الفصل الثالث - الرّوح

 

الفصل الثالث


 الرّوح 

 

قبل أن نوضّح علاقة (صاحبكم) المذكور في سورة النجم بالروح، سوف نبحر في مفهوم (الروح) نفسه لبيان دلالة هذا اللفظ وماهيته، تبعًا لما بين أيدينا من آياتٍ وألفاظٍ ومعلوماتٍ علميةٍ. 

إنّ فهم الرّوح بشكل يمكن قياسه سيُغير نظرة الإنسان للعلم، بل ويمكن أن يفسح المجال لأمورٍ لا تخطر على بالٍ، مثل قدرة الإنسان على إحياء الموتى، وحتى القدرة على خلق حياةٍ في الجوامد، كما فعل نبيّ الله عيسى. 

من أكثر الألفاظ غموضًا في القرآن على الإطلاق هو لفظ (الرّوح)، وهذا الغموض ليس إلا بسبب فهمٍ مُغايرٍ لآيةٍ قرآنيّةٍ، تحمل إجابةً في حقيقتها، لكنّ المفسّر جعلها تحمل نفي الإجابة، وهي (يسألونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربي).

 

ظنّ المفسّر أنّ السّؤال عن الرّوح بعد هذه الآية سؤالٌ ليس في محلّه؛ لأنها من العلم الذي اختصّ الله به نفسه، وقد جعل الإجابة في قوله سبحانه (قل الرّوح من أمر ربي) وكأنّها نهيٌ عن البحث خلف مفهوم الرّوح. وهكذا أقفل الباب تمامًا، وأصبح السؤال عن الرّوح من دون أدنى فائدةٍ.

بدراسة مدلول الكلمة ذاتها، وفهم (أمر الله) الذي أخبر عنه ربّنا بأنّ الرّوح من أمره، سنقف على مفهوم الرّوح ومعناها، بطريقةٍ مباشرةٍ دون أيّ غموضٍ.

 

هل تدري لماذا مفهوم الرّوح غامضٌ لهذه الدّرجة؟

لأنّ جُلّ المعارف التي نملكها عن الرّوح تعود لآلاف السّنين، وقد وجدت طريقها إلى فهم النّصّ القرآنيّ من خلال تفسير المفسّر، الذي نقل المعرفة كما هي من التّراث البشريّ القديم، في العهد القديم أو الجديد. 

لدينا اليوم منهجٌ ومفاتيح يمكن من خلالها فهم الرّوح، بل والوصول إلى أسرارٍ عظيمةٍ من خلال تتبّع اللّفظ القرآنيّ فقط. وقد تناولتُ مفهوم الرّوح بسطحيّةٍ في بعض فصول الكتب السّابقة، ولكنّ المفهوم قد اكتمل اليوم، وأصبح شديد الوضوح. 

 

لماذا سُمّي الرّوح روحًا؟

إن كان الرّوح بهذا الغموض، لماذا لم يطلق عليه القرآن لفظًا لا مثيل له، ولا يمكن للإنسان الوصول إليه، كلفظ الجلالة، والذي مهما حاولتَ فهم مدلوله تجده أشمل وأعمّ ممّا ذهبت إليه. لماذا لم يُسمّه (شيئًا)؛ فلفظ (شيء) ينطبق على قاعدةٍ كبيرةٍ جدًا من المسمّيات، بل إنّ كلّ ما يُحيط بنا يُمكن أن يُسمّى شيئًا، وبذلك لا نستطيع تحديده. لماذا سمّاه (روحًا)، وهذا اللفظ له جذرٌ واضحٌ، وله دلالةٌ واضحةٌ لا يُخطئ بها لبيب؟

 

لماذا استسلم الشّرّاح لتصوّرات الآخرين عن الرّوح والنفس، ولديهم هذا الكنز المعرفيّ الذي لا مثيل له، والذي قال عنه مُنزله أنّه تفصيل كلّ شيءٍ، وأنّه يحمل مفاتيح فهمه داخله؟ 

 

فهم مدلول لفظ (الرّوح) سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام نقلةٍ علميّةٍ ومعرفيّةٍ لا مثيل لها، وذلك إذا انتبه العلماء لهذا المدلول، وانصرف عنه المتطفّلون وأصحاب (ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة). 

 

مدلول لفظ الرّوح 

جذر كلمة (روح) كما جاء في قاموس اللغة، يدُلُّ عَلَى سَعَةٍ وَفُسْحَةٍ وَاطِّرَادٍ. وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ الرِّيحُ. لذلك حتى نفهم الرّوح يلزمنا فهم (الرّيح) التي هي من الجذر نفسه، والرّيح كما جاء في القرآن هي الهواء بلغتنا المعاصرة. 

(مَثَلُ مَا یُنفِقُونَ فِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَثَلِ رِیح فِیهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٍ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ) (سورة آل عمران: آية 117)

(هُوَ ٱلَّذِی یُسَیِّرُكُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا كُنتُمۡ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَیۡنَ بِهِم بِرِیحٍ طَیِّبَةٍ وَفَرِحُوا۟ بِهَا جَاۤءَتۡهَا رِیحٌ عَاصِفٌ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُمۡ أُحِیطَ بِهِمۡ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ لَىِٕنۡ أَنجَیۡتَنَا مِنۡ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ) (سورة يونس: آية 22). 

الرّيح هي الهواء الذي يملأ كلّ شيءٍ حولنا، ويمكن أن تتغيّر سرعته؛ نتيجة بعض التّغيّرات في الضّغط والحرارة، فيصبح ريحًا عاصفةً أو ريحًا خفيفةً، ولكنْها في النّهاية كتلةٌ من الهواء. 

قبل قرنين من الزمن لم تكن هناك أيّ معرفةٍ بتركيب الهواء ولا بتأثيره؛ ولذلك لا يمكن لأحدٍ مهما كان أنْ يعتقد أنّ الرّوح هي الهواء؛ لأنّه يُعدّ اعتقادًا فلسفيًا أكثر منه علميًا، فهو لن يُفسّر لماذا يمكن أن يكون الهواء أو جزءٌ منه هو الرّوح. لكنْ مع تقدّم المعرفة والتّطور غير المسبوق في الاكتشافات والأدوات، سوف نتمكّن من وضع أيدينا على مفاتيح الرّوح، ونشير إليها بكل ثقةٍ، وننتظر أن تَنصب المعامل أجهزتها لتخبرنا مزيدًا ومزيدًا بصورةٍ مثبتةٍ ومُقاسةٍ. 

 

عندما وضع مندليف عالم الكيمياء الروسيّ الجدول الدّوريّ الخاصّ بالعناصر، لم تكن كلّ العناصر وقتها قد اكتُشفت، وكان أعظم ما قام به هذا الرّجل أن وضع أماكن فارغةً تَنبّأَ فيها بوجود هذه العناصر وخواصّها. كان عمله رائعًا بحقّ، إنّه العلم والتّفكير العلميّ الذي يُقدّم تصوّراتٍ دقيقةً للغاية، وتنتظر فقط من يثبتها عندما تتطوّر الأدوات.

 

وقد حدث بعد برهةٍ من الزمن اكتشاف العلماء لهذه العناصر التي تنبّأ بها مندليف، وكانت قريبةً من الخواصّ التي ذكرها لكلّ عنصر بدرجةٍ مذهلةٍ. لذا عندما نذكر أنّنا وضعنا أيدينا على مفهوم الرّوح، فإنّ هذا ما نقصده تمامًا، وأن الرّوح أصبح معروفًا جدًا، ولكنّنا ننتظر التّحقّق من بعض الأدلة عن طريق العلم، والذي سيخبرنا عن وسيلة اتّصال الرّوح بالإنسان وتفاعله معه. 

 

بدايةً دعونا نعتمد مدلول اللفظ، وهو أنّ الرّوح من الرّيح، أو شيءٍ من هذا القبيل. والأمر الثاني الذي يؤيّد أنّ الرّوح مرتبطٌ بالهواء، وأنه ليس بعيدًا أبدًا عن هذا المفهوم، هو أنّ الرّوح جاء في كثيرٍ من المواضع مرتبطًا بعمليّة النّفخ، والنّفخ كما جاء في كتاب الله هو عمليّة دفع أو بث الهواء داخل شيءٍ ما. 

 

الأمر الثالث، إنّ الرّوح مرتبطٌ دائمًا بعمليّة زيادة الوعي والإدراك، بل ومرتبطٌ أحيانًا بالحياة ذاتها. وعندما استطعنا تفسير نفخ الرّوح في آدم، واستنتجنا وقتها أنّ الرّوح ما هي إلى زيادة عمليّة الوعي والإدراك، لم تكن لدينا حينئذٍ معرفةٌ كاملةٌ بماهيّة الرّوح المادّيّة، أمّا الآن فقد حدث. 

 

بترتيب هذه المعطيات وبفهم تركيب الهواء الذي يتنفّسه الإنسان، والذي يتكوّن من مكوّنين أساسيّين، هما النيتروجين والأكسجين، مع كميّةٍ قليلةٍ جدًّا من بخار الماء، وبعض غاز ثاني أكسيد الكربون، نستطيع الآن بكلِّ ثقةٍ الإشارة إلى الرّوح.

 

المكوّن الوحيد المرتبط بعمليّة الوعي لدى الإنسان هو الأكسجين. ويُعدّ الأكسجين غاز الحياة بلا منازع، فلو انقطع الأكسجين عن الدّماغ لمدة 10 ثوانٍ لا غير، يموت الإنسان فورًا. وإذا قلّ الأكسجين عن نسبةٍ معيّنةٍ يفقد الإنسان وعيه. 

 

لا شك أنّ القارئ الآن سوف يتعجّب، فهل يُعقل أن يكون الأكسجين هو الرّوح حقًا، بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ؟ 

 

اكتَشفَ الأكسجين كارل فلهلم شيله عام 1771، إلّا أنّه لم ينشر أبحاثه إلّا سنة 1777، وفي هذا الوقت سنة 1774 استطاع جوزيف بريستلي اكتشاف الأكسجين أيضًا، في أثناء البحث في آليّة الاحتراق. 

قبل اكتشاف الأكسجين ووظيفته وآليّة عمله، لم يكن ممكنًا حتى مجرّد التفكير في ماهية الرّوح، فالإنسان لا يملك أدنى معرفةٍ عمّا يحدث بالتّفصيل. 

 

من الطبيعيّ والمنطقيّ قبل اكتشاف الأكسجين ألّا يستطيع أحدٌ التّنبؤ بما تعنيه الرّوح أو فهمه؛ ولذلك فإنّ كلّ ما جاء عن الرّوح هو غموضٌ يكتنفه غموضٌ. غير أنّ اكتشاف الأكسجين لم يُغيّر لاحقًا من فهم الرّوح شيئًا؛ بسبب الطّريقة التي يُفهم بها اللفظ القرآنيّ، والتي جعلته أسير ماضٍ طويلٍ.

 

قد يجد القارئ صعوبةً في تقبّل الأمر؛ لأنّ اسم عنصر الأكسجين اسمٌ أجنبيٌّ، ولكنّني أدعوه أن يضع الاسم الحديث جانبًا، ويفكّر في ماهيّة هذا العنصر فقط، الذي نملك عنه اليوم معلوماتٍ غزيرةً، فهو العنصر المرتبط بعمليّة الوعي والحياة عند الإنسان أساسًا. 

 

في النّشاط اليوميّ، يأخذ الإنسان الأكسجين من الهواء، ويدفعه ناحية الرّئتين، ثم يحمله الدّم إلى القلب، ويُمرّره القلب إلى جميع أجزاء الجسم، ثم يعود الدّم محمّلًا بثاني أكسيد الكربون مارًّا بالقلب، ثم يُدفع خارجًا عن طريق الرئتين أيضًا.

 

سيكون من الصعب على غير المتخصّصين تقبّل أن يكون الأكسجين روحًا، إذا لم يفهموا آليّة عمل عنصر الأكسجين في الجسم وخواصّه وحركاته. لكنّهم في الوقت نفسه يتقبّلون بكلّ راحةٍ مجموعةً من الأساطير، ويحتفلون بالغموض حول مفهوم الرّوح، وكأنهم لا يريدون فهمها، ويفضّلون أن تبقى غامضةً إلى الأبد.

 

أحيانًا، يمنح الغموض بعض الناس إحساسًا بالراحة، واكتشاف حقيقة الأشياء قد يكون مبعث قلقٍ، لا سيما إن بدت الأشياء بسيطةً وغير معقّدةٍ. إنّ وضوح الأشياء لدى العامة يتنافى مع صورة الإله عندهم، والذي يجب أن تكون كلماته غامضةً ومثيرةً، وأيُّ تبسيطٍ قد يقدح في صورة الإله لديهم. الله لا يريد أن يحيّر الإنسان، بل أعطاه كلّ وسائل المعرفة، وطلب منه البحث، وأن يبذل جهده لفكّ غموض كلّ شيءٍ من حوله. 

 

قبل أن نبدأ في تتبع لفظ (الرّوح) في كتاب الله، يجب أن نستعرض بعض المعلومات البسيطة عن الأكسجين، وعن القلب والفؤاد؛ حتى يتسنّى لنا فهم ما يحدث، ومعرفة كيف يستقبل الإنسان هذا العنصر، وهل يمكن للأكسجين أن يحمل وحيًا؟ وكيف ينقله إلى القلب؟ وهل يمكن للأكسجين أن ينطق أو يُحدث صوتًا، ومن ثمّ يستقبل الإنسان هذا الصوت؟ 

 

لفهم ذلك لا بدّ من فهم كيفية نشوء الصوت بصفة عامة، وفهم النّطق بصفةٍ خاصّةٍ.

ما هو الصوت، وكيف ينشأ؟ وما هو النطق؟

 

النّطق بصورةٍ عامةٍ هو صوتٌ له مدلولٌ، وجميع الأشياء حولنا لها صوتٌ فعلًا، فما هو الصّوت في حقيقته؟

الصّوت هو اهتزازٌ في الوسط، فأيّ جسمٍ يهتزّ في الهواء يُحدث صوتًا. قدرة الإنسان على سماع الصّوت تقع في مدى 20 هيرتز إلى 20 ألف هيرتز. التردّدات التي هي أقلّ من 20 هيرتز لا يمكن للأذن البشرية التقاطها، وتُسمّى تردّداتٍ تحت سمعيّةٍ. التردّدات فوق السّمعية لا يمكن للأذن البشرية التقاطها كذلك، وهي تردّداتٌ أعلى من 20 ألف هيرتز. 

 

هل يهتزّ الأكسجين أو يتذبذب في الهواء، فيُحدث بذلك صوتًا، حتى لو لم نكن قادرين على التقاطه؟

نعم، جميع الجزيئات تتذبذب في الهواء، والأكسجين هو أحد هذه الجزيئات، وتذبذبه يكون في صورتين أساسيّتين: (انكماش وانبساط). فهل هذه التّذبذبات يمكن أن تنتج صوتًا؟

 

نعم، أيّ اهتزازٍ في الوسط يُمكن أن يُحدث صوتًا. فهل هذا الصّوت مفهومٌ؟ الإجابة: إنّ الأذن لا تستطيع التقاط هذا الصوت، ولكنّ تعامل الرّوح ليس مع الأذن، بل مع القلب، ومع الفؤاد تحديدًا، الذي هو مجال القلب. لماذا يهتزّ الأكسجين أو أيّ مركبٍ آخر؟ وهل هناك علاقةٌ بين اهتزاز هذه المركبات والطّاقة، وبالطاقة الحراريّة تحديدًا؟ 

 

نعم، المركّبات (الجزيئات) لها قدرةٌ مختلفةٌ على امتصاص الطاقة، وهذه الطّاقة تُسبّب اهتزاز المركّب بصورةٍ ما، وهذه المركّبات في حالةٍ مستمرّةٍ من اكتساب الطاقة وتفريغها، ولذلك هي دائمة التّذبذب أو الاهتزاز. 

وعلى الرغم من أنّ عنصر الأكسجين يهتزّ، وهذا ما يمكن أن يُسبّب ما يمكن أن نسميه نطقًا، إلا أن مجرد انتقال الطاقة من هذا العنصر إلى مجال القلب أو المجال المغناطيسي للقلب ولو بقدرٍ ضئيلٍ يمكن أيضًا أن يسُمّى نطقًا، وتحمل هذه الطاقة رسائل مشفرةً يستقبلها الإنسان ويفهمها، وكأنّ صوتًا داخله يُخبره بشيءٍ ما.

دعونا نرتّب ما ذكرناه في السّطور السابقة:

الرّوح هي الأكسجين، وهذا الأكسجين يمرّ في مراحله الأولى على القلب، ومجال القلب هو الفؤاد، وهو مجالٌ مغناطيسيٌّ (يمكن مراجعة الفؤاد وعلاقته بالقلب، في الجزء الأول من كتاب تلك الأسباب). تذبذب جزيء الأكسجين أمرٌ طبيعيٌّ، ويبدو لي أنّ هذه التّذبذبات تنقل طاقةً إلى الفؤاد، والذي بدوره يقوم بمعالجتها، ويفهم منها شيئًا ما، وهذا هو الوحي أو الإلهام. 

 

مسألة أن تكون هناك معلوماتٌ محمولةٌ على جزيء الأكسجين، وتٌفرّغ عند القلب، ويستقبلها الفؤاد، ويستخرج منها معلوماتٍ ليست بالأمر الخياليّ، أو الفلسفة البعيدة، بل هي تصوراتٌ قائمةٌ على مشاهداتٍ عمليّةٍ ومعارف، ولن يجد أيّ متخصّصٍ صعوبةً في فهم هذه الميكانيكية وتصوّرها.

 

أمر الرّوح أمرٌ شديد التعقيد، فلا يعتقدِ القارئ أنّنا بجرّة قلمٍ سوف نفكّ ألغازها ونستريح، ولكنّنا نستطيع القول أنّنا من خلال تحديد ماهيّة الرّوح، أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من فهم طريقة تفاعل الرّوح مع الإنسان، ومعرفة كيف يتواصل مع الكون من حوله، ومع خالق الكون؛ لأنه هو الذي أخبر بذلك. 

يمكننا القول الآن: إنّ للأكسجين أو الرّوح وظيفتين أساسيّتين، أوّلهما: قيادة عمليّات الأكسدة في الجسم، وهي المصدر الأساسيّ للطّاقة في الجسم، وهذا مثبتٌ علميًّا. الوظيفة الثانية: هي ما استنتجته من خلال تحليل لفظ (الرّوح)، وهي نقل معلوماتٍ أو معرفةٍ معيّنةٍ إلى الفؤاد، فيما يُسمّى عمليّات الإلهام أو الوحي، وهذا الأمر ينتظر أن يكتشفه العلم بأدواته، وله شواهد قويةٌ للغاية. 

 

آدم ونفخ الرّوح 

 

لدينا ملاحظةٌ لا يمكن أن نتجاوزها، وهي أنّ علاقة الأكسجين بالدماء علاقةٌ وثيقةٌ؛ إذ يحمل هيموجلوبين الدم الأكسجينَ إلى جميع أجزاء الجسم. لقد ورد ذكر اسم آدم في القرآن، ونفخ الله فيه من روحه، واستطعنا استنتاج نتائج عمليّة النفخ هذه، من خلال الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب، وهي زيادة الوعي والإدراك لدى آدم؛ ممّا أدّى إلى نشأة اللغة، أو قدرة آدم على وصف الأشياء (التّسمية). كذلك رأينا ارتباط الرّوح بقدرة آدم على التسمية في أكثر من موضعٍ، وجاء ذلك مرتبطًا بالنّفخ الذي يشير إلى دفع الهواء. 

 

(فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ) (سورة الحجر: آية 29).

(ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِیلًا مَّا تَشۡكُرُونَ) (سورة السجدة: آية 9).

 

(فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ) (سورة ص: آية 72). 

مدلول لفظ (آدم) ذاته يعود إلى الجذر (دم)، ويعني ذلك السائل الأحمر الذي يجري في العروق حاملًا الأكسجين من القلب إلى جميع أجزاء الجسم، وعائدًا إلى القلب مُحمّلًا بالفضلات. 

 

بعد ربط هذه المعطيات؛ الأكسجين وعلاقته بالدم والوعي والإدراك، فإنّنا نستطيع القول بأنّ تغيّراتٍ جذريّةً حدثت تحديدًا على تركيب الدم، أو أنّ هناك طفرةً ما تسبّبت في استيعاب قدرٍ كبيرٍ من الأكسجين؛ ممّا زاد في الوعي والإدراك لدى آدم، وذلك أعطاه قدرةً على وصف الأشياء، ومن ثمّ نشأة اللّغة. 

 

من خلال فهمنا هذا للرّوح، نستطيع فهم ماذا يعني لفظ (الرّوح) من دون إضافةٍ، وتعبير (الرّوح الأمين) و(روح القدس) و(روح من الله)، وقبل كلّ ذلك لا بدّ أن نجيب على السّؤال الأهمّ: ما الذي دعانا لفرضيّة أنّ (صاحبكم) المذكور في سورة النّجم، بل في كلّ موضعٍ من كتاب الله، يعني الرّوح؟ 

 

ينبغي التّفريق بين الأكسجين وقدرته على التّذبذب، والتي يمكن تفسيرها بقدرته على حمل المعلومات، وطبيعة هذه المعلومات ذاتها من جانب، و قدرة الإنسان على استقبال هذه المعلومات من جانبٍ آخر. 

الرّوح من أمر الله حقًا، وهذا التعبير ليس تعبيرًا يلقي الغموض على الرّوح؛ بل يُفسّر ما هي الرّوح، وأنها من أمر الله، ويؤكّد لنا أنّ الروح تحمل أمر الله، أو ما نُسمّيه وحيًا أو إلهامًا أحيانًا. أمر الله إجابةٌ عن السؤال عن الرّوح، وليس إحالةً للرّوح إلى لغزٍ لا يمكن حلّه. 

 

لو تتبّعنا أمر الله في القرآن، لأدركنا فورًا أنّ كلّ ما يخصّ الحياة هو أمر الله، وكلّ ما يحيط بنا هو أمر الله

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ ءَامِنُوا۟ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰۤ أَدۡبَارِهَاۤ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّاۤ أَصۡحَـٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا) (سورة النساء: آية 47).

 

(لَهُۥ مُعَقِّبَـٰتٌ مِّنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ یَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ سُوۤءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ) (سورة الرعد: آية 21). 

هذا يعني أنّ الرّوح يقف مع الإنسان في كلّ شيءٍ، وكأنه معين له في كلّ موقفٍ، ومتى طلبه الإنسان وجده. ولكي يستطيع الإنسان التّعامل مع الرّوح، لا بدّ أن يفهم كيف يتواصل الرّوح معه، وهذا ما نحاول استخلاصه في هذه الصفحات. 

 

عندما جاءت الرّوح في كتاب الله من دون إضافةٍ -كما في سورة الواقعة- فهي إشارةٌ إلى الأكسجين، أو ما وصفه الإنسان القديم النّسيم العليل. من العجيب أنّ الناس يستخدمون تعبير (هواءٌ يردّ الرّوح) باللّهجة العاميّة، في إشارةٍ إلى الهواء العليل الغنيّ بالأكسجين. إنّه أمرٌ عجيبٌ أنّنا ندرك أشياء كثيرةً، ونراها جليّةً، ونستخدمها في حياتنا، ولكنْ لأمرٍ ما لا نستطيع ربطها بالقرآن، ولا فهم مدلولاتها. قد يكون السّبب المباشر أنّ من تولّى عمليّة تفسير هذه الأشياء ونقلها للناس لم يكن مؤهّلًا بالقدر الكافي؛ فزادها غموضًا بدلًا من فكّ شفراتها. 

 

(فَرَوۡحٌ وَرَیۡحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِیمٍ) (سورة الواقعة: آية 89). الرّيحان هو الرّوائح الطّيبة، والرَّوح في الآية يكاد ينطق ويقول لك أنا النسيم العليل، أو بلُغتنا الحديثة الأكسجين. رغم اختلاف الحركة على حرف الراء هنا، وهي (رَوح) بدل رُوح، إلا أنّ المعنى لا يختلف كثيراً، وربما الاختلاف في طبيعة ما يحمله كلٌّ منهما. 

 

لقد رأينا كثيرًا تأثير حركة الضم على الكلمة مقابل حركة الفتح، وكيف أنّ الضم يجعل الكلمة محمّلةً بقدرٍ أكبر من صفاتها، وفيها قصدٌ أكبر بكثيرٍ من الكلمة المفتوحة. فإن كان في هذه الآية لفظ (رَوح) بالفتح فأعتقد أنّ المقصود هو الأكسجين بحدّ ذاته، وأن الطاقة التي يحملها ليست وحيًا أو إلهامًا. أما (الرُّوح) بضم الراء فهو الأكسجين المحمّل بالطاقة الخاصة بعملية الوحي. لا أستبعد أن يحمل الأكسجين في كل الحالات طاقةً، ولكن تختلف هذه الطاقة في الرسائل التي تحملها، فمنها ما يكون معارف عامةً أو اتصالًا بالكون بصفةٍ عامةٍ، ومنها ما يكون وحيًا، وهو الذي أرجّحه في معنى (الروح) بالضم. 

 

حتى تكتمل الصّورة علينا استعراض جميع الآيات التي ورد فيها لفظ (الرّوح)؛ لبيان تفاصيلها، وأنواعها، ولِنوضحَ الفرق بين روح القُدُس والرّوح الأمين، ثم ننهي هذا الملف بعلاقة لفظ (صاحبكم) بالرّوح. 

الاعتقاد بأنّ لكلّ إنسانٍ روحًا هو اعتقادٌ بدائيٌّ للغاية، لا يدعمه كتاب الله، والاعتقاد بأنّ الإنسان إذا مات خرجت روحه لم يرد ذكره في كتاب الله أبدًا، بل جاء ذكر النفس متعلقًا بالخروج، والرّوح متعلقًا بالنّفخ، فهل يُمكن أن نقف على التّعبيرات القرآنيّة دون تعجّلٍ، ودون استدعاء تصوّراتٍ بشريّةٍ ثبت لنا عدم دقّتها. 

 

إنّما الرّوح عمليّةٌ متكرّرةٌ من دخول الأكسجين للجسم، فإذا مات الإنسان انقطع دخول الأكسجين إلى جسمه، ولا يعني ذلك أنّ روحه خرجت. الأكسجين هو حامل الأمر الإلهيّ، أو المعين الذي يهدي الإنسان، أو قناة الاتصال بين الإنسان وخالق الكون، فإذا انقطع الأكسجين انقطع هذا الاتّصال. يمكن في حالاتٍ أخرى دخول الأكسجين ليؤدّي دوره في العمليات الحيوية في جسم الإنسان، ولكنّه لا يُحدث اتصالًا، ولا يستطيع الفؤاد استقبال المعلومات، أو أمر الله المحمول على الأكسجين، وفي هذه الحالة يصبح الإنسان جسدًا حيًا يقوم بالعمليّات الحيويّة، ولكنّه بلا روحٍ حرفيًا. 

 

عمليّة الاتّصال الصّحيح بالرّوح، أو قدرة الإنسان على استخلاص الوحي أو الإلهام من الرّوح أمرٌ يتعلّق بالإنسان نفسه، ويحتاج إلى ترتيباتٍ معيّنةٍ، على نحوٍ يصبح الفؤاد مُعدًّا جيّدًا للاستقبال. وقد تكون هذه الاستعدادات هي رغبة الإنسان في الاستقبال، والسعي الدّاخلي للاتصال. وإذا تملّكت الإنسان مشاعر سلبيّةٌ أو شعورٌ عدائيٌّ فسوف يعيق عمليّة اتصال الرّوح بالفؤاد. 

 

في سورة يوسف آيةٌ –سنذكرها قريبًا- تشير إلى أنّ الاتّصال بالرّوح هو عمليّة استحقاقٍ، فمن سعى لها سعيها فلسوف تُدركه الرّوح، ومن أعرض فهو وشأنه. 

كثيرًا ما نرى أناسًا منغمسين في الجهل، فإذا طالبتهم بالسّعي وبذل الجهد لِتبيّن الحقيقة؛ ضربهم الكسل، وغشيتهم الثّقة المزيّفة، فأعرضوا وتولّوا وهم فرحون. كيف لهؤلاء أن تتّصل بهم الرّوح وهم معرضون، ولم يكونوا –أبدًا- متهيئين، وقلوبهم غلفٌ، تطرقهم الرّوح مع كلّ قبضة هواءٍ تدخل أجسامهم، ولكنّ قلوبهم صدئةٌ، علّها الشرك، وغشيها الكبر، ولفّها الغرور، فكيف تُلقي السّمع أو تستبين الحقيقة.

 

لو أنّ عالِمًا أو فيلسوفًا عظيمًا يلقي خطابًا رائعًا في مكانٍ ما، أو عبر وسيلة تواصلٍ معيّنةٍ، فسوف يستمع إليه من لديه الرغبة في ذلك. لا شك أنّ هناك مَن يستمع جيّدًا، ومَن يستمع ويشرد أحيانًا، ومَن لا يعيره اهتمامًا بالأساس. إذًا الخطاب واحدٌ، ولكنّ التّلقّي مختلفٌ، وكلٌّ بحسب حاله يغترف، وبحسب استعداده ينهل. 

هكذا هي الرّوح؛ يحمل أمر الله للناس، ولكنّ كلّ إنسانٍ يستقبل بقدر ما تهيّأ، وسوف نُفرد في آخر الفصل بعض الملاحظات التي يمكن أن تقوّي اتصال الرّوح بالإنسان. 

 

نستطيع استخلاص قيمة السعي والمثابرة، وكونها أمرًا أساسيًا في اتصال الرّوح بالإنسان، ممّا جاء في سورة يوسف على لسان نبيّ الله يعقوب (یَـٰبَنِیَّ ٱذۡهَبُوا۟ فَتَحَسَّسُوا۟ مِن یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلَا تَا۟یۡـَٔسُوا۟ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا یَا۟یۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ) (سورة يوسف: آية 87).

 

(رَوح الله) هنا هو الإلهام أو الوحي الذي تحمله الرّوح، والذي يشير إلى أنه من أمر الله مباشرةً، وسوف يدلّهم على يوسف وعلى مكانه. إنّه تعبيرٌ من أروع التعبيرات القرآنيّة، بل لو علم الإنسان حقيقة هذا التعبير لأدرك أنّه على أعتاب أن يكون إنسانًا ملائكيًا يتلقّى أمر الله، ويُكشَف له الغموض، وكأنّه أصبح يد الله في الكون. لو استطاع الإنسان فهم ماهيّة الرّوح، ومن ثمّ التعامل معها، والاتصال بها، سوف تنفتح أمامه سبل المعرفة والفهم بلا حدود. عندما تكون نقيًا بالقدر الكافي يجب أن تستمع إلى قلبك، وهذا يعني أنّ الرّوح تخاطبك. 

لفظ (الروح) في هذه الآية جاء بالفتح، وكما ذكرنا أنّ هناك فرقًا طفيفًا بينها وبين (رُوح) بالضم، ولعلّ هذه الآية تكون قد منحتنا فرصةً لفهم هذا الفرق. يبدو من لفظ (رَوح) بالفتح أنّ المعلومات المرتبطة به معلوماتٌ ومعارف عامةٌ، أكثر من أن تكون للهداية، أو وحيًا إلهيًا متعلّقًا بكلمات الله. 

 

ورد لفظ (الرّوح) في كتاب الله أربعًا وعشرين مرةً، سنحاول فهم سياقها في ضوء ما توصّلنا إليه من معلوماتٍ حول ماهيّة الرّوح. سوف نضع الآيات المتشابهة معًا، في مشهدٍ قرآنيٍّ واحدٍ، في محاولةٍ لمقارنة التّعبيرات القرآنيّة ببعضها. 

 

المشاهد القرآنيّة التي ذُكر فيها الروح

المشهد الأول: روح القُدُس 

 

الحديث عن روح القُدُس وأنّه هو نفسه الرّوح الأمين وهو نفسه جبريل عليه السلام، حديثٌ يختصر كثيرًا، ويتجاوز تعبيراتٍ قرآنيّةً بليغةً، لا يجب أن تمرّ هكذا دون طرح مزيدٍ من الأسئلة. 

الطريق الصحيح لفهم هذه المفردات هو تحليلها، وفهم دورها في التنزيل، وليس التّسرّع ودمج جميع المفردات في مدلولٍ واحدٍ؛ لأنّ التّساهل في أمرٍ كهذا سيؤدّي إلى ضياع العلم والمعرفة، وانتشار المسلّمات الخاطئة. 

 

إنّها أربع آياتٍ كريمةٍ، جاء فيها تعبير (روح القُدُس) تدل على التّثبيت والتّأييد والدّعم من الله. مدلول لفظ (قدس) بحدّ ذاته يعني صَوْن الشّيء (النفيس) وحفظه، متجمّعًا لا يَخْتَلط أو يُشاب أو يُهْدَر، كما جاء في المعجم الاشتقاقي. ويمكننا القول: إنّ القُدُس هو نوعٌ من الطّهارة والنّقاء، على نحوٍ لا يختلط بشيءٍ آخر. 

تعبير (روح القُدُس) جاء مع نبيّ الله عيسى تحديدًا، دون باقي الأنبياء، وجاء مرةً واحدةً يصف التّنزيل (القرآن) بأنّ روح القُدُس نزّله. الرّوح تمرّ على قلب الإنسان، والإنسان نفسه يستقبل منها على قدره؛ ولذلك قد يختلط عليه الأمر أحيانًا، ويتملّكه الهوى، أو رغبةٌ ما، وقد تكون لديه فكرةٌ مسبقةٌ، فيحدث اختلاطٌ بين الرّوح والهوى، ويضلّ الإنسان. لا يمكن للإنسان التّفريق بين الرّوح والهوى ما دام لا يعرف كليهما، وفي أحيانٍ كثيرةٍ نجد شخصًا لديه ثقةٌ بما يقول، ويخبرك بأنّ قلبه أخبره بذلك، ويكون ما يقوله خاطئًا بالمرّة، وهو لا يدري. أجل، قد يختلط الأمر عليه، لأنّه لم يكن متجرّدًا لفهم أمرٍ ما، فأصبح يقرأ هواه بدلًا من أن يتّصل بالرّوح. 

 

نبيّ الله عيسى كان حالةً خاصّةً جدًا؛ فهو مؤيّدٌ بروح القُدُس، وهو الطّهارة في أنقى صورها، وما يقوله ليس فيه خليطٌ من هوىً أبدًا. 

 

الآيات الأربعة التي ورد فيها تعبير (روح القُدُس):

 الآية الأولى: (وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَقَفَّیۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَاۤءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰۤ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِیقًا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِیقًا تَقۡتُلُونَ) (سورة البقرة: آية 87).

الآية الثانية: (تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَـٰتٍۚ وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ وَلَـٰكِنِ ٱخۡتَلَفُوا۟ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُوا۟ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَفۡعَلُ مَا یُرِیدُ) (سورة البقرة: آية 253).

الآية الثالثة: (إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحرٌ مُّبِینٌ) (سورة المائدة: آية 110).

هذه الآيات الثلاثة تشير إلى هذه الحالة الفريدة لنبيّ الله عيسى، فقد كان ما يخبره به فؤاده جرّاء اتصاله بالرّوح نقيًا وطاهرًا لأبعد الحدود. كما ذكرنا من قبل، إنّ كلّ إنسانٍ يستقبل من الرّوح بقدر ما يتهيّأ له، أمّا في حالة نبيّ الله عيسى فهو في حالة تهيّؤٍ كاملٍ، فيتلقّى خطابًا وحديثًا نقيًا صافيًا. هل معنى ذلك أنّ كلام نبيّ الله عيسى حقائق مطلقةٌ كالقرآن؟ 

يجب أن نقف هنا طويلًا؛ لأنّ الفرق جوهريٌّ ومحوريٌّ، وهو الفرق بين الذّكر الذي أنزله الله، وهو محفوظٌ بذاته، وكلام عيسى البشريّ الطّاهر النّقي، المحفوظ من أيّ ذرّة هوىً. 

 

نبيّ الله عيسى جاء في زمنٍ يتكلّم الناس فيه بلغةٍ ما، ولديهم معارف معيّنةٌ، ومعنى أنّه مؤيدٌ بروح القدس أنّه يكلّمهم بما يعرفون تمامًا، ومن خلال الخلفية المعرفيّة لهذا الزمن. معنى ذلك أنّ عيسى نبيّ الله لن يتكلّم في شيءٍ مثل خلق السموات، وهو التّطوّر، أو أشياء لم تكن موجودةً، بل سيكون جُلّ كلامه واقعيًا ملموسًا، ولكنّه حقيقةٌ بمقاييس ذلك الزمن. لذلك من المعروف أنّ كلام نبيّ الله عيسى هو تعاليم هدايةٍ، وليس قراءةً للكون أو المسائل العلمية، وكلّ ما يُنسب إليه في ذلك، ويُفسَّر على أنّه حقيقةٌ علميّةٌ لم تكن معروفةً وقتها، هو قولٌ مرسلٌ لا يؤيّده القرآن. 

 

لن يقول نبيّ الله عيسى للنّاس إنّ الأرض كرويّةٌ، أو إنّ الأرض ليست مركز الكون، أو إنّ هناك مليارات المجرات. ولكنّه سيخبرهم بكلّ ما يستطيعون إدراكه، ولكنْ بصورةٍ حقيقيّةٍ وصادقةٍ، ليس فيه هوىً. 

حالة روح القُدُس الذي أيّد نبيّ الله عيسى مختلفةٌ عن حالة الرّوح الأمين، التي وصفت التّنزيل ذاته، ومختلفةٌ عن روح القُدُس التي اختصّت بالتنزيل لا بالرسول.

الآية الرابعة: (قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِیُثَبِّتَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهُدىً وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِینَ) (سورة النحل: آية 102). 

 

جاء الحديث في هذه الآية عن القرآن، وليس عن شخص الرسول، ومعنى نزّله روح القُدُس؛ أي نزّل ألفاظه وتعبيراته وتكويناته كلّها، نقيّةً صافيةً لا دخل لبشرٍ فيها. هذا الفرق الجوهريّ بين أن يكون الشخص مؤيّدًا بروح القُدُس، وأنْ يكون التنزيل نفسه نزّله روح القُدُس، فقد جعل روح القُدُس القرآنَ متجاوزًا لكلّ زمانٍ، ولا يرتبط بمعرفة البيئة التي نزل فيها، ولا يُشترط فهمه كاملًا من قِبل من نزل عليهم، وهذا مثبتٌ تمامًا بالتّفاسير. 

نحاول دائمًا التأكيد على هذا الفرق بين الرسول والرسالة، من ناحية حفظها ومضمونها، فالرّسالة التي نزل بها الرّوح الأمين هي القرآن في هذه الآية؛ لذلك جاءت حقائق مطلقةً صالحةً للتفكّر والتدبّر إلى يوم القيامة. فهم الروح وفهم روح القدس والروح الأمين سوف يفتح لنا المجال لفهم كيف تلقى الرسول القرآن وكيف نزل على قلبه. إنه تفاعل تام بين الروح وبين القلب وليس هناك تجسيد لملائكة تلقن الرسول الكلمات أو الصورة التي رسمها التراث عن نقل القرآن . 

 

المشهد الثاني: الرّوح الأمين 

 

(نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ) (سورة الشعراء: آية 193). 

مرةً أخرى يصف القرآن الرّوح الذي نزل بالقرآن بالرّوح الأمين، وهذا يعني النّقل بكلّ أمانةٍ، دون زيادة حرفٍ أو نقصانه، وكلّ من يدّعي غير ذلك فهو وما يدّعيه. كلّ هذه التوصيفات إنّما تدلّ على خصوصيّة التنزيل، وأنّ ما نزل به الروح الأمين ليس مخلوطًا مع قول البشر، ويدلّ كذلك على نقاء المستَقبِل وصفائه، وهو رسولنا الكريم.

 لكنْ في الوقت نفسه، فإنّ الرسول ليس مؤيّدًا بروح القدس مثل عيسى عليه السلام، وكلامه خارج التنزيل ليس مؤيّدًا بروح القدس، وهذا الفرق الكبير غير واضحٍ أبدًا لدى الناس، فيخلطون بين مفهوم روح القدس الذي يؤيّد الرسول، والرّوح الأمين الذي يؤيّد التنزيل. 

 

لو أن نبيّ الله محمدًا مؤيدٌ بروح القُدُس مثل نبيّ الله عيسى، لكان كلّ ما يقوله وحيًا، ولكنّه يخضع للأرضيّة المعرفيّة لذاك الزمن أيضًا، وعندها يصبح كلّ ما يقوله وحيًا صادقًا لا يمكن لأحدٍ في ذلك الزمن تجاوزه أو تغييره أو مناقشته فيه. التاريخ والقرآن لا يُثبتان هذا أبدًا، بل كثيرةٌ تلك الأمور التي تَراجع عنها النبيّ، وأخذ بآراء الآخرين، وهذا دليلٌ قاطعٌ على أنّ المؤيّد بروح القُدُس الذي نزل به الرّوح الأمين هو القرآن، وليس كلام النبيّ خارج القرآن. 

 

لو افترضنا أنّ الرسول نفسه مؤيدٌ بروح القُدُس، فإنّ موقفه يوم مرّ بقومٍ يلقّحون النّخل، فقال: لو لم تفعلوا لصلح. فلم يفعل الناس، وخرج التمر رديئًا، فمرّ بهم، فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلتَ كذا وكذا... قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. لو أنّ الرسول مؤيّدٌ بروح القُدُس لكان ما قاله حقيقةً واقعةً، ولكنّها مرتبطةٌ بالمعارف وقتها. لكنّه بصفته شخصًا فهو يتفاعل من خلال المعارف المتاحة، ولكنّ التنزيل ذاته نزّله روح القُدُس، ونزل به الرّوح الأمين. 

 

تتّبع مفهوم (روح القُدُس) الذي أيّد نبيّ الله عيسى، وروح القُدُس والرّوح الأمين الخاصّ بالتنزيل في حالة نبيّ الله محمّد يشير إلى نقطةٍ في غاية الأهميّة؛ وهي أّن كلام نبيّ الله عيسى (الإنجيل) مرتبطٌ بحقبةٍ زمنيّةٍ محدّدةٍ، بينما القرآن يستمرّ إلى يوم الدّين. ملخّص ذلك أنّ الإنجيل عبارةٌ عن تعاليم وإرشاداتٍ وهدايةٍ لذلك الزمن، ويجب أن يُعامل اليوم معاملة كتب الهداية، وليس كتابًا علميًا يصف حقائق كونيةً مطلقةً يمكن اختبارها. القرآن يختلف عن ذلك؛ لأنّه كتاب حقائق يقرأ الكون، ويصف مكنوناته، وهذا هو الفرق الجوهريّ بين الإنجيل والقرآن. 

القرآن الذي يخبرنا أن (الروح الأمين) نزل بالقرآن على قلب الرسول يصبّ في كون الروح هو أكسجين الهواء وما يحمله من طاقةٍِ؛ إذ إنّ هذا العنصر هو العنصر الذي يجري في الدم والقلب مصاحبًا للإنسان ما دام على قيد الحياة. 

 

هل جبريل هو الرّوح الأمين أم روح القُدُس؟

بعد بيان مدلول الرّوح وعلاقته بالفؤاد، لا نرجّح أبدًا أنّ الرّوح الأمين أو روح القُدُس هو جبريل عليه السلام، بل إنّ جبريل هو مولى الرسول، فما معنى مولى الرسول؟

 

ذُكر جبريل في كتاب الله في ثلاثة مواضع:

 

(قُلۡ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبۡرِیلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَهُدىً وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ) (سورة البقرة: آية 97). 

(مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِیلَ وَمِیكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلۡكَـٰفِرِینَ) (سورة البقرة: آية 98).

(إِن تَتُوبَاۤ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَـٰهَرَا عَلَیۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِیلُ وَصَـٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ ظَهِیرٌ) (سورة التحريم: آية 4). 

 

جبريل في الآيات هو إحدى حلقات تنزيل كلمات الله على الرّسل، وقد وضّحت الآية الرابعة في سورة التحريم هذه الوظيفة بقوّة، وهي أنّ جبريل مولى رسول الله. (مولاه) أي يتولّاه، والتولّي هو الدعم والمساعدة، مثل التثبيت. إذا كان الله يتولّى رسوله بالعناية، فإنّ جبريل هنا خاصٌّ بالمرسَلين، فهو يُقدّم المساعدة والعون لرسول الله؛ لكي يضمن وصول الرّسالة كاملةً وتامّةً. عمليّة اتصال الرّوح ونقل محتواها عمليّةٌ غايةٌ في الصعوبة، لا سيما في حالة نقل اللّفظ والمعنى حرفيًا، وجبريل هو المعنيّ هنا بالتأكُّد من سير هذه العمليّة بسلامةٍ. 

 

الله لا يلقي إلينا مرادفاتٍ دون معنىً؛ بل كلُّ تعبيرٍ يحمل معرفةً، ولفظ (جبريل) نفسه يحمل صفات الجبر، وهو التّثبيت والقوّة، وهذا يتّفق مع قول الله سبحانه، عندما كاد الكافرون يدفعون رسول الله لقول غير ما أوحي إليه. 

 

(وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً(73) وَلَوۡلَاۤ أَن ثَبَّتۡنَـٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَیۡهِمۡ شَیۡـٔا قَلِیلًا(74)) (سورة الإسراء: الآيات 73-74). استخدام (نا) الفاعلين في الآية، وكذلك مدلول لفظ (جبريل)، وعلاقته بالتنزيل، يدفعنا إلى القول بأنّ وظيفة جبريل الأساسية هي تثبيت رسول الله، على نحوٍ يُبلّغ ما أنزل الله إليه دون زيادة حرف أو نقصانه. 

 

هل جبريل من الملائكة؟ 

لم يرد في القرآن نصٌ صريحٌ يقول إنّ جبريل من الملائكة، بل جاء لفظ (جبريل) في جميع مواضعه وكأنّه شيءٌ مختلفٌ عن الملائكة. 

(مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِیلَ وَمِیكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّ لِّلۡكَـٰفِرِینَ) (سورة البقرة: آية 98).

الآية فَصَلَت الملائكة والرسل وجبريل وميكال في التسمية؛ فلا دليل لدينا على أنّ جبريل من الملائكة، هو وميكال. 

بِفهمنا للرّوح، ولِمفهوم جبريل، نرى أنّ عمليّة الوحي كلّها جرتْ عن طريق اتصالٍ غير مرئيٍّ، وأنّ كلّ ما يُقال عن تمثّل جبريل ولقائه برسول الله لم يرد له ذكرٌ أو دليلٌ في كتاب الله، ويجب أن يوضع على طاولة البحث والتّدقيق. الرّوح الأمين هو ناقل الوحي الخاص بالتنزيل، ويحدث عن طريق الاتصال بالفؤاد، وليس باتصالٍ في صورةٍ بشريّةٍ، ودور جبريل هو تثبيت الوحي، والتّأكّد من تبليغه بصورته التي نزل عليها. هذا ما استطعنا فهمه من خلال فهم مدلول (الرّوح الأمين)، وعلاقة جبريل بالتنزيل. 

 

المشهد الثالث: عيسى ابن مريم روح الله

 

 ثلاث آياتٍ في كتاب الله حملت معنى عيسى روحٌ من الله، وهي: 

(یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ وَلَا تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥۤ أَلۡقَىٰهَاۤ إِلَىٰ مَرۡیَمَ وَرُوحٌ مِّنۡهُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُوا۟ ثَلَـٰثَةٌۚ ٱنتَهُوا۟ خَیۡرًا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَ ٰحِدٌۖ سُبۡحَـٰنَهُۥۤ أَن یَكُونَ لَهُۥ وَلَدٌۘ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلًا) (سورة النساء 171). 

(وَٱلَّتِیۤ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِیهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَـٰهَا وَٱبۡنَهَاۤ ءَایَةً لِّلۡعَـٰلَمِینَ) (سورة الأنبياء: آية 91)

(وَمَرۡیَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَ ٰنَ ٱلَّتِیۤ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِیهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَـٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَـٰنِتِینَ) (سورة التحريم: آية 12). 

 

سوف نتناول نبيّ الله عيسى في فصلٍ كاملٍ، ولكن يجب أن نشير هنا إلى تعبير (روحٌ منه) الذي يشير إلى أنّ عيسى صلوات ربي عليه كان حالة إدراكٍ ووعيٍ نقيٍّ، وكان يتكلّم بكلام الله في كلّ أموره. وصْف نبيّ الله عيسى بأنه مؤيّدٌ بروح القدس، وأنّه روحٌ من الله جعله في مرتبةٍ عظيمةٍ، وكأنّه حالةٌ من النّقاء والصّفاء تمشي على الأرض. (روحٌ منه) يشير إلى أن الطاقة المحمّلة على الأكسجين هي برعايةٍ خالصةٍ من الله، ونحن نعلم أن الأكسجين أهم عنصرٍ من عناصر الحياة. فكأنّ الآية تخبرنا بتمام نقاء هذا النبي منذ لحظة تكوينه الأولى. 

لدينا آيةٌ يمكن أن تُمثّل إشكاليّةً، فهي تبدو للوهلة الأولى تتحدث عن تجسيد الرّوح، أو أنّ الرّوح يمكن لها أن تتجسّد. 

 

(فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابًا فَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِیًّا) (سورة مريم: آية 17). 

تقول التفاسير إنّ الآية تشير إلى أنّ الرّوح تَجسّد في شكل بشرٍ، فهل تدعم الآية ذلك؟ تعبير (بشرًا سويًا) يشير إلى كونه بشرًا حقيقيًا، ولفظ (تمثّل) يعني أنّ الرّوح تَمثّل في هذا الرّجل، أو بمعنىً أكثر وضوحًا أنّ رجلًا بشريًا جاءها ينطق بالرّوح، أو بكلامٍ موحىً خالصٍ، ولم تصبح الرّوح بشرًا. 

 

لتقريب المفهوم نضرب مثالًا لذلك: عندما نقول إن القانون تمثّل فلانًا القاضي فهذا يعني أن القاضي ينطق بالقانون وبصورةٍ مثاليةٍ، وعندما نقول إن الطب تمثّل الطبيب فلانًا فذلك في السياق نفسه؛ فالطبيب ينطق بالطب ويفعله بكلّ كفاءةٍ. 

 

هذا كله يشير إلى ميلاد نبيّ الله عيسى وتكوينه منذ اللحظة الأولى، محاطًا بالرّوح، ومؤيّدًا بها، حتى صار كلامه وحيًا خالصًا. كيف جرت عمليّة حمل مريم بعيسى نبيّ الله؟ وهل هي عمليّةٌ مثل عمليّات التناسل المعروفة، أم كانت عن طريق شيءٍ يشبه التّلقيح الصّناعيّ أم شيءٌ آخر؟ حتى هذه اللحظة لا نملك دليلًا قاطعًا على أيّ فرضيّةٍ، وهذه الجزئية ليست من ضمن الموضوعات المطروحة في هذا الفصل. كلّ ما نودّ قوله هنا أنّ بشرًا سويًا جاء بالوحي الخالص ليُبلّغ مريم صلوات ربي عليها أنه رسول ربها ليهب لها غلامًا زكيًا. 

 

في السطور التالية سوف نتناول باقي الآيات التي جاء فيها لفظ (الرّوح) من غير إضافةٍ.

الآيات التي جاء فيها لفظ الرّوح من غير إضافة. 

الآية الأولى: (وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحًا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورًا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطٍ مُّسۡتَقِیمٍ) (سورة الشورى: آية 52).

الآية تؤكّد الاستنتاج الذي استنتجته، من أنّ الرّوح تحمل الوحي، وأنّها خاصّةٌ بالوعي والإدراك، ولا شيء يمكن أن نقدّمه أكثر من ذلك في هذا الموضع. لقد سجّل لنا القرآن تأثير الروح، وهو الدراية أو الإدراك بمفهومنا المعاصر . ولو تتبّعنا ما يسبب زيادة الوعي لدى الإنسان سنجد أنه مرتبطٌ بصورةٍ أساسيةٍ بنسبة الأكسجين في الدم، حتى القدرة على الفهم لها علاقةٌ وثيقةٌ بالأكسجين في الدم. 

 

الآية الثانية: (لَّا تَجِدُ قَوۡمًا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ یُوَاۤدُّونَ مَنۡ حَاۤدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوۤا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَاۤءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَ ٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِیرَتَهُمۡۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَأَیَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنۡهُۖ وَیُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـْٰت تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَاۤ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ) (سورة المجادلة: آية 22). 

 

في هذه الآية أيضًا دليلٌ واضحٌ على الرّوح، وأنّها الوعي والإدراك للناس بصفةٍ عامةٍ، فقد ذكر ربنا تأييده للمؤمنين بـ أنّه كتب في قلوبهم الإيمان، وأيّدهم بروحٍ منه. إنّه حالة الوعي الداخليّ، التي يصعُب تفسيرها في كثيرٍ من الأمور؛ لذلك نقول دائمًا: أخلص قلبك لله، ولا تتحيّز لشيءٍ، وتوجّه إليه فسوف تعرف. الاطمئنان والإنصاف وعدم التحيّز هي الشّروط الأساسيّة لتلقّي الرّوح، ومن دونها سوف يمرّ عليك الرّوح مرور الكرام دون أدنى فائدةٍ. 

 

الآية الثالثة: (یُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۤ أَنۡ أَنذِرُوۤا۟ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ) (سورة النحل: آية 2). 

 

لقد أفضنا في فهم الأمر الذي تتنزل به الملائكة والرّوح، في كتاب قولًا ثقيلًا، وهو تعريفٌ لا يخرج عن أنّ الرّوح هي الوحي الخاصّ بالإدراك والمعرفة، والذي من خلاله يستطيع الإنسان التّعرّف على مسؤوليّاته ومهامه، وهي -لا شك- أمر الله الذي أشارت إليه الآية في سورة الإسراء: (وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّی وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلًا) (سورة الإسراء: آية 85).

 

هذا المعنى تكرّر كذلك في سورة غافر، حيث يقول سبحانه: (رَفِیعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلۡعَرۡشِ یُلۡقِی ٱلرُّوحَ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ لِیُنذِرَ یَوۡمَ ٱلتَّلَاقِ) (سورة غافر: آية 15). وفي سورة القدر أيضاً (تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٍ) (سورة القدر: آية 4). لا نجد الرّوح هنا إلا الإدراك والوعي، الذي يكفل للإنسان فهم مراد الله والعمل به، وفهم كثيرٍ من الأمور التي تحيط به. 

 

الآية الرابعة: (تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیۡهِ فِی یَوۡمٍ كَانَ مِقۡدَارُهُۥ خَمۡسِینَ أَلۡفَ سَنَةٍ) (سورة المعارج: آية 4).

في هذه الآية الكريمة نجد أنّ القرآن أشار للفرق الواضح بين الرّوح والملائكة؛ فلا يصحّ ولا يجوز نعت الرّوح الأمين أو روح القدس بأنها مرادفٌ اسم ملكٍ من الملائكة، أو أنه جبريل، طالما لم يرد ما يؤيّد ذلك مباشرةً.

الوقوف على المعنى من خلال كتاب الله هو الأكثر دقة؛ فهذه الآية الكريمة تشير إلى خاصيّةٍ للروح شديدة الأهمية، وهي العروج لله، والعروج في حدّ ذاته هو الحركة الموجيّة، والذي سيأتي تفصيله في الفصل الخامس. صفة العروج أو الحركة في شكل موجةٍ تنطبق على كلّ شيءٍ تقريبًا، فكلّ جسمٍ يتحرّك حركةً موجيّةً، ولكنّها تكون واضحةً جدًا في الأجسام الدّقيقة. 

 

الآية الخامسة: (یَوۡمَ یَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ صَفًّاۖ لَّا یَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا) (سورة النبأ: آية 38) 

قد تُشكل هذه الآية على بعضهم؛ بما تصفه من شكلٍ تجسيديٍّ للملائكة والرّوح، ولكنْ ينبغي ألّا ننسى أنّ الخالق جعل للمخلوقات الأخرى قوانين مختلفةً، وأنّ آياتٍ عديدةً وصفت لنا قول الأرض والسماء، وهي أمامنا صامتةٌ لا تتكلّم. (ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهًا قَالَتَاۤ أَتَیۡنَا طَاۤىِٕعِینَ) (سورة فصلت: آية 11). 

 

المشهد في هذه الآية لا يؤثّر على مدلول (الرّوح) أبدًا، ولكنّه يأخذنا إلى أبعادٍ جديدةٍ، ربّما استطعنا في المستقبل سبر أغوارها. رغم أن الأرض والسماء تظهر لنا كموادٍ جامدةٍ إلا أن الله أخبر أنه خاطبها وردّت الجواب، ولدينا أمثلةٌ أخرى على هذا الخطاب، عندما قال الله للنار (كوني بردًا وسلامًا) وحديث النمل والهدهد في سورة النمل. فلا عجب إذا علمنا أن الروح يتكلم أو يصمت عند مثول كلّ الخلائق بين يدي الله، أو عند تلقّيها الأمر من الله. 

الملاحظات التي دفعتنا لافتراض أنّ الصّاحب في سورة النّجم هو الرّوح، ما يلي: 

أولًا: لفظ المصاحبة، والذي يعني اللزوم والمداومة، وليس هناك شيءٌ يلزم الإنسان أكثر من الأكسجين، والذي من دونه يفقد حياته في غضون 10 ثوانٍ، بل إنّ نقصه فقط يُفقده الوعي فورًا. الأكسجين هو أكثر ما ينطبق عليه لفظ (صاحبكم).

ثانيًا: سورة النّجم تتحدث عن المعرفة والهدى، والتي تتعلّق بالرّوح تمامًا، بل هي وظيفة الرّوح الأساسية. 

ثالثًا: جاء الرّوح في كلّ مواضعه بصيغة المفرد المذكر، وكذلك لفظ (الصاحب)، الذي دل على الرّوح من خلال السّياق.

السؤال الأهمّ هنا: لماذا لم يقل القرآن (الرّوح) بدل (الصاحب)؟ وماذا يفيد مدلول (الصاحب) هنا؟ 

كما ذكرنا أنّ استقبال المعلومات من الرّوح هو ما يجعلها روحًا بالأساس، وبما أنّ الناس ليسوا سواءً في ذلك، فمنهم من يستقبل، ومنهم من لا يستطيع الاستقبال؛ فكان لفظ (الصاحب) هو الأنسب. موضع ذكر الصاحب هو موضع إرشادٍ للإنسان لفهم هذه المصاحبة؛ حتى يستطيع الاستفادة منها فتصبح بالنسبة إليه روحًا إذا استفاد منها. وإذا لم يستفد الإنسان ولم يستقبل من الرّوح أيّ أمرٍ من أمر الله، فهو إنسانٌ حيٌّ بلا روح.

لو صحبت أستاذًا في سفرٍ، فهو في هذه الحالة ليس أستاذًا بالنسبة إليك؛ بل هو صاحبٌ فقط، أمّا لو علّمك شيئًا فيصبح صاحبًا وأستاذًا عندها، وهذا تمامًا مفهوم الرّوح والصّاحب. 

لو استٌخدم لفظ (الرّوح) بدل الصاحب في سورة النّجم لصحّ أنّ الكلّ يستقبل ما يحمله الرّوح لا إراديًا، لكنّ الأمر ليس كذلك؛ فكثيرٌ من الناس أحياءٌ عضويًا، لكنّهم أمواتٌ من ناحية القلب، لا يستطيعون استقبال ما تحمله الرّوح إليهم. 

لقد كان الحديث عن لفظ (صاحبكم) في آيات القرآن متعلقًا بنفي الجنون والضّلال والجِنّة عنه؛ ممّا يشير إلى أنّ هناك شيئًا قد يبدو غامضًا ويجعل الإنسان في حالة ريبٍ وشكٍّ بسببه. قد يظن بعضهم أنّ حالة الإلهام أو الوحي التي تنتاب بعض الناس غامضةٌ أو غير مفهومةٍ، وهي حالاتٌ متعلّقةٌ بالرّوح تمامًا. 

نفي حالة جنون الصاحب أو خفائه يلغي تمامًا فرضيّة غموض هذا الصاحب، والذي استنتجنا أنّه الرّوح، وأنّ فهمه ومعرفته أمرٌ ممكنٌ وسهلٌ. 

وهذا ما استخلصته تحديدًا: إنّ الصاحب في سورة النجم يصف الأكسجين، وهو كيانٌ ماديٌ لا يخفى على أحد، بينما الرّوح هي الأكسجين وما يحمله من طاقة والتي يمكن ترجمتها إلى معلوماتٍ وهي تختصّ بالوعي والإدراك، بل ونقل أمر الله فيما يسمى الوحي أو الإلهام. 

لِنُعطِ مثالًا بسيطًا لفهم الفرق بين الصاحب والروح: لو أنّ لدينا سيارةً مخصّصةً لنقل الخضروات، فهي عندما لا تنقل الخضروات تُسمّى سيارةٌ، أمّا عندما تكون محملةً بالخضروات فعلًا فتُسمّى سيارة نقل الخضروات. هكذا الأكسجين؛ فهو صاحبٌ، ولا يُسمّى روحًا إلا إذا تفاعل معه الإنسان، واستقى من أمر الله.

 

ملاحظات هامة:

 

أولًا: استخدام لفظ (صاحبكم) وليس روحكم جاء ملائمًا لحالة الرّوح؛ لأنّ الرّوح ليست جزءًا من الإنسان، ولكنها في حالة مصاحبةٍ حقيقيّةٍ له، فلا يكون سليمًا قول (روحك أو أرواحكم)، وإنما تعبير (صاحبكم) من المصاحبة هو الأكثر ملاءمةً. 

 ثانيًا: الروح واحدةٌ، وليست مجموعةً من الأرواح، كما كان يظنّ القدماء، وهي في وضعٍ تفاعليٍ مع الإنسان باستمرار، فيكون في هذا الموضع لفظ (صاحب) الأكثر ملاءمةً للسياق أيضًا. 

ثالثًا: الرّوح تشبه القرآن؛ فكلّ إنسانٍ يغترف من القرآن بقدر معارفه، ولكن يظلّ القرآن شيئًا واحدًا قابلًا للقراءة باستمرار، والاختلاف يقع في القارئ أو المتدبّر. هكذا الرّوح، هي كيانٌ يحمل معلوماتٍ واتصالًا يدركه كلّ علماء العالم، ولا ينكره إلا مختوم القلب.

رابعًا: الرّوح جزءٌ أساسيٌ من عمليّة التفكّر والتدبّر التي يُجريها الإنسان، إذ إنّ الإلهام هو ما يقوده في كثيرٍ من الأحيان إلى فهم أشياء غامضةٍ وناقصةٍ. 

خامسًا: الرّوح حامل الوحي الإلهي، والأمين عليه، وبقدر استعداد الإنسان يستقبل منه ما يشاء. وقد كان الأنبياء أكثر البشر صفاءً ونقاءً روحيًا؛ لذلك تلقّوا التعليمات الإلهيّة المحمولة على الرّوح بصورةٍ صافيةٍ ونقيةٍ لا مثيل لها. إنّه الناقل المعتمد من الله لأمر الله، ولا يستطيع التواصل الصحيح مع هذه الرّوح إلا السّاعون بإخلاصٍ وجدٍّ واجتهادٍ وصدقٍ. 

 

عندما ننظر إلى القرآن، وكيف أنّه لفظًا ومعنىً من عند الله، فإنّنا لا نملك إلا أنْ نتساءل: أيّ صفاءٍ ونقاءٍ امتلكه رسول الله محمد صلوات ربي عليه، جعله ينقل هذه الكلمات كما هي بصدقٍ وإخلاصٍ؟ إنّنا إمام حالةٍ فريدةٍ من البشر، بل من الصفاء في أبهى صورةٍ، مكّنت الرسول من نقل التعبيرات دون تدخّلٍ منه. وهذا ما أثبته التاريخ؛ إذ إنّ كثيرًا من مفردات القرآن لم يكن يعلمها رسول الله بوصفه بشرًا، ولكنّه نقلها بوصفه رسولًا. والذين يجعلون من الرسول مؤوٍّلًا للقرآن، ويحتجّون بأنّه لا يمكن أن يقول شيئًا ولا يعرف تأويله، لا يدركون علاقة الرّوح بالإنسان، ولا يفهمون عمل الأشياء كما يصفها القرآن ويحدّدها. 

 

يمكننا الآن اقتراح بعض الأمور التي يمكن أن تساعد في الاتّصال الرّوحي، من خلال فهمنا لماهيّة الرّوح: 

أولًا: سلامة القلب ونقاؤه من كلّ مظاهر الكره والحقد والحسد، وذلك بالبعد عن المجتمعات المريضة أو اعتزالها قدر المستطاع.

 

ثانيًا: اللجوء عند الصلاة إلى مكانٍ فيه هواءٌ متجدّدٌ قدر المستطاع، والابتعاد عن أماكن التلوث والضوضاء.

 

ثالثًا: كلما كان الإنسان معتزلًا النّاس، مستحضرًا الله في قلبه، كان قريبًا من الاتّصال الرّوحي. ولعلّ لفظ التطهّر الذي يسبق القيام للصلاة في القرآن غالبًا، معنيٌّ بعمليّة الطهارة المعنوية بدرجةٍ ما، ويشير إلى أنّ الصلاة يلزمها البعد عن كل المؤثرات الخارجية، وترك كلّ ما يسبّب الانشغال، والإقبال على الله بكلّ الجوارح، وسوف نعود مرةً أخرى لهذه النقطة عند فهم آية (ما زاغ البصر وما طغى)، والتي تتحدث عن الصاحب في سورة النجم.

 

رابعًا: إذا أراد الإنسان الوصول لحقيقةٍ ما، فعليه أن يكون منصفًا وغير متحيّزٍ، ومتقبلًا للحقيقة من داخله أينما كانت، ولا أحد يستطيع قياس ذلك إلا الإنسان ذاته. كلما كان الإنسان منصفًا وليس لديه فكرةٌ مسبقةٌ يريد الوصول إليها، كان اتصاله بالرّوح أقرب وأزكى. وإذا أردت أن تصل إلى نتيجةٍ ما فاحذرْ أن تضع الحلول أمامك، وتدفع نفسك للوصول إليها. 

هذا الأمر يلزمه التدريبٍ، فهو يحتاج لفهم معنى التحيّز، ومفهوم الإسلام القرآني، الذي تناولناه بالكامل في كتاب قولًا ثقيلًا. أهمّ أمرٍ في الرّوح هو الهواء النقيّ المتجدّد، البعيد عن التلوث والازدحام، والمعروف أنّ أفضل الأوقات في استنشاق النسيم هو وقت الصباح الباكر، أو المساء وقت الغروب، وهذه هي الأوقات التي حثّ الله الإنسان على التسبيح والصلاة فيها بوضوحٍ في كتاب الله. 

 

ملاحظة: 

عند مطالعة تاريخ هجرات الإنسان، نجد المناطق الحارّة أقلّ تقدّمًا وتطورًا من المناطق الباردة في المجمل، وأنّ السلام المجتمعيّ يكون أكبر نسبيًا في المناطق الباردة من المناطق الحارّة, فما تفسير ذلك من خلال مفهوم الرّوح؟ 

 

من خلال مفهوم الرّوح، وهو الوعي والإدراك، ومن ثمّ اكتشاف أنّ الأكسجين بما يحمله هو في حد ذاته الرّوح، يمكن إدراك تلك الحقيقة العلمية وربطها بوعي الناس في تلك المناطق. كمّيات الأكسجين تقلّ في المناطق الحارّة عن المناطق الباردة، ولعل هذا ما يجعل تعرّض الإنسان لكميّةٍ من الأكسجين في المناطق الباردة أكبر منه في المناطق الحارة؛ وذلك ينعكس على وعيه وإدراكه. 

 

بعد الانتهاء من مفهوم الرّوح لا يمكن أن نذهب بعيدًا ونحن قاب قوسين أو أدنى من مفهوم النفس، فقد أصبح الباب مفتوحًا الآن للدّخول إلى النفس البشرية.

***

 

 النفس 

 

النفس ليست مقابل الرّوح، بل النّفس بمدلولها هي مقابل النفخ، فالنّفخ عمليّة دخول الهواء في شيءٍ، فتصبح النّفس هي المخرجات. في لغتنا المعاصرة نقول: تنفّس الإنسان بمعنى أخرج زفيرًا. الزفير الذي يخرج في عمليّة التّنفس يتكوّن من ثاني أكسيد الكربون، وبخار الماء. 

 

لفظ (نفس) في المعجم يعني خروج النسيم، وهذا المعنى متوافقٌ تمامًا مع مفهوم النّفس في القرآن، ومفهوم الرّوح الجديد، وعلينا التركيز على لفظ (خروج). 

 

إذا كانت الرّوح تدخل الجسم، فإنّ النّفس هي النّاحية الأخرى، والتي تُمثّل المخرجات. ليس مستغربًا أن نجد لفظ (النفس) متعلقًا بالخروج دائمًا، ولم يأتِ أبدًا متعلقًا بالدخول، بينما الرّوح لم تأتِ أبدًا مع الخروج، ولكنّها جاءت مع النفخ غالبًا، وهو من الدخول.هل معنى ذلك أن النّفس هي غاز ثاني أكسيد الكربون؟ 

 

لا شك أنّ خروج الزفير يشمل ثاني أكسيد الكربون، ومعه بخار الماء، والمركّبان كلاهما لهما خاصيّةٌ وصفةٌ فريدةٌ، وهي قدرتهما على امتصاص قدرٍ من الطاقة أكبر من قدرة الأكسجين ذاته. 

ما معنى هذا؟

يخرج ثاني أكسيد الكربون والماء من كلّ خلايا الجسم، ويمرّ على القلب. وتصوُّري أنّ هذه الأنفاس تخرج مع كلّ زفيرٍ محمّلةً بكميّة من الطاقة، التي تعكس تفاعلات الإنسان مع كلّ ما حوله. وبمعنىً أكثر وضوحًا فإنّ النّفَس (الزفير) الذي يحدث كلّ ثانيةٍ تقريبًا، بوصفه عمليّةً حيويّةً في جسم الإنسان، يحمل معلوماتٍ تعكس تفاعلات هذا الإنسان، وكأنّه بصمة أفعال الإنسان في الفترة الزمنية التي حدثت فيها عمليّة الزفير. 

الأمر أشبه بجهاز تسجيلٍ، يقوم بالتسجيل على مدار الوقت، ولا يفتر أبدًا، ولا ينتهي إلا مع خروج آخر نَفَس هواءٍ من جسد الإنسان. 

لنفترض أنّ المواد التي تخرج في عمليّة الزفير تحمل قدرًا من الطاقة، أو تحمل لمحةً عن الجسد الذي كانت بداخله، فأين تذهب هذه اللمحة أو الطاقة، أو -لو جاز لنا التعبير- هذه النسخة؟ 

عمليّة التبادل الطاقيّ بين مكوّنات الكون تجري على قدمٍ وساقٍ، ولا غرابة في أن تُفرّغ محتويات هذه المركبات من الطاقة بعد خروجها من جسم الإنسان، فيما يشبه عمليّة الاسترخاء. 

 لفهم الأمر سوف أشرح ببساطةٍ ما يُعرف بتأثير الصوبة الزجاجية، أو الاحتباس الحراريّ الذي يتسبّب فيه ثاني أكسيد الكربون. 

 ثاني أكسيد الكربون يتكوّن من ثلاث ذرّاتٍ، ذرّتان منها أكسجين وذرّة كربون، وهذا التركيب يسمح له بامتصاص كميةٍ ك

بيرةٍ من الطاقة. يمتص ثاني أكسيد الكربون الطاقة من أشعة الشمس، وعندما يرتفع إلى طبقات الجوّ العليا تحدث له عمليّة استرخاء، يفقد على إثرها جزءًا من هذه الطاقة. بعضٌ من هذه الطاقة يعود للأرض، ويسبّب ارتفاع درجة حرارتها، وهو ما يُعرَف بالاحتباس الحراريّ. 

 

أتصوّر أنّ الآليّة نفسها تنطبق على ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء الخارج في عمليّة الزفير، غير أنّ عمليّة الاسترخاء تحدث بعد خروج هذه المركبات من الجسم، وتفقد جزءًا من طاقتها، وهذه الطاقة في تصوّري هي من تحمل نسخةً من الإنسان في هذه الفترة القصيرة. 

 

مع كلّ زفيرٍ يخرج نفَسٌ، ومجموع هذه الأنفاس من لحظة الميلاد وحتى الموت هي نفس الإنسان الكُليّة، والتي تحمل نسخةً من كلّ أفعاله ومخرجاته في النّهاية. 

 

إذا كان مفهوم الرّوح والنّفس في السابق غامضًا، فقد أصبح اليوم مثيرًا لدرجةٍ كبيرةٍ، ويفتح آفاقًا لا مثيل لها لفهم الإنسان والكون، ولكنّ ذلك يحدث عندما يصل هذا المفهوم لمن يستحقّه فقط. 

سوف أقوم باستعراض بعض الآيات التي جاء فيها لفظ (النّفس)، لِنوضّح مدلولاتها، ونفكّ التعارض قدر الإمكان. قبل أن أبدأ بذلك يجب أن نتذكّر جيّدًا أنّ مفهوم النّفس بصفةٍ عامّةٍ هو المخرجات، وإذا تحدّثنا عن نَفَس الإنسان تحديدًا فهي قطعًا ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، ونفس الإنسان بالمجمل هي مجموع أنفاسه على مدار حياته، وتنتهي حياته بخروج آخر نفسٍ (زفير). قد يسأل أحدهم: إنّ مخرجات الإنسان أعمّ من ذلك، فالنّفس هي أفعاله وتصرفاته وأقواله، فلماذا حصرتها في مركّبين كيميائيين، هما ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء؟ 

 

أنا لا أنفي هنا أنّ كلّ هذه المخرجات تخصّ الإنسان، ولكنّ ما أقوله أنّ كلّ هذه الأفعال تُسجَّل على هذه المركبات وكأن هذه المركبات أوراقٌ أو ملفاتٌ تُخزَّن المعلومات عليها، ومجموع هذه الأنفاس هو ما يُسمّى النفس بالمجمل. 

 

وردت مشتقّات (النفس) في القرآن ما يقارب 268 مرةً، لن نستعرض كلّ الآيات التي ذكرت النفس بالتأكيد، ولكنّنا سنستعرض أشهر الآيات التي يمكن أن يرى فيها القارئ تعارضًا مع مفهوم النفس الذي تناولناه.

 

الآيات التي وردت فيها مشتقّات (النّفس) 

 

الآية الأولى: (یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ) (سورة البقرة: 9)

(أنفسهم) في الآية تعني المخرجات، التي هي في الحقيقة تُمثّل أفعالهم، بل تُمثّلهم شخصيًا. الإنسان بكيانه الماديّ مجموعةٌ من المركّبات والعناصر، التي انتظمت وأعطت خليةً ثمّ نسيجًا ثمّ عضوًا ثمّ جهازًا ثمّ إنسانًا في النهاية، هذا الإنسان يقوم بأفعالٍ وتصرفاتٍ تؤثّر على جسده بكل خلاياه، وكذلك على محيطه. هذه التصرفات تُسجَّل في كلّ زفيرٍ، ومجموع الأنفاس الخارجة هي نفْسه التي تمتلك نسخةً عن كلّ تصرفٍ قام به. 

 

عندما يأتي لفظ (نفس) متعلقًا بالإنسان، فهذا يعني كلّ ما فعل هذا الإنسان وقاله منذ لحظة ولادته، وحتى لحظة وصفه بالنفس. النفْس متغيّرةٌ باستمرار، ومع كلّ زفيرٍ تتراكم التّصرّفات والأفعال، ولا يتوقّف هذا التّراكم إلا عند خروج آخر نفسٍ من رئتَي هذا الإنسان. جميع ألفاظ (نفسه) أو (أنفسهم) في كتاب الله تسير على الخطى نفسها، ولا اختلاف فيما يتعلق بالإنسان. 

الآية الثانية: (وَٱتَّقُوا۟ یَوۡمًا تُرۡجَعُونَ فِیهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٍ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ) (سورة البقرة: آية 281).

 

لفظ (تُوفّى) جاء متعلّقًا بالنفس، وبعد فهم حالة النفس نستطيع بكلّ سهولةٍ فهم مدلول هذا اللفظ. عندما تستوفي شيئًا ما فأنت تستكمله، وتنهي علاقاته مع غيره. وكلّ زفرةٍ يتنفّسها الإنسان تحمل كمًّا معيّنًا من المعلومات عن كل شيءٍ يخصّه، ومجموعةٌ من هذه الزفرات تُشكّل صورةً بالنهاية، ومجموعةٌ من الصور تُشكّل مشهدًا، والحياة بالنسبة إلى الإنسان مجموعةٌ من المشاهد.

 

مع نهاية آخر زفرةٍ أو (نفَسٍ) يُستكمَل كلّ شيءٍ، وتصبح شخصيّة هذا الإنسان واضحةً تمامًا، بأفعاله وأقواله وأفكاره وكلّ ما يخصّه، من خلال هذه المشاهد. 

 

أضربُ مثالًا لفهم المسألة ببساطةٍ: عند تصوير مشهدٍ في فيلمٍ، فإنّ كلّ صورةٍ هي مجموعةٌ من الإطارات، إذ إنّ الإطار الواحد مدّته جزءٌ من الثانية. ومجموعةٌ من الصور تُكوّن مشهدًا في الفيلم، وانتهاء التصوير يتمّ -حرفيًا- بانتهاء آخر إطارٍ، في آخر صورةٍ، في آخر مشهدٍ، وهذا هو الاستيفاء. 

 

قد لا يدرك المتديّنون مفهوم النّفس الجديد، لكنْ من لديه خلفيّةٌ معرفيّةٌ بعمل الأفلام لن يجد أيّ صعوبةٍ في فهم الأمر. فهم كلمات القرآن بصفةٍ عامّةٍ يعتمد كثيرًا على الخلفية المعرفية التي يحملها كلّ إنسانٍ، والإنسان في الوضع الطبيعي يقبل ما يفهم، ولا يعارض ما لا يفهم، بل يتريّث ويبذل مزيدًا من الجهد في محاولةٍ لفهم ما غاب عنه، بدلًا من الاستسلام لغياب المعرفة. 

 

الآية الثالثة: (لَّا یَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ فَلَیۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِی شَیۡءٍ إِلَّاۤ أَن تَتَّقُوا۟ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةًۗ وَیُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِیرُ) (سورة آل عمران: آية 28). 

أشكل قول الله في القرآن (ويحذركم الله نفسه) على فقهاء العصور القديمة وفلاسفتها بصورةٍ لا يمكن تصوّرها، فصالوا وجالوا، وتساءلوا: هل لله نفسٌ أم لا؟ والحل يكمن في سطورٍ قليلةٍ فقط، وذلك عندما استطعنا فهم مدلول (النفس). النفس بصفةٍ عامةٍ كما ذكرنا هي المخرجات، ولو نظرنا إلى لفظ الجلالة فإنّ المخرجات التي أشار إليها القرآن يمكن تحديدها بكلّ سهولةٍ، من صفاته والأفعال التي نسبها إلى ذاته. فهو شديد العقاب، ويعذّب ويجازي ويهدي، ويَمُدّ لمن يمكر في المكر مدًا، ويأخذ أخذ عزيزٍ مقتدرٍ، وعلى الجانب الآخر فهو ذو الرحمة، وأحسن شهادةً، وأصدق حديثًا، وغفورٌ، والقاهر فوق عباده.

 

عندما يقول الله (ويحذركم الله نفسه) فهذا يعني يُحذركم من عقابه وأخذه، وكلّ صفاته التي يعاقب بها ويعذّب بها. 

 

الآية الرابعة: (قُل لِّمَن مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَیَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ) (سورة الأنعام: آية 12). 

هذه الآية استكملت الصورة، ومعنى (كتب على نفسه الرحمة) أي إنّ الرّحمة من المخرجات، أو الصفات الأساسية له سبحانه. لا مجال هنا للتجسيد، ولا لفلسفاتٍ من القرون الوسطى الغارقة في التّجسيم، ولا تعي حالة اللفظ ولا صفات الكلمة وخواصها. 

 

الآية الخامسة: (وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَـٰبًا مُّؤَجَّلًاۗ وَمَن یُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡیَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن یُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡـَٔاخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِی ٱلشَّـٰكِرِینَ) (سورة آل عمران: آية 145).

 

لكي نفهم هذه الآية، لِنفترض أنّ كلّ زفرةٍ (نفسٍ) يُخرجها الإنسان تُخزَّن في مكانٍ ما مثل المخزن. ومع آخر نفسٍ يخرج تنقطع علاقة هذا المخزن بالجسد، الذي كان يقوم بالعمليات الميكانيكية، وهذا هو الموت. الموت انقطاع الصلة بين شيئين؛ فيصبح الجسد كيانًا ماديًا ليس فيه أيّ حياةٍ، أمّا النفس فقد استُكملت في مكانٍ آخر، وهي ما تُمثّل هذا الإنسان الذي استهلك جسده الماديّ. كيف يمكن إعادة هذه النفس أو استحضارها بطريقةٍ ما، وإعادة اتصالها بالجسد الماديّ؟ هذا ما سوف نتعرّف عليه في الفصول القادمة، عندما نتحدّث عن البعث، وقدرة الإنسان على إحياء الموتى. 

 

الآية السادسة: (فَطَوَّعَتۡ لَهُۥ نَفۡسُهُۥ قَتۡلَ أَخِیهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ) (سورة المائدة: آية 30). 

هذه الآية رسمت بُعدًا جديدًا لعلاقة الإنسان بالنفس، فهل تنقطع العلاقة بين الجسد ومخرجاته السابقة بمجرد خروج الزّفرة (النفس) في كلّ ثانيةٍ؟ 

 

هذه الآية تقول لنا لا، سوف تظل العلاقة قائمةً، وهذه المخرجات سوف تُؤثّر في تصرّفات الإنسان كذلك، وهذا ما يعنيه (فطوعت له نفسه قتل أخيه).

 

 أنا لا أتحدّث هنا عن فلسفةٍ وتصوراتٍ بقدر ما أتحدّث عن أفكارٍ علميةٍ، ترتبط بالعلاقة بين الطاقة والأجسام، ومن خلال خلفيةٍ معرفيةٍ بسيطةٍ يمكن إدراك أنّ مثل هذا الاتصال جائزٌ وبقوةٍ، بل إنّ كلمات القرآن تشير إليه. هل يمكن أن يبقى كلّ ما يخرج من الإنسان من تفاعلاتٍ في صورة طاقةٍ مخزّنةٍ في حيّزٍ حوله، وهو ما نُسمّيه (نفسه) التي هي محور الحديث؟ 

 

لا أستبعد أبدًا أن يكون مخزن هذه النفس حول جسد الإنسان المادّي، وهي كلّ مخرجاته في حياته، ويضاف إليها باستمرار نشاطاته على مدار الثانية. لدينا إشارةٌ أخرى في الآية التالية، على تفاعل النفس مع الإنسان، وبقائها على اتصالٍ مع الجسد ما دامت فيه حياة.

 الآية السابعة: (وَمَاۤ أُبَرِّئُ نَفۡسِیۤۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوۤءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّیۤۚ إِنَّ رَبِّی غَفُورٌ رَّحِیمٌ) (سورة يوسف: آية 53)

 لو أنّ النفس تغادر مع كلّ زفرةٍ، وتذهب إلى مكانٍ لا اتصال فيه بالإنسان وجسده، لما كان لها تأثيرٌ عليه مرةً أخرى، ولكنْ يبدو أنّها قريبةٌ منه، وعلى اتصالٍ به، وتتفاعل معه باستمرار. 

لو جاز لنا التعبير، فيمكن وصف النفس أو التراكم الطاقيّ حول الجسم بالهالة التي تحيط بالإنسان، والتي تتراكم باستمرارٍ طالما يتنفس الإنسان. 

الآية الثامنة: (تَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمۡ تَكُونُوا۟ بَـٰلِغِیهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ إِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُفٌ رَّحِیمٌ) (سورة النحل: آية 7).

أشارت هذه الآية إلى العلاقة التي يمكن من خلالها فهم النفس، وربطتْها حقيقةً بالتّنفس. إذ إنّ أوّل مظاهر تعب الإنسان المُجهد هو تتابع الأنفاس، أو صعوبة التّنفس، فكأنّ الآية تدقّ جرسًا هنا، لنستطيع الرّبط بين عمليّة التنفس ذاتها، ومدلول النفس. وحتى لا نظلم العصور القديمة، لا يمكن من دون فهم آليّة التنفس نفسها، ومكونات الزفير، فهم ما يمكن أن تدلّ عليه مخرجات التّنفس، وكيف يمكن أن تحمل شيئًا من المعلومات، أو تُعبّر عن صاحبها. 

 

الآية التاسعة: (یَوۡمَ تَأۡتِی كُلُّ نَفۡسٍ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٍ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ) (سورة النحل: آية 111).

هذه الآية إشارةٌ إلى ما ذكرته من قبل، وهي أنّ النفس تُمثل صاحبها. ونرى أنْ لا علاقة للرّوح بعمليّة حساب الشّخص على أفعاله. الرّوح هي المدخلات، وهي شيءٌ واحدٌ، وكلّ شخصٍ ينهل منها بقدر ما يستطيع، ثمّ تخرج تصرّفاته وأفعاله ونشاطاته مسجّلةً في الأنفس، والتي بدورها تُكوّن نفسه التي سوف يقع عليها الغُرم. لقد كان الرّوح مفردًا في جميع مواضعه في كتاب الله، وهذا هو عين العدالة الإلهية، بينما الأنفس متعدّدةٌ بحسب كلّ إنسانٍ، وتفاعله مع الرّوح، وقدرته على الاستيعاب. 

 

الآية العاشرة: (مَّاۤ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّینَ عَضُدًا) (سورة الكهف: آية 51). 

الآية تشير إلى عجائب خلق النفس وإبداعه، وليس مجرّد خلق الإنسان بشكله المادي فحسب؛ فهو أمرٌ عظيمٌ كذلك. أرى أنّ خلق النّفس بالمفهوم الجديد هو المقصود، وكيف يمكن لها أن تُسجّل كلّ لمحةٍ من لمحات الجسد، وتفاعله مع غيره، ثم حفظ كلّ هذا النشاط فيما يشبه الذاكرة المرتبطة بالإنسان، وذلك كلّه أمرٌ عظيمٌ لم نسبر أغواره حتى اليوم. 

 

تمكّن الإنسان عن طريق محاكاة الطبيعة من صنع حضارةٍ عظيمةٍ، فالطبيعة واقعٌ ملموسٌ بالنسبة إليه، مثل: طيران الطيور، وحركة الحشرات والأسماك، واستجابة الكائنات الدقيقة وغيرها. واستطاع تقليد ذلك وتسخيره في إنتاج تقنيةٍ وأدواتٍ مثيرةٍ للإعجاب، فما بالك عندما يستطيع الإنسان فهم عمل الرّوح والنفس، ثم ينقل هذه المعرفة إلى التطبيق العمليّ. لا أحد يمكنه التنبّؤ بما يمكن أن يحدث في القرن القادم، وكيف سيكون شكل الحياة، ولكنْ ما لا شكّ فيه أنّ كلّ فهمٍ جديدٍ للكون والطبيعة من حولنا، سوف يضاعف علوم الإنسان ومعارفه. 

 

الآية الحادية عشر: (وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِی) (سورة طه: آية 41). 

هذه الآية قد تُشكل على بعضهم، فينسبون لله ما لا يجوز. ولكنْ من خلال فهم النفس نستطيع القول إنّ معنى الآية: (جعلتك للمخرجات التي وضعتها) والتي تحدّثنا عنها من قبل، مثل: الرحمة والعفو، أو حتى إقامة الحجّة على الناس. لقد كان نبيّ الله موسى نقطة تحوّلٍ في تاريخ البشرية، في أمورٍ كثيرةٍ جدًا، والتي سنأتي على ذكر بعضها في الفصول القادمة، من خلال قصة الإسراء. لقد كان هذا النبيّ العظيم منارةً للبشرية في أكثر من موضعٍ وموقفٍ، وأكبر دليلٍ على ذلك ذكره الغزير في القرآن، بل هو أكثر نبيّ ذُكِر في كتاب الله. 

الآية الثانية عشر: (وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمًا وَعُلُوًّاۚ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ) (سورة النمل: آية 14). 

استيقنتها أنفسهم؛ أي أنّها معلومةٌ لهم من قبل، وقد عرفوها جيدًا، وهي مسجّلةٌ في أنفسهم، ولكنّهم أنكروها اليوم، وسوف تُسجّل كذلك، وتكون حجّةً عليهم. 

الآية الثالثة عشر: (وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِیۤ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَیۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِی فِی نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِیهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَیۡدٌ مِّنۡهَا وَطَرًا زَوَّجۡنَـٰكَهَا لِكَیۡ لَا یَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ حَرَجٌ فِیۤ أَزۡوَ ٰجِ أَدۡعِیَاۤىِٕهِمۡ إِذَا قَضَوۡا۟ مِنۡهُنَّ وَطَرًاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا) (سورة الأحزاب: آية 37). 

(تخفي في نفسك) تشير إلى أنّ النفس تحمل كلّ المعلومات وكلّ النشاطات التي يفعلها الإنسان، سواءٌ صرّح بذلك أم لم يصرّح. 

الآية الرابعة عشر: (إنۡ هِیَ إِلَّاۤ أَسۡمَاۤءٌ سَمَّیۡتُمُوهَاۤ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُم مَّاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَـٰنٍۚ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَمَا تَهۡوَى ٱلۡأَنفُسُۖ وَلَقَدۡ جَاۤءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلۡهُدَىٰۤ) (سورة النجم: آية 23). 

إذا كانت الآية التي نصّت على أنّ النفس أمّارةٌ بالسوء، أو أنّها تُطوِّع أشياء لصاحبها، قد لفتت انتباهنا إلى تفاعل النفس مع الجسد الذي فيه الحياة، فإنّ هذه الآية نقلتنا إلى بعدٍ آخر تمامًا. (تهوى الأنفس) تهوى؛ أي تتأرجح بين أمرين، و(تهوى الأنفس) تدلّ على أنّ الأنفس تتفاعل مع غيرها، ويحدث لها تأرجحٌ بين القبول أو الرفض، والجسد الذي تدبّ فيه الحياة قد يوافق على ذلك أو يخالفه بقدر ما يستقي من الرّوح.

 

هذه الآية تتوافق تمامًا مع آياتٍ كثيرةٍ، تشير إلى الابتعاد عن أهل السوء، وعدم الرّكون إلى الظالمين، والانصراف عن النفوس السيِّئة والاحتراز منها. ومن خلال فهمنا للنفس الآن أدركنا أنّ هناك تفاعلًا بصورةٍ ما بين النفس ومحيطها، وإن كان تفاعلًا بسيطًا، إلّا أنّ الإنسان هو من يُصدّق ذلك أو يكذّبه. 

 

لعلّ هذه الآية تدقّ ناقوس الخطر، وتُنبّه إلى اجتناب المجتمعات الجاهلة والماكرة والسيئة؛ لأنّ العيش في مجتمعاتٍ كهذه قد يُسبّب انحراف الإنسان، ويؤثّر عليه، ويضع عليه حملًا لا يقوى على مقاومته إلا بجهدٍ بالغٍ، واتصالٍ قويٍّ بالروح. إضافةً إلى أنّ النفس من خلال تعريفها: هي المجال الخارج في عمليّة التنفس، ونعلم جيدًا أنّ أيّ مجالٍ طاقيٍّ يتأثّر ويؤثّر فيما حوله بقدرٍ معيّنٍ. 

 

الآية الخامسة عشر: (وَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ) (سورة القيامة: آية 2). 

والآية السادسة عشر: (یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَىِٕنَّةُ) (سورة الفجر: آية 27)

المفسّر القديم قسّم النفوس من خلال هذه الآيات إلى نفسٍ لوّامةٍ تلوم الإنسان على أفعاله، ونفسٍ مطمئنّةٍ مستقرّةٍ. يمكننا وضع تعديلٍ بسيطٍ بناءً على مفهوم النفس الآن، وهو أنّ اللّوم يعني تفاعل النفس مع الإنسان، أو مع المخرجات التي خرجت منه. وتفاعل هذه المخرجات مع بعضها هو ما يجعل الإنسان يشعر باللوم في بعض المواقف.

 

في الغالب، يشعر الإنسان بالتأنيب إذا كانت مخرجاته السابقة خيّرةً؛ فعندما يطرأ عليها فعلٌ غير منسجمٍ معها أو مع مجتمعه، يبدو متوتّرًا وقلقًا، وهذا -لا شك- نتيجةٌ لتفاعل مخرجاته السابقة (نفسه) مع أفعاله الحالية، وهذه هي النفس اللّوّامة. 

أعتقد أنّ النفس المطمئنّة هي النتيجة النهائيّة بعد استيفاء كلّ الأفعال والتصرفات، فإنْ كانت المخرجات طيّبةً كانت النفس بالمجمل مطمئنّةً.

 

 الآية التاسعة عشر: (وَنَفۡسٍ وَمَا سَوَّىٰهَا) (سورة الشمس: آية 7). 

 جاءت هذه الآية في سورة الشمس، وكنت قد أفردت لسورة الشمس فصلًا كاملًا في الجزء الثاني من سلسلة كتاب تلك الأسباب. جاء في هذا الجزء أنّ سورة الشمس تتحدّث عن ظاهرة الكسوف، ووضعتُ وقتها تصوّرًا بسيطًا للغاية، عن علاقة النفس بالكسوف.

 

الآن، من خلال فهم (النفس) أعتقد أنّ العلاقة أصبحت أكثر وضوحًا، إذ إنّ النفس هي تلك المخرجات المحمولة على مركّباتٍ، مثل: ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، وهذه المخرجات هي طاقةٌ في حدّ ذاتها. وعلاقة الشمس ومجالها وطاقتها بطاقةٍ كهذه بدتْ واضحةً من خلال هذه الآية، فالنفس تتفاعل مع محيطها، ويمكن أن يؤثّر فيها سلبًا أو إيجابًا. أضع هنا النقاط العريضة للفكرة، وأعلم جيدًا أنّ باستطاعة متخصّصٍ تحليل الأمر بعمقٍ أكبر، وذلك فقط إذا تعامل مع الفكرة بإنصافٍ ودون تحيّز، ودون جعل الدين -كما تسبب في ذلك المتديّنون- مجموعةً من الأساطير والخرافات. 

 

إضاءة

إنّ أسرار النفس والرّوح عميقةٌ، بالقدر الذي جعلها غامضةً كلّ هذه القرون، ومثيرةٌ بقدر ما بدت بسيطةً، وواعدةٌ تبشّر إنسان عصر العلم والمعرفة بقدرته على فهم وجوده ومهمته ومراد الله منه، في هذا الكون المترامي الأطراف. 

سوف أضع في السطور التالية تصوّرًا فلسفيًا لمهمة الإنسان على الأرض، من خلال فهم النفس، وسوف يصبح هذا التصوّر أكثر وضوحًا مع الفصول القادمة، ولكنّه يبقى تصوّرًا بقدر الحيّز العلميّ الذي يحيط بي. 

دورة الحياة على الأرض تبدأ من النبات، فهو يأخذ ثاني أكسيد الكربون في عمليّة التمثيل الضوئي، ويُخرج الأكسجين من خلال استخدام ضوء الشمس. هذه العمليّة هي العمليّة الأهمّ لوجود حياةٍ، فالأكسجين هو عصب الحياة. 

 

كلّ الكائنات الحيّة تستهلك الأكسجين وتُخرج ثاني أكسيد الكربون، وهكذا تبدو الدورة بين النبات والكائنات الحية، من خلال عمليّة التمثيل الضوئيّ وعمليّة التنفس. 

الإنسان هو الكائن المحمّل بالمشاعر والإرادة، وكلما كان الإنسان صالحًا أطلق طاقةً منسجمةً مع الكون، من خلال عمليّة التنفس. وكلما كان الإنسان شريرًا أخرج طاقةً غير منسجمةٍ مع الكون. ربّما كانت الثقافات القديمة التي تصف النفوس بالطيبة أو الشريرة تفطن إلى هذا الأمر، وكانت تُحاول بكلّ السّبل إبعاد النّفوس الشريرة.

 

كلما ازداد الإنسان معرفةً وعلمًا صلُحت مخرجاته، وطابت أنفاسه، وبذلك يكون مجمل النفوس الطيبة أكثر بكثيرٍ من النفوس الشريرة. أعتقد أنّ على الإنسان أن يسعى بكلّ قوةٍ لزيادة النفوس الطيبة، بكل ما في الكلمة من معنىً؛ لأنّه بهذه الصورة سوف يُحدِث انسجامًا كاملًا مع الكون، وتنفتح أمامه طاقاتٌ جديدةٌ، نتيجةً لهذا الانسجام. قد يكون هذا الانسجام مبشّرًا، وإشارةً إلى قدرة الإنسان التي تفوق التصوّرات، وربّما يشير إلى أنّ الإنسان قد يهاجر في هذا الكون الفسيح عند وصوله لهذه الدرجة، ليعمر هذا الكون وتدبّ فيه الحياة.

 

 لا أستطيع الوصول إلى ما لا نهايةٍ، ولكنّني أعرف جيدًا أنّ مهمّتنا اليوم هي الانسجام مع الكون؛ لغرضٍ جديدٍ تمامًا، نصبح فيه أدوات الإله في هذا الكون، كما سوف يأتي في الفصول القادمة. 

 

إذا وصلنا إلى مرحلةٍ يمتلئ الكون فيها بنفوسٍ طيبةٍ، ومخرجاتها متّسقةٌ تمامًا مع الطبيعة، فهل سيزداد الرغد والبركة والوفرة في كل شيء؟ هل يمكن القضاء على كلّ أنواع الأمراض؟ هل يمكن تعمير الكواكب الأخرى و إمدادها بالأكسجين، من خلال عمليات تمثيلٍ ضوئيٍّ تراعي مفهوم النفس الجديد؟ هل يمكن أن يُمثّل فهم النفس والرّوح نقلةً نوعيّةً في فهم سلوك الإنسان وتقويمه؟ هل يساعد فهم الرّوح والنفس على دفع عجلة الأبحاث التي تحاول إطالة عمر الإنسان، أو التغلب على الشيخوخة، أو حتى إحياء الموتى؟ وهل يصيب العذابُ النفوسَ بغرض تنقيتها وتهذيبها؟ 

 

سوف نحاول الإجابة تباعًا على هذه الأسئلة في الفصول القادمة، وتحديدًا عندما نتحدّث عن البعث، وعن الآيات التي ارتبطت بنبيّ الله عيسى وإحيائه الموتى، وخلق كائنٍ حيٍّ. 

 

ملخص الفصل

  • الرّوح مشتقةٌ من الرّيح، وهي أحد مكوّنات الهواء، وهي الأكسجين تحديدًا.
  • الأكسجين وما يحمله من طاقةٍ هو الرّوح، ويصبح روحًا عندما يتفاعل مع الإنسان، ويستطيع الإنسان استقبال أمر الله منه.
  • إذا كان الأكسجين في مرحلة ما قبل التفاعل مع الإنسان، أو لم يستقبل الإنسان منه شيئًا، يكون بمثابة صاحبٍ، وليس الروح المسؤول عن الوعي والإدراك. 
  • النفس هي مخرجات الإنسان، وهي ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء تحديدًا.
  • كلّ نَفَسٍ يُخرجه الإنسان يحمل نسخةً ممّا فعله بصورةٍ شاملةٍ خلال فترة التنفس، ومجموع ما حملتْه هذه الأنفاس هو ما يشكّل نفس الإنسان. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة