها، وسورة القارعة التي سبق وتناولناها، وسورة الواقعة كذلك. 

حمل الأرض وانهيار الجبال وانشقاق السماء واضطرابها على نحوٍ تكون واهيةً ما هي إلا مؤشّراتٌ على الاضطراب البيئيّ أو الاصطدام الشديد، حدثُ القارعة نفسه وتوابعه، وكلّ هذه الأحداث مرتبطةٌ ببعضها بعضًا، ولكنّها ليست يوم القيامة، بل هي أحداثٌ عظيمةٌ على سطح الأرض، سوف ينجو منها مَن سوف ينتبه لها قبل وقوعها، ومن ثمّ يحتاط لها. أمّا يوم القيامة فلم يحدث فيه من الأحداث العظيمة -تبعًا لسورة القيامة- سوى جمع الشمس والقمر، وهو لا شكّ حدثٌ عظيمٌ، ولكنّ سورة القيامة لم تُشر إلى مثل هذه الأحداث على الأرض. 

لقد أشار القرآن إلى أنّ مَن ينجو من القارعة التي سوف تضرب الأرض سوف يصبح في عيشةٍ راضيةٍ، وهذا خلاف يوم القيامة واليوم الآخر، اللذَين لم يُستخدم معهما لفظ (عيشة). لفظ (عيشة) يشير إلى معايش في الحياة التي نعيشها. وقد اشتركت القارعة والواقعة في أنّ النجاة منهما سوف تمنح الناجين عيشةً راضيةً (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) (سورة القارعة: آية 21). 

في الفصل التالي سوف نتعرّض لسورة الواقعة، ونُعطي مجموعةً من الأدلة على أنّها ليست يوم القيامة، كما سنتطرّق إلى إشارةٍ هامةٍ جدًا إلى إحياء الموتى ، وكيف يستطيع الإنسان ذلك. سوف تتضح الصورة مع كلّ آية، ويتأكّد المعنى بصورةٍ لم يسبق لها مثيلٌ عندما نستمرّ بالقراءة. 

الآية الخامسة: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (سورة الحاقة: آية 17). 

هذه الآية عجيبةٌ؛ إذ إنها جاءت في خضمّ الحديث عن اضطراباتٍ غير عاديةٍ تحدث للأرض، ولو حاولنا فهم مدلول اللفظ (ثمانية) من خلال هذا الاضطراب وماذا يُفيد، فسوف يفتح لنا آفاقًا جديدةً تمامًا.

 

(العرش) هو إشارة التحكم والسيطرة، وهو القوّة المنظورة وغير المنظورة التي تنظّم الأشياء. من خلال كتاب الله، نعلم جيدًا أنّ النظام السائد الذي يحيط بنا هو النظام السباعي. السموات سبع، ومراحل التطور سبع، كما شُرحت في كتاب قولًا ثقيلًا، وحتى تركيب الذرة الذي يشمل مستويات الطاقة أيضًا سبعٌ في المجمل، وكذلك السبع المثاني (وهي العمق المعرفي كما جاء في كتاب قولًا ثقيلًا). النظام المستقرّ هو النظام السباعيّ، وفرضية وجود نظامٍ ثماني غير قائمةٍ حاليًا، ولأنه نظامٌ غير مستقرٍّ فهو غير موجودٍ من الأساس. لعلّ الآية تُشير إلى تحوّل النظام السباعي إلى نظام ثُمانيّ نتيجة ما حدث للأرض.

عندما يقول ربنا (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية)، ودلالة لفظ (ثمانية) ذاته، وأصله (ثمن) المتقارب مع لفظ (سمن) وهو الزيادة، فإنّنا نرى لفظ (ثمانية) يشير إلى حالةٍ تُشبه التّضخم. لو افترضنا أنّ النظام السُباعيّ الذي يحكم كلّ المكونات قد تحوّل نتيجة هذه الاضطرابات الشديدة إلى نظامٍ ثُمانيّ فنحن أمام تضاعفٍ غير مسبوقٍ في شتى النواحي. تضاعفٍ في المعرفة، وتضاعف في الإمكانيات، وتمدّدٍ وتوسّعٍ لا مثيل له، وبالتالي تطبيقاتٍ لا حدود لها، ولا نستطيع حاليًا تخيّلها. هل لهذا التغيير آثار على الحياة وقتها؟ لا شك أنّ تأثيره لا يمكن تخيّله ولا يمكن توقّعه، ولعلّ هذا الأمر هو ما سوف يفتح آفاقًا معرفيةً لا حدود لها أمام الإنسان، ويستطيع من خلالها أن يعيش حياة الآخرة بصورةٍ لا تمتّ بصلةٍ لما عاشه في النظام السباعي. 

لديّ يقينٌ أنّ هذه الآية تحتاج لتفرغٍ كاملٍ لفهم دلالتها، لكنّنا لن نقف هنا كثيرًا، فيطول بنا المقام ويتفلّت منّا الحديث، ولكن إنْ كان هناك فرصةُ فسوف نعود مرةً أخرى لهذه الآية، ونحاول تدقيق دلالة ألفاظها من جديد. الآية التالية تُشير إلى معلوماتٍ تصبّ في اتجاه تكوّن نظامٍ جديدٍ ذي بعدٍ معرفيٍّ أكثر عمقًا.

الآية السادسة: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (سورة الحاقة: آية 18)

ما معنى (تُعرضون لا تخفى منكم خافية)؟ (تعرضون) أيْ تظهرون وتتواجدون، ويصبح كلّ أمرٍ ظاهرًا، وكلّ شيءٍ قد تمّ حلّ شفرته. لو نظرنا بصورةٍ علميّةٍ إلى مسار العلم حاليًا واتجاهه إلى رسم شجرةٍ وراثيةٍ، ومحاولته فهم العمليات الحيوية وعلاقتها ببعضها، فسوف ندرك معنى هذه الآية. هذه الآية إشارةٌ إلى انكشاف كلّ شيءٍ، وأنْ يصبح الإنسان والحياة كتابًا مفتوحًا وواضحًا بشكلٍ لا يقبل الشك. هذا التقدم لا شكّ سوف يجعل الإنسان أكثر استطاعةً، وسوف يمنحه دفعةً صاروخيةً في كلّ الاتجاهات. الآيات التالية أعطتنا ملامح عن هذه المكاشفات، والأشياء الخفية التي لم تَعُد خفيةً. 

الآية السابعة وحتى السابعة عشرة: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)) (سورة الحاقة: آيات 19 - 29). 

لا شكّ أنّ التفسيرات التقليدية لهذه الآيات، وفي ظلّ غياب المعرفة، جعلت منها صورةً تجسيديةً ليوم القيامة. تعبيرٌ مثل (أوتي كتابه بيمينه أو بشماله) يُصوّر للإنسان أنّ هناك مَن يُعطي لهذا الإنسان كتابًا مجسّدًا يقرؤه. 

رغم أنّ لفظ (الكتاب) لم يُشر في القرآن إلى هذه الصورة التجسيدية، وأنّ الصورة التجسيدية للكتاب المقروء هي أقرب للفظ (سِجلّ) وليس للفظ (كتاب). لفظ (كتاب) يُشير كما جاء في أكثر من موضعٍ إلى أنّه مجموعةٌ من الموضوعات المتعلّقة بموضوع الكتاب. ولا شكّ أنّ تصرّفات الإنسان مسجّلةٌ ولا غرابة في ذلك؛ فنحن الآن نعرف أنّ كلّ صفات الإنسان وتاريخ شجرته الوراثية محفورٌ على شريطه الوراثي.

 

 ما المانع مع تطوّر الزمن أن يكتشف العلم الطريقة التي تُسجّل بها كلّ تصرّفات الإنسان؟ والتي أعتقد بشدةٍ أنّها مسجّلةٌ على الأنفاس التي يتنفّسها، والتي هي (النفس)، كما بيّنّا في الفصل الثالث من هذا الكتاب. ليس مستبعدًا أبدًا، بل إنّ خطوةً مثل هذه سوف تُوفّر جهدًا ووقتًا لا مثيل له في اكتشاف الجرائم، وفهم شخصية البشر بصورةٍ سليمةٍ وحقيقيّةٍ. 

إذا كنّا نتحدّث عن إعادة إحياء الإنسان، واستطاعته خلق الحياة بشكلٍ ما، فلا بدّ أنْ يسبق هذا كلّه فحصٌ وتحليلٌ جينيٌّ دقيقٌ للغاية، وتراكمٌ معلوماتيٌّ لا مثيل له، لا نستطيع التنبّؤ به بصورةٍ كاملة. 

العجيب في الآيات التي تحدّثت عن إيتاء الكتاب أنها لم تنسب ذلك إلى الملائكة، ولا إلى الله نفسه، وجميع آيات العذاب التي جاءت بصيغة الأمر لا يمكن لأحدٍ الجزم أنّها موجهّةٌ للملائكة مثلًا. 

إنّه لأمرٌ عجيبٌ؛ إذ إنّ القرآن موجّهٌ للإنسان، وعندما يأتي الحديث عن الملائكة يأتي بصيغة الخبر أو نقل الحديث، وجميع الأوامر التي جاءت بصيغة الأمر لا يمكن تأويلها على أنّ المخاطب هم الملائكة، ولكنّ التأويل المستقيم هو أنّ المخاطب هو الإنسان. القرآن خطابٌ موجّهٌ للإنسان، ويجب أن يُفهم كذلك. والآيات التالية التي جاء فيها الأمر بعقاب المجرمين توضّح ذلك.

الآية الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ (37)) (سورة الحاقة: آيات 30-37). 

مَن المخاطب هنا بقول الله: (خذوه فغُلّوه)؟

تقول التفاسير التقليدية إنهم الملائكة. الحقيقة أنّ الملائكة ليسوا مخاطبين بالقرآن، وإنّما الإنسان، وهذا هو منهج القرآن في كلّ آياته. عندما يقول الله عن عقاب الزنا (فاجلدوا) فهو يخاطب الصالحين في الحياة الدنيا ويأمرهم بإقامة العقاب. وعندما يقول (خذوه فغلّوه) فهو يخاطب عباده الصالحين الذين وعدهم بميراث الأرض في الآخرة، ويأمرهم أن يقيموا العدل، ويعاقِبوا مَن يستحقّ العقاب، ويُكرّموا مَن يستحقّ التكريم. 

 

سوف يصبح كلّ شيءٍ في المتناول، على نحوٍ يصبح تقرير المذنب من غير المذنب والمجرم من البريء أمرًا سهلًا. وسوف يستطيع الإنسان بأمر الله إقامة كلمة الله بين الناس. هذا ما تذهب إليه الآيات، وهذا ما يجعل الآيات متّسقةً ومتّصلةً بعضها ببعض. الله يأمر الصالح في هذه المرحلة بعقاب الضالين، وسوف يكون العقاب قائمًا على أُسسٍ عادلةٍ، وليس العقاب كاليوم يحتاج لأدلةٍ يمكن تزويرها، وشهودٍ يمكن أن يكذبوا. تسير الآيات كلها في اتجاه الوصول إلى نسخةٍ من الإنسان تُسجَّل فيها كلّ أفعاله بصورةٍ حقيقيةٍ، ولا وجود لفرصةٍ للتزوير أو الخداع. 

التعبيرات القرآنية التي جاءت في خضم الآيات عن انتفاء وجود (حميمٍ) لهؤلاء المجرمين، هو تقريرٌ لانتفاء مبدأ التوصية والتزكية السائد في كثيرٍ من المجتمعات. (طعامٌ من غسلين) يشير إلى أنّ هؤلاء المجرمين سوف يأكلون، وسوف يعيشون حياةً، ولكنها حياة العقاب التي استحقّوها. (ليس لهم طعامٌ إلا من غسلين) يؤيّد أنّهم في شكلٍ من أشكال الحياة، وإنْ كانت تعيسةً، ولكنّها في كل الأحوال ليست كما تُصوّرها التفسيرات التقليدية، من أنّها نارٌ مشتعلةٌ وسلاسل وحيّاتٌ وعقاربٌ. الجحيم يختلف عن جهنّم، ويختلف عن عذاب الحريق، وسوف نتناول هذه التعبيرات في فصل الجنة. 

لفت نظري في الجزء المتبقي من سورة الحاقة أمران في غاية الأهمية، الأمر الأول: هو التأكيد على أنّ هذا الحديث حقيقةٌ واقعةٌ، وأنّه حقّ اليقين، وهو خلاف الإيمان. اليوم الآخر جاء دائمًا مشمولًا بالإيمان، أمّا كلّ هذه الأحداث فيقول عنها ربّنا إنها حقّ اليقين. اليقين هو التحقّق من الشيء قبل يوم الحساب. هناك فروقٌ في المعاني لا بدّ من أخذها في الحسبان عند فهم مدلول (اليوم الآخر) وأحداث ما قبل اليوم الآخر، وهي (الآخرة) التي نتحدّث عنها، ومن أهم هذه الدلالات استخدام الإيمان مع اليوم الآخر واستخدام اليقين مع الآخرة أو مرحلة ما قبل القيامة. 

(فَلَآ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) (سورة الحاقة: آيات 38-52). 

الأمر الثاني: خُتمت الآيات بآيةٍ فريدةٍ من نوعها، وهي (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، وهذا التعبير العظيم لم يرد في كتاب الله سوى ثلاث مراتٍ، مرّتان في سورة الواقعة، وهذه المرة في سورة الحاقة، والسورتان كلاهما يحكي عن أحداثٍ عظيمةٍ تضرب الأرض. وسوف نتناول هذا التعبير في الفصل القادم الخاصّ بسورة الواقعة؛ لأنّه تعبيرٌ يتكامل وينسجم مع قول الله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (سورة الحاقة: آية 17). 

 

ملخص الفصل

  • يوم القيامة يوم خلّيٌّ من الأحداث التي صوّرها التقليديون، بل هو يومٌ -كما جاء في القرآن- نهاية مرحلة الحياة الدنيا والآخرة، والانتقال إلى دورةٍ جديدةٍ هي اليوم الآخر. 
  • الحاقة تعني ما سوف يتحقّق، والقارعة والواقعة في سورة الحاقة تعبيراتٌ تتحدّث عن أحداثٍ سوف تتعرض لها الأرض، وليست يوم القيامة.
  •  لعلّ هذه الأحداث هي الفيصل بين حياتنا الدنيا والحياة الآخرة، ولكنّ الحياة مستمرّةٌ على الأرض لمن ينجو من هذه الأحداث. 
  • مدلول التعبير القرآني (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) يشير إلى تغيّر النظام السباعي الذي نعيش فيه إلى نظام ثُماني؛ ممّا يعني تغيّرًا كاملًا في سعة كلّ شيءٍ، وفي المعارف والتطبيقات. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة