الفصل العشرون - يأجوج ومأجوج

الفصل العشرون


 يأجوج ومأجوج


مشهدٌ آخر من مشاهد أحداث النهاية عالقٌ في ذاكرة الناس، وهو مشهد يأجوج ومأجوج. ولو راجعت هذا المشهد في كتب التاريخ، لرأيت العجب، قصةٌ أسطوريةٌ وملحميةٌ من العصور القديمة بامتياز، دون أيّ أثرٍ لدليل على كلّ هذه التفاصيل. حتى نستطيع تتبّع هذه القصة منذ بدايتها ونكتشف خباياها لا بدّ أن نبدأ من حيث جاء ذكر (ذي القرنين).

 من هو ذو القرنين؟

لن نذكر تلك الأحاديث التي ملأت الكتب، ولا تلك الروايات التي ازدحمت بها الشاشات عن صفة (ذي القرنين)، ولا التوقّعات التاريخية لهذه الشخصية العجيبة. الوقت لا يحتمل، والأمر أثمن من أن ننفقه في سرد تلك الحكايات. نستطيع من خلال فهم ما يعنيه الاسم، وفهم المواقف التي ذكرها القرآن عن هذه الشخصية، أن ندرك أبعاد هذه الشخصية الفريدة.

(ذو القرنين) مشتقٌ من الفعل قَرَنَ، و(قرن) في قاموس اللغة له أصلان: الأصل الأول: جمع شيءٍ بشيءٍ. والأصل الثاني: نتوء شيءٍ بقوةٍ. 

من خلال المنهج الذي نستخدمه، والذي يعتمد على أن كل كلمةٍ لها أصلٌ واحدٌ؛ لذلك يمكننا القول إن (قرن) هو جمع شيءٍ بشيءٍ أو ربط شيءٍ بشيءٍ، أما الأصل الثاني وهو نتوء شيءٍ بقوةٍ فهو معنىً فرعيٌّ لكلمة (قرن)؛ إذ يُسمّى قرن الحيوان قرنًا لأنه يمكن ربط الحيوان منه، أو جمعه من خلال هذا القرن.

(ذو القرنين) له علاقةٌ وثيقةٌ بربط الأشياء بعضها ببعض، أو الخبير في المقارنات. ومَن يتتبّع العمليات العلمية والبحثية يعلم تمامًا أنّ جُلّ العلم قائمٌ على المقارنات، و(ذو القرنين) كما نفهم من الاسم هو المميّز في هذه المقارنات. 

هل في كتاب الله ما يؤيّد هذه الفرضية؟ 

نعم، هذه الفرضية تدعمها الآيات التي حكت قصة ذي القرنين في سورة الكهف، وسنحاول فكّ شفرة هذه الكلمات والألفاظ التي تناولت قصة ذي القرنين. 

الآيات التي تناولت قصة ذي القرنين

(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا(90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)) (سورة الكهف: آيات 83-92). 

 

المشهد الأول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) (سورة الكهف: آية 83).

افتتحت هذه الآية الحديث عن ذي القرنين، وذكرت أنّ الحديث الذي سيأتي عنه يُعدّ ذكرًا؛ أي حقائق. إننا أمام تأكيدٍ على أن ما سوف يأتي هو حقائق، فيجب الالتزام بها، وعدم التطرق لما ليس فيه فائدةٌ. هذه القصة أعمق بكثيرٍ من أن نبحث عن الشخصية التاريخية المطابقة للوصف، أو هل الإسكندر المقدوني هو ذو القرنين أم لا؟ القصة القرآنية لم تخبرنا أنّ ذا القرنين كان ملكًا مَلَكَ مشارق الأرض ومغاربها، ولكنها تُخبرنا أنه بلغ مغرب الشمس وبلغ مطلعها. قد يكون مَلكًا، وقد يكون رحّالًا، وقد يكون غير ذلك، وهذا في حدّ ذاته ليس له أهميةٌ تُذكر. أهمية ذي القرنين تكمن فيما فعله، وفيما تشير إليه قصّته. 

إذا كنا قد استنتجنا من لفظ (ذي القرنين) أن هذه الشخصية مولعةٌ بعقد المقارنات، أو أنه المميّز في عقد المقارنات، فنحن على موعدٍ مع الآية الثانية والثالثة التي تعطينا لمحةً عن هذه الشخصية، وتصبّ في الاتجاه نفسه. 

 

المشهد الثاني: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)) (سورة الكهف: آية 84-85).

لقد ذكرت الآيات أنه مُكِّن له في الأرض، وأن الله آتاه من كلّ شيءٍ سببًا، فما معنى ذلك؟ (السبب) هو علّة كل شيءٍ، ومعنى أنّ الله آتاه من كل شيءٍ سببًا أي آتاه تفسير كل شيءٍ وفهمه. إذن نحن أمام قصةٍ سوف تشرح لنا تعاملًا حكيمًا للغاية مع الأشياء التي سوف تعترضه؛ لأنّ تصرفات ذي القرنين قائمةٌ على فهم الأسباب. 

الآية التالية تخبرنا أنه أتبع سببًا؛ أي سار خلف الأسباب، فهو ليس نبيًا، ولكنه بدلالة الآيات عالمٌ، وعالمٌ لا يُشقّ له غبارٌ، نال تمكينًا في الأرض بفهمه للأسباب وسيره خلفها. هاتان الآيتان تتكاملان تمامًا مع اسم ذي القرنين وصفته، والتي شرحنا أنها تعني المُميّز في المقارنات. باب العلم يُفتح على مصراعيه لِمَن يملك القدرة على عقد المقارنات، ويملك فهمًا للغة الأشياء، ويسير خلف الأسباب. كل الصفات والخصائص التي ذكرتها الآيات تسير جنبًا إلى جنبٍ لتبيّن أنّ هذا الإنسان كان صاحب علمٍ، وكان متميّزًا للغاية في عقد المقارنات. 

ومَن لا يدري فائدة عقد المقارنات فليعلمْ أنها باب العلم، وليَعدْ لكلّ معلومةٍ تَعلّمها، وينظر كيف تعلّمها. فكل ما يتعلّمه الإنسان منذ نعومة أظافره وحتى نهاية عمره مرهونٌ بالمقارنات، وكلما كان لدى الإنسان القدرة على عقد هذه المقارنات وربط الأشياء ببعضها تزداد لديه القدرة الفكرية، والقدرة على التعامل مع الأمور الصعبة. الطفل الصغير يتعلّم العدّ والحساب مستخدمًا أصابعه، ومستخدمًا أشياء محسوسةً، وهذه العملية هي عقد مقارنةٍ بين مدلول العدد والمعدود، وهكذا يخطو الصغير أولى خطواته نحو العلم والمعرفة. يشبّ الصغير وتشبّ معه المقارنات التي يتعلّم منها، حتى وإن صار عالمًا لا يُشقّ له غبارٌ فهو ما يزال يعقد المقارنات بين كلّ فكرةٍ وأختها، ليستنتج فكرةً جديدةً. 

الآيات التالية تعطينا لمحةً عن أول مقارنةٍ عقدها ذو القرنين، فقد بلغ مغرب الشمس وبلغ مطلعها أيضًا، وهما حالتان متقابلتان، وكأنه يريد أن يدرك أمرًا ما.

 

المشهد الثالث: مغرب الشمس

(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)) (سورة الكهف: آيات 86-88).

لقد تحدّثنا عن معنى (عينٍ حمئةٍ) التي تغرب فيها الشمس في الكتاب الرابع قولًا ثقيلًا، ولا بأس من التعريج قليلًا على هذه الجزئية. 

لفهم مدلول لفظ (حمئة) لا بدّ من فهم أصل الكلمة وهو حمى. لفظ (حمى) وتحديدًا الجذر الثنائي (حم) وكما جاء في قاموس اللغة له أصلان، أولهما: اسودادٌ، والثاني: من الحرارة. إذا طبّقنا منهجنا في أنّ للكلمة أصلًا واحدًا في اللغة الإلهية على هذا الجذر الثنائي، فلا يمكن أن يكون للجذر أصلان مختلفان، وإنما هو جذرٌ واحدٌ يُمثّل حالةً لها خصائص وصفات، بذلك يمكننا دمج الجذرين، وفهم الخاصية والصفة التي يحملها الجذر الثنائي، من خلال فهم العلاقة بين الاسوداد والحرارة.

ما علاقة الحرارة بالاسوداد، وهما الأصل الأول والثاني للجذر الثنائي (حم) كما جاء في قاموس اللغة؟

لدينا في العلوم الطبيعية ظاهرةٌ تُسمّى ظاهرة الجسم الأسود، والتي يمكن أن تساعدنا على فهم صفات الجذر الثنائي (حم) وخصائصه. الجسم الأسود هو جسمٌ افتراضيٌّ يمتص الإشعاعات التي تسقط عليه دون أن يعكس أيًا منها بصورةٍ مثاليّةٍ، وعند الانعكاس فهو يعكس الأشعة أيضًا بصورةٍ مثاليّةٍ. علاقة السواد بالحرارة هي علاقةٌ تصف توهّجًا أو انبعاثًا للطاقة بشكلٍ يُمكننا أن نُسمّيه امتصاصًا أو انعكاسًا مثاليًا للحرارة؛ بسبب طبيعة الجسم الأسود. 

لذلك يمكننا القول: إن صفات الجذر الثنائي (حم) وخصائصه هي عملية استيعابٍ للطاقة، ومن ثمّ عكسها بشكلٍ ما، أو أنه تعبيرٌ يصف المحتوى الحراري لجسمٍ معيّنٍ. حتى لا نبحر كثيرًا في سرد مصطلحاتٍ قد تبدو معقدةً بعض الشيء دعونا نشرح خصائص الجذر الثنائي (حم) من خلال الآية التالية التي سوف تزيد المعنى وضوحًا وتبيانًا، من خلال فهم لفظ (يُحمى):

(يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (سورة التوبة: آية 35). يُحمى على الذهب والفضة يعني تسخينها حتى تختزن الطاقة الحرارية (زيادة المحتوى الحراري)، ثم إذا تُركت جانبًا تبدأ ببثّ هذه الحرارة للبيئة التي حولها، وإذا لامست جسمًا آخر فإنها تنقل الطاقة تلقائيًا من الجسم الساخن إلى الجسم البارد. هذه الصفة هي الخاصية الأساسية التي يحملها الجذر الثنائي (حم)؛ وهي استيعاب الطاقة، والقدرة على عكسها أو نقلها إلى جسمٍ آخر.

بعد فهم الجذر الثنائي (حم) يمكننا الآن فهم مدلول كلمة (عين)، التي تناولناها في أكثر من موضعٍ، والتي تدلّ على تدفّقٍ مستمرٍّ، يمكننا القول: إن المقصود بـ (عينٍ حمئةٍ) هو أن غروب الشمس يتبعه تدفّقٌ طاقيٌّ او توهّجٌ مستمرٌّ، أو انتقال طاقةٍ مخزّنةٍ إلى وسطٍ آخر.

ماذا يمكن أن نستفيد من هذا التعبير القرآني في وصف إحدى جولات ذي القرنين؟

من المعروف أنه عند غروب الشمس تبدأ الأرض ببثّ الحرارة التي امتصتها في أثناء النهار، ولولا هذه الحرارة لأصبحت درجات الحرارة منخفضةً لدرجةٍ تصعب معها الحياة بصورةٍ سليمةٍ. عندما يؤكّد القرآن على تعبير (عينٍ حمئةٍ) فهو يشير إلى حالةٍ خاصةٍ، تحتلّ العين الحمئة مرتبةً متقدمةً وأهميةً متميّزة.

تعبير (عين حمئة) يشير إلى استمرار التدفق الطاقي بمعدلٍ أكبر من المعدل الطبيعي، وهذا يعني إما أنّ طبيعة الأرض مختلفةٌ؛ أو أنّ فترة غروب الشمس طويلةُ نسبيًا؛ ممّا يدفعنا للاهتمام بتعبير (عين حمئة) وعدم تجاوزه.

لو سألتني عن ترجيح أحد الاحتمالين: هل طبيعة الأرض مختلفةٌ، أم فترة الغروب طويلةٌ؟ سوف أرجّح أنّ فترة الغروب كانت طويلةً؛ لأن التعبير القرآني ذكر (الشمس) و(الغروب) و(العين الحمئة)؛ ممّا يدفعنا للقول: إن العملية كلها متعلّقةٌ بغروب الشمس وما يُصاحبها.

من خلال المعطيات التي بين أيدينا يمكننا استنتاج أنّ ذا القرنين قد وصل لمنطقةٍ تغرب فيها الشمس في مدةٍ طويلةٍ، مثل منطقة أقطاب الأرض، التي تُعاني ظواهر مثل الليالي القطبية، والتي تغيب فيها الشمس لفتراتٍ طويلةٍ.

إنْ كانت الشمس قد غربت، فإن تأثيرها لن يتلاشى كليًا؛ بسبب تأثير العين الحمئة. قد تكون العين الحمئة هي التدفّق المستمرّ للطاقة الحرارية المخزونة في الأرض، أو حتى الطاقة المنعكسة من خلال طبقات الجو العليا، فيما يُعرف بالتناثر الضوئي، والذي يُنتج توهّجًا خفيفًا للضوء. لا شك أن الانبعاث الحراري في المناطق التي تغرب فيها الشمس لمددٍ طويلةٍ هو أحد أهم أسباب بقاء صور الحياة في هذه المناطق.

المُفسرون الذين فسّروا (تغرب في عينٍ حمئة) على أن الشمس تغرب في طينٍ أسودٍ، أو الذين يتساءلون كيف بلغ ذو القرنين مغرب الشمس؟ وهل للشمس مغرب؟ عليهم التريّث قليلًا، فالأمر ليس كما يظنّون. إنها إشارةٌ ربانيةٌ إلى ظاهرةٍ فيزيائيةٍ نعرفها اليوم جيدًا، وإشارةٌ قرآنيةٌ إلى شخصية هذا الرجل المولعة بالاكتشافات واتباع الأسباب. 

باقي الآيات الخاصة بمغرب الشمس تخبرنا بأن ذا القرنين قد وجد قومًا في هذه المنطقة، ومنهم –بالتأكيد- المصلحون والمفسدون، فأقام هناك وقتًا يُصلح أحوالهم، ثم بلغ مطلع الشمس. 

 

المشهد الرابع: مطلع الشمس

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)) (سورة الكهف: آيات 89- 92)

هذه الآيات تخبرنا كذلك أن ذا القرنين وصل لمنطقةٍ فيها الشمس قائمةٌ لفترةٍ طويلةٍ، بدلالة (لم نجعل لهم من دونها سترًا) وهذا يعني أنها ظلّت طالعةً لفترةٍ طويلةٍ جدًا. هذا التعبير القرآني متوافقٌ تمامًا مع ما وصل إليه ذو القرنين، من أنه وصل إلى مغرب الشمس ثم وصل لمطلع الشمس، وكأنه ذهب إلى أقطار الأرض، وهي المناطق التي تغرب فيها الشمس فتراتٍ طويلةً، وتطلع فيها كذلك أوقاتًا طويلةً. سوف نلاحظ مع كل مشهدٍ من المشاهد القرآنية التي تحكي تجوّل ذي القرنين ذكر التعبير القرآني (أتبع سببًا) وهو تعبيرٌ يوحي بأنّ الرجل كان في رحلة بحثٍ واستكشافٍ، وهو ما يتوافق تمامًا مع شخصيته، ومع اسمه الذي ذُكر به في القرآن. 

تجلّت عبقرية ذي القرنين عندما التقى القوم الذين اشتكوا له من تأثير يأجوج ومأجوج، وطلبوا منه أن يفصل بينهم وبين يأجوج ومأجوج بسدٍّ.

***

يأجوج ومأجوج 

 

قصة (يأجوج ومأجوج) مليئةٌ بالمعلومات العلمية، وبحديثٍ لا يُملّ عن كنوز الأرض، والتي ذكرتها هذه القصة. في أثناء رحلات ذي القرنين يخبرنا القرآن أنّه وصل إلى منطقةٍ وَصَفَها بأنها بين السدّين، والسدّ هو ما يحجز خلفه شيئًا ما. 

الآية الأولى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا) (سورة الكهف: آية 93). 

هذه الآية عجيبةٌ، فقد ربطت بين المكان وهو بين السدين، وأن القوم لا يكادون يفقهون قولًا.

 ما نستطيع استنتاجه هنا أنّ هذا المكان على علاقةٍ وثيقةٍ بما أصاب الناس، من أنهم لا يكادون يفقهون قولًا، والفقه هو فهم الشيء وإدراكه. القرآن يخبرنا أن القوم لديهم مشكلةٌ في الفهم والإدراك، وهذا التأخر الذهني مرتبطٌ بموقعهم أو بمكانهم هذا. 

(بين السدين) تشير إلى أن موقع القوم كان في مكانٍ يكاد يكون مغلقًا. ويمكن أن يكون هذا المكان بين جبلين؛ فكل جبلٍ صار كالسدّ، وهم بذلك واقعون في منطقةٍ شبه مغلقةٍ بالجبال. الآية التالية أشارت إلى أن القوم اشتكوا من يأجوج ومأجوج، وهو ما يدفعنا للقول بأن يأجوج ومأجوج معهم في الحيز نفسه. 

الآية الثانية: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (سورة الكهف: آية 94). 

من هم يأجوج ومأجوج؟ 

لن نذهب بعيدًا ونشطح بالخيال، ولكن كما هو منهجنا سوف نُحاول اكتشاف ماذا يعني الاسم؟ وما هي صفاته؟ وما خصائص كلّ اسمٍ من هذين الاسمين؟ 

لنأخذ جولةً سريعةً في قواميس اللغة لفهم الجذر (أج) و(أجج):

  • جاء في قاموس اللغة أنّ جذر (أجّ) يعني الشِّدة، سواءٌ في الملوحة أو الحرّ، وأجيج الكير من فحيح النار. 
  • أما في لسان العرب فإنّ (أجج) تعني الْأَجِيج: وهو تَلَهُّبُ النَّارِ، والْأَجَّةُ وَالْأَجِيجُ صَوْتُ النَّارِ. 
  • كذلك في معاجم اللغة الحديثة (معجم اللغة العربية المعاصرة- أحمد مختار عمر 2008م) جاء: أجَّ النَّهارُ: اشتدّ حرُّه. أجَّ أَجَجْتُ، يَؤُجّ، اؤجُجْ/أُجَّ، أُجُوجًا وأُجُوجةً، فهو أُجاج، والمفعول مَأْجوج (للمتعدِّي). تأجَّجتِ النَّارُ: مُطاوع أجَّجَ: اشتعلت، التهبت وتوقّدت (تأجَّج اللهب- تأجَّجتِ المشاعرُ). 
  • في الكيمياء والصيدلة: فإن (أجّج) تعني تفاعلًا كيميائيًّا شديدًا، يولِّد حرارةً أو ضوءًا أو كليهما، ولكنّه لا يحدث بسرعةٍ تكفي لإحداث انفجار.
  • بالإضافة إلى (أجّج) الذي يعني الاشتعال، فقد جاء في المعاجم أنّ (أجج) كذلك تعني شديد الملوحة، أجَّ الماءُ: اشتدَّت ملوحتُه. 
  • من خلال قواميس اللغة نجد أن (أجّج) لها أصلان، وهما: اشتعال النار أو اشتداد الحر، وشديد الملوحة. ومن خلال المنهج الذي نستخدمه نعلم جيدًا أن الجذر له حالةٌ واحدةٌ، ولكنْ قد توجد حالةٌ فرعيةٌ للجذر تطمس صفاته وخصائصه الحقيقية.

لفظ (أجاج) جاء واصفًا الملح، وتحديدًا الماء المالح، وصفة الأجاج واقعةٌ على الملح، وليس على الماء. فما معنى أن يكون الملح أجاجًا؟

(وَهُوَ ٱلَّذِی مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱ وَجَعَلَ بَیۡنَهُمَا بَرۡزَخࣰا وَحِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا) (سورة الفرقان: آية 53). 

(وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡبَحۡرَانِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ سَاۤىِٕغࣱ شَرَابُهُۥ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱۖ وَمِن كُلࣲّ تَأۡكُلُونَ لَحۡمࣰا طَرِیࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡیَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِیهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُوا۟ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) (سورة فاطر: آية 12).

حتى لو قال لنا المفسر القديم إن الأجاج هو شديد الملوحة، فنحن نعلم أن الملح في حدّ ذاته ذو طعمٍ مالحٍ، فهل تعني (أجاج) تركيزًا عاليًا من الملح؟

من خلال جذر الكلمة وهي شدة الحر أو الاشتعال، دعونا نتطرّق لخصائص الملح وصفاته، وهل من خصائص الملح الاشتعال؟ أو هل للملح علاقةٌ بالحرارة؟

الأملاح بصفةٍ عامةٍ تتحلّل بالحرارة؛ لتعطي ما يُسمّى بالأكاسيد، والتي هي قلب تفاعلاتٍ شديدة الحرارة، تُسمّى بـ الثرميت، بل إن هذه التفاعلات هي أساس ما يُسمّى بالوقود الصلب، الذي يُستخدم في إطلاق الصواريخ. 

ملح البحر تحديدًا، وهو كلوريد الصوديوم، من الأملاح التي تُستخدم في التفاعلات شديدة الحرارة، من خلال مجموعةٍ من التفاعلات، والتي تؤدي بالنهاية إلى إنتاج كمية حرارةٍ كبيرةٍ. 

يبدو لي أن لفظ (أجّج) لفظٌ مختصٌّ بالاشتعال وشدة الحرارة، وليس بشدة الملوحة، وإنما قال أهل اللغة أنّ (أجج) تعني شديد الملوحة عندما رأوا أنّ لفظ (أُجاج) وصَفَ ملوحة الماء، فلم يجدوا بُدًّا من جعل (أُجاج) تعني شديد الملوحة. لو تعمّقنا أكثر في فهم لفظ (أج) أو (أجج) فإننا نصف حالةً قابلةً للاشتعال عند وجود ظروفٍ مناسبةٍ. لدينا آيةٌ واحدةٌ وصفت الماء نفسه بالأجاج، وقال عنها المفسرون إنها تعني الماء شديد الملوحة. 

(أَفَرَءَیۡتُمُ ٱلۡمَاۤءَ ٱلَّذِی تَشۡرَبُونَ (68) ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ (69) لَوۡ نَشَاۤءُ جَعَلۡنَـٰهُ أُجَاجࣰا فَلَوۡلَا تَشۡكُرُونَ (70)) (سورة الواقعة: آيات 68-70). 

الحقيقة أن الناس يستطيعون الانتفاع بالماء المالح عند تحليته، ولكنهم لا يستطيعون الانتفاع بالماء إن انشقّ وتحول إلى مكوّناته الأصلية، وهي الأوكسجين والهيدروجين ثم اشتعلا. بذلك نجد أن معنى (الماء الأجاج) هو تحوّل الماء الى موادٍ قابلةٍ للاشتعال، وهي تفكّكه إلى مكوّناته الأصلية، وليس أن يصير شديد الملوحة. لا عيب أن يُفسّر المفسر (الأجاج) في الآية بشديد الملوحة في حال غياب أيّ فهمٍ لتركيب المادة، ولكنِ اليوم مع ما لدينا من معرفةٍ نجد أنّ اللفظ يصف حالةً واحدةً في كل مرةٍ، وليست حالاتٍ مختلفةً. 

من خلال جذر كلمة (أجاج)، ومن خلال الفرضيات التي تصف الملح ذاته بالأجاج مرةً، والماء نفسه بالأجاج مرةً أخرى، نستطيع القول إن (الأجاج) هو قابلية الاشتعال، أو شيءٌ يمكن أن يشتعل عند تفكيك مكوّناته. 

لو حاولنا فهم لفظ (مأجوج) فهو يتكوّن من مقطعين (ماء) و(جوج). لفظ (ماء) لا يعني الماء الذي نشرب، بل يعني السائل، والماء هو أشهر هذه السوائل، والمقطع الثاني (جوج) متعلّقٌ بقابلية الاشتعال. بذلك نجد أن لفظ (مأجوج) يشير إلى السائل القابل للاشتعال. 

اللفظ الثاني (يأجوج) كذلك يصف شيئًا قابلًا للاشتعال، ولكنه ليس سائلًا كالأول. هل يصف لفظ (يأجوج) مادةً صلبةً أم مادةً غازيةً؟ هذه هي المواد الرئيسة لحالات المادة، وعند تتبّع الآيات التي قصّت هذه القصة سنُدرك على الفور أن (يأجوج) هو مادةٌ غازيةٌ؛ لأن هناك آيةً تقول: (وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعض)، وحرف الياء نفسه فيه من الليونة ما يجعلنا نؤيّد أنّ لفظ (يأجوج) إنما يصف حالةً غازيةً. 

نعم، لفظ (مأجوج) يصف سائلًا قابلًا للاشتعال، و(يأجوج) باستبدال الميم ياءً يصف مادةً أخرى قابلةً للاشتعال، ونجدها مادةً غازيةً، وسوف نوضّح ما الذي دفعني لقول ذلك. 

عندما نجمع هذه المعطيات جنبًا إلى جنبٍ، وعند ترتيل باقي الآيات، يتّضح أنّ (يأجوج ومأجوج) تصف حالة موادٍ سائلةٍ وغازيةٍ مختلطةٍ قابلةٍ للاشتعال. أما (مأجوج) فهو السائل القابل للاشتعال، وأستطيع القول بأنه زيت البترول. وأمّا الغاز الذي يعلو سطح المادة البترولية أو المختلط بها فهو المقصود بالغاز أو (يأجوج). مشاهد عديدةٌ تؤيّد أنّ (مأجوج) هو البترول، و(يأجوج) هو الغاز في الآيات التي سوف نستعرضها تباعًا. 

المشهد الأول: 

وجود الناس في هذه البقعة متجاورين مع يأجوج ومأجوج جعلهم لا يفقهون قولًا، أضف إلى ذلك الحيّز شبه المغلق (بين السدين) الذي يقيم فيه القوم متعايشين مع يأجوج ومأجوج. هذا التأثير تأثيرٌ معروفٌ لانبعاثات الغازات السامة التي يحتويها البترول والغاز نفسه. لو عُدنا إلى الفصل الثالث حيث الحديث عن الروح والنفس، وعرفنا أن الروح إحدى مكوّنات الهواء وهي (الأكسجين) فسندرك على الفور أنّ تأثير (يأجوج ومأجوج) على الوعي والإدراك من خلال استنشاق تلك الغازات أمرٌ مطروحٌ وبشدةٍ. عملية تأثير الانبعاثات السامة على الصحة العامة عامةً وعلى معدلات الذكاء خاصةً من الأمور الثابتة في الأوساط العلمية، ولا تحتاج أن نقدم عليها أدلةً. 

المشهد الثاني: 

هذا المشهد يوضّح لنا كيف تعامل ذو القرنين مع المشكلة المطروحة، والتي تُثبت بالدليل أن (يأجوج ومأجوج) خارجون من الأرض، أو ممّا يشبه البحيرة الصغيرة. 

الآية الأولى: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) (سورة الكهف: آية95)

طلبَ الناس من ذي القرنين بناء سدٍّ يمنع يأجوج ومأجوج من الفساد في الأرض، والفساد في الأرض هو -كما ذكرنا من قبل- تخريب الأرض، وهناك كثيرٌ من الأدلة على أن البترول والغاز من أكثر المواد ضررًا، سواءٌ خرجت في شكلٍ خامٍ أو احترقت، فهي موادٌ خطرةٌ للغاية على البيئة، ولا نحتاج لإثبات ذلك. 

ذو القرنين كان ذا علمٍ؛ وعَلِمَ انّ السد غير مجدٍ بالمرة، فهو سوف يحجز يأجوج ومأجوج خلفه، ولكنّ الهواء سوف يتلوّث بالانبعاثات من وجود هذه المواد. لذلك اقترح ذو القرنين عمل ردمٍ، فما هو الردم؟

للأسف الشديد، ورغم وضوح كلمة (ردم) بصورةٍ لا يمكن تجاوزها، إلا أن المفسر القديم جعل كلمة (ردم) مرادفًا لكلمة (السد) ولكنه سدٌّ عظيمٌ.

كلمة (ردم) تعني طمس شيءٍ تحت الأرض أو إخفاءه، أو سدّ ثلمةٍ، كما جاء في قاموس اللغة. الآية تتحدث عن ردم حفرةٍ لتجنب الضرر الصادر منها، وهذه الحفرة هي موضع يأجوج ومأجوج. فقط استبدل لفظ (يأجوج ومأجوج) بلفظي (الغاز والبترول) وكيف أنهم سبّبوا على سطح الأرض مشاكل صحيةً وذهنيةً للناس الذين يسكنون بجوار هذه المناطق. لقد طلبَ الناس من ذي القرنين بناء سدٍّ بينهم وبين هذه المواد الخطرة، لكنّ ذا القرنين أدرك أن السدّ لن يجدي نفعًا، فاقترح عليهم الردم، والردم هو ردم حفرة أو بقعة منخفضة على سطح الأرض، فما العجيب في ذلك؟ 

الردم حلٌّ مثاليٌّ لِما يخرج من الأرض إذا أراد الإنسان التخلص منه، وبما أننا نتحدث عن شيءٍ من صفاته الاشتعال، بل ومتطاير فإنّ الردم بقوةٍ هو الحلّ المثاليّ. لكن كيف قام ذو القرنين بالردم؟ 

الآية الثانية: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (سورة الكهف: آية 96).

كنا قد بيّنّا أنّ مفهوم القِطر هو الفحم، والاسم العلميّ هو الكربون، والذي يُضاف للحديد بقدرٍ معيّنٍ لإكسابه مزيدًا من الصلابة. تعبيرات الآية القرآنية تشير إلى سبك الحديد وصبّه في قوالب لكي يُستخدم في عملية الردم الذي ذكرها ذو القرنين. من الواضح أن هذه المواد كانت تطفو على سطح الأرض في هذا الوقت وفي هذا المكان، وكان لزامًا ردمها حتى لا تُسبّب ضررًا للناس، والفكرة الرئيسة التي ابتكرها ذو القرنين هي صناعة قطعٍ صلبةٍ وثقيلةٍ تُستَخدم في ردم مستنقعات الزيت هذه. 

الآية الثالثة: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98)) (سورة الكهف: آية 97- 98). 

تخبرنا الآية أنهم لم يستطيعوا (أن يظهروه) أي لم يُعلوه، (وما استطاعوا له نقبًا) أيْ خرقًا أو ثقبًا، أو ما يمكن أن نُسمّيه التآكل باللغة العلمية. 

قد يُشكل على الناس ألفاظٌ مثل: (استطاعوا) فيعتقدون أن المخاطبين هم مِن البشر؛ ولكنْ لو تدبّرنا آيات القرآن لأدركنا أنّ الأشياء الجامدة أو غير العاقلة جاءت معها تعبيراتٌ تُشبه التعبيرات التي تُستخدم مع البشر، مثل الجدار الذي يريد أن ينقضّ في قصة العبد الصالح ونبي الله موسى: (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) (سورة الكهف: آية 77). 

لقد عبّرت آية سورة الكهف عن إرادة الجدار، ونحن نعلم جميعًا أن الإرادة تكون للبشر، فلا نستبعد أن تعبير (استطاعوا) أيضًا يصف تلك الأشياء غير العاقلة، والتي يُرجّح أنها الزيت والغاز. كذلك لدينا تعبيراتٌ قرآنيةٌ عديدةٌ أخبرتنا أن الله قال للجبال وقال للأرض، وقد أجابت الجبال وأجابت الأرض بقولٍ ذكره لنا القرآن. أفعالٌ مثل: الإرادة للجدار، والاستطاعة ليأجوج ومأجوج، وقول الأرض، وحديث الجبال والسماء، يأخذنا لآفاقٍ جديدةٍ لفهم طبيعة الكون من حولنا، وكيفية التواصل معه، وكيفية تواصله مع بعضه. تحويل الأمر إلى المجاز يطمس علومًا ومعارف يمكن أن يستخلصها الإنسان من تعبيراتٍ كهذه، وذلك إن تمّت مناقشتها بصورةٍ علميةٍ، وفُهم المقصود بها. 

ثم استطردت الآيات القول بأنّ ما فعله ذو القرنين إنما كان رحمةً من ربه، (فإذا جاء وعد ربي جعله دكّاء)؛ أي هذا الردم. لفظ (دكّاء) تعني غورَ هذه الأشياء أو قطع الحديد في باطن الأرض. يبدو أنّ هذه القطع ثقيلةٌ للغاية، ويمكن أن تغوص في الأرض بشكلٍ ما. لذا يجب أخذ هذا التعبير القرآني في الحسبان إذا قُدّر لنا البحث عن المكان الجغرافيّ الذي تمّ فيه الردم. 

لا شك عندي أنّ ردم البترول والغاز اليوم أكثر نفعًا للبيئة وللإنسان من استخدامه، وذلك عند وجود بدائل للطاقة النظيفة، فما بالك في خروج مثل هذه المكونات في الزمن القديم، وما تُسبّبه للناس من ضررٍ، والناس لا يستفيدون منها بالشكل الذي نستخدمه اليوم. 

 

المشهد الثالث: 

الآية التالية تناولت حركة يأجوج ومأجوج، في إشارةٍ واضحةٍ إلى طبيعة هذه المكونات.

(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) (سورة الكهف: آية 99).

هذه الآية تمنحنا فرصةً لفهم طبيعة يأجوج ومأجوج، إذ إن تعبير (يموج) أو تعبير (موج) جاء في كتاب الله في ستة مواضع، جميعها يصف حركة الماء المضطرب، وهو الموج المعروف. لا بدّ أن نتساءل: ما دلالة هذا اللفظ الذي يصف حركة يأجوج ومأجوج، إن لم يكن لفظ (يموج) يصف سوائل تموج في بعضها بعضًا، وهي حركةٌ مضطربةٌ؟

 قد يظن بعضهم أن الغاز لا يتحرّك حركةً مضطربةً، أو كيف يموج الغاز والسائل؟ وهنا لا بدّ من فهم طبيعة الأشياء بدقةٍ وتأنٍّ. يتحوّل الغاز عند الضغوط العالية والتي غالبًا ما تكون تحت الأرض إلى سائلٍ، أو يُكوّن طبقةً كثيفةً نوعًا ما فوق سطح الزيت نفسه. البترول عادةً يوجد في مسام الطبقات الرسوبية في الأرض، إلا أنّ الآية تشير إلى كمياتٍ كبيرةٍ وغير عاديةٍ من البترول والغاز المختلط معه، لدرجة أنها كانت على سطح الأرض وردمها ذو القرنين؛ ممّا جعلها تموج في بعضها بعضًا تحت الردم. ثقل الردم جعل هذه المكونات مضغوطةً جدًا، وهذا ما يفسر كيف يموج بعضها ببعضٍ. 

الجزء الأخير من الآية (ونفخ في الصور فجمعناهم جمعًا) تعبيرٌ يعود بنا إلى الفصول التي تحدّثنا فيها عن البعث والآخرة. من المعروف أن البترول والغاز هي نواتج عملية تحلُّل المكونات العضوية على مدار ملايين السنين. معنى ذلك أن هذه المكونات كانت كائناتٍ حيةً في يومٍ من الأيام، ثم دُفنت في أعماق الأرض، وبفعل الضغط الشديد، ومع مرور الزمن، تحوّلت إلى هذه المكونات. 

عندما تعرضنا لمسألة البعث والتي قد يستطيع الإنسان تحقيقها بدا لنا أن من شروطها وجود العظام على الأقل. وبالنظر إلى المكوّنات البترولية فهي متحلّلةٌ تمامًا، وإعادتها للحياة عن طريق الإنسان تبدو مستحيلةً، ولكنّ عودتها في اليوم الآخر شيءٌ متوقّعٌ عندما يجمع الله الأولين والآخرين. قد يكون البترول أكثر من مجرد موادٍ عضويةٍ بسيطةٍ، وقد يكون ناتجًا عن تحلّل كائناتٍ عملاقةٍ عاشت على الأرض، وكانت سائدةً قبل تلك الفترة بملايين السنين، ولكنّها دُفنت تحت سطح الأرض بكمياتٍ كبيرةٍ، وتحوّلت إلى البترول والغاز. النفخ في الصور، والتأكيد على جمع الجميع، يدفعنا للقول بأنّ مصدر يأجوج ومأجوج كائناتٌ كانت سائدةً على سطح الأرض، وربما هي الكائنات التي أفسدت في الأرض واستبدل بها الله الإنسان، وسوف يجمعها ويجمع الإنسان في اليوم الآخر.

إذا كانت الآيات في سورة الكهف قد أعطتنا بعض الدلائل على حقيقة يأجوج ومأجوج من خلال تعبيراتٍ معينةٍ، فلدينا في سورة الأنبياء لمحةٌ لا يمكن تجاوزها تصبّ في اتجاه أنّ يأجوج ومأجوج إنما هما مادّتان قابلتان للاشتعال، تموج إحداهما في الأخرى، وهذه الآية تصف صفةً هامةً جدًا ومحوريةً في تكوين البترول والغاز.

(حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ) (سورة الأنبياء: آية 96). 

لدينا في هذه الآية لفظان يدعمان بشدةٍ أن يكون يأجوج ومأجوج هما البترول والغاز، وهما لفظ (حدب) ولفظ (ينسلون). هذان اللفظان يصفان خروج يأجوج ومأجوج، فما هو (الحدب)؟ وما هو (النسل)؟

 

مدلول (الحدب)

 

جاء في قاموس اللغة أنّ (الحدب) هو ما ارتفع من الأرض، وفي لسان العرب (الحدب) هو خروج الظهر أو التّحدّب كما نعرفه. جاءت كلمة (حدب) في القرآن مرةً واحدةً في الآية التي نحن بصددها، والحدب كما نفهم من جذر الكلمة ومدلولها أنها تقوّسٌ، وهو وضعٌ يصف الجزء الظاهر من القوس.

مدلول لفظ (نسل)

(نسل) هو خروج شيءٍ من شيءٍ، ويُقال أَنسَلَ ريشُ الطائر إِذا سقط، ويقال: أَنسَلَت الناقةُ وبرَها إِذا أَلقته تَنْسِله. من خلال فهم لفظ (نسل) نجد أنه يُعبّر عن حالة خروج شيءٍ من شيءٍ بشكلٍ متتابعٍ، وفي بطءٍ نوعًا ما، ونقول في لغتنا نسلَ الثوب بمعنى خرجت خيوطه من موضعها واحدًا بعد الآخر.

عندما نجمع لفظ (حدب) ولفظ (ينسلون) نستطيع أن نُحدّد على وجه الدقة حالة خروج يأجوج ومأجوج البليغة. إن يأجوج ومأجوج يتسرّبون من كلّ مكانٍ مقوّسٍ أو مُحدّبٍ.

يمكنك بكل سهولةٍ أن تبحث على محركات البحث كيف يخرج البترول والغاز من باطن الأرض، وسترى أنه بشكلٍ عامٍ عندما يوجد البترول تحت سطح الأرض فإنه يتسرب إلى الطبقات العليا؛ ممّا يشكّل ضغطًا على الطبقة الأعلى، وذلك يجعلها في شكلٍ مقوّسٍ حقيقيٍّ(محدب)، ويتسرب البترول بالفعل من خلال هذه الطبقات. 

 

يقول العلم: 

ما إن يتشكّل النفطِ الخام أو الغاز الطبيعي حتى يتجمّع في صخورٍ ذات مسامٍ كبيرةٍ، مثل الطبقات الرسوبية، ومنها الحجر الجيريّ أو الرمليّ، وتُسمّى هذه الطبقات بالطبقات الخازِنة.

هذه الطبقات تَحفَظُ النِفطَ الخام، ويعُودُ سببُ قدرة هذه الطبقات على حفظ تلك المواد وخزنِها إلى التحرّكاتِ الأرضيّة، والتي تدفعُ طبقات الأرض فوقها إلى أعلى. هذه التحركات الأرضية تساعد على بقاء الزيت محصورًا، وتُسمى هذه الطبقات بالطيّة المحدّبة، وهي ذات شكلٍ مُحدّبٍ أو تُشبه القوس. ويكون خروج هذه المواد من هذا التقوّس، وهو ما نراه وصفًا تفصيليًا لعملية خروج يأجوج ومأجوج التي ذكرها القرآن.

 

من خلال تتبّع قصة يأجوج ومأجوج في القرآن، ومن خلال تتبّع الألفاظ والتعبيرات القرآنية لهذين الوصفين غير المألوفين، نجد أنهما متطابقان تمامًا مع وصف الزيت والغاز، من خلال النقاط التالية:

1- لفظ (يأجوج ومأجوج) نفسه يحمل صفات القابلية للاشتعال، من خلال تتبّع اللفظ (أجج). 

2- لفظ (ردم) يشير إلى طمس هذه الأشياء تحت الأرض، وليس سدًا يحجُزها كما صوّرتها التفاسير.

3- التعبير القرآني (يموج بعضهم في بعض) يصف حركةً مضطربة لسوائل، وجاء هذا الوصف تحديدًا يصف حركة الماء المضطرب في القرآن.

4- التعبير القرآني (من كل حدبٍ ينسلون) وفيه لفظ (حدب) وهو التقوس، وهو شكل طبقات الأرض المتاخمة لوجود البترول، ولفظ (ينسل) يصف الخروج اللطيف، وهو تعبيرٌ يصف تمامًا خروج البترول من الأرض، وهو مطابقٌ تمامًا لوصف خروج يأجوج ومأجوج في القرآن. 

5- تأثير يأجوج ومأجوج هو الفساد في الأرض، وتأثيرهما على القوم الذين جاوروهم جعلهم لا يفقهون قولًا، وهذا هو تأثير المواد البترولية حرفيًا على البيئة والبشرية، وذلك هو التلوث المدمّر الذي أقرّته جميع الهيئات العلمية.

6- أضف إلى ما سبق أن القرآن لم يذكر لنا أيّ إشارةٍ عن حربٍ أو قتالٍ بين القوم الذين لا يكادون يفقهون قولًا ويأجوج ومأجوج، أو أي محاولةٍ من ذي القرنين لمخاطبة يأجوج ومأجوج، أو دخول حربٍ معهم؛ ممّا ينفي أن يكون يأجوج ومأجوج من البشر من الأساس كما قال المفسرون.

لقد جاب العلم أنحاء الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا ولم يرصد أيّ سدٍّ أو بقعةٍ تشير إلى وجود ما يُسمّى بيأجوج ومأجوج. لا سبيل لفهم هذه التعبيرات القرآنية إلا من خلال القرآن نفسه، ومن خلال تحليل كلّ لفظٍ غريبٍ، والتساؤل: لماذا جاء هنا؟ وما دلالة ذلك؟ وما علاقة كل لفظٍ بما يُجاوره؟ لنتمكّن من استخراج الحقيقة القرآنية. 

السبب الرئيس من وجهة نظري في وقوع المفسر ومن جاء بعده فريسة الأساطير هو اعتماده على أقوالٍ بسيطةٍ وساذجةٍ للغاية، وأغلبها رواياتٌ تاريخيةٌ، وعدم انتباهه للفظ القرآني ذاته. 

مثال ذلك أنّ المُفسر خلط بين السدّ والردم، رغم وضوح لفظ (الردم)، وهو وصفٌ لطمس بقعةٍ على الأرض، وليس حاجزًا يمنع ما خلفه. 

سوف يكتشف العلم تلك المسبوكات من الحديد الغنية بالكربون التي رَدَمت بقعةً من الزيت، وسوف يكتشف أنّ هذه المسبوكات من الحديد والكربون من صنع الإنسان، وأنها تُخفي تحتها كمياتٍ عظيمةً من البترول والغاز. إنها هناك تحت الأرض، وباقيةٌ لتخبر يومًا ما بصحة الواقعة التي سردها كتاب الله. 

لم يتبقَ لنا في هذا الفصل إلا قصة الدابة التي تُكلّم الناس لنحطم الأساطير، ونبني مكانها مُختبرًا يختبر الكلمات والألفاظ، ويبحث عن الحقائق ويُبيّنُها. 

دابةٌ من الأرض 

 

دائمًا ما أتساءل: لماذا يذهب الناس بعيدًا جدًا مستعينين بالأساطير والقصص غير المعقولة في تفسير آيات القرآن وعباراته، رغم وضوح المعنى والمقصود من الآية؟ من الآيات العجيبة التي جاء الناس فيها بكل الأساطير هو تعبير (دابة من الأرض) التي يقول الله عنها: (أخرجنا لهم دابةً من الأرض تُكلّمهم). 

(وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَیۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَاۤبَّةࣰ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا لَا یُوقِنُونَ) (سورة النمل: آية 82). 

عندما تُطالع التفاسير ترى عجبًا، ولا داعي لسرد تلك المرويّات هنا، ولكن سوف نتقصّى لفظ (الدابة) في القرآن، لندرك ما المقصود. لفظ (الدابة) في كتاب الله وصفٌ لكلّ ما يدبّ على الأرض، ولكنْ يجب الانتباه إلى أنّ القرآن فرّق بين ثلاثة أصنافٍ، وهي: الناس، والدواب، والأنعام، كما جاء في سورة فاطر: 

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) (سورة فاطر: آية 28).

إذن لدينا ثلاثة أصنافٍ رئيسةٌ، وهي الناس، وهذا الصنف معروفٌ. والأنعام تناولناها من قبل، وهي مُسخّرةٌ للإنسان. والدوابّ وهي القسم الثالث، والتي يبدو أنها تعيش مع الإنسان في الكون، وليس للإنسان الاعتداء عليها كما بيّنّا في فصل الحج، بل وعليه رعايتها. هذا المعنى تؤكّده آيةٌ أخرى في سورة الأنعام، وتُخبر أن الدوابّ أممٌ أمثالنا.

(وَمَا مِن دَاۤبَّةࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرࣲ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ) (سورة الأنعام: آية 38). 

تُخبر الآية أن الجميع يُحشر إلى ربه؛ ممّا يشير بالفعل أنّ لكلٍّ مهمةٌ ووظيفةٌ، وأن الإنسان من ضمن هذه المنظومة، والتي لا يجب عليه الاعتداء عليها أو التجاوز في حقها. 

عندما يقول ربنا: (وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَیۡهِمۡ) فيمكن فهم ذلك أنه إذا حصحص الحق، وبانت الأدلة، أخرج لهم الله دابةً من الأرض تُكلّمهم.

هل لدينا في كتاب الله مثالٌ لدابةٍ كلّمت أحدًا من البشر؟

لدينا مثالان، مثال الهدهد الذي كلّم سليمان عليه السلام، وهو طائرٌ، والنمل الذي سمع كلامه نبي الله سليمان وفهِمَ منطقه. 

تعلّق لفظ (الدابة) بـ (الأرض) يجعلنا نميل للقول بأن الدابة ما هي إلا النمل، وهناك بعض الإشارات التي تؤيّد ذلك.

الإشارة الأولى: إن الآية نفسها في سورة النمل، وهذا الأمر عجيبٌ؛ فقد سُمّيت سورةٌ من سور القرآن باسم هذه الدابة. 

الإشارة الثانية: السورة ذاتها قصّت قصة النمل الذي نطق، وفهِم كلامه نبي الله سليمان، وتعجّب منه وتبسّم ضاحكًا. 

هذه الإشارات لا يجب أن تذهب بعيدًا عن مفهوم الدابة التي تُكلم الناس عندما يقع عليهم القول. كنتُ قد تعرضت في الجزء الثاني من كتاب تلك الأسباب للنمل وكيف يتكلم، وقد أوردتُ في هذا الجزء بعض التفسيرات لمسألة كلام النمل. كلام النمل لا يعني أنه يتكلم مثل الإنسان، بل المقصود أن الإنسان يستطيع فهم التردّدات الصوتية للنمل، والتي بدورها تكون ذات معنىً، فتصبح كأنها كلامٌ حقيقيٌّ. للنمل تردّداتٌ صوتيةٌ، ويتبادل الخطاب مع فصيلته، وهذا أمرٌ مُثبتٌ علميًا. 

يبقى أمرٌ واحدٌ فقط، وهو استطاعة الإنسان على فكّ شفرة هذا الخطاب، ومن ثم يُصبح بالفعل قد اقترب من فهم كلام النمل. لو أتيحت الفرصة للإنسان أن يترجم منطق النمل، أو أيّ دابةٍ أخرى فسوف يكون ذلك بمثابة فتحٍ لا مثيل لها. سوف تخبره هذه الترجمة عن معرفةٍ لا مثيل لها، وعن رؤيةٍ مُغايرةٍ تمامًا، ونظرةٍ للكون مختلفةٍ بالكلية. أعتقد أن هذه اللحظة من اللحظات الحاسمة التي تتجلى فيها الحقيقة، وتزيد اليقين في آيات الله. 

إنّ أمر الدابة ليس شيئًا أسطوريًا، بل هو أمرٌ مُلحقٌ باستطاعة الإنسان المتنامية، والتي يُتوقّع لها أن تصل إلى هذه الدرجة في وقتٍ قريبٍ. قصة الدابة جاءت بصورةٍ عابرةٍ في آيةٍ واحدةٍ، ولم تأتِ لتشير إلى أيّ أحداثٍ غير عاديةٍ مصاحبةٍ لها، وإنما جاءت قصتها في معرض تعدّد آيات الله. عندما يقصّ القرآن أمرًا ما فهو يريد أن يشير للإنسان بالمعرفة، ولكنّ الإنسان -للأسف- ينزع غالبًا ناحية التسطيح والتهويل، ويُصرّ إصرارًا عجيبًا على جعل الأمور غامضةً رغم أنها ليست كذلك. 

مجرد تكليم الدابة للناس هو نوعٌ من إثبات آيةٍ من آيات الله، بدليل قول الله: (أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا لَا یُوقِنُونَ). معنى أن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون أن لديهم آيةً تُخبرهم بأنّ الدابة يمكن أن تتكلّم، ولكنّ الناس لا يوقنون. هذا ما حدث بالفعل، فعندما قصّ القرآن قصة النملة وجدنا العجب في التفسيرات، ومحاولات بعضهم لعدّ الأمر مجازيًا، وإصرار بعضهم على محاكمة القرآن وفقًا لقدراته العقلية. عندما تتحقق هذه الآية فهي لا شك إثباتٌ لآيةٍ من آيات الله التي لا يوقن بها الناس. لا نريد التعجل في فهم آيات القرآن، ولا يجب أن يعتقد الإنسان أن فهم القرآن ينتهي عند قدراته، بل يجب أن نسلك طريقًا علميًا في فهم محتوى هذا الكتاب، وننطلق من حقيقة تعبيراته؛ لأن الانطلاق من كونه حقيقةً وذكرًا سوف يهدى الناس لمعارف، ويوفّر عليهم وقتًا وجهدًا ومالًا لا حصر له. 

أسطورتان من الأساطير المُخيفة وهما يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وجدنا بعد تحليلهما أنهما لا تحملان أيّ شيءٍ غريبٍ وغير اعتياديٍّ، بل تحملان أخبارًا علميةً ومعرفةً يطلب الله من الناس فهمها وتدبّرها والاستفادة منها. هل يستفيق الناس ويتعاملون مع القرآن بما يستحقّ على أنه كتاب علمٍ ومعرفةٍ؟ وهل سيُدركون أنّ القرآن جاء ليهديهم ويُعلّمهم، ولم يأت ليتحدّاهم ويُرهبهم؟

 

 ملخص الفصل 

  • شخصية ذو القرنين المذكورة في القرآن إنما تدلّ على شخصٍ بارعٍ في المقارنات، وذو عِلَمٍ معتمدٍ تمامًا على الأسباب، وقد وضّحت الآيات صفات هذه الشخصية العظيمة. 
  • لم تَعد أسطورة يأجوج ومأجوج مخيفةً، بل هي وصفٌ للبترول والغاز، والذي عندما ظهر أضرّ بالأرض والبيئة فعلًا، وليس هناك شيءٌ غير اعتياديٍّ.
  • أرى أنّ دابة الأرض التي جاء ذكرها في القرآن هي النمل، والآية التي تتحدث عن دابة الأرض التي تُكلّم الناس إنما تشير إلى استطاعة الإنسان فهم منطق الدابة، والذي سوف يفتح للإنسان آفاقًا جديدةً، وهذا الفتح هو من أعظم الآيات وسوف يباغت الذين لا يوقنون أو الذين هم في شك منه مريب. 

 

***

 

تم بحمد الله.

  

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة