الفصل السادس عشر - اشرقت الأرض
الفصل السادس عشر
اشرقت الأرض
رغم آيات القرآن الغزيرة التي
أعطت وصفًا دقيقًا للجنة والنار، وعدّدتْ صفات كلٍّ منهما، إلا أنّ الوصف الحاليّ
لكلٍّ من (الجنة) و(النار) و(العذاب) بعيدٌ جدًا عن الوصف القرآني. لا أنكر أنني
في كتبي السابقة عندما تعرّضت لمفهوم (الجنة) و(النار) كنت متأثرًا بصورةٍ ما
بالتراث، ولم أُولِ الأمر بحثًا كثيفًا يتعلّق بمفهوم (الجنة) و(النار) و(العذاب).
إذ يكون البحث منصبًّا على نقطةٍ رئيسةٍ في الغالب، والنقاط الفرعية لا تأخذ
الاهتمام نفسه، ولكن بالعودة للمفهوم الفرعيّ نكتشف حقائق عجيبةً.
بعد فهم علم (الساعة) و(البعث)
و(الآخرة) وجدتُ نفسي أمام آياتٍ عن الجنة والنار تكاد تُعلن عن نفسها دون أيّ
غموض، كلّ ما احتاجَه الأمر هو ترتيب الآيات وقراءتها بتأنٍ. سنجد لدينا آياتٍ
شديدة الوضوح عن العذاب وعن الجنة ومكانها، ولكنّها اختفت تمامًا تحت نير التراث
الثقيل.
أين الجنة؟ وأين النار؟ لقد
كان هذا السؤال دومًا محلّ نقاشٍ، وما بين الإجابات الساذجة والإجابات الفلسفية
مسافةٌ كبيرةٌ من التصوّرات والخيالات، رغم الحقيقة التي كانت بين أيدي الناس في
تعبيراتٍ وكلماتٍ محدّدةٍ.
هل الجنة كما هو متعارف عليه
في السماء السابعة أم في السموات؟ وهل أوصافها لا يمكن تخيّلها كما هو سائدٌ
حاليًا؟
وَردَ لفظ (الجنة) في القرآن
في مواضع عديدةٍ تفوق السبعين موضعًا، منها مواضع أشارت بوضوحٍ إلى أنّ مفهوم
(جنة) يشير إلى مكانٍ مزدهرٍ غنيٍّ بالموارد المختلفة، وعلى الأرض، وقد جاء ذلك في
آيةٍ في سورة البقرة:
(أَیَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن
تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةࣱ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَابࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا
ٱلۡأَنۡهَـٰرُ لَهُۥ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّیَّةࣱ
ضُعَفَاۤءُ فَأَصَابَهَاۤ إِعۡصَارࣱ فِیهِ نَارࣱ فَٱحۡتَرَقَتۡۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ
ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ) (سورة البقرة: آية 266).
جاء لفظ (الجنة) في كثيرٍ من
المواضع يشير إلى مفهوم الحدائق الغناء على الأرض، كذلك فإنّ مفهوم الجنة التي وعد
الله عباده الصالحين هو على الأرض، أو بمعنىً أكثر دقةً، الأرض هي المركز الأساسي
للجنات، ومنها سوف يتفرّع وجود جناتٍ مختلفة.
سوف أتناول بعض الآيات التي
وصفت مكان الجنة بشيءٍ من التفصيل، وسنرى كيف أساء الإنسان فهم الآيات بصورةٍ
كبيرة. كذلك سوف نتعرّض للتعبير القرآني (خالدين فيها)، ونحاول فهم المقصود من هذا
التعبير، والذي لم يُفهم من خلال القرآن ذاته أيضًا.
الآية الأولى التي يستعين بها
المفسر ليدلّ على أن الجنة ليست على الأرض هي هذه الآية: (وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ
مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ
لِلۡمُتَّقِینَ) (سورة آل عمران: آية 133).
وذلك بدلالة لفظ (عرض) الوارد
في الآية، إذ لو أن الجنة عرضها السموات والأرض بمعنى أحد أبعادها السموات والأرض
فكيف تستوعبها الأرض، وهي في الحقيقة أضخم بكثيرٍ من الأرض بدلالة لفظ
(عرضها)؟
هنا تكمن الكارثة، وأقصد
حرفيًا فهم اللفظ من خلال تصوّرات البشر عن اللفظ، وليس دلالة اللفظ الحقيقية
تبعًا لما جاء في القرآن. فهِمَ المفسر لفظ (عرض) على أنه اتساعٌ أو أحد أبعاد
الحجم، وهي الطول والعرض والارتفاع، في حين أنّ لفظ (عرض) في القرآن لم يأتِ هكذا
أبدًا.
رغم أنّ معجم اللغة أرجع جذر
لفظ (عرض) إلى أنه خلاف الطول أي أنه بُعدٌ من الأبعاد، إلا أنّ القرآن لم يُقرّر
ذلك، وأعتقد أنّ لفظ (عرض) في المعجم، والذي يعني خلاف الطول ما هو إلا معنىً
فرعيٌّ لمعنى العرض الأصلي. (العرض) يعني وجود الشيء في مكانٍ ظاهر. وفي حياتنا
المعاصرة نجد أنّ لفظ (استعراض) أو حتى لفظ (العرض) يُشير إلى الدلالة نفسها التي
قرّرها القرآن، وهي استعراض شيءٍ ما، أو وجود الشيء في مكانٍ ظاهرٍ للعيان. يُقال:
استعراض الجيش، بمعنى ظهوره للمشاهدين بصورةٍ معينةٍ. مَعرِض الكتاب هو وجود الكتب
وظهورها وإتاحتها في مكانٍ محدّدٍ للجمهور. العرض بوصفه بُعدًا هو معنىً فرعيٌّ
للفظ (العرض) القرآني، إذ إنّ الشيء الذي له طولٌ وعرضٌ يكون مرئيًا أو مُشاهدًا
بصورةٍ أفضل عندما يواجه الناس من الناحية الأطول، وأعتقد أنّ تسميته بالعرض جاءت
من هنا. هذه التسمية أشكلت على المفسر، بل وعلى المعجم، وجاء تفسير الجنة تبعًا
لذلك تفسيرًا مشوّهًا.
سوف نستعرض الآيات القرآنية
التي وضّحت لفظ (العرض) على أنّه ظهور الشيء للعيان أو للمشاهد، بشكلٍ يُمكن رؤيته
بسهولةٍ.
الآية الأولى:
(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ
ءَامَنُوۤا۟ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَتَبَیَّنُوا۟ وَلَا تَقُولُوا۟
لِمَنۡ أَلۡقَىٰۤ إِلَیۡكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنࣰا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ
ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِیرَةࣱۚ كَذَ ٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ
فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡكُمۡ فَتَبَیَّنُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا) (سورة النساء: آية 94).
الآية تتحدّث عن عرض الحياة،
بمعنى ظاهر الحياة، أو مشاهدها، وليس (عرض) خلاف الطول بالتأكيد.
الآية الثانية:
(أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ
یَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل
لَّهُمۡ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِیغࣰا) (سورة النساء: آية 63).
الآية تنصح الإنسان بأن يُعرض
عن من في قلوبهم مرضٌ، والإعراض هنا هو عدم شهود مواقفهم، أو الحضور إلى
بيئتهم.
الآية الثالثة:
(إِذۡ عُرِضَ عَلَیۡهِ
بِٱلۡعَشِیِّ ٱلصَّـٰفِنَـٰتُ ٱلۡجِیَادُ) (سورة ص: آية 33)
هذه الآية تقطع كلّ قولٍ
وتوضّح بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ (العرض) هو استعراض الشيء أو ظهوره للمشاهد،
إذ إنّ عَرض الجياد هنا ما هو إلى مثال الاستعراض العسكري، أو ظهورها بنظامٍ
معيّنٍ، على نحوٍ تكون على مرأىً من المشاهدين.
لو تتبعنا لفظ (عرض) في القرآن
لن نجد دلالةً تختلف عن دلالة الظهور للمُشاهِد؛ وذلك يدقّ جرس إنذارٍ لمراجعة
المعاجم، ومحاولة فهمها بصورةٍ سليمةٍ، إن كنا نرغب بفهم القرآن.
نأتي الآن لفهم الآيات التي
وصفت (الجنة) بتعبير (عرضها السموات والأرض) أو (كعرض السموات والأرض).
بالإضافة إلى الآية التي جاءت
في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ
عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِینَ) (سورة آل عمران:
آية 133). نجد أنّ آيةً أخرى تحدّثت عن عرض الجنة في سورة الحديد:
(سَابِقُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ
مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ
لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ
وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ) (سورة الحديد: آية 21).
في الآية الأولى نجد أنّ الجنة
ظهورها أو وجودها في السموات والأرض، وربما أشكل لفظ (السموات) على المفسّر في هذه
الآية، فجعل يقول إنّ الجنة في السماء، وتناسى لفظ (الأرض)، أو أنّه أرجع لفظ
(العرض) إلى مسألة الأبعاد (الطول والعرض والارتفاع).
دلالة لفظ (السموات) هنا بجانب
(الأرض) له احتمالان:
الاحتمال الأول: أن الإنسان سوف يستطيع
استعمار الفضاء، بل سوف ينطلق إلى أقطار السموات حاملًا التعمير معه، بوصفه أداةً
من أدوات الإله، وتحقيقًا لتوجيه الله تعالى للإنسان أن ينفذ من أقطار السموات
والأرض إذا تحققت الاستطاعة.
(یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ
وَٱلۡإِنسِ إِنِ ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُوا۟ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُوا۟ۚ
لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَـٰنࣲ) (سورة الرحمن: آية 33).
وبمعنىً أكثر دقةٍ فإنّ الأرض
سوف تصبح نقطة انطلاق الإنسان، لتطبيق النموذج المثاليّ الذي توصّل إليه على الأرض
في باقي الكواكب القريبة منه. بل أستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك، وأرى أنّ الإنسان
سوف يتّخذ من كلّ كوكبٍ يستعمره نقطة انطلاقٍ جديدةً نحو الكواكب الأخرى، في
متواليةٍ غير منتهيةٍ. أمّا كيف يستعمر الإنسان الكواكب، أو كيف يحوّلها إلى جناتٍ
فهو أمرٌ العلم كفيلٌ بالإجابة عليه. والاحتمال قائمٌ بشدةٍ في أن يستطيع الإنسان
يومًا ما الانتقال لكواكب أخرى.
الاحتمال الثاني: وهو احتمالٌ ضعيفٌ، وهو أن
يصنع الإنسان جناتٍ معلّقةً مثل المحطات الفضائية، على نحوٍ تكون هناك جناتٌ على
الأرض، وجناتٌ في الفضاء المحيط به، أو حتى على القمر، فتصير المركبات الفضائية
عملاقةً ومجهّزةٌ بكلّ وسائل الحياة.
الآية الثانية التي ذكرت قول
الله (جَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ) تشير كذلك إلى أنّ
وجود الجنة وجودٌ حقيقيٌّ كوجود السماء والأرض. ونلاحظ في هذه الآية أنّ لفظ
(السماء) مفردٌ، أمّا لفظ (السموات) في الآية الأولى فجاء بصيغة الجمع.
الآية الأولى التي جاء فيها
لفظ (السموات) بصيغة الجمع تشير إلى المكان الفعلي للجنة، فهي منتشرةٌ في السموات
وفي الأرض، أمّا الآية الثانية فتشير إلى حقيقتها بوصفها حقيقةً ملموسةً، مثل ما
يظهر للإنسان من السماء والأرض.
هاتان الآيتان كافيتان تمامًا،
أن تُثبتا أن الجنة وجودها الحقيقي في السموات كما سوف تكون على الأرض، والسموات
هي ما سوف يستعمره الإنسان وينطلق إليه بإذن ربه.
لكن ما دلالة تقديم لفظ
(السموات) على (الأرض)؟
يمكننا فهم هذا التقديم من
خلال فهم الهجرات البشرية، فعندما يهاجر الإنسان إلى أرضٍ جديدةٍ يستعمرها تكون
أكثر تحضّرًا وتقدّمًا من الأرض القديمة في الغالب. هذا القانون كذلك يمكن تطبيقه
على استعمار الفضاء، وكيف سيصنع الإنسان جنّاتٍ في هذا الفضاء، ويبدو أنها سوف
تكون أكثر بكثيرٍ ممّا هي على الأرض، بل قد تكون أفضل.
أضف إلى الآيات السابقة آيةً
في كتاب الله صريحةً ومباشرةً تتحدث عن أنّ الجنّة على الأرض، ولا أدري كيف تجاوز
المفسّرون هذه الآيات.
(وَقَالُوا۟ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ
ٱلَّذِی صَدَقَنَا وَعۡدَهُۥ وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ
حَیۡثُ نَشَاۤءُۖ فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَـٰمِلِینَ) (سورة الزمر: آية 74).
الآية تشمل لفظ (أورثنا) ولفظ
(الجنة) مُعرّفًا؛ ممّا يُشير إلى أنّ المقصود هو الجنّة التي أعدّها الله لعباده
الصالحين. كذلك لدينا آيةٌ أخرى في سورة الزمر تتحدّث عن موقف الحساب، حيث يقول
كتاب الله (وأشرقت الأرض بنور ربها):
(وَأَشْرَقَتِ ٱلْأَرْضُ
بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ وَجِاْىٓءَ بِٱلنَّبِيِّنَ وَٱلشُّهَدَآءِ
وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (سورة الزمر: آية 69). هذه
الآية تتحدث عن (الآخرة) التي تناولناها في الفصول السابقة، وما زلنا نجد كلّ أمرٍ
يتمّ على الأرض، أمّا يوم القيامة كما أشرنا فهو يومٌ يُجمع فيه الشمس والقمر؛ بما
يؤذن بانهيار النظام الشمسي.
بذلك فإنّ الحديث عن غياب
الأرض، أو أن الجنة الموعودة خارج نطاق الأرض، هو حديثٌ لا يقف على دليلٍ، وفي
الغالب هو محض تصوّراتٍ بشريةٍ.
لكن رغم وضوح الآيات القرآنية
التي تشير إلى أن الأرض هي مكان الجنة إلا أن هناك آيتين قد يُفهم منهما غير ذلك،
وهما الآتي:
الآية الأولى:
(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ
وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (سورة الأنبياء: آية 104).
ربما يعتقد بعضهم أنّ هذه
الآية تشير إلى انتهاء الأرض التي نعيش عليها، وانقضاء السموات؛ بسبب لفظ (طيّ)
الذي يوحي بانهيار النظام على بعضه بعضًا. لكنّ المتتبّع للفظ (طيّ) سوف يدرك أنّ
الطيّ حركةٌ بطيئةٌ، وأنه خلاف التمدّد الذي ذكره الله في سورة الذاريات
(وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَيْيْدٍۢ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (سورة الذاريات:
آية 47).
(الطي) في اعتقادي يشير إلى
احتمالية انكماشٍ مرةً أخرى، بدلًا من التمدّد المستمرّ في أقطار السموات، وهنا
تُشير الآية إلى أنّ التمدّد كان سمة الخلق الأول، ولعلّ الوقوف على مثل هذه
الألفاظ يعطينا لمحاتٍ عن النظرية السليمة التي تصف تكوّن الكون منذ
البداية.
لا شكّ أنّ نشأة الكون من
الموضوعات المثيرة، وربما خصّصنا وقتًا لفهم هذه النشأة من خلال القرآن في وقتٍ
لاحق، لا سيما أنّ لدينا كثيرًا من الإشارات التي لا ينبغي تفويتها.
ما يهمّنا هنا هو أنّ هذه
الآية لا تشير إلى انتهاء النظام الكونيّ، ولا يصحّ الاستنتاج منها أنّ الجنة سوف
تكون في مكانٍ آخر لأنّ الأرض سوف تنتهي. العجيب أنّ لدينا آيةً بعد هذه الآية
الكريمة تخبرنا أنّ الأرض يرثها العباد الصالحون.
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ) (سورة الأنبياء: آية 105). هذه الآية وترتيبها بعد الآية محلّ
دراستنا تنفي تمامًا انتهاء الأرض، بل تؤكّد على أنّ الأرض ميراث العباد الصالحين،
والتي -لا شكّ- سوف تكون جناتٍ ونعيمًا.
الآية الثانية:
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ
غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
(سورة إبراهيم: آية 48).
هذه الآية من وجهة نظري تتحدث
عن يوم القيامة، وليس الآخرة التي ذكرت أنّ الجنة على الأرض، وأنّ الحساب على
الأرض، بدلالة الآية التي سبقت هذه الآية في سورة إبراهيم، والحديث متّصلٌ عن
الظالمين، إذ أقسموا ما لهم من زوال:
(وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ
يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ
أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ) (سورة إبراهيم: آية 44).
أرى أنّ الخطاب هنا موجّهٌ
للظالمين تحديدًا، الذين نالوا حياةً أخرى، وأقسموا ما لهم من زوال. المتتبّع
للحياة الدنيا لا يجد أحدًا مؤمنًا أو غير مؤمنٍ يُقسم أن ليس له زوال؛ بسبب العمر
القصير نسبيًا، لكنْ عند تحقّق الآخرة ذات العمر الطويل جدًا، وطول العهد، ربما
يدفع هذا بعضهم للاعتقاد بأنهم غير زائلين.
هذه الآية تتوافق مع ما جاء في
يوم القيامة، وجمع الشمس والقمر، ودلالة هذا الجمع على انهيار النظام الشمسي، ولا
يمكن وضعها في السياق نفسه الذي تناول مكان الجنة في السموات والأرض. الواضح كذلك
أنّ التبدّل سوف يقع على السموات والأرض، ممّا يُشير إلى حدثين مختلفين تمامًا،
كما ذهبنا من قبل.
يبدو أن هذا الفصل مليءٌ
بالمفاهيم الأساسية التي فُهمت على غير مدلولها الحقيقي، وتسبّبت في تشويه صورة
الحياة الآخرة، وصورة الجنة والنار، فقد أصبحت هذه الصور أقرب للعَبَث منها للعمل
وأن يكون الإنسان رقمًا مؤثّرًا في هذا الكون. من هذه المفاهيم مفهوم (الخلود)
بمعنى الحياة غير النهائية الذي ترسّخ في عقول الناس، والذي استمدّ وجوده من
التعبير القرآني (خالدين فيها أبدًا). هذه التعبير ارتبط بالجنة والنار، وخاض فيه
المُفسّر طويلًا، وكذلك الفلاسفة، ولكنّني لا أعتقد أنّ أحدًا تناول التعبير من
خلال دلالة اللفظ ذاته، وسياقه في كتاب الله.
خالدين فيها أبدًا
لم يحمل التعبير القرآني
(خالدين فيها أبدًا) مدلول البقاء غير النهائي في الجنة والنار، بل حمل مدلولًا
آخر يتناسب تمامًا مع مفهوم (الآخرة) الذي تناولناه، ومفهوم (الجنة) الجديد. من
أوضح الآيات التي لا تقبل الشك تلك التي تحدّثت عن بقاء أهل الجنة بتعبير (خالدين
فيها ما دامت السموات والأرض).
(وَأَمَّا ٱلَّذِینَ سُعِدُوا۟
فَفِی ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا
شَاۤءَ رَبُّكَۖ عَطَاۤءً غَیۡرَ مَجۡذُوذࣲ) (سورة هود: آية 108).
الآية الكريمة اشترطت لوجود
أهل الجنة في الجنة وأسمته خلودًا دوام السموات والأرض، إذن البقاء غير النهائي
ليس مذكورًا هنا، ولكنّه بقاءٌ مشروطٌ باستمرار وجود السموات والأرض. كذلك الآية
التي ذكرت تبدّل السموات والأرض، وهذا معناه انتهاء صفة الخلود عند التبدّل؛ لأنّ
السموات والأرض لم تعد موجودةً. هذا ليس معناه أنّ الإنسان سوف يفنى، بل معناه
الانتقال لدورةٍ أخرى، وهي اليوم الآخر الذي جاء مرتبطًا بصورةٍ كبيرةٍ بالإيمان
والغيب. لا شكّ أنّها مرحلة اليوم الآخر، وهي مرحلةٌ أعظم بكثيرٍ ممّا
قبلها.
لفظ (خالد) نفسه من خلال اللغة
لا يعني البقاء الأبدي، أو البقاء إلى ما لا نهاية. يمكننا فهم لفظ (خالد) من خلال
الآية الكريمة التالية:
(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَٰهُ
بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخْلَدَ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ ۚ فَمَثَلُهُۥ
كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ
ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا ۚ فَٱقْصُصِ
ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة الأعراف: آية 176).
تعبير (أخلد إلى الأرض) أيْ
التصق بها أو لازمها، ولكنّه لا يعني بقي فيها إلى ما لا نهاية. جذر لفظ (خلد) في
قاموس اللغة كذلك يعني الملازمة والثبات، وهو ما يتوافق تمامًا مع مدلول اللفظ في
كتاب الله، ومع الآيات التي لم تذكر بقاءً غير مشروطٍ. بذلك كان البقاء في الجنة
بقاءً مشروطًا ببقاء السموات والأرض، وليس صكًّا على بياض كما يصوّره رجال الدين.
هذا الاستنتاج الجديد يأخذنا إلى أنّ وظيفة الإنسان بالأساس هي الحفاظ على هذا
النظام، والانطلاق منه إلى أنظمةٍ أخرى، وليس مجرّد متعةٍ لا هدف منها، أو بقاءً
سرمديًا ليس له جدوى، سوى بعض الطقوس التي أدّاها الإنسان في حياته القصيرة التي
عاشها قبل بعثه، تخلّلتها ظروفٌ لا حصر لها، وتقاطعت معها كثيرٌ من الأمور جعلتها
معقدةً جدًا.
عندما نضمّ الفصول السابقة
التي تحدّثت عن الروح والنفس والساعة والبعث ويوم القيامة سوف ندرك أنّ آيات الجنة
بمفهومها الجديد متكاملٌ ومتناغمٌ تمامًا مع المفاهيم السابقة، بعيدًا عن الأساطير
التي جعلت كتاب الله شِفراتٍ ورموزًا يصعب التعامل معها. لقد اخترع الناس دينًا
وعلمًا لا يخصّ القرآن، وصدّروه للعالم على أنه كلام الله تعالى، ولكن للأسف
الشديد فإنّ جُلّ هذا الفهم لا يمُتّ بصلةٍ لكلمات الله.
إذا كان لفظ (خالدين) في كلّ
آيات الكتاب لا يعني بقاءً لا نهائيًا، فهل إضافة لفظ (أبدًا) جعل البقاء أو
الملازمة لا نهائيةً. هذا اللفظ أيضًا لا يعني البقاء إلى ما لا نهاية.
جاء في القاموس أن أصل
(أَبَدًا) الْهَمْزَةُ وَالْبَاءُ وَالدَّالُ، ويَدُلُّ بِنَاؤُهَا عَلَى طُولِ
الْمُدَّةِ. فإذا كان (أبد) يدل على طول المدة فهو مناسبٌ للبقاء الطويل، وليس
للبقاء غير النهائي، وهو كذلك متناسقٌ مع لفظ (خالدين). الحقيقة أن الآية التي
ربطت الخلود ببقاء السموات والأرض قطعت قول كلّ خطيبٍ، ولم يعد لمفهوم الخلود غير
النهائي وجودٌ، بل ربطت الخلود بالأرض، وهو أمرٌ كان غائبًا عنا تمامًا.
رغم أن القاموس قال إن (أبد)
تدل على البقاء الطويل نجد أن القرآن استخدم تعبير (أمد) للتعبير عن البقاء
الطويل.
(ثُمَّ بَعَثۡنَـٰهُمۡ
لِنَعۡلَمَ أَیُّ ٱلۡحِزۡبَیۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوۤا۟ أَمَدࣰا)(سورة الكهف:
آية 12).
(قُلۡ إِنۡ أَدۡرِیۤ أَقَرِیبࣱ
مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ یَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّیۤ أَمَدًا)(سورة الجن: آية 25).
الجذر الثنائي للفظ (أمد) هو
(مد) ويعني الطول أو اتصال شيءٍ بشيءٍ، وهو مناسبٌ تمامًا للتعبير عن البقاء
الطويل. ربما حدث خلطٌ بين تعبير (أبد) وتعبير (أمد) لا سيما لو علمنا أن الآيات
التي جاء فيها تعبير (أبدًا) تحتمل البقاء الطويل كذلك.
لو عُدنا للجذر الثنائي للفظ
(أبدًا) سنجد أنه الباء والدال (بد) ويعني التفريق بين شيئين، وليس من صفات الجذر
الثنائي الطول أو البقاء الطويل. إنما من صفات الجذر هو التغيُّر، وسوف نلاحظ ذلك
على الكلمات التي انتهت بحرفٍ ثالثٍ مثل (بَدَّد) ويعني فرّق، ولفظ (بدل) وهو يعني
غيّر.
لفظ (بدأ) من دون الهمزة
الأولى يعني بدايةً، وهو كذلك يحمل صفة التغيّر؛ فالبداية هي نقطةٌ تفصل بين
مرحلتين، مرحلةٌ انتهت ومرحلةٌ قادمةٌ؛ وسنحاول تصفّح الآيات التالية لزيادة فهم
لفظ (أبدًا).
الآية الأولى:
(قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا
لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ
فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ) (سورة المائدة: آية 24).
لن ندخلها (أبدًا) أي لن يحدث
تحوّلٌ في موقفنا الذي اتخذناه منذ البداية بأننا لن ندخلها. (أبدًا) هنا لا تعني
طول المدة، بل تعني لن يبدأ أتباع موسى بالدخول ما دام القوم فيها. فإذا ذهب القوم
أو حدث طارئٌ غيّر هذه الحالة فسوف يدخلونها.
الآية الثانية:
(أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ
نَافَقُوا۟ یَقُولُونَ لِإِخۡوَ ٰنِهِمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَىِٕنۡ
أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِیعُ فِیكُمۡ أَحَدًا أَبَدࣰا وَإِن
قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ) (سورة
الحشر: آية 11).
لفظ (أبدًا) هنا أيضًا يصف
حالة الطاعة والتي لن تتغير مع مرور الزمن.
بتطبيق هذه النتيجة على تعبير
(خالدين فيها أبدًا) سنجد أن التعبير واضحٌ، وهو يعني بقاء الصالحين في الجنات دون
تحوّلٍ، وليس بقاءً غير نهائيٍّ. إنه تعبيرٌ يشبه تعبير الأمان الوظيفي، إذ يضمن
الإنسان عدم فصله من العمل.
هذا التعبير يُخبرنا أنّ
الخلود في الجنة لا يتبعه خروجٌ منها تحت أيّ ظرفٍ.
تعبير (أبدًا) هو تعبيرٌ يثبت
حالة الخلود، وهي الملازمة والملاصقة، ولكنّ الخلود -كما بيّنّا في السابق- مرتبطٌ
بشرط بقاء السموات والأرض. سوف يصبح تعبير (خالدين فيها أبدًا) أكثر وضوحًا عندما
يأتي مقترنًا بالنار في نهاية هذا الفصل.
عندما تطرّقنا لمهمة الإنسان
على الأرض، والتي استطعنا فهم جوانبها من خلال فهم لفظ (يعبدون) في الجزء الثالث
من كتاب تلك الأسباب الطور، وقلنا أنّ يعبدون تعني يتحمّلون مسؤوليّتهم، وأنّ لفظ
(عبد) يعني المسؤول أو الموظف بلغتنا المعاصرة. هذا التفسير أصبح أكثر عمقًا عندما
فهمنا لفظ (خالدين أبدًا) وارتباطها بالسموات والأرض، إذ إنّ بقاء الإنسان مرتبطٌ
ببقاء السموات والأرض، ويجب أن يتحمّل مسؤولياته. لن يستطيع الإنسان تحمّل مسؤولياته
إلا بفهمٍ شاملٍ للكون، وفهمٍ لكلّ المؤثرات والعلاقات بقدر استطاعته، ومحاولته
ضبط الميزان الكوني بكلّ ما أوتي من قوّةٍ.
صفات الجنة التي جاءت زاخرةً
في كتاب الله تُشير إلى طعامٍ وشرابٍ متنوّعٍ ووفرةٍ لا مثيل لها، وهي كذلك
متوافقةٌ مع استطاعة الإنسان التي تتطوّر كل يوم، إذ يتلافى العيوب، ويُحسّن
الصفات، أملًا في أن يحصل على وفرةٍ وتنوعٍ كبيرَين في جميع موارد الأرض. عندما
نقول إن الإنسان هو مَن يصنع فليس في هذا نفيٌ أو إنكارٌ لوجود الإله؛ وإنما هو
فهمٌ لدور الإنسان الذي كتبه الله عليه في كتابه.
الوصول إلى العلم الكامل -كما
ذكرنا- مرتبطٌ بكلمات الله، وإن كانت كلمات الله تُخبرنا بأنّ استطاعة الإنسان في
ازديادٍ، وأنّ الأرض يرثها عباد الله الصالحون، فما بال الناس يُنكرون.
لقد تطرّقنا من قبل إلى تعبيرٍ
رائعٍ في كتاب الله، وهو تعبير (حورٌ عين) في الجزء الثاني من كتاب تلك الأسباب،
وقلنا إنّ هذا التعبير يعني حالةً من التماثل (حالة مثالية) والاستمرارية، ولا
يعني –حصرًا- نساءً مخصوصةً لأهل الجنة. بعد أن تناولنا مفهوم الجنة في هذا الفصل
أصبحنا أكثر إصرارًا على أنّ مفهوم الحور العين هو تعبيرٌ يصف حالة التماثل
والاستمرارية في الجنة، وإن كانت في الجنة حياةٌ جنسيةٌ فهي داخلةٌ ضمن هذا
المفهوم من التماثل والاستمرارية، بمعنى أنها حالةٌ مثاليةٌ. أمّا حالة الأساطير
والتصوّرات البدائية التي تُصوّر الإنسان كشهريار يُحيط به جمعٌ غفيرٌ من النساء
الحسناوات، ولا همّ لهم إلا أن ينالوا رضاه، ويغترفوا من اللذة الجنسية بكلّ
السبل، فهو تصوّرٌ لم نرَ له في كتاب الله صدىً. لا شكّ أنّ اللذة الجنسية لها
وضعها الخاص، لا سيما مع وجود علاقة الودّ بين الطرفين، وهي علاقة الزوجية. الزوجة
تعني التوافق، أو أنْ يُكمل كلٌ منهما الآخر، وهذا الذي رأيناه في كتاب الله عندما
قرأنا (ولهم فيها أزواجٌ مطهرةٌ).
(قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَیۡرࣲ
مِّن ذَ ٰلِكُمۡۖ لِلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟
عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ
فِیهَا وَأَزۡوَ ٰجࣱ مُّطَهَّرَةࣱ وَرِضۡوَ ٰنࣱ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ
بِٱلۡعِبَادِ) (سورة آل عمران: آية 15).
(أزواجٌ مطهّرةٌ) بمعنى
التوافق، وكلٌّ منهما يُكمل الآخر، وهي من جنس الإنسان نفسه، ولم نرَ الآية تُحدّد
عددًا أو تصف مخلوقاتٍ نسائيةً مختلفةً، ولا شأن لنا بما يتصوّره كلّ إنسانٍ بحسَب
ثقافته وبيئته.
لا شكّ عندي أنّ علم الساعة
سوف يحمل حالاتٍ مثاليةً من كلّ شيءٍ، وسوف يستطع الإنسان بكلمات الله تحقيق كلّ
ما ذكرنا، وسوف يبوح لنا كتاب الله بكثيرٍ من الأسرار الذي لم ندرك أبعادها بعد.
وما هذه الكتابات إلا محاولاتٌ للفت انتباه الناس -وتحديدًا العالِمين منهم في شتى
بقاع الأرض- إلى هذا الكتاب العجيب، وألّا يدعوا تصوراتٍ بشريةً قديمةً وساذجةً
تحجبهم عن كنزٍ لا يقدّر بثمنٍ. هذا الكتاب ليس مُلكًا لأحد، وإنّما هو دليلٌ
وإرشادٌ للمنصفين البعيدين كلّ البعد عن التحيّز.
في الأسطر القادمة سوف أحاول
تدبّر أنواع الجنّات الواردة في القرآن، وتحديدًا (جنات عَدْنٍ) و(جنات
الفِردَوس). كنّا قد أشرنا إلى (جنة المأوى) عند تحليل سورة النجم، وقلنا إنّها
حالة الاطمئنان عند الإنسان، وليست جنةً في الحياة الآخرة. يُعزّز هذا الموقف ورود
(جنة المأوى) مرةً واحدةً في سياقٍ معرفيٍّ كما أشرنا.
كذلك (جنات النعيم) أو (جنة
الخلد) ليست أسماءً مخصوصةً، ولكنّها أوصافٌ قد تنطبق على (جنّات عَدْن) و(جنات
الفردوس). التعبيرات القرآنية الجديرة بالتوقف لفهم الجنات هي التعبير القرآني
(جنات عدن) و(جنات الفردوس). لكن قبل تناول مدلول (جنات عدن) و(جنات الفردوس) لا
بدّ أن نُشير إلى أنّ يوم القيامة جاء في أغلب مواضعه في كتاب الله كتحذيرٍ شديد
اللهجة للكافرين، وجاء مرتبطًا بالوعيد. هذه الكثافة التي ربطت بين القيامة
والعذاب دفعتنا للقول بأن النعيم لأصحاب الجنات الذي كان في الآخرة إنما هو تحصيل
حاصلٍ، وأنهم سوف ينتقلون إلى نعيمٍ آخر، ربما يكون أكثر ممّا كانوا فيه من قبل.
أما يوم القيامة فسوف يكون حسرةً على الكافرين الذين لا خلاق لهم في الآخرة، أو
الذين استمرّ ضلالهم في الآخرة وحبطت أعمالهم، فسوف ينالهم العقاب يوم القيامة. لم
نرَ في كتاب الله ارتباط الجنة بيوم القيامة مباشرةً إلا من خلال آيةٍ واحدةٍ،
وجاءت وصفًا عامًا.
(كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ
ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ فَمَن
زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ
ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ) (سورة آل عمران: آية 185).
حتى في هذه الآية يبدو لي أنها
تشير إلى أولئك الذين انتقلوا من حالة الضلال في الآخرة إلى حالة الاستقامة، بل
وتشير الآية إلى أن الأمر في الآخرة أكثر صعوبةً من الحياة الدنيا لكي يستقيم
الإنسان، إن لم يكن مستقيمًا من قبل.
(يوم القيامة) -كما ذكرنا- هو
انتهاءٌ للنظام الشمسي على الأقل، وإن لم يكن الإنسان قد خرج من هذا النظام وأقام
الجنات والمستعمرات خارج هذا النظام، فإن الله يقول (إلى ربك يومئذ المستقر) كما
جاء ذلك في سورة القيامة.
هذا يعني لنا أنه مع يوم
القيامة وتبدّل الأرض والسموات فسوف تَحلّ حالةٌ جديدةٌ تمامًا، لا شك أنها أفضل
بكثيرٍ لأهل الصلاح، وأكثر شدةً وقسوةً على أهل الضلال. سوف نرى صدى ذلك جيدًا
عندما نأتي على مفهوم (الجحيم) ومفهوم (جهنم).
جنات عدن
من الألفاظ العجيبة والتي ليس
لها مثيلٌ هو لفظ (عَدْن)، ولو حاولتَ البحث عن مدلول هذا اللفظ في المعاجم
اللغوية فلن تجد ما يشفي الصدر ويزيل الإبهام.
جذر الكلمة -كما جاء في قاموس
اللغة- يدلّ على الإقامة، فعندما نقول (جنات عدن) فهذا يعني جنات الإقامة. أرى في
لفظ (عدن) أكثر من مجرد إقامةٍ، وذلك بناءً على الجذر الثنائي للكلمة، وهو (عد).
لفظ (عد) يشير إلى حالةٍ من التعدّد؛ ممّا يجعلنا نعتقد أنّ التعدّد هو أهمّ صفةٍ
من صفات لفظ (عدن).
كذلك هناك ملاحظةٌ جديرةٌ
بالاهتمام، وهي ورود لفظ (جنات عدنٍ) في كتاب الله إحدى عشرة مرةً مقابل مرتين فقط
للتعبير القرآني (جنات الفردوس). لدينا ملاحظةٌ أخرى على تعبير (جنات عدن)، وهي
أنها جاءت في مواضع مختلفةً بتعدّد النعم فيها، بخلاف (جنات الفردوس) التي لم
يُعدّد فيها القرآن أيًا من النعم. وبلمحةٌ سريعةٌ على الآيات التي جاء فيها ذكر
(جنات عدن) سوف نجد تعدّد النعم، وملازمة التعبير القرآني (تجري من تحتها
الأنهار)، وتوصيف الملبس من حريرٍ وأساور من ذهبٍ. لذلك فإنّ تعداد النعم وتكرار
تعبير (جري من تحتها الأنهار) مع لفظ (عدن) يدفعنا للقول إن (جنات عدنٍ) هي
النموذج الأكثر شيوعًا لعباد الله الصالحين.
(وَعَدَ ٱللَّهُ
ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ
خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَةࣰ فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ وَرِضۡوَ ٰنࣱ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ
ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ
ٱلۡعَظِیمُ) (سورة التوبة: آية 72).
(جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ
یَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۖ
وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَدۡخُلُونَ عَلَیۡهِم مِّن كُلِّ بَابࣲ) (سورة الرعد: آية
23).
(جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ
یَدۡخُلُونَهَا تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ لَهُمۡ فِیهَا مَا
یَشَاۤءُونَۚ كَذَ ٰلِكَ یَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلۡمُتَّقِینَ) (سورة النحل: آية 31)
(أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ
جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ یُحَلَّوۡنَ فِیهَا مِنۡ
أَسَاوِرَ مِن ذَهَبࣲ وَیَلۡبَسُونَ ثِیَابًا خُضۡرࣰا مِّن سُندُسࣲ وَإِسۡتَبۡرَقࣲ
مُّتَّكِـِٔینَ فِیهَا عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ
مُرۡتَفَقࣰا) (سورة الكهف: آية 31).
(جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِی
وَعَدَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ عِبَادَهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ إِنَّهُۥ كَانَ وَعۡدُهُۥ
مَأۡتِیࣰّا) (سورة مريم: آية 61)
(جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ تَجۡرِی مِن
تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ مَن تَزَكَّىٰ) (سورة طه: آية 76)
(جنَّـٰتُ عَدۡنࣲ
یَدۡخُلُونَهَا یُحَلَّوۡنَ فِیهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبࣲ وَلُؤۡلُؤࣰاۖ
وَلِبَاسُهُمۡ فِیهَا حَرِیرࣱ) (سورة فاطر: آية 33)
(جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲ مُّفَتَّحَةࣰ
لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَ ٰبُ) (سورة ص: آية 50)
(رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ
جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِی وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ
وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۚ
إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ) (سورة غافر: آية 8)
(یَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ
وَیُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ
طَیِّبَةࣰ فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ) (سورة الصف: آية 12).
(جَزَاۤؤُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ
جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ
أَبَدࣰاۖ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ ذَ ٰلِكَ لِمَنۡ خَشِیَ رَبَّهُۥ)
(سورة البينة: آية 8).
لو حاولنا فهم تعبير
(جنات عدن) بمفاهيمنا المعاصرة، ومن خلال فهم تخطيط المدن، فهي تشبه النموذج
الشائع، والأكثر تداولًا بين الناس. مع ذلك فهذا النموذج تتعدّد فيه النعم، وهو
بحدّ ذاته نموذجٌ متكرّرٌ لأكثر الصالحين. وفي المقابل جاء تعبير (جنات الفردوس)
في موضعين فقط، ولم يُذكر فيها أيّ نوعٍ من التعدد أو الخيرات أو ذكر النعم.
(إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟
وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا)
(سورة الكهف: آية 107)
(ٱلَّذِینَ یَرِثُونَ
ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ) (سورة المؤمنون: آية 11).
لفظ (الفردوس) كذلك لفظٌ
غريبٌ حتى أنّ المعاجم لم تزد في قولها على أن الفردوس هو بستان. كذلك اعتقدَ بعضهم
أنّ أصل الكلمة فارسيٌّ، أو أنّ أصلها نبطي، وأنّ اللفظ في السريانية، وبعضهم يظنّ
أن الكلمة أصلها (Pairidesos) اللاتينية. لكن
تبعًا للمنهج الذي نستخدمه هنا فإنّ كلمة (فردوس) هي بالأساس عربيةٌ، ولكنها وجدت
طريقها للغات الأخرى بطريقةٍ ما، وجاء القرآن يُعيد الكلمة للعربية، والعربية
معناها لدينا أنّ الكلمة بتركيبها وحروفها تدلّ على مُسمّاها.
من هنا يمكن أن نحاول فهم هذه
الكلمة بناءً على تركيب الكلمة ذاته، والتي تحتوي على مقطعين. المقطع الأول هو:
(فرد) والمقطع الثاني هو: (وس).
المقطع الأول وهو (فرد) يعني
الفردية، أو شيئًا متفرِّدًا، أما المقطع الثاني فلم أجد له دلالةً في الوقت
الحالي، ولكنّني أعتقد أنه مرتبطٌ بحالة الفردية، أو أنه يُضيف بُعدًا آخر لحالة
الفردية التي جاءت في المقطع الأول.
يمكننا فهم كلمة (الفردوس)
بناءً على المقطع الأول (فرد)، وهو ما يعني التفرّد، وكذلك بالمقابلة مع لفظ (عدن)
الذي من صفاته التعدّد فسوف ندرك تفرّد هذا النوع من الجنّات، والتي يبدو أنها
النموذج الأكثر رُقيًا، أو النموذج المتميز.
لدينا احتمالان هنا بخصوص
تعبيرات القرآن عن (جنات عدن) و(جنات الفردوس) من حيث وجودها
الاحتمال الأول: هو أن (جنات عدن) و(جنات
الفردوس) هما نموذجان للجنات في الآخرة، وهو دلالةٌ على التدرّج في الجزاء
والعطاء.
الاحتمال الثاني: والذي أرجّحه بقوةٍ، هو أنّ
(جنات عدن) خاصةٌ بالآخرة، أمّا (جنات الفردوس) فهي خاصةٌ بما بعد يوم
القيامة.
(جنات عدن) الذي جاء معها التفصيل
تتوافق مع ذكر الآخرة، التي بدأ معها كذلك كثيرٌ من التفاصيل. أما لفظ (الفردوس)
الذي جاء في موضعين من دون تفاصيل، فيتكامل مع لفظ (اليوم الآخر)، والذي جاء كذلك
محفوفًا بالغيب. فكأنّنا نقف مرةً أخرى أمام نموذجين من الجنات، نموذجٌ باستطاعة
الإنسان، وهو نموذج (جنات عدن)، ونموذجٌ بالقدرة المطلقة وهو (جنات
الفردوس).
بعد أن أدركنا أنواع الجنات،
وأن الجنة مكانها على الأرض أولًا، ثمّ ينطلق الإنسان أو بمعنىً محددٍ الصالحون
إلى السماء لتعمير الكواكب، وصناعة الجنة في هذه الكواكب، وبثّ الحياة فيها، يتبقى
لنا فهم أنواع العذاب، والذي جاء في كتاب الله بأكثر من صيغة.
ما هو العذاب؟
(العذاب) هو من
المصدر (عذب) والذي اختلفت فيه المعاجم، ولكنْ يمكننا فهم لفظ (عذب) من خلال فهم
أحد أهم دلالاته، وهي النقاء أو التطهير، والذي جاء صداه في كتاب الله من خلال
الآية التالية:
(وَهُوَ ٱلَّذِى مَرَجَ
ٱلْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ
بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) (سورة الفرقان: آية 53)
الماء العذب في الآية الكريمة
مقابلٌ للماء المالح الأجاج، إذ يشير (العذب) هنا إلى أنّ الماء طيبٌ وصالحٌ
للشرب. من هنا نجد أنّ لفظ (العذاب) ذاته يحمل صفات الإصلاح والتنقية، وليس عقابًا
من أجل العقاب دون هدف. آيات القرآن تفيض بالسببية والغائية، أمّا تفسير المفسّر
فهو غالبًا ما ينزع نحو العبثية أو غياب الهدف. كثيرًا ما كان يتساءل بعضهم: ما
الداعي لبقاء إنسانٍ في النار لكي تُحرقه إلى ما لا نهاية؟ ولماذا لا يفنى
وينتهي؟
لقد تسبّبت تصورات الناس عن
النص الإلهي في إنكار كثيرٍ من الناس لوجود الإله الحكيم، وحلّ محلّها إلهٌ متسلطٌ
يريد أن يُعذّب ويُهلك ويتلذّذ ببقاء الناس في نارٍ مشتعلةٍ إلى ما لا
نهاية.
لفظ (عذاب) نفسه ينفي بكلّ
قوةٍ هذه النظرة، ويحيل العذاب إلى عمليةٍ من التهذيب التي لا بدّ منها لصلاح
الإنسان الضالّ عن مهمّته.
لكن لدينا ملاحظةٌ يجب عدم
إغفالها، وهي أن لفظ (عذب) الذي جاء مع الماء يصف حالة الماء الطبيعية كذلك، وهي
حالةٌ متعادلةٌ، بمعنى أنّ (العذاب) لا يعني إجبار أحدٍ ليكون إنسانًا صالحًا؛ بل
يعني عودة الإنسان لمنطقة الحياد مرةً أخرى، ثم يقرّر الإنسان إن كان سوف يستقيم
أم سينحرف مرةً أخرى. لذلك وصف العذاب هو الأنسب، بخلاف لفظ (التطهير) مثلًا؛ لأن
لفظ (التطهير) يحمل المعنى الإيجابيّ، وهو نِعمةٌ من الفضل والمن الإلهي، لكي يكون
الإنسان نقيًا وطاهرًا. أما لفظ (العذاب) فلفظٌ مرتبطٌ بإعطاء الإنسان فرصةً
ثانيةً بعد أن تعرّض لعملية العذاب. وهي عمليةٌ تشبه إعادة ضبط المصنع للأجهزة؛ إذ
تصبح أمام الإنسان فرصةٌ متساويةٌ ليقوم بالصواب أو الخطأ، ولعل هذا ما يجعل
العقاب في مرحلة اليوم الآخر أشدَّ بكثيرٍ، بل سوف يصل إلى حدّ الفناء في بعض
المواقف.
التوصيفات المختلفة لوسائل
العذاب، مثل: (جهنم) و(جحيم) و(سقر)، ولفظ (نار) دون إضافةٍ، يدفعنا للقول بأنّ
هناك تدرّجًا وتنوّعًا لا يمكن أن يُخطئه العقل في العقاب. كذلك فإنّ أنواع العذاب
مثل (العذاب الأليم) أو (العظيم) أو (المُهين) أو (الكبير) كلها تشير إلى تعدّدٍ
وتدرّجٍ في العقاب أيضًا.
اللافت للنظر أنّ تعبير
(خالدين فيها أبدًا) لم يأتِ إلا في موضعين فقط مع النار، وهو يعني كما بيّنّا
ملازمين، بمعنى لا يتحولون عنها. هذا التنّوع الكثيف في تعدّد أنواع العقاب
وأشكاله، وتنوّع احتمالاته، لا يمكن أن يُحمل على صنفٍ واحدٍ، وهو مكوث العاصين في
نارٍ تحرقهم باستمرار.
بدايةً ينبغي أن نفهم أنّ كلّ
تعبيرٍ قرآنيٍّ جاء فيه لفظ (عذاب) فهو يعني مرحلةً مؤقتةً تنتهي عندما يحدث
المطلوب منها، وهو تطهير المُعذّب وتنقيته. لفظ (عذاب) المشتق من (عذب) هو ما
دفعنا لذلك؛ فلا يصحّ أن يقع العذاب بمعنى التطهير إلى ما لا نهاية؛ لأنه سوف يفقد
معناه. إذ إنّ العذاب أو التطهير إنما جاء لكي يُصلح ما فَسَد.
عندما تكون الجنة عبارةً عن
ظلالٍ وفيرةٍ، وأنهارٍ تجري، وثمراتٍ من كلّ شيءٍ، وفيها أرائك وأساور من ذهبٍ،
ولباسهم فيها حريرٌ، فإنّ أولى درجات العقاب هي حرمان الإنسان من هذه النعم،
ويتدرّج العقاب كلّما عظُمت الجريمة.
اليوم، نرى الإنسان الذي لديه
بيتٌ وحديقةٌ وسيارةٌ في منطقةٍ هادئةٍ، ولديه دخلٌ ثابتٌ هو في أحد أشكال النعيم،
وعلى الجانب الآخر يتدرّج الحرمان كلّما فقد الإنسان درجةً من درجات الراحة. إذن
متى يكون العذاب طويلًا ومتى يكون قصيرًا؟
بفرض أنّ إنسانًا يعيش في
بيئةٍ غير صالحةٍ، فإن الظروف الصعبة التي يعيشها الإنسان يمكن أن تصنع منه
إنسانًا ذا قيمةٍ، يجتهد للخروج من هذه الظروف، وبذلك فإن هذه الظروف العقابية
التي فُرضت عليه هذّبت نفسه، وجعلته أسمى، واستطاع من خلالها الانتقال إلى درجةٍ
أفضل. تختلف قدرات الإنسان باختلاف مدى الاستيعاب، فمِن الناس مَن يستوعب ذلك
بسرعةٍ شديدةٍ، ويحاول التغيير، ومنهم مَن يستغرقون وقتًا طويلًا، وآخرون لا
يكفيهم العمر لإدراك حجم الجحيم الذي يعيشونه، بل يتعايشون معه. السجن في الدنيا
قد يؤثر في بعضهم ويجعلهم يعودون للصواب بسرعةٍ، ومنهم مَن يستغرقون وقتًا طويلًا،
ومنهم من يزداد إجرامًا، وهؤلاء مصيرهم أشدّ قسوةً في المستقبل من مصيرهم الحالي.
قد يُصلح العذاب النفوس، وقد
تنحرف أكثر فلا ينفعها العذاب، وتستحق حينئذٍ ما هو أكبر، وسوف نتعرّف على ذلك في
السطور التالية.
ألفاظٌ مثل (النار) و(الجحيم)
و(جهنم) و(سقر) ليست على قدم المساواة، وإنما تعطي صورًا مختلفةً من العذاب، وما
بعد العذاب.
أولًا: مدلول لفظ (النار)
(النار) و(النور)
لهما المصدر اللغوي نفسه، ومن حيث الدلالة الفيزيائية فكلاهما طاقة. (النور) طاقةٌ
ضوئيةٌ، و(النار) طاقةٌ حراريةٌ. وعندما تزداد الطاقة الحرارية يصدر عنها توهّجٌ،
هذا التوهّج هو (النور). وأهمّ ما يميّز (النور) هو أنّه يهدي ويبدّد الظلام، أمّا
النار فلا يشترط أن تهدي إلا إذا صدر عنها نور. قطعة الحديد الساخنة جدًا وغير
المتوهّجة هي في الحقيقة (نار)، ولكنّ هذه النار لا تُصدر (نورًا) يمكن رصده
بالعين المجردة. لكنْ إن توهّجت قطعة الحديد فإنّ هذا الوهج هو (النور)، والذي
يمكن أن يبدّد الظلام المحيط بقدرٍ ما. قطعة الحديد المتوهّجة نارٌ شديدةٌ أشدّ من
قطعة الحديد الساخنة غير المتوهّجة، وكلما زاد توهّج الحديد زادت حرارته. الآية
الشهيرة في سورة النور التي تقول: إنّ (الله نور السموات والأرض) أعطتنا فرصةً
لفهم الفرق بين (النار) و(النور).
(اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي
زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ
مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (سورة النور: آية35).
عندما تمسّ النار الزيت تُعطي
النور، وليس بالضرورة أن تكون هذه النار نارًا ذات لهب، ولكنّ الحرارة الشديدة
كفيلةٌ بأن يصل الزيت نقطة الاشتعال فيشتعل الزيت ويصدر عنه النور. لدينا ملاحظةٌ
هنا وهي أنّ الزيت له خاصيةٌ عجيبةٌ، وهي ظاهرة فلورسنت، بحيث يمكن أن يضيء الزيت
دون أن تمسّه النار بالفعل تحت تأثير الضوء. هذه الظاهرة تُسمى الفلّورية وتعرف
بأنها إشعاعٌ ضوئيٌّ للمادة، عندما يتوافق طول موجة الشعاع الساقط عليها مع
مستويات الطاقة لذرات تلك المادة أو جزيئاتها.
(النار) في حقيقتها حرارةٌ،
وبطبيعة الحال هذه الحرارة متدرّجةٌ ومتفاوتةٌ جدًا؛ إذ تتراوح ما بين السخونة العادية
أو ما فوق درجة الصفر المطلق وحتى الدرجات القصوى. حتى لا نصعّب المسألة دعونا
نَعُدُّ أن درجة حرارة الغرفة وهي 25 درجةً مئويةً هي الدرجة المعتدلة، ثم تتدرّج
الحرارة إلى أقصى درجةٍ يمكن تخيّلها، والتي تصل إلى ملايين الدرجات، مثل درجة
الحرارة في باطن الشمس، والتي تصل إلى 15 مليون درجةٍ مئويةٍ، وتختلف عن درجة
الحرارة على سطح الشمس الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة، وتصل إلى 6000 درجةٍ
مئويةٍ.
في ظلّ هذا التعريف يجب
أنْ نفرّق بين تسميات العقاب المختلفة، مثل: (نار جهنم) أو (نار الجحيم) أو (نار
الحريق) أو لفظ (نار) من دون إضافةٍ، لا سيما أن هناك تعبيراتٍ قرآنيةً تشير إلى
أنّ الناس يتخاصمون في النار، أو أنّ هناك شجرةً تخرج في أصل النار. هذه التعبيرات
لا بدّ أنْ تخرج من طَور الأساطير إلى فهم حقيقتها، وفهم الذي يريد الإله إخبارنا
به.
لكي نفهم المقصود بنوعية النار
المقصودة في آيةٍ قرآنيةٍ لا بدّ أن نقرأ السياق بصورةٍ سليمةٍ. وسنحاول من خلال
الآيات فهم التدرّج الذي ذكرته الآيات في وصف النار.
الآية الأولى:
(فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُوا۟
وَلَن تَفۡعَلُوا۟ فَٱتَّقُوا۟ ٱلنَّارَ ٱلَّتِی وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ
وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَـٰفِرِینَ) (سورة البقرة: آية 24).
هذه الآية تحدّثت عن صفة النار
المقصودة، والتي وقودها الناس والحجارة، وأظنّ أنّ هذه هي أقصى درجةٍ من النار.
فكأننا نتحدّث عمّا يشبه البركان، وقد أوردتُ فصلًا كاملًا عن معنى (وقودها الناس
والحجارة) في الجزء الأول من سلسلة كتاب تلك الأسباب. حتى الحرارة في باطن النجوم
مثل الشمس يمكن أن تكون نارًا وقودها الناس والحجارة؛ لأنّ تفاعلات الاندماج التي
تحدث في هذه النجوم يُمكن أن تستخدم العناصر المكوّنة للناس والحجارة وقودًا لها
بالفعل. اللافت للنظر أنّ هذه الآية لم تصف هذا النوع من العقاب بالعذاب، إذ يبدو
من سياق الآية أنّ هذا النوع من النار هو نارٌ مدمّرةٌ، وتُفني أصحابها. سوف نأتي
على مفهوم الفناء، وهل هناك فناءٌ من خلال النار في السطور التالية.
الآية الثانية:
(وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ
ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ بَلۡ
یَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا
مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۚ
وَأَلۡقَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ كُلَّمَاۤ
أَوۡقَدُوا۟ نَارࣰا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ
فَسَادࣰاۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ) (سورة المائدة: آية 64).
(النار) في هذه الآية هي نارٌ
حقيقيةٌ؛ إذ إنّ إيقاد نار الحرب هو جعل الناس محمّلين بطاقةٍ زائدةٍ ينتج عنها
الحرب. نعم، عندما يغضب الإنسان تزداد درجة حرارته حقيقةً، وهذا الغضب هو المقصود
بإيقاد نار الحرب، بذلك فإنّ عملية إحماء الناس أو بالمعنى العاميّ (تسخين الناس)
مفهومٌ حقيقيٌّ وليس مجازيًا، ولكنّ قدر النار هنا واضحٌ. جسم الإنسان يحتمل بل
ويتعايش مع مثل هذه النار، ولكنّها قد تُسبّب اندفاعه وعمل ما لا يُحمد عقباه. ما
يعنينا هنا هو التفريق بين الحدّ الأقصى للنار، وهو النار التي وقودها الناس
والحجارة، والحد الأدنى وهو مجرد ارتفاع درجة حرارة الجسم عن معدّلها
الطبيعي.
الآية الثالثة:
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا
تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِی مِن نَّارࣲ
وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِینࣲ) (سورة الأعراف: آية 12).
(خلقتني من نار) تعني خلقتني
من حرارةٍ، وهذه الآية تتكامل مع آيةٍ أخرى تقول أنّ الجن مخلوقٌ من نار السموم،
وإبليس من الجنّ. (وَٱلۡجَاۤنَّ خَلَقۡنَـٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ)
(سورة الحجر: آية 27).
وقال المفسر عن (السّموم) هي
الرياح الحارة، وأنا لست هنا معنيًا بتحليل لفظ (السموم) بقدر عنايتي بفهم الفروق
بين درجات (النار) وكيف جاءت في القرآن.
الآية الرابعة:
(أَیَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن
تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةࣱ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَابࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا
ٱلۡأَنۡهَـٰرُ لَهُۥ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّیَّةࣱ
ضُعَفَاۤءُ فَأَصَابَهَاۤ إِعۡصَارࣱ فِیهِ نَارࣱ فَٱحۡتَرَقَتۡۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ
ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ) (سورة البقرة: آية 266).
(الإعصار) الذي فيه نارٌ قد
يتراوح ما بين الحرارة الشديدة التي تتسبّب بتلف الزروع، والإعصار المصحوب بنارٍ
مشتعلةٍ كالحرائق. أنا هنا أُرجّح أنّ الإعصار كان مُحمّلًا برياحٍ ساخنةٍ جدًا؛
بسبب لفظ (فيه)، إذ إنّ تعبير (إعصار فيه نار) يوحي برياحٍ ساخنةٍ بنفسها.
الآية الخامسة:
(وَنَادَىٰۤ أَصۡحَـٰبُ
ٱلنَّارِ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَنۡ أَفِیضُوا۟ عَلَیۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ أَوۡ
مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُۚ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى
ٱلۡكَـٰفِرِینَ) (سورة الأعراف: آية 50).
هل ترى تعبير الآية (أصحاب
النار)، أي أنهم في حالة ملازمة للنار، وعلى الرغم من ذلك يقولون (أفيضوا علينا من
الماء أو ممّا رزقكم الله). الآية تشرح لنا أنّ الناس لديهم إمكانيةٌ للأكل
والشُرب، بل ويطلبون ذلك، فكيف يمكن فهم (النار) هنا بأنها نارٌ مشتعلةٌ؟
عندما يذكر القرآن مثل هذه
التعبيرات العجيبة إنما يدعو الناس للتساؤل، وليس لِتأليف الروايات، وافتراض
الفرضيات الخرافية. عندما طرحنا السؤال: كيف يقولون وهم في النار (أفيضوا علينا من
الماء أو ممّا رزقكم الله)؟ كانت الإجابة هي فهم مدلول (النار) أولًا، ومن ثمّ
أدركنا أنّ (النار) هنا تعني حرًّا شديدًا، ولكنْ دون الهلاك. القرآن يرسل لك
مفهومًا مباشرًا، فلماذا يُعقّد الناس الأمور، ويفترضون أنّ خلقًا آخر بمواصفاتٍ
أخرى تجعلهم في نارٍ مشتعلةٍ، ولكنّها لا تتسبّب بموتهم، والقرآن لم يذكر شيئًا من
هذا؟
لعلّ ما سبّب هذا الارتباك هو
الآية التي جاءت في سورة النساء عن نضوج الجلود: (إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟
بِـَٔایَـٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِیهِمۡ نَارࣰا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم
بَدَّلۡنَـٰهُمۡ جُلُودًا غَیۡرَهَا لِیَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ
عَزِیزًا حَكِیمࣰ)(سورة النساء: آية 56).
حتى هذه الآية تنفي كون النار
نارًا مشتعلةً يُحطّم بعضها بعضًا كما تُصوّر الروايات؛ فنضوج الجلود يحتاج لنارٍ
هادئةٍ وليست حارقةً، وهنا يمكننا القول: إن المقصود في الآية أنّ شدة العذاب تجعل
جلودهم تتغير باستمرارٍ بسبب عدم تحمّل درجات الحرارة العالية. فهي درجات حرارةٍ
عاليةٌ ولكنها ليست قاتلةً، وهذا هو المقصود من مفهوم العذاب.
لفظ (العذاب) يجعلنا نقول: إنّ
المقصود بعذاب النار هو جعل الإنسان على وعيٍ تامٍّ بما فعل وبما اقترف، وليس
مجرّد انتقامٍ في نارٍ لا تُبقي ولا تذر.
الآية السادسة:
(إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ
مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلًا
أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَا یَأۡكُلُونَ فِی بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا
یُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَلَا یُزَكِّیهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ
أَلِیمٌ) (سورة البقرة: آية 174).
هذه الآية حملها المُفسّر إمّا
على المجاز أو على أنها يوم القيامة، ولكنّ المتأمّل للآية سيجد أنّ الله توعّدهم
بعذابٍ أليمٍ يوم القيامة في الآية نفسها. المجاز ليس أسلوب القرآن، وبذلك يصبح
(ما يأكلون في بطونهم إلا النار) محمولةٌ على الحياة الدنيا. ولأنّ هذا التعبير لا
يمكن رؤية حقيقته حُمِل على المجاز. إنّ المنهج الذي نستخدمه ينصّ على أنّ كلمات
القرآن وتعبيراته حقيقيّةٌ، ولا يعني أنّ ما لا نستطيع فهمه اليوم هو مجازيٌّ؛ بل
الجواب الأمثل هو أننا لا نملك الأدوات للتحقّق أو فهم طبيعة الآية، وفهم الطريقة
التي يأكلون بها في بطونهم النار.
من خلال فهم طبيعة النار،
يُمكننا وضع تصوّرٍ يصف حقيقة التعبير بعيدًا عن المجاز، وهو أنّ تغيّراتٍ تحدث في
بطون هؤلاء الكاذبين، هي بالأساس ناتجةٌ عن ارتفاع درجات الحرارة الداخلية. هذا
يدفعنا للقول: إن تغيّراتٍ نفسيةً ناتجةً عن سلوك هؤلاء المكذّبين، وهي بالأساس
تغيّراتٌ فسيولوجية نتج عنها ما تحدّثت عنه الآية.
أرى أنّ الآية تحمل تلميحًا
شديد الخطورة، على أنّ بعض الآثام تترك أثرًا سلبيًا على البنية الداخلية للإنسان،
وأهمّها ارتفاعٌ غير طبيعيٍّ في درجات الحرارة. هل التغيّر في درجات الحرارة
الداخلية أو في بيئة الخلايا يمكن أن يُسبّب أمراضًا خطيرةً؟ نعم من دون أدنى
شكٍّ؛ إذ إنّ تغيّر درجات الحرارة يمكن أن يتسبّب في طفراتٍ تؤدي إلى موت الخلايا،
وإلى مشاكل عديدةٍ، والعلم كفيلٌ بدراسة مثل هذه الأمور مع مرور الوقت، وبيانها
للناس بعد أنْ بيّنها اللفظ القرآني.
عندما حاول المُفسّر شرح هذه
الآيات التي تتحدّث عن كلام أهل النار وطعامهم وشرابهم وضعَ تصوّراتٍ خياليةً؛
بسبب صورة النار التقليدية لديه، والتي تعني نارًا ذات لهب. عندما اتضحت لنا
ماهيّة النار من خلال القرآن استطعنا فهم درجات هذه النار، وفهمنا لماذا يتكلم
الناس ويحتاجون فيها.
لقد حيّرتنا كثيرًا تلك الآيات
التي كانت تتحدّث عن النار، وكيف يتكلّم الناس في النار، والوصف الذي نعرفه كُلّنا
أنّها نارٌ يأكل بعضها بعضًا مِن عِظَم قوّتها. لو أنّ إنسانًا سقط في بركانٍ فإنه
لا يستغرق إلا ثوانيَ معدودةً ويصبح رمادًا، وهذا ليس عذابًا أبدًا بل إفناءً.
بالتأكيد هناك إجاباتٌ من المفسّرين بأنّ الخلق يصبح بمواصفاتٍ مختلفةٍ، ولا شكّ
أنّ إجابةً مثل هذه الإجابة مقبولةٌ في ظلّ ظروف نقص المعرفة، ولكنْ ينبغي أن نعلم
أنّ القرآن لم يأتِ لنحاول تبرير آياته، بل جاء لقراءة آياته.
من خلال معرفتنا بالنار
وتدرّجها يمكننا الآن بكلّ سهولةٍ فهم الآيات التي تتحدّث عن ممارساتٍ حياتيةٍ
لأصحاب النار. بل أكثر من ذلك، يمكننا فهم المقصود بـ (الجحيم) و(جهنم) بناءً على
وصفهما في القرآن.
ثانيًا: لفظ (جهنم)
حتى نقف على لفظ (جهنم) يجب أن
نلقي نظرةً على ما سجّلته معاجم اللغة حول هذا اللفظ، وتحديدًا الأصل الثلاثي
(جهم).
- جاء في لسان العرب أنّ (الجهم) مِنَ الْوُجُوهِ هو الْغَلِيظُ
الْمُجْتَمِعُ فِي سَماجة، وَقَدْ جَهُم جُهُومةً وجَهامةً. وجَهَمَه
يَجْهَمُه: اسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهٍ كَرِيهٍ.
- أما قاموس اللغة فجاء فيه أن (جَهْمٌ) يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ
الْبَشَاشَةِ وَالطَّلَاقَةِ. يُقَالُ رَجُلٌ جَهْمُ الْوَجْهِ أَيْ
كَرِيهُهُ.
نرى من خلال معاجم اللغة أنّ
لفظ (جهم) يشير إلى صفةٍ من المواجهة السيئة، وعندما نتتبع اللفظ في كتاب الله،
فإنّ من صفات (جهنم) التي ذكرها القرآن هي أنّ الإنسان لا يموت فيها ولا يحيا،
وأكثر ما استُعمل مع (جهنم) هو لفظ (مثوى) ولفظ (مِهاد)، كما يتضح من بعض الأمثلة
في الآيات التالية:
(وَإِذَا قِیلَ لَهُ ٱتَّقِ
ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ
ٱلۡمِهَادُ) (سورة البقرة: آية 206)
(فَٱدۡخُلُوۤا۟ أَبۡوَ ٰبَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ
فِیهَاۖ فَلَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِینَ) (سورة النحل: آية 29)
(إِنَّهُۥ مَن یَأۡتِ رَبَّهُۥ
مُجۡرِمࣰا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا یَمُوتُ فِیهَا وَلَا یَحۡیَىٰ) (سورة طه:
آية 74).
(وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَهُمۡ
نَارُ جَهَنَّمَ لَا یُقۡضَىٰ عَلَیۡهِمۡ فَیَمُوتُوا۟ وَلَا یُخَفَّفُ عَنۡهُم
مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی كُلَّ كَفُورࣲ) (سورة فاطر: آية 36).
(المثوى) و(المهاد) هو المأوى
الذي سوف يجمع الضالّين أو أصحاب الصفات المستحقّة لجهنّم. فهل جهنم على الأرض؟ لم
يرد أيّ ذكرٍ يدلّ على مكان جهنم أو الجحيم، ولكنْ من خلال فهم مكان الجنة وهو
الأرض والسموات المحيطة كما ذكرنا، فإني لا أستبعد أن تكون جهنم والجحيم في النطاق
نفسه؛ بسبب الخطاب المتبادل بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم أو جهنم.
كذلك نرى خطاب أهل جهنّم لخزنة
جهنم في الآية التالية، وطلبهم بأنْ يُخفّف عنهم ربّ الخَزَنة يومًا من العذاب:
(وَقَالَ ٱلَّذِینَ فِی ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدۡعُوا۟ رَبَّكُمۡ
یُخَفِّفۡ عَنَّا یَوۡمࣰا مِّنَ ٱلۡعَذَابِ) (سورة غافر: آية 49) ما يعني الحالة
التي قصتها الآيات السابقة، وهي أنهم لا في موت ولا في حياة. إذ الموت هو فقدان
الوعي والإدراك تمامًا، وتعطل الوظائف والحياة بمفهومها الشامل للوعي والإدراك.
هؤلاء القوم من شدة الحرّ وقلة موارد الحياة لا يمكن وصف حياتهم بأنها حياة، ومع
ذلك لا يموتون.
لا سبيل هنا لافتراضاتٍ
وفلسفاتٍ في وجود أدلةٍ يعضُد بعضها بعضًا، إذ الإشارة واضحةٌ في أنّ جهنم ليست
مكانًا كما تصفه كتب التراث، وأنها نارٌ مشتعلةٌ يُقذف فيها الكافرون. (جهنم)
تبعًا لمدلول الكلمة والآيات القرآنية هي مكانٌ شديد الحرّ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع
مصدر النار.
لو افترضنا أن النار مصدرها
الشمس فجهنم هي المكان شديد الحرّ، ليس بينه وبين الشمس مظلةٌ. لو أنّ هناك مكانًا
في صحراء دون ظلال فهذا المكان هو جهنم. ولو أنّ هناك مكانًا على كوكبٍ آخر ودرجة
الحرارة مرتفعةٌ للغاية فيه فهو جهنّم، فكلّ مكانٍ مواجهٍ للشمس دون ظلالٍ فهو في
الحقيقة (جهنم). يبدأ مدى لفظ (جهنم) من المكان المكشوف تحت الشمس إلى ملامسة
النار ذاتها، ولكنْ ليس الدخول فيها، طالما لم ترتبط بلفظ (الحريق).
(وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ
مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ
ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ
مَصِیرًا) (سورة النساء: آية 115).
(تصلية) تشير إلى ما يشبه
الشواء، وليس الدخول في النار؛ ممّا يؤكّد أن جهنم مكانٌ مواجهٌ للنار، وليس داخل
النار. لذلك يصبح منطقيًا أن يَصيح سكان جهنم، ويطلبون الصفح، ويتحاورون، وهم في
عذابٍ شديدٍ. هذا المعنى أكثر واقعيةً عندما نفكّر في لفظ (عذاب)، فهو كالسجن الذي
يُهذّب المذنبين.
في سورة التوبة إشارةٌ كذلك
إلى الفصل بين النار وجهنم:
(یَوۡمَ یُحۡمَىٰ عَلَیۡهَا
فِی نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ
هَـٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُوا۟ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ) (سورة
التوبة: آية 35) (نار جهنم) هي النار الذي سبّبت (جهنم) أو هي محيط النار القريب
جدًا منها. تجد هؤلاء الذين يكنزون المال بصورةٍ سلبيةٍ في محيط النار، فيما
يُسمّى (جهنم)، ومن ثمّ يجري تسخين الذهب الفضة، وعقابهم بها، جزاءً بما اقترفوه
في الدنيا. العقاب على قدر الجُرم، وعلى قدر ما تسبّب في ضررٍ للناس وأذى، وكلّ
ذلك مسطورٌ في كتاب كلّ إنسان.
كذلك ارتبط لفظ (جهنم) بيوم
القيامة في أكثر من موضعٍ، وهذا يدفعنا للقول بأن عذاب جهنم هو عذاب ما بعد
القيامة وليس قبله
(وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ تَرَى
ٱلَّذِینَ كَذَبُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌۚ أَلَیۡسَ فِی
جَهَنَّمَ مَثۡوࣰى لِّلۡمُتَكَبِّرِینَ) (سورة الزمر: آية 60)
كذلك ورغم ورود لفظ (جهنم) في
القرآن ما يقارب 70 مرةً، إلا أنها ارتبطت بالعذاب في أربعة مواضع فقط، ممّا يؤكد
أنها يوم القيامة، وأنّ فُرَص العذاب أقلّ من فرص العقاب.
(وَٱلَّذِینَ یَقُولُونَ
رَبَّنَا ٱصۡرِفۡ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)
(سورة الفرقان: آية 65)
شدة جهنم ودلالة اللفظ في
القرآن تدفعني للقول بأنّ جهنم عقاب ما بعد القيامة، وهو عقابٌ أكثر منه عذابٌ،
حيث يكون الإنسان المستحقّ للعقاب قد استنفد فُرَصَه.
لدينا آيتان عجيبتان
تحتاجان لكثيرٍ من التدبر هنا، وهما الآيةٌ في سورة الجن، التي تُخبرنا أنّ
القاسطين كانوا لجهنم حطبًا، والآية الأخرى في سورة الأنبياء تخبرنا أنّ من يعبدون
من دون الله حصب جهنم.
(وَأَمَّا ٱلۡقَـٰسِطُونَ
فَكَانُوا۟ لِجَهَنَّمَ حَطَبࣰا) (سورة الجن: آية 15)
(إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ
مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَ ٰرِدُونَ) (سورة الأنبياء: آية 98)
هاتان الآيتان كذلك تحملانني
إلى القول بأنّ جهنم بعد يوم القيامة، وأن الأصناف الداخلة فيها سوف يكونون جزءًا
منها، وهي ليست عذابًا، بل هي مصيرٌ نهائيٌّ، كما يبدو من الآيات.
لدينا آيةٌ في كتاب الله دمجت
عذاب جهنم وعذاب الحريق، وأعتقد أنّ هذه الآية تصف أقرب نقطةٍ للنار، فالضالّ
قريبٌ جدًا من مصدر النار، فهو يذوق (عذاب جهنم) بمواجهته النار، ويذوق (عذاب
الحريق) بقربه المباشر من النار.
(إِنَّ ٱلَّذِینَ
فَتَنُوا۟ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَتُوبُوا۟ فَلَهُمۡ
عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِیقِ) (سورة البروج: آية 10).
هذه الآية فرّقت بين (عذاب
جهنم) و(عذاب الحريق) في صورةٍ واضحةٍ، ولكي نفهم هذا الفرق يمكننا ضرب مثالٍ
لتوضيح المقصود: بفرض أن إنسانًا يعمل في مكانٍ مواجهٍ للنار مثل فرن أو مسبكٍ أو
ما شابه، فإنّ هذا الإنسان يواجه النار والحرارة الشديدة، وهذا نوعٌ من العذاب،
ولكنّه أحيانًا يتعرّض للحرق بسبب طبيعة عمله، وهذا هو عذاب الحريق.
ثالثًا: لفظ (الجحيم)
لفظ (الجحيم) أصله جحم.
- وهو في لسان العرب كَفَّ كأَحْجَم. وأَحْجَم الرجلَ: دَنا أَن
يُهْلِكَه.
- وفي قاموس اللغة (جَحَمَ) الْجِيمُ وَالْحَاءُ وَالْمِيمُ عُظْمُهَا
بِهِ الْحَرَارَةُ وَشِدَّتُهَا. فَالْجَاحِمُ الْمَكَانُ الشَّدِيدُ الْحَرِّ.
- وفي المعجم الاشتقاقي جاء معنى الجحم (بؤرة متوقّدة الأثناء)، توقّدٌ
في أثناء الشيء الجسيم هو حِدّةٌ مع غلظةٍ في نفسه، كحُمْرة جَحْمَتي الأسد
(والحمرة شدة)؛ إذْ تبدُوان في صفائهما مع الحمرة والحدّة كجَمْرتي نار،
وكالحرارة في المكان.
من خلال المدلولات المختلفة
لكلمة (جحم) سوف نجد أن هناك صفاتٍ مرتبطةً بهذه الكلمة، مثل الكف والاحمرار
والحرارة الشديدة. ربط هذه المدلولات بلفظ (الجحيم) الوارد في كتاب الله يقودنا
مباشرةً إلى أنّ الجحيم مكانٌ شديد الحرارة، ولكنها حرارةٌ غير مباشرةٍ. ويشبه
(الجحيم) مكان الظلّ شديد الحرارة، ويتراوح مدى الجحيم من الظل شديد الحرارة حتى
ملامسة سطحٍ خلفه أو أسفله نارٌ موقدةٌ. لو أنّ غرفةً يحيط بها مصهور المعادن من
كل جانبٍ فإنّ هذه الغرفة تمثّل (الجحيم)، ولكن إن كانت النار مباشرةً فهي
(جهنّم).
يبدو من تحليل الكلمات أن
(الجحيم) أخفّ حدّةً من (جهنم)، ولو نظرنا إلى الكلمات التي وردت مع لفظ (الجحيم)
فسنجد أنّ أغلب التعبيرات جاءت في شكل (أصحاب الجحيم) و(يصلى الجحيم) ممّا يدلّ
على الإقامة والملازمة. يبدو أنّ (الجحيم) حياةٌ تعيشها فئةٌ من الناس، وهي حياةٌ
صعبةٌ للغاية، ولكنّها ليست بقدر (جهنم). لو أن إنسانًا يعيش في صحراء قاحلةٍ في
درجات حرارةٍ مرتفعةٍ فهو حرفيًا يعيش في الجحيم، لا سيما في غياب أيّ وسائل
لتخفيف هذه المعاناة.
ورد لفظ (جحيم) في كتاب الله
في 26 موضعًا، منها ثلاثة مواضع مرتبطةٌ بالعذاب، والعجيب أنّ المواضع الثلاث
جميعها جاءت بصيغة (وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ).
(ٱلَّذِینَ یَحۡمِلُونَ
ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ
وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡءࣲ
رَّحۡمَةࣰ وَعِلۡمࣰا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِینَ تَابُوا۟ وَٱتَّبَعُوا۟ سَبِیلَكَ
وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ) (سورة غافر: آية 7).
(لَا یَذُوقُونَ فِیهَا
ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ) (سورة
الدخان: آية 56).
(فَـٰكِهِینَ بِمَاۤ
ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ وَوَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِیمِ) (سورة الطور:
آية 18).
تعبير (وقاهم ربهم عذاب
الجحيم) يدل على أنّ (الجحيم) كله (عذاب) بمعنى تنقية وتطهير، بخلاف (جهنم) التي
جاء فيها تعبيراتٌ تدلّ على العقاب أكثر من العذاب.
كذلك ألفاظٌ مثل (أصحاب
الجحيم) و(تصلية جحيم) جاءت بكثافةٍ مع لفظ (الجحيم)؛ ممّا يدلّ على حالة ملازمةٍ
ومداومةٍ بخلاف (جهنم) التي لم يأتِ معها أبدًا لفظ (أصحاب).
لماذا جاء تعبير (أصحاب)مع
الجحيم وليس مع جهنم؟
كما نعلم من خلال الفصل الثاني
في هذا الكتاب أن تعبير المصاحبة يعني حالة الملازمة والمرافقة التامة، وهذا
يتوافق مع مفهوم (الجحيم) حيث الحرارة المرتفعة، سواءٌ احتمى الإنسان من مواجهة
النار أم لا. فهو في جحيمٍ في أيّ حالةٍ؛ لذا تعبير (أصحاب) تعبيرٌ حقيقيٌ
مع (الجحيم) ويعني ملازمةً دائمةً. أما تعبير (جهنم) فلا بد أن يكون فيه مواجهةٍ
مع النار، وقد يهرب الإنسان أحيانًا من المواجهة المباشرة، فيصبح غير مصاحبٍ
لجهنم، بل هو في حالة الجحيم.
يمكننا فهم ذلك كنوعٍ من
العذاب، حيث يتعرض الضال إلى عذاب جهنم الشديد، ثم يُعزل فترةً للتعافي ثم يعود
لجهنم مرةً أخرى؛ ولذلك لا يُسمّى صاحبًا، لأن انقطاعًا حدث في أثناء ملازمته
لجهنم. ولو أن (جهنم) تُحرق فلن يُسمّى الداخل فيها صاحبًا في هذه الحالة أيضًا،
ولكن لفظ (أصحاب) الذي جاء مع (الجحيم) يشير بما لا يدع مجالًا للشك إلى طول
الملازمة والمرافقة، فهي حياةٌ، ولكنها حياةٌ عسيرةٌ وصعبةٌ للغاية.
(إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ
بِٱلۡحَقِّ بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰاۖ وَلَا تُسۡـَٔلُ عَنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡجَحِیمِ)
(سورة البقرة: آية 119)
(وَتَصۡلِیَةُ جَحِیمٍ) (سورة
الواقعة: آية 94)
إنّ وصف (الجحيم) هو وصفٌ أقرب
لوصف السجن، إلا أنّ درجات الحرارة العالية هي السمة الرئيسة في هذا العزل.
التأكيد على درجات الحرارة العالية، وعلى وصف ذلك بالعذاب الذي هو تطهيرٌ وتنقيةٌ
بالأساس، ليس ترفًا فكريًا، وإنما له أسبابه ودوافعه. إن كنا اليوم غير قادرين على
استيعاب فكرة التأثير الحراري على تهذيب النفوس وتحسينها فربّما يكتشف العلم ذلك
في المستقبل، وربما سيدفع هذا العلم الإنسان إلى عزل الأفراد السيئين حقًا، من
خلال الطُّرق التي يشرحها القرآن.
الأمر ليس انتقامًا؛ الأمر
أعمق بكثيرٍ من ذلك. عندما تختلط الشوائب بالمواد النقية فهنا لا بدّ من التدخّل
لتنقية المواد بمختلف التقنيات، حتى نحصل على موادٍ عالية الكفاءة. هذه هي الفكرة
خلف عملية التعذيب. لكنْ لأنّ القرآن في نظر كثيرٍ من الناس كتاب حكاياتٍ تاريخيةٍ
فهم لا ينتبهون الى مثل هذه الفروقات، ولا يطرحون الأسئلة في مثل هذه المواقف.
كذلك يمكننا التأكيد على معنى (الجحيم) من خلال عدة آياتٍ تُشير إلى طبيعة هذا
المكان:
الآية الأولى:
(إِنَّهَا شَجَرَةࣱ تَخۡرُجُ
فِیۤ أَصۡلِ ٱلۡجَحِیمِ) (سورة الصافات: آية 64).
عندما يتحدث القرآن عن شجرةٍ
تخرج في أصل الجحيم فيجب أن تقف وتسأل: هل هناك شجرةٌ تخرج في النار المشتعلة؟
بالتأكيد سوف يقولون: الله قادرٌ على كلّ شيءٍ، وهذه هي الكارثة في عدم معرفة
القدرة، وجعلها مرادفًا للعشوائية. ألم يكن الله قادرًا بمفهوم هؤلاء على إيجاد
تعبيرٍ غير (الشجرة) إن كان المقصود أنّ هناك شيئًا في النار؟
التعبير القرآني يُخبر الإنسان
بمعلوماتٍ محدّدةٍ، وهذه الآية تحديدًا تقول إنّ الجحيم مكانٌ محتَملٌ للحياة، ولكنّها
حياةٌ قاسيةٌ للغاية، بدلالة خروج نوعٍ من الأشجار في أصل الجحيم.
هذا هو العذاب الحقيقي؛
فالإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ للغاية، ويكفيه نكد العيش، أو سجنٌ غير مريحٍ عقابًا
كافيًا. فما بالك بسجنٍ شديد الحرارة، وطعامٍ ليس هناك أسوأ منه، ومياهٍ تغلي؟ وفي
اللحظة نفسها مطّلعٌ تمامًا على نعيم أهل الجنة، وكيف أنّهم يتنعّمون ويعيشون
حياةً سعيدةً. أضف إلى هذا كلّه طول المدة مقارنةً بالحياة الدنيا.
لو أيقن كلّ مجرمٍ وكلّ طاغيةٍ
بهذا المصير، وأنّ يومًا أقرب ممّا يتخيّل، وبمجرّد أن يغمض عينيه في الموت سيجد
نفسه قد أفاق، وقد سُجّلت كلّ أفعاله عن طريق تقنياتٍ عاليةٍ، وسوف يحاسب على ذلك
بكلّ دقةٍ، ودون أيّ فرصةٍ للإفلات من العقاب، لما تجرّأ على ظلم أحدٍ أو الافتراء
على أحد.
في حياتنا الدنيا تُمثّل
المحكمة الجنائية الدولية -ومع بدائية الإجراءات والتدخّلات البشرية التي لا يُنكرها
أحدٌ- رادعًا بصورةٍ ما للمجرمين، فما بالك بيومٍ سوف يصبح الرقيّ الأخلاقيّ،
والتقدّم التكنولوجيّ سيّد الموقف، ولن ينجو أحدٌ بفعلته مهما كان محصّنًا في
الدنيا؟
الآية الثانية:
(قَالُوا۟ ٱبۡنُوا۟ لَهُۥ
بُنۡیَـٰنࣰا فَأَلۡقُوهُ فِی ٱلۡجَحِیمِ) (سورة الصافات: آية 97).
هذه الآية تتحدّث عن مكر قوم
نبيّ الله إبراهيم به، والآية توضّح أنّ البناء شديد الحرّ سُمّي (جحيمًا)؛ إذ
يشبه هذا البنيان الفرن بلغتنا المعاصرة. التعبير القرآني (ابنوا له بنيانًا) يؤكد
ما ذهبنا إليه من أنّ الجحيم هو مكانٌ معرّضٌ للنار بشكلٍ غير مباشر.
المُلاحظ أنّ لفظ (خالدين
فيها) لم يأتِ مع (الجحيم) ممّا يدلّ على أنّه مرحلةٌ انتقاليةٌ، لكنه جاء مع
(جهنم) ممّا يشير إلى عِظّم (جهنم) مقارنةً بـ (الجحيم)، ويشير كذلك إلى أنّ
(جهنم) عقابٌ أكثر منه عذاب. (إِلَّا طَرِیقَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۚ
وَكَانَ ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ یَسِیرࣰا)
(سورة النساء: آية 169).
التعبير القرآني (خالدين فيها
أبدًا) والذي جاء غزيرًا في وصف الجنات، نجده قد غاب في معظم وصف النار وجهنم، وقد
خلت الآيات إلا من تعبيرين، الآية السابقة والآية التالية.
(إِلَّا بَلَـٰغࣰا مِّنَ
ٱللَّهِ وَرِسَـٰلَـٰتِهِۦۚ وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ لَهُۥ
نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدًا) (سورة الجن: آية 23).
تعبير (خالدين فيها) الذي جاء
مع جهنم يعطينا لمحةً عن صنفٍ من الناس سوف يعاقب بصورةٍ دائمةٍ، فلا أمل في تحوّل
حالته. عجيبٌ هذا القرآن الذي لم يذكر لفظ (عذاب) في أيّ آيةٍ من تلك الآيات؛ لأن
العذاب مؤقّتٌ، أما (خالدين فيها أبدًا) فتصف حالة عقابٍ دائمٍ.
من خلال فهم وظيفة السجون
اليوم سوف ندرك التدرج في العقاب، وكيف أنه لبعض المجرمين نوعٌ من التهذيب، وتختلف
مدته باختلاف الجرم، وهو لبعضهم بقاءٌ مدى الحياة؛ بسبب صعوبة قبول هذا الشخص في
المجتمع، أو لبشاعة الجرم الذي اقترفه.
إضافةً إلى الآيتين السابقتين
جاء تعبير (خالدين فيها أبدًا) مع لفظ (السعير) وهو حالة الحرارة الشديدة، ويبدو
جليًا أنها حالةٌ مستمرةٌ ليس فيها تحوّلٌ.
(إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ
الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدࣰاۖ لَّا
یَجِدُونَ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا) (سورة الأحزاب: آيات 64- 65).
لو استعرضنا النماذج البشرية
التي توعّدهم القرآن بالخلود في جهنم أو بالخلود الأبدي في السعير فسوف ندرك على
الفور أنهم من أسوأ النماذج البشرية على الإطلاق، والتي لا يُرجى صلاحها، وهم
المتكبّرون. صفة الكبر ملازمةٌ لهذا الصنف، والكبر من أشر الصفات، بل هو على
النقيض تمامًا من صفة الإنصاف وعدم التحيز. المتكبر صاحب داءٍ عضالٍ يُفسد ما صلح
في المجتمع، ولا يعمل في انسجامٍ مع غيره، بل يرى نفسه دائمًا أعلى قدرًا ومكانةً،
ويُصرّ على ما يعرف؛ ممّا يُسبّب هدرًا للمعرفة وضياعًا للطاقات. كذلك الكافرون
الظالمون، فهؤلاء سيطر عليهم الكبر أيضًا، وجعلهم يتمادون في كفرهم، ويخلطون كفرهم
بالظلم.
هذا التنوع والتدرّج في
العقاب، أو قل التهذيب، إنّما هو من أصول الرحمة الثابتة للخالق، وكذلك فإنّ ندرة
تعبير (خالدين فيها أبدًا) هو إشارةٌ إلى أنّ العقاب ليس مقصودًا في حدّ ذاته، وأن
الأصل هو الرحمة. حتى آيات العذاب، بل لفظ (العذاب) ذاته، والتعبيرات التي وصفت
العقاب، مثل: جهنم والجحيم، مليئةٌ بفرص الرحمة والمغفرة، ولا يُصرّ على الإجرام
إلا فاسدٌ لا يصلح لأيّ مهمةٍ مستقبليّةٍ.
من خلال المواصفات القرآنية لـ
(الجحيم) أُرجّح أنّ (الجحيم) هو مرحلةٌ خاصّةٌ بالآخرة؛ أي قبل يوم القيامة، وسوف
يقوم عليها الإنسان بما حباه الله من استطاعةٍ وعلمٍ ومعرفةٍ. لدينا في كتاب الله
إشارةٌ كنّا قد تناولناها في فصلٍ سابقٍ، تشير إلى تكليف الإنسان بعقاب أو قل
بعذاب المذنبين، حيث يقول الله: (خذوه فغُلّوه).
(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ
ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33))
(سورة الحاقة: آيات 30- 33).
وقد قلنا إنّ الخطاب القرآنيّ
موجّهٌ دائمًا للإنسان، وها نحن بعد جمع الدلائل على أنّ الجحيم عذابٌ أكثر منه
عقابٌ، وعرفنا ماهيّة الجحيم، وفي ظلّ هذه الآيات المخاطب بها الإنسان تكتمل
الصورة، ونرى أنّ الجحيم هو مكان تهذيب الإنسان المذنب في الآخرة وإصلاحه، ومَن لم
يُصلحه الجحيم في الآخرة فسوف تتكفّل به نار جهنم يوم القيامة.
من خلال ما سبق، أجد أنّ
العذاب ما هو إلى مرحلةٌ انتقاليةٌ لإعادة تأهيل الناس مرةً اخرى، ويختلف العذاب
باختلاف درجات الفساد والضلال والزيغ.
هنا يبرز سؤال هام: هل هناك
أيّ إشارةٍ في القرآن على فناء بعض الناس تمامًا؟
رابعًا: دلالة لفظ (سقر)
- يدلّ جذر كلمة (سقر) -كما جاء في قاموس اللغة- عَلَى إِحْرَاقٍ أَوْ
تَلْوِيحٍ بِنَارٍ. يُقَالُ سَقَرَتْهُ الشَّمْسُ، إِذَا لَوَّحَتْهُ.
- وفي المعجم الاشتقاقي: و(سقر) تعني ذوبان الغليظ الذي في جوف الشيء
أو في أثنائه، بنفاذ الحرّ أو حدّةٍ شديدة إليه: كسَيَلان عَسَل الرُطَب الذي
أنضجَه الحرّ من تحت قشرته، وذوبان الدماغ أو أثنائه في الرأس من حّرّ الشمس،
وكحرّ الساقور يُكوَى به ليزيل مرضًا، وسُميت جهنم (سَقَرًا) لأنها تذيب (أي
بشدة حرّها) الأجسام.
لفظ (سقر) يشير إلى حالةٍ قصوى
من العقاب، بل الأمر أشبه بالتحول التامّ من صورةٍ إلى صورةٍ أخرى، بل فناءٌ
تامٌّ. المقصود بالفناء هنا هو انتهاء الصورة التي كان عليها الإنسان، وتحوّله إلى
صورةٍ أخرى مختلفةٍ، الله يعلم ما سوف يحدث لها أو يجري عليها. رغم أن آيتان من
الآيات التي جاء فيهما ذكر (جهنم) أشارتا إلى حالةٍ شبيهةٍ عندما ذُكر (حصب جهنم)
و(حطب جهنم) إلا أنّ مدلول (سقر) وسياق الآيات لم يدع الفرصة لفهمٍ مُغايرٍ سوى
الفناء التام، إذ قال عنها ربنا (لا تُبقي ولا تذر). (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
(27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ(28)) (سورة المدثر: آية 27-28).
لا يمكن فهم التعبير القرآني
(لا تُبقي ولا تذر) من خلال مفهوم (العذاب) والذي يشبه التنقية. كأنّ العذاب يقوم
بغربلة الأجزاء التالفة، وإبقاء الأجزاء الصالحة، أما (سقر) فتعني لا شيء صالحٌ
على الإطلاق، فكلّه تالفٌ، ولذلك لا تُبقي ولا تذر. لن يبقى منه شيءٌ في الحياة
الأبدية، وإنما مصيره بين الشوائب، وهو مصيرٌ نهائيٌّ. إنه الفناء ولكن بمفهوم
العلم، إذ يتحول هذا الإنسان بسبب عدم إمكانية تهذيبه إلى نظامٍ آخر، أو لن يُصبح
بعد اليوم من ضمن كتلة البشر، وسوف يخرج تمامًا من هذا التصنيف. صفات هذا النمط من
البشر وخصائصه جاءت مفصّلةً في سورة المدثر، ولا يحتاج لكثيرٍ من التفسير.
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا ۖ
إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ
فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
(20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
(23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ
الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي
وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ
كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا
وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ
أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
(38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ
الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ
الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا
الْيَقِينُ (47)) (سورة المدثر: آيات 11-47)
من خلال هذا القدر الكبير من
الوصف نجد أنّ مَن يستحقّون (سقر) هم فئةٌ من أحطّ البشر؛ إذ إنّهم فكّروا وقدّروا
ودبّروا، ومع كلّ هذا القدر من العلم ضلّوا. كانت لديهم نعمٌ عديدةٌ، والأمور
مهيّأةٌ أمامهم لكي يستقيموا، ومع ذلك اختاروا أقصى درجات الانحراف.
قد يتبادر إلى الذهن أن سقر
ليس فيها فناءٌ كذلك؛ بسبب حديثٍ دار بين مَن سُلك في سقر وأصحاب اليمين، فكيف
فَنوا وقد ردّوا الجواب على أصحاب اليمين.
الجواب يكمن في لفظ (سلك)،
فلفظ (سلك) في قاموس اللغة يعني نُفُوذَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ. لدينا في الآية حالةٌ
صريحةٌ تُخبرنا أنّ (سقر) لا تُبقي ولا تذر، ولفظ (ذر) نفسه يعني الشيء الصغير
جدًا، بمعنى أنّ (سقر) سوف تُفتّت كلّ شيءٍ. بذلك نستطيع القول: إن الحديث بين
أصحاب اليمين والمستحقين لسقر هو حديثٌ بعد الحكم باستحقاقهم سقر، وليس بعد دخولهم
سقر. كأنهم يُساقون إلى سقر فيخاطبهم أصحاب اليمين: (ما سلككم في سقر)، بمعنى: ما
الذي أدى بكم إلى هذا المصير؟
في حالة النار قال الله عن
أهلها أنهم يتخاصمون في النار، وفي الجحيم جاء أنّ مَن فيها يأكلون، أما سقر فجاءت
فيها عبارةٌ واحدةٌ في صورة استفسارٍ من أصحاب اليمين، ويبدو واضحًا أنها بعد
مرحلة الحكم وقبل التنفيذ. إنها تشبه حالة المحكوم بالإعدام عندما يقول له أحدهم:
ما الذي أدى بك إلى هذا المصير؟ فيجيب بما اقترف.
بعد تدبر آيات العذاب، وفهم
ماهيّة العذاب، نقولها بكلّ قوةٍ: إنه خالقٌ رحمته وسعت كلّ شيءٍ، وحتى لفظ
(العذاب) ما هو إلا رحمةٌ، فهو لا يُعذّب إلا ليردّ الإنسان لمكانته، ويؤهّله من
جديدٍ ليكون أداةً من أدوات الخالق.
(مَّا يَفْعَلُ
ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا
عَلِيمًا) (سورة النساء: آية 147). ومع كل ذلك فهناك نوع من البشر سوف يظلون في
العقاب خالدين أبدا ومنهم من سوف ينتهي تماما ويصبح لا وجود له بسبب طبيعته
الفاسدة والتي لا يصلح معها أي إصلاح.
ملخص الفصل
- الجنة مكانها على الأرض وفي السموات، وتعني المكان الذي
سوف يستطيع الإنسان الوصول إليه، وهو في مرحلة (الآخرة)، ومن صنع الإنسان
بحول الله وقوته.
- (جنات عدن) هي وصفٌ لجنات الآخرة، أمّا (جنات الفردوس)
فهي وصفٌ للجنات بعد القيامة.
- لفظ (خالدين فيها أبدًا) لا يعني بقاءً أبديًا إلى ما لا
نهاية، ولكنّه يعني ملازمين وملاصقين لها دون تحول، أي منذ البداية، والبقاء
مشروطٌ ببقاء السموات والأرض.
- لفظ (العذاب) إنما يعني التنقية والتطهير من الشوائب،
ولفظ (النار) لفظٌ عامٌ، ويعني الحرارة، ومدى الحرارة يتراوح من ارتفاعٍ
طفيفٍ إلى نارٍ في جوف النجوم أو الشمس.
- لفظ (جهنم) يعني مباشرة النار دون الدخول فيها، أما لفظ
(الجحيم) فيعني حرًا شديدًا وقسوةً، ولكن بشكلٍ ليس فيه مباشرةٌ لنارٍ
مشتعلةٍ.
- (سقر) هو نوعٌ من العقاب، الذي يُفني الناس، وهم فئةٌ من
أحطّ أنواع البشر.
Comments
Post a Comment