الفصل العاشر - علمٌ للساعة

الفصل العاشر


علمٌ للساعة 


 

لا بدّ أنْ يمرّ فهم (علم الساعة) الذي جاء مرتبطًا بنبي الله عيسى بفهم (الساعة) ذاتها أولًا، ومن خلال مدلولها في القرآن. مدلول (الساعة) فتح أبوابًا لم تكن في الحسبان؛ فقد وجدنا أنفسنا أمام معلوماتٍ غايةٍ في العجب، ولكنها تتكامل مع بعضها بعضًا بصورةٍ عجيبةٍ ومثيرةٍ. 

علمٌ للساعة 

عندما نُطالع القرآن محاولين فهم لفظ (الساعة)، وما يحمل من صفاتٍ وخصائصَ، سوف نواجه ثلاث تعبيراتٍ قرآنيةٍ، لا شك أنّها تختلف عن بعضها، على الرغم من أنّها تبدو تحمل المدلول نفسه. 

التعبير الأول: هو الساعة من دون إضافةٍ، والتعبير الثاني: هو علم الساعة، والتعيير الثالث: هو قيام الساعة. وسوف نحاول فهم المراد من التعبيرات الثلاث من خلال القرآن، ونحاول استنباط العلاقة بين علم الساعة ونبي الله عيسى ابن مريم لكي تتضح الصورة. 

لفظ (السّاعة) مشتقٌ من السّعة، وسِعة الشيء هي الحجم الذي يستوعبه هذا الشيء. وعندما نقول سعة هذا الصندوق 20 لترًا فإنّنا نُقرّر أنّ الصندوق يستطيع احتواء 20 لترًا في أقصى حدٍ. 

 

انظر للساعة الرملية، والتي اشتُق منها لفظ (الساعة) المعاصر، الذي يشير إلى الوقت، فعندما ينفد محتوى الجانب الأعلى من الساعة الرملية أو سعته يُطلق على الفترة التي استغرقها لتفريغ محتواها ساعةً زمنيةً. السّعة في أصلها هي محتوى الشيء، أو بتعبيرٍ دقيقٍ: أقصى حمولةٍ لهذا الشيء. الشحن والتفريغ المستمرّ في الحياة هو ساعاتٌ، أو قلْ كلّ عملية شحنٍ هي ساعةٌ، وكلّ عملية تفريغٍ هي كذلك ساعةٌ.

لا تنظرْ إلى مفهوم الساعة العصريّ فهو مشتقٌ من مفاهيم متسلسلةٍ، ونحن نحاول فهم مدلول (الساعة) لا فهم ما تعارف عليه الناس. يمكن أن نطلق لفظ (الساعة) على أمورٍ لا حصر لها، بدايةً من عمل الخليّة إلى حياة الإنسان نفسها، وأقصى مدةٍ يمكن أن يعيشها الإنسان، أو سعة الصندوق، أو سعة البطارية، أو حتى مدّة الحياة كلّها على الأرض، يمكن أنْ يُطلَق عليها (ساعة). ملء صندوقٍ بشيءٍ ما هو سعة هذا الصندوق، وشحن البطارية كاملة هو سِعة هذه البطارية. 

هنا نتحدث عن الوصول لنقطةٍ حرجةٍ لا يمكن أنْ تَحدث زيادةٌ بعدها، أو هي أقصى ما يمكن. لمزيدٍ من الإيضاح يجب أن نفرّق بين تعبيرين قرآنيّيَن، هما: تعبير سعة الشيء، وطاقة الشيء. 

عندما قال ربنا في كتابه: لا يُكلّف نفسًا إلا وُسعها، فهذا معناه أنّ الله لا يُكلّف نفسًا إلا بما تستطيع تحمّله بالفعل وتستوعبه. أمّا طاقة الشيء فهي أكثر من السّعة بدرجةٍ وتفوقها. هذان التعبيران لا يمكن فهمهما إلا من خلال فهم التصميم الهندسي لبعض الخزّانات، إذ يكون تصميم الخزّان لسعةٍ محدّدةٍ، أمّا طاقته فتكون أكبر من السعة، ولكن يوصَى دائمًا باعتماد السعة شرطًا للأمان، وألّا يصل الخزّان إلى طاقته؛ لأنّه يُسبّب ضررًا أو انفجارًا للخزّان. 

باختصارٍ، سعة الشيء هي أقصى محتوىً يمكن أن يتمّ التعامل معه بأمنٍ ويسرٍ، أمّا طاقة الشيء فهي حدوده القصوى، والتي قد تسبّب ضررًا عند الوصول إليها. لو افترضنا أنّ سيارةً مصمّمةٌ لكي تسير بسرعة 200 كيلو مترٍ في الساعة، فإنّ هذه السرعة هي السعة التي تسير بها السيارة، ولكنّ طاقة السيارة قد تزيد عن هذه السعة قليلًا، ولكنْ لو وصلت السيارة لطاقتها قد تُسبّب ضررًا للسيارة؛ لذلك نجد آيات القرآن دقيقةً، بصورةٍ تُبيّن الفرق بين السّعة والطّاقة، من خلال الآية التالية:

(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (سورة البقرة: آية 286).

من خلال هذه الآية نجد أنّ الله لا يُكلّف نفسًا إلا وُسعها؛ أيْ ما تستطيع حمله واستيعابه، أمّا الدعاء في الآية نفسها فيطلب من الله ألا يُحمّل الإنسان ما لا طاقة له به، والطاقة هنا فوق السّعة ، والتي لن يستطيع الإنسان التعامل عليها. 

لا يمكن أنْ نعتقد أنّ لفظ (الساعة) هو نفسه لفظ (القيامة) وإلا سيصبح الكلام في كتاب الله غير بليغٍ، ولا بدّ أنْ نسأل أنفسنا: لماذا وصف الله هذا الحدث بـ (الساعة)؟ ولماذا وصف حدثًا آخر بـ (يوم القيامة)؟. 

لقد ورد لفظ (القيامة) في كتاب الله في سبعين موضعًا، كلّها في صورة تعبير (يوم القيامة). لو أردنا أنْ نفهم معنى (القيامة) فهو مشتقٌّ من القيام، والقيام في حدِّ ذاته الاستعداد لعمل شيءٍ، أو مباشرة شيءٍ ما. (يوم القيامة) هو تعبيرٌ يصف اليوم أو الدورة التي سيُباشَر الحساب فيها. 

تعبير (يوم القيامة) هو التعبير الوحيد الذي يصف حالة المحاكمة وحالة الجزاء؛ بسبب خصائص لفظ (القيامة) وصفاته التي تعني العزم. إنّه يوم الاستحقاق والجدارة، والوقت الذي ينال كلّ إنسانٍ فيه جزاء ما قدّم، وما عملتْ يداه، وهكذا يُشير اللفظ. يقوم الناس للأيتام؛ أيْ يتولّون مسؤوليّتهم، ويباشرون أعمالهم بكلّ عزمٍ. ويقوم الناس بالقسط؛ أي يطبّقون القسط في حياتهم. إذًا يوم القيامة باختصارٍ شديدٍ هو يوم مباشرة الأعمال، أو يوم تطبيق ما حُصّل في الحياة الدنيا. وسوف نأتي بالتفصيل على (يوم القيامة) في الفصول القادمة من هذا الكتاب.  

القول بأنّ (الساعة) و(القيامة) مترادفان قولٌ لا يليق بالتعامل مع كتاب الله، وينبغي أنْ تُؤخذ في الحسبان هذه الفروق وما تشير إليه. ليس لفظ (الساعة) و(القيامة) مختلفان فقط، بل كذلك ألفاظٌ مثل: (الواقعة) و(القارعة) و(الحاقة) و(الغاشية) كلّها ألفاظٌ مختلفةٌ، ولا يجب أبدًا الاستسلام للحلّ السهل، بأنّ هذه الألفاظ جميعها تعني القيامة، وكأنّ القرآن كتابٌ مُغرمٌ بالمترادفات التي لا تحمل أيّ فرقٍ. 

سوف نحاول في السطور التالية التفريق بين ثلاث تعبيراتٍ قرآنيةٍ عن الساعة، ولكنّها تحمل دلالاتٍ مختلفةً، وهي (علم الساعة) و(قيام الساعة) و(الساعة) بغير إضافةٍ.

 

مدلول لفظ (الساعة) 

 

في البداية لا بدّ أنْ نُحدّد المقصود بالساعة التي تحدّث عنها القرآن بكثافةٍ، فهل هي مدّة حياة الإنسان، أم أقصى فترةٍ يقضيها الإنسان في هذه الدنيا؟ أم هي سعة الحياة بصفةٍ عامةٍ؛ أيْ مدّة الحياة على الأرض؟ أم هي فترة بقاء النظام الشمسيّ؟ أم ماذا؟ 

لفظ (ساعة) يمكن أنْ يتّسع لكلّ هذه التعريفات، إلا أنّ لفظ (الساعة) في القرآن، وتحديدًا عند اقترانه بالعلم، والذي جاء واضحًا مع نبي الله عيسى، يُشير إلى أنّ الساعة هي ساعةٌ معرفيةٌ، أو سعة العلم، وسوف يتّضح هذا المفهوم رويدًا رويدًا مع تقدّم ذكر الآيات.

لقد أخبرنا القرآن مباشرةً أنّ عيسى ابن مريم علِمٌ للساعة: (وَإِنَّهُۥ لَعِلۡمࣱ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِۚ هَـٰذَا صِرَ ٰطࣱ مُّسۡتَقِیمࣱ) (سورة الزخرف: آية 61).

مع الأخذ في الحسبان الحالة الفريدة التي كان عليها نبي الله عيسى، والمفردات التي وصفت هذا النبي العظيم، إذ قال عنه ربه أنّه روحٌ منه، وأنّه مؤيّدٌ بروح القدس، وأنّه كلمته ألقاها إلى مريم، فإنّ كلّ هذه التعبيرات تشير إلى حالةٍ قُصوى من الوعي والإدراك والفهم الذي كان عليه نبي الله عيسى. وعندما نقرأ أنّه علمٌ للساعة، نستطيع أنْ نُدرك أنّ حالة نبيّ الله عيسى هي حالة العلم التي سوف تؤدّي إلى الساعة بكلّ سهولةٍ ويسرٍ ودون عناءٍ. 

الساعة هي اكتمال دورة العلم، أو الحالة القصوى للعلم، وليست الحالة القصوى للحياة على الأرض. الساعة نقطةٌ سوف يصل إليها الإنسان في المستقبل، تتكشّف أمامه كلّ الحقائق، وتتّضح كلّ الأمور، وقد كان عيسى ابن مريم نبيّ الله حالةً مجسدةً لما سوف يكون عليه أمر الساعة. عيسى الذي جاء بالحق وبيّن للناس ما هم فيه مختلفون، من خلال وعيٍ وفهمٍ لا مثيل له، هو الحالة التي سوف تتحقّق، والتي سوف تأخذ البشرية إلى الساعة. نعم، الساعة بلغتنا المعاصرة هي سعة العلم، أي لن يكون هناك جديدٌ بعد هذه النقطة. 

 

مسألة الاعتقاد بأنّ كلّ شيءٍ قد اكتُشف، وأنّه لم يَعُد في الإمكان اكتشاف المزيد مسألةٌ متكرّرةٌ على مرّ التاريخ، وما إنْ تمرّ سنواتٌ قليلةٌ إلا ويحدث اكتشافٌ يُغيّر مجرى المعرفة السابقة. يتعجّل الإنسان غالبًا، أو يصيبه الغرور، وهو ما زال يجهل كثيرًا وكثيرًا ممّا حوله. القرآن يُشير إلى هذه الحالة، من خلال لفظ (الساعة) والتي تُمثّل ذروة العلم، وهناك آياتٌ كثيرةٌ في القرآن تُشير إلى أنّ الإنسان سيصل إلى مرحلةٍ متقدّمةٍ للغاية من العلم. 

لقد أوردتُ في الجزء الأول من سلسلة تلك الأسباب آيةً تحمل هذا المعنى، وهي الآية في سورة يونس، التي تشير إلى تحكّم الإنسان في كلّ شيءٍ حوله، وغروره المعرفيّ الذي قد يقوده إلى حتفه.

(إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارࣰا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدࣰا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ) (سورة يونس: آية 24).

 

لقد جاء في هذا الجزء إشارةٌ إلى تحكّم الإنسان بكلِّ شيءٍ حوله من خلال العلم في هذه الآية، حتى يظنّ أنّه مكتفٍ تمامًا. هذه الآية تتكامل أيضًا مع لفظ (الساعة) لتعطينا تصوّرًا لِما يُمكن أنْ يكون عليه حال الإنسان مع العلم والمعرفة. الإنسان في سعيٍ متواصلٍ لاكتشاف الكون من حوله، وفهم جميع الظواهر، وإيجاد العلاقات التي تحكمها، ولا يمكن أن يظنّ أحدٌ اليوم أنّنا اكتفينا، فأمامنا كثيرٌ من الغموض الذي يعتري كلّ شيءٍ، أكثر بكثيرٍ من المعرفة الحاليّة. 

تعبير (الساعة) في القرآن يشير إلى هذه الحالة، ولكنّنا نحتاج إلى أنْ نخرج من حالة الأساطير التي تُسيطر على مفهوم (الساعة) في عقول الناس. 

 سوف نمرّ على كلّ الآيات التي تناولت (علم الساعة) و(الساعة) و(قيام الساعة) لكي نوضّح للقارئ كيف أنّ القرآن وصف هذا الحدث العظيم ببلاغةٍ، ولكنّ طغيان رواياتٍ من التراث البشري منعت الإنسان عن الانفكاك منها، وظلّ أسيرًا لرؤية عصورٍ غابرةٍ، تعود لزمنٍ قبل نزول القرآن. 

 

أولًا: علم الساعة

 

ورد التعبير القرآني (علم الساعة) في كتاب الله في أربعة مواضع، وهذه المواضع هي التي قادتنا إلى فهم المقصود بـ (الساعة). إنّها حالة علمٍ متقدمةٌ، وإن كنّا هنا نتحدّث عن (علم الساعة) فإنّنا نتحدّث عن العلم الذي سوف يؤدّي إلى السّاعة. بِلُغتنا العصرية فهو العلم الذي سوف يؤدي إلى اكتمال الدورة، ويستطيع الإنسان بعدها أنْ يقول بكلّ راحةٍ: لا يوجد ما يمكن أن نكتشفه بعد هذه النقطة. لقد تناولنا الآية الخاصة بنبيّ الله عيسى، وكيف أنّها أسّست لهذه النتيجة، وكيف أنّه كان حالةً تُمثّل علم الساعة. (وَإِنَّهُۥ لَعِلۡمࣱ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِۚ هَـٰذَا صِرَ ٰطࣱ مُّسۡتَقِیم)ࣱ(سورة الزخرف: آية 61).

هذه الآية كانت إحدى القواعد الرئيسة التي انطلق منها الرأي القائل بنزول عيسى ابن مريم آخر الزمان. الغريب في الأمر أنّ مسألة نزول عيسى كما تُصوّرها الروايات هي مسألةٌ مفصليّةٌ، بل من أعظم المسائل التي سوف تواجه الإنسان إن كانت حقيقيةً، ومع ذلك لا توجد آيةٌ واحدةٌ في القرآن تؤسّس لهذه القصّة، أو تُشير إليها بوضوحٍ. 

كذلك قصة المسيخ الدجال، والتي نسج حولها الناس رواياتٍ وأساطير، بل جعلوها أعظم فتنةٍ سوف يتعرّض لها الإنسان، ومع ذلك لا وجود لهذه الحادثة في القرآن، ولو بإشارةٍ عابرةٍ. فهل يعقل أنْ يغفل هذا الكتاب الذي يُفصّل ويبيّن كلّ أمرٍ، وفيه خبر كلّ شيءٍ عن أعظم حادثتين، مثل: حادثة نزول عيسى، وحادثة المسيخ الدّجّال. 

يبدو واضحًا ولا أحتاج لشرحٍ، أنّ الحادثتين مرتبطتان ببعضهما، وهما قادمتان من رواياتٍ قديمةٍ للغاية، وليست من القرآن، ولكنْ يبدو أنّ العصور الأولى التي تعاملت مع القرآن، ولم تجد ذكر هاتين الحادثتين صراحةً في كتاب الله قد انطلقت لتُصوّر رواياتٍ تُماثل تلك الروايات القديمة، حتى تُصبح روايات "الإسلام" شاملةً لكلّ شيءٍ بنظرهم. 

لا أُنكر تأثير التاريخ القديم، والمتمثّل بالعهد القديم والعهد الجديد على روايات (الإسلام) التاريخية، ولكنّ الفيصل هنا هو القرآن. القرآن لم يذكر أيّ شيءٍ عن ذلك، فكان من الطبيعيّ أنْ يتوقّف الشّرّاح عن ترديد مثل هذه الروايات على أنّها تراثٌ إسلاميٌّ على الأقل، ولكنّ ما حدث شيءٌ يندى له الجبين. فقد أُدخلت مثل هذه الروايات إلى التراث الإسلامي بكلّ قوّةٍ، وأصبحت جزءًا لا ينفصل منه، والقرآن لم يذكر حقيقةً واحدةً عن ذلك.

نصوص القرآن دائمًا تشدّ النّاس نحو العقل، ولكنّ الناس يميلون إلى الخرافات والقدرات الخارقة، وهذه طبيعة العقول البسيطة. أكبر خرافةٍ وأسطورةٍ هي خرافة ذلك الرجل الأعور الذي يُدعى المسيخ الدجال. فهل حقًا سيُخبر الناس أنّه الإله، وأنّه يُحدّثهم ويُكلّمهم في صورةٍ مُجسّمةٍ على شكل رجلٍ أعور، ومكتوبٍ على جبهته كافر، لا يراها إلا المؤمن. إنّ هذا التصوّر تصوّرٌ غايةٌ في الطفولة والبدائية، والقرآن بجميع آياته وتعبيراته يحارب فكرة تجسيد الإله. هل بعد وصول البشرية لكلّ هذا التطوّر تُختبر بصورةٍ بدائيةٍ كهذه، وهي تجسيد الإله في صورة إنسانٍ.

هذه الفكرة تكاد تُعلن عن نفسها بأنّها قادمةٌ من ثقافاتٍ تؤمن بتجسيد الإله، ولكي تُصبح الأسطورة مقبولةً ينزل المسيح، وهو الذي يعتقد بعضهم أنّه الإله الحقيقي، ليقتل الإله المزيّف وينتصر للخير. الرواية الإسلامية لم تجعل المسيح إلهًا، وجعلته نبيًا، ينزل ويقتل المسيخ الدجال، ويكسر الصليب، وهذه الزيادة كانت ضروريةً؛ بسبب صورة المسيح البشرية في القرآن. 

لا وجود لمسيخٍ دجّالٍ، ولا لنزول عيسى ابن مريم، وكلّ ما يُقال في هذه الأمور بوضعه الحاليّ لا يصلح إلّا أن يوضع في خانة الأساطير. لكنّ تلك الروايات قد تكون محاولاتٍ من الأنبياء لتفسير نصوص دينيةٍ، ولكنْ تلقّاها الناس بسوء فهمٍ وصارت إلى ما صارت إليه. وسوف نتعرّض لمثل هذه الروايات، ونضع تصوّرًا لجذورها، وكيف انحرف بها الناس. 

ليس نزول عيسى نبي الله أو ظهور المسيخ فقط، بل وشروق الشمس من مغربها، وعددٌ كبيرٌ من علامات الساعة التي لا ذكر لها في القرآن، وكلّ ما جاء حولها لا أساس له. علامات الساعة الحقيقية هي (علم الساعة) وقد أشار القرآن إلى علم الساعة بكلّ وضوحٍ، وسوف نتبيّنه من خلال الآيات الثلاثة التالية:

الآية الأولى: 

(إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَیُنَزِّلُ ٱلۡغَیۡثَ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسࣱ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدࣰاۖ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسُۢ بِأَیِّ أَرۡضࣲ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرُۢ) (سورة لقمان: آية 34).

هذه الآية تشير إلى علم الساعة بكلّ وضوحٍ، ولكنّها فُهمتْ بصورةٍ مغايرةٍ، إذ اعتقد الشّرّاح أنّ (علم الساعة) أمرٌ غيبيٌّ، واكتفوا بذلك.

الآية تقول: إنّ الله عنده علم الساعة. فلكي تصل إلى علم الساعة يجب أنْ تتواصل مع الله. والتواصل مع الله متاحٌ، وهذه هي كلماته، وداخل كلماته علم الساعة. 

كلمات الله -كما ذكرنا في أكثر من موقفٍ- تحمل الحقائق المطلقة، وفهم هذه الحقائق المطلقة هو مبلغ العلم. وهذه الآية تشير بوضوحٍ إلى أنّ علم الساعة مرتبطٌ بكلمات الله، وعلم الساعة ليس أمرًا غيبيًّا كما أوّله الشّرّاح. 

علماء العالم يعتقدون كثيرًا أنّ الكون كلّه مرتبطٌ ببعضه بعضًا، وأنّ هناك قانونًا واحدًا يصف كلّ شيءٍ. هذا الاعتقاد ليس خطأً أو مبالغةً؛ بل هو خطوةٌ صحيحةٌ مئةً بالمئة لفهم هذا الكون. لقد جاءت إشاراتٌ متعدّدةٌ في القرآن إلى هذا القانون، بل إنّ القرآن ذاته هو الكتاب الذي يحمل العلم، ويحمل فكّ شفرات هذا الكون، بشرط التحلّل من الأساطير والروايات البشرية، وإيجاد منهجٍ علميٍّ سليمٍ لدراسة ألفاظه وتحليلها.

 

التعبير القرآني (إنّ الله عنده علم الساعة) يدفعنا للقول: إنّ العلم الذي سوف يؤدّي إلى اكتمال الدورة موجودٌ في كلمات الله. فإنْ كنتَ لا تؤمن بوجود الله، وتعتقد أنّ فكرة الإله فكرةٌ فاشلةٌ وبدائيةٌ فتريّث قليلًا؛ ما أكتبه هنا ليس بقصد تغيير اعتقادك مهما كان، ولكن بغرض إثارة الانتباه لأمرٍ عظيمٍ، ولفت النظر لكتابٍ يبدو أنّه يحمل مفاتيح كلّ شيءٍ، ولكنّه تعرّض لعملية طمسٍ وتحريفٍ لمفاهيمه لا مثيل لها. أعني ما أقول تمامًا، ولو أنّ أصحاب الاعتقادات الأخرى ضلّوا وتمسّكوا بالخرافات فقد يكون لديهم عذرٌ؛ بسبب عدم وجود النصّ الأوّل الذي قام عليه اعتقادهم، وكلّ ما بحوزتهم هو ترجماتٌ –لا شكّ-  عكست رؤيةً بشريةً خالصةً.

لكنْ ما عُذر أناسٍ بين أيديهم نصٌّ أصليٌّ، ومع ذلك لم يستطيعوا فكّ رموزه أو فهمه من داخله. لو كنتَ تعتقد أنّني مبالغٌ في ذلك فإليك المثال الأشهر على الإطلاق، وهو الحروف المقطّعة، والتي ما زالت حتى اليوم لغزًا لا يعلم أحدٌ ماذا يعني. 

لقد وقفتُ على درجة السّلّم الأولى للحروف المقطعة، والتي سوف أخصّص لها كتابًا كاملًا في المستقبل القريب، والتي يقينًا هي ما سوف تفتح علم الساعة. وأتمنّى أنْ أستكمل هذا السّلّم إلى نهايته، ولو لم أفعل فلديّ يقينٌ أنّه بفكّ شفرة الحروف المقطعة سوف يغمر الناس علم الساعة، وهو تكشّفٌ لكلّ شيءٍ وجلاءٌ لكلّ الضبابيّات. 

لست هنا بصدد بعثرة إيمان أحدٍ، أو دعوة أحدٍ للاعتقاد بما أدعيه؛ بل هي دعوةٌ لاختبار هذه الأفكار. دع أمر الاعتقاد جانبًا، وتفكّر في أنّ لديك كتابًا من قوّةٍ خارجيةٍ، وهذه القوّة وصفتْ كلّ الظواهر وكلّ الأحداث وقوانين الكون، وتواصلت معك، وطلبت منك فعل كلّ ما هو متاحٌ لفهم ما أرسلتْه لك. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الخطاب القادم من القوة الخارجية ليس موجّهًا لفئةٍ معيّنةٍ؛ بل هو موجّهٌ لمن يستطيع. وكلّ عصرٍ يحاول فكّ الشّفرة بقدرٍ ما، وكلّ جيلٍ يدفع في اتجاه الحل، وعندما يحين عصر ذلك الجيل الذي يستطيع فكّ الشفرة بشكلٍ صحيحٍ سوف يتفجّر علم الساعة بين أيديهم.

نعم، إنّ علم الساعة كامنٌ داخل تعبيرات القرآن وكلماته، ومَن أرسله يطلب منك أنْ تتفكّر وتعقّل، وتُحاول لا أنْ تستسلم. لا يعتقدْ أحدكم أنّ هذه التصوّرات البدائيّة الساذجة التي استسلم لها الناس عن القرآن هي دينُنا. ما ندين به هو أنّ هذا الكتاب هو كتابٌ غايةٌ في الروعة، وغايةٌ في الدقة، ومَن أرسله يطلب من البشرية العمل عليه وتحليله؛ لأنّه يحتوي علمًا غزيرًا، وليس مجرّد حكاياتٍ؛ إنّه (علم الساعة) الذي اختزنه الله في كلماته. 

كلّ كلمةٍ من كلمات هذا الكتاب العظيم تحتوى قدرًا هائلًا من العلم والمعرفة، ولا ينبغي تركها لتصوّرات البسطاء أو الاستسلام لهذه التصورات. دعوا البسطاء وما يعتقدون، ولكنْ على كلّ مفكّرٍ ومتدبّرٍ أنْ يسعى بكلّ قوّةٍ لفحص ما بين يديه، وطرح الأسئلة الغزيرة حتى تنفتح أبواب هذا العلم. 

كيف تحوّلت هذه الآية إلى آيةٍ خاصةٍ بالغيبيّات؟ وكيف غاب عنّا أنّ الله يُخبرنا عن علم الساعة. فإذا قلتُ لك إنّ البروفيسور إكس عنده علم الرياضيات، فماذا تفهم من ذلك؟ لا شك أنّك سوف تذهب للبروفيسور إكس وتسأله عن علم الرياضيات. فإنْ كان البروفيسور إكس غير موجودٍ لظروفٍ معيّنةٍ، غير أنّ له كتابًا، فمن الطبيعيّ عندما تريد فهم الرياضيات ودراستها فسوف تُطالع كتاب البروفيسور إكس.

الله يقول لك عنده علم الساعة، وكتابه بين يديك، فلماذا لا تستخرج علم الساعة من هذا الكتاب؟ 

 

إحالة الأمر إلى الغيب، والإصرار على ذلك، لا يمكن تفسيره إلا في إطار الكسل المعرفيّ، وعدم الرغبة في المطالعة والتدبّر. ليس مطلوبًا أنْ نفقد الوقت والجهد في سبيل إثبات أمورٍ لبعض الأشخاص هي أبعد ما يكون عنهم. فلو قضيت عمرًا كاملًا تشرح لشخصٍ أو جماعةٍ نظرية الكمّ لن يستوعبوا ما تقول لهم؛ بسبب القدرات المختلفة لكلّ شخصٍ. هناك أشياءٌ لا يجب أن نتوقّف أمامها كثيرًا، ولا يجب أنْ نُلقيَ لها بالًا، ولكن يكفي أنْ نرفع شأن العلم والدليل والبرهان، ونتوقّف فورًا عن تضخيم قيمة الأساطير وانعدام المنطقية باسم الدين. من يريد أنْ يخلط الأساطير بالدين فهذا شأنه، ولسنا منه في شيءٍ، وهو يعبد ما لا نعبد، ونحن نعبد ما لا يعبد. 

الآية الثانية

(إِلَیۡهِ یُرَدُّ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِۚ وَمَا تَخۡرُجُ مِن ثَمَرَ ٰتࣲ مِّنۡ أَكۡمَامِهَا وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ أَیۡنَ شُرَكَاۤءِی قَالُوۤا۟ ءَاذَنَّـٰكَ مَا مِنَّا مِن شَهِیدࣲ) (سورة فصلت: آية 47). 

هذه الآية كذلك تُشير إلى أنّ (علم الساعة) يُردّ إلى الله، والله أنزل كتابه الذي بين أيدينا، فهو إذن الدليل الناجع في بيان علم الساعة. لقد تطرّقنا في سلسلة تلك الأسباب إلى مجموعةٍ كبيرةٍ جدًا من المعلومات العلمية غير المكتشفة، وحاولنا تحليل اللفظ القرآنيّ، والاستدلال به على القانون الكونيّ قدر المستطاع، ونحن على يقينٍ من أنّ قيام عملٍ مؤسسيٍّ يأخذ بالحسبان حقيقة اللفظ القرآنيّ، وعلاقته بالقانون الكونيّ، سوف يثمر منهجًا متكاملًا لفهم اللفظ القرآنيّ، ومن ثمّ يقود إلى فتوحٍ مذهلةٍ في شتّى المجالات. 

إنّه علم الساعة الكامن خلف اللفظ القرآني في كتاب الله، والله يخبرنا الآية بعد الآية عن هذا العلم ومكامنه، لعلّ الإنسان ينتبه لما بين يديه. الآية كذلك تصنع موازنةً بديعةً لمن أراد شكورًا، فالله يقول في الآية نفسها: (وما تخرج من ثمراتٍ من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) و(إليه يُردّ علم الساعة) فكذلك الأشياء الأخرى بعلمه، فهل الإنسان ممنوعٌ من فهم علوم النبات والثمر وعلوم الوراثة والجينات ومعرفتها. كلّها علومٌ في متناول الإنسان، وكذلك علم الساعة في متناوله، ولكنْ عندما يدرك المقصود بـ (الساعة) والمقصود بـ (علم الساعة).

لقد أشارت الآية إلى علم الساعة بالفعل، وهو كلّ علمٍ يتعلّق بالحياة والكون، فعندما بدأت الآية بقول الله: (إليه يرد علم الساعة) ثم عدّدتْ مجموعةً من العلوم؛ فهذا يعني أنّ علم الساعة هو علم سعة هذه العلوم. سعة العلوم عند الله، والله لا تدركه الأبصار، ولكنّه أنزل كتابًا قال فيه: إنّه الذكر، والذكر هو الأشياء المحفوظة بذاتها، فهل بعد ذلك شكٌّ في أنّ علم الساعة هو ذروة علم كلّ شيءٍ؟ هل هناك شكٌّ في أنّ الساعة إنما هي سعة العلم؟ وأنّ العلم مرتبطٌ بكلمات الله، ومحفوظٌ فيها؟ والله إنّي لأرى كلمات الله تنطق وتُلحّ على الإنسان في فهمها، ولكنّ الإنسان كسولٌ ويُصرّ إصرارًا عظيمًا على الإعراض. 

الآية الثالثة: 

(وَتَبَارَكَ ٱلَّذِی لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَا وَعِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ) (سورة الزخرف: آية 85)

يقول الله سبحانه في هذه الآية: له ملك السموات والأرض وما بينهما، وعنده علم الساعة. فهل تحتاج هذه الآية لجهدٍ لفهم أنّ علم الساعة متعلّقٌ بعلوم السموات والأرض وما بينهما. عنده سبحانه (علم الساعة) في كتابه الذي أنزله، وهذا العلم متعلّقٌ بكلّ شيءٍ كما تقول الآية، ولكنْ إذا فُسِّرت الآية منفصلةً عن بعضها، فبالتأكيد سوف يصبح (علم الساعة) شيئًا آخر ليس له علاقةٌ بالسموات والأرض وما بينهما. 

التعبير القرآني (علم الساعة) يحوي كثيرًا وكثيرًا من الأسرار، ولنا وقفةٌ معه في الفصل القادم، عندما نستعرض الآيات الخارقة التي جاء بها نبيّ الله عيسى، وهي -لا شكّ- إحدى مؤشرات علم الساعة؛ لأنّها آياتٌ لا يمكن فصلها عن نبيّ الله عيسى. سوف نتعرّض لمسألة إحياء الموتى، وإمكانية الخلق التي استطاع نبي الله عيسى بإذن الله فعلها، وكيف يمكننا فهم هذه الآيات، وإلى ما تشير.

علم الساعة متعلقٌ مباشرةً بنبي الله عيسى، ولذلك يمكننا القول إنّ الساعة حالةٌ افتراضيةٌ تمثّل سعة العلم والمعرفة المستمدة من كلمات الله، والتي سوف يصل إليها الإنسان، وسوف يكون من نتائجها استطاعة الإنسان خلق الحياة بصورةٍ ما، وإعادة إحياء الموتى.  

يكفينا هنا أنْ نستنتج أنّ (الساعة) متعلّقةٌ بذروة العلم، وأنّ (علم الساعة) تحمله الكلمات و الألفاظ والتعبيرات في القرآن. وسنتحول الآن لفهم لفظ (الساعة) الذي جاء منفردًا في القرآن، ومن خلال ما لدينا من معطيات سوف نحاول فهم الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ.

ثانيًا: الساعة 

الآية الأولى: 

(قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِلِقَاۤءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةࣰ قَالُوا۟ یَـٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِیهَا وَهُمۡ یَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَاۤءَ مَا یَزِرُونَ) (سورة الأنعام: آية 31).

المُلاحظ أنّ لفظ (الساعة) في القرآن جاء في أغلب مواضعه مرافقًا للفظ (بغتة)؛ ممّا يدلّ على سرعة حدوث الساعة. لفظ (بغتة) ويعني السرعة والمفاجأة لفظٌ معبّرٌ للغاية عن حالة الساعة ذاتها. لماذا؟

استخراج منهجٍ علميٍّ لفهم اللفظ القرآني بشكلٍ محدّدٍ هو الغاية، التي بالوصول إليها سوف تنفكّ شفرة الكلمات والحروف والتعبيرات، وسوف يصبح العلم كالفيضان، وهي حالةٌ حقيقيةٌ يعرفها أهل العلم جيدًا. كلّ الاكتشافات العلمية وكلّ التحولات العظيمة في تاريخ العلم، قد حدثت فجأةً بالنسبة إلى غير المهتمين. هذه الآية تتحدّث عن صنفٍ من البشر، الذي يبدو من سياق الآية أنّهم مكذِّبون، وهؤلاء -لا شك- ستباغتهم الساعة. بمعنى أنّه عند الوصول لنتائج علميةٍ مؤكّدةٍ بصحّة الطريقة التي ستُستَخلص المعلومات بها من القرآن، أو أنّ هناك منهجًا محددًا يمكن من خلاله فهم كلمات القرآن وألفاظه، ولم يَعُد الأمر مجرّد رؤىً شخصيةٍ أو وجهات نظرٍ، عندها سوف يكون انكشاف الحقائق أمرًا واقعًا ولا سبيل إلى ردّه.

 

عند هذه النقطة نكون قد وصلنا إلى الساعة، أو سعة العلم وذروته، وهذا -لا شك- سوف يباغت المكذّبين والمتذبذبين. وعند الوصول لمرحلة الساعة لن يصلح إيمان المكذّبين أو الضالّين؛ لأنّ إيمانهم في هذه الحالة هو تحصيل حاصلٍ. هذا الأمر أشبه بغرق فرعون، والذي عندما باغته الغرق وعلم أنّه الحق قال: آمنت أنّه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. فكان الجواب: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. 

(وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡیࣰا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِیۤ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوۤا۟ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ) (سورة يونس: آية 90). 

سوف يُسقَط في أيدي المكذّبين الذين كذبوا بلقاء الله؛ لأنّ الكتاب يقول بكلّ بساطةٍ إنّ هناك إلهًا، وأنّ حقائق لا نهائيةً سوف تتكشّف، وأمورًا كانت غائبةً سوف تظهر سريعًا. أمر الساعة أمرٌ عظيمٌ ولا شكّ في ذلك؛ لك أنْ تتخيّل أنّ نصًا مكتوبًا بلغةٍ غير مفهومةٍ كليًّا، وهذا النصّ يشمل معلوماتٍ عن كلّ شيءٍ، وفجأةً فُكَّتْ شفرة هذه اللغة. ما هو حجم المعلومات والحقائق التي سوف تتكشّف؟ وما هو حجم التزييف الذي سوف ينكشف؟ إنّه أمرٌ عظيمٌ حقًا، ومذهلٌ ومباغتٌ لكلّ مكذّبٍ ومتكبّرٍ. 

المباغتة ليست ناتجةً عن ترتيبات الساعة، وإنّما المباغتة بسبب الغفلة والإعراض الذي يعيشه الناس. مثال ذلك: قديمًا كانت الجيوش تُباغت خصومها إن كان الخصوم غافلين، وليس لديهم الأدوات التي تُمكّنهم من استطلاع الأخبار وتحليل النتائج. الجيش المباغِت استغرق وقتًا للترتيب، ويسير بخطىً ثابتةٍ، ولكنّ وصوله إلى حدود الخصوم هو ما باغتهم، وأسقط في أيديهم. الساعة تسير، أو المحتوى المعرفي والعلمي في ازديادٍ مستمرٍّ، ولكنّ الوصول لمرحلة السّعة النهائيّة هو ما سوف يُباغت الغافلين والمكذّبين. 

الآية الثانية: 

(قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ) (سورة الأنعام: آية 40). 

نرى أيضًا في كثيرٍ من الآيات أنّ هناك ارتباطًا بين الساعة والعذاب، وهذا ما جعل بعضهم يعتقد أنّ الساعة هي يوم القيامة. الذي يَظهر هنا أنّ الساعة هي انكشاف الحقائق، أو الوصول إلى ذروة العلم، وهو أمرٌ مُخبّأٌ في كلمات الله. هذا الأمر أشدّ من العذاب على المكذّبين المعرضين والغافلين. إنّه يومٌ ذو وقعٍ مزلزلٍ؛ لأنه يقول لهم إنّكم على خطأ، وأنتم ضالّون. انكشاف الحقائق سوف يُبيّن للناس مقدار الزّيف والتزوير الذي يعتنقونه، ويتعايشون معه، وهذا في حدّ ذاته أمرٌ جللٌ. سوف نتعرض لبعض التحليلات في هذا الكتاب، والتي تخالف تمامًا ما هو متعارفٌ عليه، والتي -كما أعتقد- لن يستطيع الإنسان الغارق في التراث التعامل معها بمرونةٍ، ولكنّه سوف يهرب للاحتماء بموروثه؛ لأنّ وقع التحليلات سوف يبدو مُزلزلًا، فما بالكم بالساعة؟ 

الآية الثالثة:

(یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَیَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّیۖ لَا یُجَلِّیهَا لِوَقۡتِهَاۤ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِیكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةࣰۗ یَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِیٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ) (سورة الأعراف: آية 187).

بدأت هذه الآية بالتعبير العجيب (يسألونك عن الساعة أيان مرساها). يقول الشراح: إنّ الآية نزلت ردًا على بعض اليهود الذين سألوا الرسول: متى الساعة؟ فجاءت هذه الآية ردًا عليهم. قد يكون هناك بالفعل من سأل الرسول عن يوم القيامة ومتى هو، ولكنّ الآية أشمل بكثيرٍ من هذا التفسير. 

الخطاب هنا موجّهٌ للإنسان بصفةٍ عامّةٍ، والرسول من ضمن البشر، والإجابة توضيحٌ للبشر عامّةً؛ لأنّ لفظ (مرساها) لن يخطر على عقل بشرٍ أن يصف به يوم القيامة. (الرسوّ) يأتي بعد السير أو الجريان، كما السفينة، تجري في البحر وترسو عند الحاجة. لفظ (مرساها) الذي جاء مع الساعة يعني أنّها تجري أو أنّها مستمرةٌ في الحركة، والحقيقة أنّ هذا التعبير يتناسب تمامًا مع الحركة المعرفية والعلمية. لو بحثنا عن تعبيرٍ يسأل عن وقت وصول الاطراد العلمي والمعرفي إلى نهايته لن نجد تعبيرًا أبلغ من تعبير (المرسى)، والذي يُفيد أنّ الاطراد العلمي والمعرفي في حركةٍ مستمرّةٍ. كأنّ السؤال هنا: متى يتوقّف هذا الاطّراد؟ أو متى تصل (الساعة)؟ أو بلغتنا المعاصرة متى تمتلئ السّعة إلى حدودها القصوى؟ وقد جاء المعنى نفسه في سورة النازعات (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَیَّانَ مُرۡسَىٰهَا) (سورة النازعات 42).

حملت الآية نفسها الإجابة، وهي علمها عند ربّي، وهذا يعني أنْ تبحث عنها عند ربّي، وليس معناه أنْ تُحيل الأمر إلى الغيبيّات، و(عند ربي)؛ أي تجدها في كتاب ربّي. 

في هذه الآية الكريمة أيضًا تعبيرٌ رائعٌ، وهو (ثقلتْ في السماء والأرض)؛ (ثقلت) تعني هنا أنّها محمّلةٌ بالكثير، ولنا في كتاب الله نموذجٌ واضحٌ لهذا الثقل، والذي جاء في سورة المزمل، إذ عبّر عن القول المنزل بالقول الثقيل: (إِنَّا سَنُلۡقِی عَلَیۡكَ قَوۡلࣰا ثَقِیلًا) (سورة المزمل: آية 5). القول الثقيل هو القول المليء بالحكمة والبلاغة والمعرفة، ويُفصّل ويبيّن ويحتاج للتدبّر. 

كذلك فقد ثقلت الساعة بسبب ما تحمله من قدرٍ هائلٍ من العلم والمعرفة. (ثقلت في السموات والأرض) تُشير إلى اقتراب الساعة، بمعنى اقتراب الوصول إلى الحدود القصوى من العلم والمعرفة. عندما نملأ خزّان المياه بالماء فإنّه يثقل بوزن الماء عندما يقترب من حالة الامتلاء. الساعة مُحمّلةٌ بالتراكم المعرفي والعلمي، ممّا يجعلها ثقيلةً، ولكنّها لم تصل بعد إلى الحدود القصوى التي يصحّ معها أنْ تُسمّى (الساعة).

مرةً أخرى يخبرنا ربنا أنّ الساعة لا تأتي إلا بغتةً، والحديث هنا يخصّ الضالّين، بدليل الآية التي تسبق هذه الآية، والتي تتحدّث عن هذه الفئة تحديدًا: (مَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُۥۚ وَيَذَرُهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ) (سورة الأعراف: آية 186). 

في نهاية هذه الآية جاء (یَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِیٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ) لفظ (حفيٌّ) يشير إلى الإحاطة بالشيء، والقرآن ينفي أنْ يكون الرسول محيطًا بها، وهذا متوافقٌ تمامًا مع دور الرسول في مرحلته، وهو تبليغ القرآن والتفاعل معه بقدر معارفه. أمر الإحاطة بالشيء ليس لرسولٍ ولا نبيٍّ ولا لبشرٍ بعينه؛ وإنّما هو تراكمٌ معرفيٌّ ومعلوماتيٌّ حتى تصل البشرية إلى غايتها. 

يؤكّد ربّنا مرةً أخرى أنّ علم الساعة عند الله، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون. لو أنّ المقصود هنا أنّ علم الساعة هو يوم القيامة، وأنّه وقتٌ لا يعلمه إلا الله، لكان من المناسب قوله: إنّ الناس لن يعلموا. أمّا قول الله (أكثر الناس لا يعلمون) يجعلنا نقول إنّ قليلًا من الناس قد يعلمون. ليس في الآية أيّ دليلٍ على أنّ علم الساعة لن يطّلع عليه أحدٌ، وإنّما هو إرشادٌ بأنّ علمها عند الله، والمراد: ابحث في كتاب الله المنزل من عند الله، وسوف تجد علم الساعة. علم الساعة ليس وقتًا أو تاريخًا محدّدًا، وإنّما هو الحقائق والعلم المخزون في كتاب الله، وإذا استخرجه الإنسان وتوصّل إليه فهو علم الساعة. 

الآية الرابعة: 

(أَفَأَمِنُوۤا۟ أَن تَأۡتِیَهُمۡ غَـٰشِیَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِیَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ) (سورة يوسف: آية 107). 

في هذه الآية أيضًا ارتباطٌ بين الساعة التي سوف تأتي بغتةً وعذاب الله، وكلاهما موجّهٌ للغافلين الضالّين، فإمّا عذاب الله في الدنيا والآخرة، وإمّا حسرةٌ تلاحقهم عند الساعة، وانكشاف الحقائق، وبيان مصدرها. 

حتى نُقرّب الصورة تخيّل أنّ إنسانًا يعيش معتقِدًا أنّه يعمل الصالحات، وقد حرّم على نفسه كثيرًا وكثيرًا من الطيبات، ويظنّ نفسه في أعلى درجةٍ، ثمّ تأتي المعرفة والعلم، ويجد نفسه في صنف المشركين، أو الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، كيف سيكون موقف هذا الإنسان؟ 

لك أنْ تتخيّل أنّ عامّة الناس في كلّ الاعتقادات مطمئنّون لما يعتقدون، فماذا يحدث إنْ ظهر للإنسان بالدليل أنّ اعتقاده خاطئٌ، وأنّه عاش حياته عبثًا؟ إنّ الموقف شديد الصعوبة على الإنسان بصفةٍ عامّةٍ، وعلى كلّ غافلٍ متكبّرٍ ضالٍّ لا يحاول الوصول للحقيقة، ويبذل فيها الجهد. 

الآية الخامسة: 

(وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَـَٔاتِیَةࣱۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِیلَ) (سورة الحجر: آية 85).

هذه الآية تقرّر أنّ الساعة آتيةٌ لا مفرّ منها، ولو حاولنا ترجمة هذا التعبير القرآني البديع، فسيصبح: إنّ للعلم والمعرفة حدودًا قصوى، سوف يصل إليها الإنسان لا محالة. التعبير القرآني الذي سبق قول الله إنّ الساعة آتيةٌ يأخذنا إلى أنّ أمر خلق السموات والأرض وما بينهما كان بالحق، وهذه الحقائق هي مبتغى العلم؛ إذ يسعى العلم وأربابه إلى اكتشاف الحقائق وما تيسّر لهم في سبيل ذلك. كأنّ الآية هنا تُقيم علاقةً بين الحقائق المرتبطة بخلق السموات والأرض والوصول إلى الساعة. 

لكنْ ما دلالة التعبير القرآنيّ الذي جاء نهاية الآية (فاصفح الصفح الجميل)؟ الصفح هو الإعراض أو تجاوز الأمر بلطفٍ، وهذا توجيهٌ من الله للإنسان، أن يتجاوز حالة الجدال المصاحبة للساعة؛ لأنّ العلم بطبيعة الحال جدليٌّ إلى حدٍ كبيرٍ، وإنْ كانت الأدلة شاهدةً وكثيفةً فسيظلّ هناك مَن يُكذّب ومَن يعاند، ومَن لا يستطيع استيعاب الأمر. أعتقد أنّ (الصّفح) مرتبطٌ بهذه الحالة، لا سيما إنْ علمنا أنّ الآيات التي تسبق هذه الآية في سورة الحجر تتحدّث عن أصحاب الحجر، الذين كنّا قد بيّنا أنّهم حالةٌ عامةٌ تصف كلّ أصحاب الحجر والتمسّك بالماضي مقابل كلّ جديدٍ، بغضّ النظر عن الأدلة والبراهين، وإنْ كانت هذه الآية تشير إلى حالةٍ مشهورةٍ قد حدثت بالفعل، وحذّر منها القرآن.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ(82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (84)) (سورة الحجر: آيات 80-84).

الآية السادسة:

(وَلِلَّهِ غَیۡبُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَاۤ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ) (سورة النحل: آية 77).

هذه الآية تقرّر الحالة نفسها التي قرّرتها آياتٌ سابقةٌ، فالساعة تأتي بغتةً، إذ يقول الله إنّ أمر الساعة كلمح البصر. السرعة التي تأتي بها الساعة تُباغت الغافلين المكذّبين في شتى بقاع الأرض. أنماط البشر مختلفةٌ ومتباينةٌ، واليوم نرى بأعيننا كيف أنّ عددًا هائلًا من البشر يعتقدون أنّ أمر الأديان أمرٌ وهميٌّ ومِن الأساطير، وبعض الناس يعتقدون أنّ الدين مجازيٌّ، وهو أقرب للحكايات والروايات. كثيرةٌ أنماط البشر التي تستهزئ وتسخر وترفض وتلعن وتُصرّ وتتكبّر وتعاند، ولا تريد حتى مناقشة الفكرة. كلّ هؤلاء سوف تباغتهم الساعة، وتأتي عليهم كلمح البصر؛ لأنّهم سوف يجدون أنفسهم فجأةً أمام كتابٍ ينطق بالحقيقة، ويحوي معلوماتٍ ومعارف ظنّوا أنّها لا تخطر لهم على بالٍ. إنّه كتابٌ يعلن فيه الخالق عن نفسه وعن مراده من البشر. 

الآية السابعة: 

(وَكَذَ ٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ لِیَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَیۡبَ فِیهَاۤ إِذۡ یَتَنَـٰزَعُونَ بَیۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُوا۟ ٱبۡنُوا۟ عَلَیۡهِم بُنۡیَـٰنࣰاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِینَ غَلَبُوا۟ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا) (سورة الكهف: آية 21).

هذه الآية تُقرّ أنّ الساعة من وعد الله، وهي كذلك، فمَن أنزل الكتاب وأنزل معه الذكر، وهو الحقائق المحفوظة كما ذكرنا في كتاب قولًا ثقيلًا، ووضع مفاتيح فهمه داخله، لا بدّ أنْ يُحقّق وعد انكشاف الحقائق وظهورها، ولكنّها تحتاج لوقتٍ ومستوىً معيّنٍ من المعرفة حتى تنكشف وتفصح عن نفسها. الآية تُقرّر أيضًا أنّ الساعة لا ريب فيها، وهو ما يتّفق تمامًا مع كثافة الأدلة والبراهين التي سوف تأتي مع الوصول إلى الساعة. 

الآية الثامنة: 

(قلۡ مَن كَانَ فِی ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلۡیَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ مَدًّاۚ حَتَّىٰۤ إِذَا رَأَوۡا۟ مَا یُوعَدُونَ إِمَّا ٱلۡعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَیَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضۡعَفُ جُندࣰا) (سورة مريم: آية 75).

هذه الآية من الآيات التي تربط بين العذاب والساعة، وكلاهما عسيرٌ على الغافلين والمكذّبين. العذاب في الآية عذابٌ دنيويٌّ، وليس عذابًا في الآخرة، فلو كان العذاب في الآخرة، والساعة تعني بالمفهوم التقليدي يوم القيامة، لصحّ أنْ يأتي العذاب بعد الساعة وليس قبلها. لكنْ لأنّ الساعة حدثٌ دنيويٌّ كذلك، ومرتبطٌ بالانفجار العلميّ، والذي مصدره كتاب الله، فيصبح العذاب المذكور في الآية كذلك عذابًا دنيويًا يحيط بأولئك المكذّبين. وكما ذكرنا، إنّ العذاب والساعة أمرهما عسيرٌ على كلّ مكذّبٍ وضالٍّ. 

الآية التاسعة: 

(إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِیَةٌ أَكَادُ أُخۡفِیهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ) (سورة طه: آية 15). 

على الرغم من أنّنا على يقينٍ من أنّ علم الساعة موجودٌ داخل كلمات القرآن وتعبيراته، وأنّ العلم والحكمة سوف تتفجّر من بين ثنايا حروف هذا الكتاب، إلا أنّنا لا نستطيع الجزم كيف ولا متى سوف تصل البشرية إلى هذه النقطة. معنى ذلك أنّ البشرية تسير سيرًا حثيثًا للحصول على قانونٍ يُفسّر كلّ شيءٍ، ولو توصّلت البشرية إلى هذا القانون أو مجموعة القوانين الصحيحة مئةً بالمئة، فقد وصلنا إلى السعة النهائية، أو (الساعة) بالتعبير القرآنيّ.

هناك من يسعى بجدٍّ، وهناك من لا يعنيه الأمر، وهناك مَن يسخر مِن ذلك، ولكنْ عندما نصل إلى السعة النهائية فسوف تُجزى كلّ نفسٍ بما اقترفَته. مَن كرّس حياته للفهم والبحث لا يستوي هو ومن حارب الفكرة وعارضها بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منيرٍ. مَن غفل وكذّب لا يمكن أنْ يكون في الدرجة نفسها  مع مَن حاول أنْ يفهم، أو حتى مع مَن وقَفَ موقف الحياد. 

كثيرةٌ تلك المواقف التي باغتَ العلم فيها الناس، لا سيما رجال الدين الذين لم يستسلموا للعلم، وأصرّوا على خرافاتهم. ومن أشهر الأمثلة على ذلك، الاعتقاد بمركزية الأرض، الذي نفاه كوبرنيكوس في القرن الخامس عشر. 

حقيقة أنّ الأرض ليست مركز الكون ذكرها كوبرنيكوس وهو على فراش الموت، ولم يستطع التصريح بها أثناء حياته؛ بسبب جبروت الكنيسة في ذلك الوقت، الذي كان يَعُدّ مثل هذا الحديث هرطقةً وخروجًا عن الدين. 

النجوم والأجرام السماوية لا تدور حول الأرض، والأرض تدور حول الشمس، والأرض ذاتها تدور حول نفسها، ممّا يُنذر بانتهاء أسطورة أنّ الأرض مركز الكون، والذي عدّته الكنيسة كفرًا بواحًا. 

ثمّ جاء جوردانو برونو الفيلسوف الإيطالي وحمل على عاتقه أفكار كوبرنيكوس، مع إضافة بعض المعلومات العلميّة عن الفلك، والتي دعمت بقوّةٍ نظرية كوبرنيكوس، لكنْ سرعان ما قُبِض على برونو وحوكِمَ، وحُكم عليه بربط لسانه، وجُرّد من ملابسه، ثمّ رُبِط على قضيبٍ حديديٍّ وأُحرق حيًا، وسط جمعٍ غفيرٍ من الرعاع الذين كانوا يتصايحون بالموت للكفّار. 

وبعد ثلاثة عقودٍ من حرق برونو نشرَ جاليليو كتابًا يؤكّد فيه أنّ الأرض تدور حول الشمس، ممّا جعل السلطات في وقتها تستشيط غضبًا بسبب نتائج جاليليو. ومع اختراع التليسكوب والأدلة والبراهين التي لا يمكن دحضها، لم تستطع السلطات إعدامه، ولكنّها استطاعت أنْ تُرهب الرجل صاحب السبعين خريفًا، وتتهمه بأنّه أخطأ في قراءته، وأنّ الحقيقة هي ما يذكره رجال الدين من أنّ الأرض مركز الكون.

حقيقةٌ علميةٌ مثل دوران الأرض حول الشمس باغتَتْ رجال الكنيسة وأفزعتهم؛ بسبب قناعاتهم الراسخة عن أنّ الأرض مركز الكون، ممّا جعلهم يشنّون حربًا بلا هوادةٍ على كثيرٍ من الفلاسفة والعلماء. 

هل تعلم أنّ جاليليو اكتشف أقمار المشتري من خلال تلسكوبه، وقد رفض بعضهم النظر من خلال التليسكوب لاستجلاء الحقيقة، وزعموا أنّ التليسكوب ما هو إلا وسيلةٌ لخداع البصر. الناس بصفةٍ عامةٍ لا يرغبون في زعزعة إيمانهم المستقرّ، ويحاولون بكلّ السبل مجابهة أيّ خلخلةٍ لهذا الإيمان، وهم كُثُرٌ، والقليلون فقط هم من يحاولون الوصول للحقيقة غير متحيّزين. لا شكّ أنّ اكتشاف التلسكوب، الذي كان دليلًا دامغًا على حقائق لم يتعرّف عليها الناس وقتها، كان بمنزلة تمرينٍ صغيرٍ لمسألة الساعة. لقد باغتَ التليسكوب التقليديّين وأسقط في أيديهم، فحاولوا مجابهة هذا الأمر عن طريق وصفه بالخداع. هذا النمط من البشر لا يريد معرفة الحقيقة، وإنّما يريد أنْ تخبره بما يريد؛ لذلك هو الصنف الأكثر خسارةً. 

قول الله عن الساعة (أكاد أخفيها) يُشير إلى أنّها ليست مختفيةً تمامًا، وإنّما هناك مؤشّراتٌ تدلّ عليها، وهذه المؤشّرات يُصرف عنها المتحيّزون والضالّون والمكذّبون. 

الآية العاشرة:

(ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَیۡبِ وَهُم مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشۡفِقُونَ) (سورة الأنبياء: آية 49).

لا يمكننا فهم هذه الآية بصورةٍ سليمةٍ إلا من خلال سياق الآيات، الذي جاءت فيه:

(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ(48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ(49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(50) (سورة الأنبياء: آيات 47-50). 

بدأت الآيات بذكر يوم القيامة، ثم انتقلت إلى الفرقان الذي آتاه الله موسى وهارون، والذي جعله ضياءً وذكرًا للمتقين، والذي قلنا إنّ عيسى نبي الله هو مَن استخرج حقائقه، كما جاء في الفصل السابق. الآية الخاصة بالساعة وقعت بعد ذكر الفرقان، وجاء بعدها كذلك التعليم الربانيّ والتنبيه الإلهيّ بأنّ هذا ذكرٌ مباركٌ أنزله الله. (الذكر) هو الحقائق المحفوظة بذاتها، وقلنا إنّ كلمات القرآن وتعبيراته (ذكر)؛ لأنّها حقائق مطلقةٌ، وتحمل بداخلها حقائق مطلقةً تنتظر من يستخرجها. عندما تأتي هذه الآية بعد ذكر (الساعة) فهذا يؤكّد لنا أنّ الساعة متعلّقةٌ بعملية الذكر أو الحقائق التي يحويها كتاب الله. إضافةً إلى أنّ ذكر الله لـ (يوم القيامة) في بداية الآيات جعلنا نسأل أنفسنا ما فائدة ذكر الساعة بلفظ (الساعة) تحديدًا، وليس (يوم القيامة)؟ 

لا شكّ عندي أنّ يوم القيامة في هذه الآيات متعلّقٌ بمباشرة الأعمال، أو يوم المحاسبة، أمّا الساعة هنا والتي لم تأتِ أبدًا بتعبير (يوم الساعة) تُعبّر عن السعة أو الحدود القصوى من العلم، والمرتبط بكلمات الله. 

لماذا الذين يخشون ربهم بالغيب من الساعة مشفقون؟ أمّا الضالون فتأتيهم الساعة بغتةً؟ 

 

الأمر شديد الوضوح، فالذين يخشون ربهم يعلمون قدر كلمات الله، وقدر ما تحتويه من معلوماتٍ وعلومٍ، وأنّه كتاب الخالق الذي يُعلن فيه عن الحقائق وعن مراده. أهل الخشية مشفقون من الحقائق التي تحملها هذه الكلمات، لربّما فاتهم شيءٌ، أو أنّهم ضلّوا، هكذا ديدن العاقل في حالة ترقّبٍ وخوفٍ من أنْ يكون قد أساء الفهم. أمّا الجاهل فلديه ثقةٌ عجيبةٌ وغير مبررةٍ فيما لم يبذل فيه جهدًا. الجاهل والمكذّب والضالّ والغافل لا يُلقون بالًا لما يدور حولهم، ويشعرون بالأمان وسط الجموع، ويخترعون مسلّماتهم الخاصة، التي تؤمن أنّ الجموع لا يمكن أنْ تكون على باطلٍ. لو نظر أحدهم تحت قدميه لرأى أنّ أممًا بأعدادٍ غفيرةٍ لديها اعتقاداتٌ مخالفةٌ لما يعتقد، ومع ذلك يسيرون خلفها بكل ثقةٍ بحسَب تصوّره، فما الذي يمنع أنْ يكون هو كذلك مثلهم؟

هذه النتيجة البسيطة لا يستطيع العاميّ الوصول إليها، ويُفضّل أنْ يسبح وسط الأكثرية، رافضًا أيّ فكرةٍ تخالف ما وضعوه في عقله حين كان صغيرًا. 

الآية الحادية عشرة: 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَیۡءٌ عَظِیمࣱ) (سورة الحج: آية 1). 

قد يُشكل على الناس هنا مسألة (زلزلة الساعة)، ومعنى (زلزلة الساعة) هو الصدمة المرتبطة بالساعة، وهي تشبه الزلزلة التي قد تصيب القوم عند مصيبةٍ معيّنةٍ. (هُنَالِكَ ٱبۡتُلِیَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُوا۟ زِلۡزَالࣰا شَدِیدࣰا) (سورة الأحزاب: آية 11). 

المُلاحظ في الآية التالية لزلزلة الساعة قول الله (يوم ترونها): (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (سورة الحج: آية 2). 

أيْ إنّ هناك قسمًا مخاطبًا بقول الله (ترونها) لا تقع عليهم الصدمة، وقسمٌ وقعتْ عليهم الصدمة. هذه الآية متوافقةٌ مع القسم الذين هم من الساعة مشفقون والذين تأتيهم بغتةً. أمّا المشفقون فأرى أنّهم هم المخاطبون بقول الله (ترونها)، وأمّا المكذّبون فهم المقصودون بقول الله (تضع كلّ ذات حملٍ حملها)، و(تذهل كلّ مرضعةٍ عمّا أرضعت)، والناس من هول الموقف سكارى. لا شكّ عندي أنّ انكشاف الحقيقة، والتي قد تصدم بعضهم، وتكشف زيف اعتقادهم، يمكن أنْ تسبّب صدماتٍ كتلك وأكثر.

الذين يعيشون حياتهم مطمئنّين غير عابئين بشيءٍ، ويسخرون من فكرة الإله والتقدير الحكيم، ويُسخّرون كلّ جهودهم في طمس الحقيقة، ومحاربة كلّ فكرةٍ يمكن أن تؤدي بهم إلى فكرة الإله، لا شكّ أنّهم إذا انكشفت أمامهم الحقائق فهم في أسوأ حالةٍ ويومٍ عصيبٍ. إنّه عذابٌ شديدٌ حقًا أنْ يرى الإنسان أنّه كذّابٌ، وعاش حياته في خداعٍ، وقد انكشفت الحقائق. 

الطالب الذي يرسب، وقد ظنّ نفسه من الناجحين، تحدث له صدمةٌ قويّةٌ، فما بالك بمصيرٍ يظهر عيانًا بيانًا للمكذّبين الضالّين، بل إنّه أشبه بمَن يرى مقعده، ويُعاين نهايته إثر تكذيبه وعناده، وقد بيّنت الآية التالية هذا الصنف من البشر، الذي يجادل بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منيرٍ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) (سورة الحج: آية 3). 

هذه الآية تحديدًا في سورة الحج تفتح أمامنا بابًا من أعظم الأبواب عن الحج وماهيّته.

سنواتٌ طويلةٌ تلك التي قضيتُها أحاول فهم الحج وعلاقته بالأنعام، التي جاء ذكرها مرتبطًا بالحجّ بصورةٍ مثيرةٍ للعجب. وسوف نتوقّف مع الحجّ، ومع علاقة الساعة بالحجّ، في ثلاثة فصولٍ كاملةٍ، في واحدةٍ من أعظم نتائج هذا الكتاب. 

الآية الثانية عشرة: 

(وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِیَةࣱ لَّا رَیۡبَ فِیهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ یَبۡعَثُ مَن فِی ٱلۡقُبُورِ) (سورة الحج: آية 7). 

هذه الآية تشير إلى معلومةٍ هامةٍ، وهي أنّ الساعة سوف تسبق بعث مَن في القبور، وسوف نتوقّف كثيرًا أمام البعث، وأمام قدرة الإنسان على إعادة الحياة للموتى، والتي ترتبط تمامًا بعلم الساعة في الفصول القادمة. مسألة البعث التي توصّلنا إليها كذلك ما كان لنا أنْ نضع فيها قدمًا بغير مفهوم (الساعة) و(علم الساعة). لكنّنا سنؤجّل الحديث عن البعث إلى وقته، ونستكمل هنا لفظ (الساعة). 

الآية الثالثة عشرة: 

(وَلَا یَزَالُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فِی مِرۡیَةࣲ مِّنۡهُ حَتَّىٰ تَأۡتِیَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةً أَوۡ یَأۡتِیَهُمۡ عَذَابُ یَوۡمٍ عَقِیمٍ) (سورة الحج: آية 55).

تعرّضنا لمثل هذه التعبيرات من قبل، وكيف تباغت الساعة الضالّين، ولا داعي لإعادة ما سبق. 

الآية الرابعة عشرة:

(بَلۡ كَذَّبُوا۟ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِیرًا) (سورة الفرقان: آية 11). 

لا شكّ أنّ هناك فئةً لا تعترف بأنّ القرآن كتاب الله، وهناك فئةٌ يؤمنون أنّ القرآن كتاب الله ولكنّه لا يُبيّن ولا يُفصّل الأشياء، وهناك فئةٌ تعتقد أنّ القرآن مجرّد كتابٍ تاريخيٍّ أو قصصٍ وحكاياتٍ مجازيةٍ، وأنّه جاء لفترةٍ معيّنةٍ ويجب تجاوزه. كلّ أولئك هم في الحقيقة مكذّبون بالساعة؛ لأنّ الساعة هي ذروة العلم وحدوده القصوى، والتي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تحليلٍ دقيقٍ لكلمات القرآن وتعبيراته. كيف لِمَن لا يرى إلا القصص والأحداث التاريخية بين سطور القرآن أنْ يدرك هذه الحقيقة. هؤلاء لن يدركوا ذلك إلا مع الساعة، عندما تتّضح العلاقة السليمة بين الآيات اللفظية والآيات الكونية، ومدى تعبير كلٍّ منهما عن الأخرى.

الآية الخامسة عشرة: 

(یَسۡـَٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِیبًا) (سورة الأحزاب: آية 63). 

هذه الآية يجب أنْ تلحق بالآيات التي تتحدّث عن علم الساعة، وكيف أنّ علمها عند الله، بمعنى علمها في الكتاب المُنزّل من عند الله، إنْ كان الناس يؤمنون حقًا بأنّ هذا الكتاب من عند الله. 

الآية السادسة عشرة:

(وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَا تَأۡتِینَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّی لَتَأۡتِیَنَّكُمۡ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِۖ لَا یَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَاۤ أَصۡغَرُ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرُ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ) (سورة سبأ: آية 3).

لو نظرنا إلى مصير الأرض من وجهة نظر العلم البحتة، فإنّ هناك احتمالًا كبيرًا أنْ تصبح الأرض صحراء قاحلةً بالكامل في غضون 500 مليون سنة. وهناك بعض التقديرات التي تشير إلى أنّ الأرض ستنحرف عن مدارها إلى مدارٍ خارجيٍّ بعيدًا عن تمدّد الشمس، بل وستتحوّل الشمس إلى عملاقٍ أحمر يبتلع الأرض. 

انتهاء الحياة على الأرض هو احتمالٌ قائمٌ، فلن تجد تكذيبًا كبيرًا لهذه الجزئية، لا سيما مع تقدّم العلم، ولكنّ التكذيب يزداد اتساعًا عندما نتحدّث عن كتابٍ جاء من خالق الكون، يشمل علم كلّ شيءٍ، وليس كتابًا مجازيًا وحكاياتٍ وأساطير. أرى أنّ التكذيب هنا منصبٌّ على كون (الساعة) هي سعة العلم المتعلق بكلمات الله، أو أنّ علم الساعة يُردّ إلى الله من الأساس. 

كلّ آيات القرآن سارت على هذا المنوال، إمّا تشير إلى مباغتة الساعة، أو تذكر أنّها حقٌّ لا ريب فيه، كما جاء في الآيات التالية. 

الآية السابعة عشرة: 

(إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَـَٔاتِیَةࣱ لَّا رَیۡبَ فِیهَا وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ) (سورة غافر: آية 59). 

الآية الثامنة عشرة: 

(ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِیزَانَۗ وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِیبࣱ) (سورة الشورى: آية 17).

الإشارة في الآية الكريمة إلى أنّ الله أنزل الكتاب بالحق والميزان إشارةٌ لا يمكن تجاوزها، إضافةً إلى علاقة الساعة بالكتاب، وحقيقة ما فيها، بل وبالميزان وهو الاتزان الذي وضعه الله في الكون جميعًا، وكلّها أمورٌ تدور في فلك العلم والمعرفة الحقيقيّة. 

الآية التاسعة عشرة: 

(یَسۡتَعۡجِلُ بِهَا ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِهَاۖ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مُشۡفِقُونَ مِنۡهَا وَیَعۡلَمُونَ أنّها ٱلۡحَقُّۗ أَلَاۤ إِنَّ ٱلَّذِینَ یُمَارُونَ فِی ٱلسَّاعَةِ لَفِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدٍ) (سورة الشورى: آية 18).

في هذه الآية قسمان من الناس، كما ظهر في كثيرٍ من الآيات المتعلّقة بالساعة، قسم المكذبين الذين لا يؤمنون بها، وسوف تباغتهم، وقسم المؤمنين والمشفقين منها، وقد تحدّثنا كثيرًا عن هذين الصنفين. 

الآية العشرون: 

(هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِیَهُم بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ) (سورة الزخرف: آية 66). 

الآية الحادية والعشرون: 

(وَإِذَا قِیلَ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَٱلسَّاعَةُ لَا رَیۡبَ فِیهَا قُلۡتُم مَّا نَدۡرِی مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنࣰّا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَیۡقِنِینَ) (سورة الجاثية: آية 32)

الآية الثانية والعشرون: 

(فَهَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِیَهُم بَغۡتَةࣰۖ فَقَدۡ جَاۤءَ أَشۡرَاطُهَاۚ فَأَنَّىٰ لَهُمۡ إِذَا جَاۤءَتۡهُمۡ ذِكۡرَىٰهُمۡ) (سورة محمد: آية 18).

(الشرط) كما في قاموس اللغة هو العلامة، وكأنّ لفظ (أشراطها) هنا تعني علاماتها. هذه الآية تقع في سورة محمد، وهو الذي نزل عليه الكتاب بالحقّ، وفيه الذكر وهو الحقائق المطلقة. أرى أنّ (أشراطها) هو نزول القرآن على محمّد، وهو الذي يحمل في كلماته (علم الساعة)، ولم يبقَ إلّا فهم هذه الكلمات فهمًا سليمًا، عن طريق منهجٍ علميٍّ يمكن قياسه، وليست آراءً وفلسفاتٍ شخصيةً. (الساعة) هنا على شرط القرآن؛ أي مرتبطةٌ ارتباطًا كاملًا بوجود القرآن الذي نزل على محمد. وتختم الآية بقول الله (فأنّى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) و(الذكر) هو الحقيقة المطلقة، كما بيّنّا ذلك في مواضع عديدةٍ. الآية تقرّر أنّ الساعة مرتبطةٌ بالحقيقة المطلقة، وهذا ما سوف يُرعب الكافرين ويُزلزل المكذّبين. 

الآية الثالثة والعشرون: 

(ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ) (سورة القمر: آية 1).

هذه الآية في سورة القمر قال فيها الشّرّاح: إنّ القمر انفلق أو انشطر، وهناك قصةٌ عجيبةٌ عن انشطار القمر إلى نصفين، وهذه القصة لا تجد لها أيّ أصلٍ في أحاديث أهل الأرض، ولا أيّ أخبارٍ لدى الأمم التي كانت تُدوّن في ذلك الوقت، فلا تجد لها ذكرًا إلّا في مخيلة المفسّرين، في محاولةٍ لتفسير هذه الآية. 

لفظ (انشق) الذي يقول عنه المفسرون انشطار أو انفلاق، هو تصوّرٌ يُناسب العصر الماضي، لكنْ بالنّظر إلى لفظ (انشق) والعلوم التي بين أيدينا نجد أنّ ابتعاد القمر عن مداره يُعدّ انشقاقًا. الانشقاق لا يعني بالضرورة انشطارًا أو انفلاقًا، ولكنّه يعني الابتعاد. فعندما يقول القرآن (وانشقّ القمر) فهنا لا بدّ من البحث عن كيفيّة انشقاقه أو ابتعاده، وماذا حدث قبل أنْ ينشقّ؟ وما سبب هذا الانشقاق؟

ثبت علميًا أنّ القمر يبتعد كلّ سنةٍ عن مداره الطبيعي حول الأرض بمقدار 4 سنتيمترات. تقول الحسابات إنّ القمر والأرض كانا أقرب إلى بعضهما بشكلٍ كبيرٍ قبل 4 مليارات سنةٍ. ليس لدينا الكثير لنقوله هنا، غير أنّنا نلفت نظر الباحثين إلى أنّ علاقةً قائمةً بين الساعة أو الوصول إلى سعة العلم والمعرفة وانشقاق القمر. قد يكون تحديد بداية انشقاق القمر أو ابتعاده هو ما أسّس للحياة على الأرض أو أيّ شيءٍ آخر. 

المحاكاة الحاسوبية أشارت إلى أنّ القمر كان على بعد 22500 كيلومترٍ في البداية، والآن هو على بعد 402336 كيلو مترٍ، أي إنّ القمر ابتعد في هذه الفترة ما يقرب من 380 كيلو مترٍ. 

انشقاق القمر على علاقةٍ بالساعة، وليس بقيام الساعة، فالساعة هي الوصول إلى ذروة العلم، أمّا قيام الساعة فهو تطبيق هذا العلم ومباشرته. لعلّ فعل (يروا) الذي جاء في الآية الثانية أشكل على الناس، وظنّوا أنّ انشقاق القمر هو انشطارٌ أو انقسامٌ حدث أمام أعين الناس: (وَإِن یَرَوۡا۟ ءَایَةࣰ یُعۡرِضُوا۟ وَیَقُولُوا۟ سِحۡرࣱ مُّسۡتَمِرࣱّ) (سورة القمر: آية 2). ولكي نفهم هذه الآية لا بدّ أنْ نفهم الفرق بين ثلاثة ألفاظٍ، وهي (بصر) و(نظر) و(رأى) دون إطناب. 

الفرق بين لفظ (بصر) و(نظر) و(رأى)

سنجد معنى فعل (بصر) في سورة الأعراف، فهو قدرة العين على التقاط الصورة: (أَلَهُمۡ أَرۡجُلࣱ یَمۡشُونَ بِهَاۤۖ أَمۡ لَهُمۡ أَیۡدࣲ یَبۡطِشُونَ بِهَاۤۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡیُنࣱ یُبۡصِرُونَ بِهَاۤۖ أَمۡ لَهُمۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ٱدۡعُوا۟ شُرَكَاۤءَكُمۡ ثُمَّ كِیدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ) (سورة الأعراف: آية 195). 

فعل (أبصر) يشير إلى عملية التقاط الصورة من دون أيّ إضافةٍ، مثل الكاميرا التي تحتاج لزمنٍ معيّنٍ كي تلتقط الصور بوضوحٍ. وكلما زاد الزمن استطاعت الكاميرا التقاط تفاصيل دقيقةٍ، و(البصر) هو كذلك كاميرا عضويةٌ، تعمل في نطاقٍ محدّدٍ من الزمن تبلغ تقريبًا 20 ملي ثانية. البصر بصورةٍ عامةٍ هو التقاط الحواس لمؤثّرٍ خارجيٍّ. 

(النظر) هو مراجعة الصورة الملتقطة بالحواس، وبمعنى أكثر شمولًا، هو عملية مراجعةٍ لما التُقط بالبصر. (النظر) أشمل وأعمّ من البصر، فإذا كان البصر هو عملية التقاط الصورة ويتمّ في أغلبه عن طريق العين، فإنّ النظر هو معالجة أيّ صورةٍ تكوّنت لدى الإنسان، سواءٌ كانت بالعين أو بالسمع أو بكليهما، أو بالقراءة والمطالعة. (النظر) نفسه عمليةٌ من التأنّي والتريّث لمعالجة أمرٍ ما. 

(قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمۡعَكُمۡ وَأَبۡصَـٰرَكُمۡ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنۡ إِلَـٰهٌ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَأۡتِیكُم بِهِۗ ٱنظُرۡ كَیۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ ثُمَّ هُمۡ یَصۡدِفُونَ) (سورة الأنعام: آية 46). 

(انظر كيف نصرّف الآيات) بمعنى تأمّل، والتأمّل لا يكون إلا بعد التقاط الحواس لصورةٍ معيّنة. مثلًا: العين تُبصر بعض الشواهد، والسمع يلتقط بعض المعلومات، ثم تتمّ معالجة كلّ ما تمّ التقاطه. هذه المعالجة في حدّ ذاتها هي عمليّة (النظر). 

لفظ (رأى) هو اللفظ الأعمّ والأشمل من كلّ ما سبق، فهو مشتقٌّ من الرأي، والرأي هو وجهة النظر عن شيءٍ ما. بعد عملية الإبصار تأتي عملية النظر، وهي معالجة الأمور؛ ثمّ يتكوّن الرأي أو الرؤية بالنهاية، وهي وجهة نظرٍ عن شيءٍ معينٍ. 

عندما تسمع قول الله تعالى (ألم ترَ) فإنّ ذلك يعني: ألم تُكوّنْ وجهة نظرٍ عن هذا الشيء؟ لذا فالذين يذهبون إلى إنكار آيات القرآن لأنّ القرآن خاطب الناس بقول: (ألم ترَ) والناس بالفعل لم ترَ، قد خلطوا بين فعل (يُبصر)، وفعل (يرى)، وعندما تقرأ قول الله (ترى) في آيةٍ من الآيات فهذا يعني أنّك بحاجةٍ لتكوين رأيٍ، لا أنْ تمرّ عليها مرور الكرام. وعندما تقرأ قول الله (انظر) فهذا توجيهٍ إلى التّأمّل والتفكّر والتريّث ومعالجة الأمر على مهلٍ. 

من خلال فهم لفظ (يرى) نجد أنّ المراد في قول الله تعالى: (وإن يروا آيةً يعرضوا) تعني: وإنْ أصبح لديهم وجهة نظرٍ عن آيةٍ، أو أنّ الأمور سارت في اتجاه وضوح حقيقةٍ ما، تجدهم يُعرضون ويقولون: سحرٌ مستمرٌّ. هذا حال جمعٍ غفيرٍ من البشر، إذا داهمتهم الأدلة والبراهين، وأجبرتهم على الاعتراف بحقيقةٍ ما تجدهم يهربون ويُنكرون من دون علمٍ ولا هدىً. القول بأنّ فعل (يرى) في سورة القمر يُشير إلى رؤية العين، بمعنى البصر، هو قولٌ لا يستقيم مع سياق وورد اللفظ في كتاب الله، ونجد أنفسنا مطالَبين بأنْ نُمعن النّظر في مسألة انشقاق القمر، وفهم العلاقة التي تربطه بمسألة الساعة. سوف يظهر لنا مزيدٌ عن علاقة القمر بالحياة عند الحديث عن يوم القيامة، وجمع الشمس والقمر، وعلاقة ذلك كلّه بانشقاق القمر في فصل القيامة. 

الآية الرابعة والعشرون: 

(بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ) (سورة القمر: آية 46).

هذه الآية الكريمة سبقتها آياتٌ تتحدّث عن القرآن وقابليّته للتدبّر، وتتساءل هل من مدكر؟ 

(كذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذۡنَٰهُمۡ أَخۡذَ عَزِيزٖ مُّقۡتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمۡ خَيۡرٞ مِّنۡ أُوْلَٰٓئِكُمۡ أَمۡ لَكُم بَرَآءَةٞ فِي ٱلزُّبُرِ (43) أَمۡ يَقُولُونَ نَحۡنُ جَمِيعٞ مُّنتَصِرٞ (44) سَيُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ (45) بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ (46)) (سورة القمر: آيات 42-46). 

الآيات تتحدّث عن أنماطٍ بشريةٍ تُكذّب بالآيات، ولا يتدبّرون القرآن، والمقصود بالآيات كما بيّنّا في أكثر من موضع هي كلّ الحقائق، سواءٌ كانت كونيةً أو لفظيةً، وتتوعّد هؤلاء المكذّبين بالساعة، والساعة كما بيّنّا هي الحدود القصوى للعلم. لو لم يكن هناك تحيّزٌ سابقٌ إلى أنّ الساعة هي يوم القيامة لما وجد القارئ أيّ صعوبةٍ في إدراك أنّ الساعة إنما تعني سعة العلم والمعرفة؛ بسبب ارتباط لفظ (الساعة) هنا بـ (الآيات)، والتي هي العلامات والدلائل التي هي محور العلم. إنّ معركتنا تدور حول الإنصاف، وكيف يمكننا أنْ نُجرّد الصورة من كلّ المؤثّرات، حتى يستطيع الإنسان رؤية الحقيقة مجرّدةً. طالما أنّ الإنسان يحمل في عقله تفاسير يَعُدّها الحقيقة المطلقة فلا يمكن إقناعه بتحليلاتٍ كثيفةٍ كهذه، ولو وَجدَ ضَعفًا في دليلٍ واحدٍ لسار خلفه، وترك 100 دليلٍ قويٍّ. 

دليلٌ ركيكٌ يوافق ما أعتقد أقوى ألف مرةٍ من مئة دليلٍ يهدم ما أعتقد" هذه هي المعضلة التي يُعاني منها البشر، وتمنعهم عن قبول الحقيقة رغم وضوحها. 

 

ثانيًا: قيام الساعة 

 

كما ذكرتُ في بداية الفصل، إنّ لفظ (قيام) يعني مباشرة العمل أو التطبيق الفعليّ للشيء. لفظ (القيام) يعني بداية عملية التشغيل، مثل أنْ يُقال: يوم القيامة، بمعنى اليوم الذي سوف يُباشر فيه ويُطبّق ما تمّ في السابق. من هنا نستطيع فهم تعبير (قيام الساعة) على أنّه مباشرة هذه الساعة. عندما تُصبح الساعة هي سعة العلم المرتبط بكلمات الله، يُصبح (قيام الساعة) تبعًا لذلك هو تطبيق ما تمّ التوصّل إليه.

 

هذه دورةٌ معروفةٌ تمامًا في أيّ فرعٍ من فروع العلم، فعندما يستطيع عالمٌ من العلماء التّوصّل لنظريةٍ عظيمةٍ عندها نكون قد وصلنا لفتحٍ كبيرٍ من العلم في هذا المجال. وبمجرّد الوصول للنظريّة تبدأ مرحلةٌ جديدةٌ تمامًا، وهي التطبيق الفعلي للنظرية في كافة المجالات، وهذا ما يُمكن أنْ نُسمّيه (قيام). التطبيق في حدّ ذاته (قيام)، ولذلك فإنّ قيام الساعة هو تطبيق ما تمّ الوصول إليه في شتّى المجالات. 

في حياتنا المعاصرة نقول قيام القطار، وهذا يعني مباشرة القطار لوظيفته، أو تطبيق القطار للوظيفة التي صُنع من أجلها. لدينا خمس آياتٍ ورد فيها لفظ (تقوم) أو بالأحرى تعبير (تقوم الساعة)، ولكن قبل أنْ ندلف إلى هذه الآيات يجب أنْ نمرّ على آيتين في كتاب الله جاء فيهما تعبير (الساعة قائمةٌ)، وهو تعبيرٌ يتحدّث عن رجلٍ آتاه الله خيرًا وطيب عيشٍ، فقال (ما أظنّ الساعة قائمةً). 

(وَمَاۤ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَاۤىِٕمَةࣰ وَلَىِٕن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّی لَأَجِدَنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهَا مُنقَلَبࣰا) (سورة الكهف: آية 36)

(وَلَىِٕنۡ أَذَقۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنَّا مِنۢ بَعۡدِ ضَرَّاۤءَ مَسَّتۡهُ لَیَقُولَنَّ هَـٰذَا لِی وَمَاۤ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَاۤىِٕمَةࣰ وَلَىِٕن رُّجِعۡتُ إِلَىٰ رَبِّیۤ إِنَّ لِی عِندَهُۥ لَلۡحُسۡنَىٰۚ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِمَا عَمِلُوا۟ وَلَنُذِیقَنَّهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِیظࣲ) (سورة فصلت: آية 50).

المُشترك في هاتين الآيتين أنّ الإنسان في حالة طيب العيش يظنّ أنّ الساعة غير قائمةٍ. ولا أظنّ المقصود هنا هو الساعة التي تحدّث عنها القرآن والتي تناولناها؛ ولكنّ المقصود هنا هو ساعة ما يحصل عليه هذا الإنسان. معنى ذلك أنّ سعة الخير الذي حصل له لن تتوقّف، وسوف تزداد بلا انقطاع. إنّه نوعٌ من الغرور، يضرب الإنسان عندما يرى الدنيا مقبلةً عليه، فيظنّ أنّها مقبلةٌ بلا انقطاعٍ، فيفقد اتصاله بالله وبالكون حوله ويركن إلى نفسه. 

كلا الآيتين جاء فيهما بعد تعبير (الساعة قائمةٌ) ظنُّ الإنسان بأنّه سوف ينال خيرًا في الآخرة كذلك، وهذا يعني دوام النعمة والزيادة. لا يمكن أنْ تكون الساعة هنا يوم القيامة، إذ لو أنّها يوم القيامة لما صحّ أنْ يقول الإنسان: ولئن رُجعت إلى ربي، أو ولئن رددت إلى ربي. الذي يظنّ أنّ القيامة لن تأتي هو مكذّبٌ بالله، فكيف يظنّ أنّه سيعود إلى ربه، أو سيُرد إلى ربه. الساعة هي توقّف النعمة، أو الوصول إلى مرحلة السعة القصوى من النعمة، بل يظنّ أنّه في زيادةٍ متّصلةٍ، وحتى إن رجع إلى ربه فسوف يجد المزيد. هذا النوع من البشر نوعٌ مغرورٌ، وغالبًا ما يسوقه هذا الغرور إلى منع فضل الله؛ لأنّه في الغالب يعتقد أنّه ذو حظوةٍ وذو مكانةٍ مميّزةٍ عند الله، مثلما قال قارون صاحب المال العظيم. 

(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (سورة القصص: آية 78)

الآيات التي جاء فيها تعبير (تقوم الساعة)

نأتي الآن على التعبير القرآنيّ (تقوم الساعة) والذي ورد في خمس آياتٍ، جميعها تتحدّث عن مجرمين أو مبطِلين. ثلاث آياتٍ في سورة الروم جاء فيها تعبير (تقوم الساعة) وكانت النتيجة إحباطًا ويأسًا للمجرمين. لا بدّ أنْ نلاحظ ظهور فئة المُجرمين وهم أكثر الفئات فسادًا، فالمُجرم هو مَن قطع الصلة بكل شيءٍ، ويعيش منفردًا تمامًا، لا ينفع معه نصحٌ أو إرشادٌ وليس لديه فرصةٌ للرجوع. هذه الفئة عندما ترى قيام الساعة أو التطبيق العملي لما تمّ الوصول إليه يصيبهم الإحباط واليأس التام. لفظ (يُبلس) معناه -كما جاء في قاموس اللغة- اليأس، واليأس صفةٌ مرتبطةٌ بالحياة هنا، أمّا بعد يوم القيامة فحالةٌ مختلفةٌ أعظم من حالة اليأس أو الإبلاس، بل يساقون إلى مصيرهم. 

الآية الأولى: (وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یُبۡلِسُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ) (سورة الروم: آية 12)

الآية الثانية: (وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یَوۡمَىِٕذࣲ یَتَفَرَّقُونَ) (سورة الروم: آية 14).

الآية الثانية تتبع الحديث عن المجرمين، وتقول يومئذٍ يتفرّقون، والفرقة واقعةٌ هنا على فريق المجرمين نفسه. ليس في الآيات دليلٌ يجعلنا نقول إنّ المقصود بـ قيام الساعة هو يوم القيامة، بل أن يكون مرحلة ما قبل يوم القيامة هو الأنسب هنا؛ لأنّ فيه أحداثًا تشبه الحياة الدنيا، بخلاف يوم القيامة الذي توزن فيه الأعمال، ويُقام الحساب، ويُساق كلّ فريقٍ إلى مصيره. 

لا أعتقد كذلك أنّ قيام الساعة يعني انهيار الحياة أو انتهاءها، مثل انهيار النظام الكوني، فهذه اللحظة لو تمّت بهذه الطريقة فليس هناك وقتٌ للمجرمين ليتفرقوا، فهو انهيارٌ تامٌ يبتلع الجميع. لا بدّ لكي يصاب المجرمون بالإحباط واليأس والتفرّق أنْ يكون قيام الساعة سابقًا ليوم القيامة، وأنْ تكون هناك مشاهداتٌ ومعايناتٌ تؤدّي إلى ذلك. 

الآية التالية أجد فيها فرصةً سانحةً لفهم حالة الاسم (ساعة)، وكيف يمكن فهمه من خلال السياق.

الآية الثالثة: (وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یُقۡسِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ مَا لَبِثُوا۟ غَیۡرَ سَاعَةࣲۚ كَذَ ٰلِكَ كَانُوا۟ یُؤۡفَكُونَ) (سورة الروم: آية 55). 

تقوم الساعة في بداية الآية هو التطبيق العملي لما وصلت إليه سعة العلم، المرتبط بكتاب الله. أمّا لفظ (ساعة) الثاني في الآية، فهو دورةٌ وصلت للذروة. قد تكون هذه الدورة يومًا أو جزءًا من اليوم، فكلّ ما مِن شأنّه أنْ يصل إلى ذروته يمكن معه أنْ يُسمى (ساعة).

وكما ذكرنا في بداية الفصل، يصحّ أنْ تُسمّى دورة التنفس ساعة. المعنى أنّ المجرمين يُقسمون ما لبثوا غير ساعةٍ، أي إنّهم لم يلبثوا إلا دورةً واحدةً، وأعتقد أنّ المقصود هو أنّهم لم ينالوا إلا فرصةً واحدةً، وهذا نوعٌ من الإحباط، وكأنّه طلبٌ لفرصةٍ أخرى.

الآيتان التاليتان في سورة الروم، قد يعتقد القارئ أنّهما تشيران بدليلٍ قويٍ إلى أنّ يوم القيامة هو قيام الساعة. 

(وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقۡسِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيۡرَ سَاعَةٖۚ كَذَٰلِكَ كَانُواْ يُؤۡفَكُونَ (55) وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِيمَٰنَ لَقَدۡ لَبِثۡتُمۡ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡبَعۡثِۖ فَهَٰذَا يَوۡمُ ٱلۡبَعۡثِ وَلَٰكِنَّكُمۡ كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (56)) (سورة الروم: آيات55-56)

ولكنّ فكّ هذه الشفرة سوف يتحقّق مع إحدى ظواهر علم الساعة، وهي القدرة على إحياء الموتى، والتي تميّز بها نبيّ الله عيسى، ولكنّ هذه الآية لا تشير أبدًا إلى أنّ قيام الساعة هو يوم القيامة. لا يمكن إغفال مدلول (الساعة) والتعبيرات المختلفة التي ورد فيها لفظ (الساعة)، ثمّ نعُدّ يوم القيامة هو نفسه يوم تقوم الساعة. ولكنّ هذه الآية تكاملتْ بصورةٍ رائعةٍ مع مجموعة آياتٍ في كتاب الله، تشير إلى معلوماتٍ قد يصعب بل يستحيل تصديقها في الوقت الحاليّ. لكنْ ليس لنا بدٌّ من إدراج التحليلات كما وجدناها، وليس لنا من الأمر شيءٌ، وهي متعلقةٌ بيوم البعث. 

الآية الرابعة: (ٱلنَّارُ یُعۡرَضُونَ عَلَیۡهَا غُدُوࣰّا وَعَشِیࣰّاۚ وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤا۟ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ) (سورة غافر: آية 46).

هذه الآية من الآيات التي اختلف فيها الشّرّاح كثيرًا؛ إذ إنّ لفظ (غدوًا وعشيًا) يشير إلى الحياة الدنيا، ويعتقد الشّرّاح أنّ الآخرة ليس فيها غدوٌّ ولا عشيٌّ. هذه الآية أيضًا يستند عليها كثيرٌ من الشراح في إثبات وجود عذاب قبرٍ؛ أي عذابٌ قبل يوم القيامة. 

لفظ (العرض) الذي جاء في هذه الآية -بلغتنا المعاصرة- يعني استعراض الشيء. الآية تشير إلى أنّ النار تستعرض آل فرعون، ولا تُشير إلى أنّ آل فرعون يستعرضون النار.

في عالمنا حيث الإدراك والوعي ميزةٌ للإنسان لا نستطيع فهم مبدأ أنْ تستعرض النار جزءًا من الناس، ولكنّ التفكير العلمي هنا يشير إلى أنّ هناك معلوماتٍ خلف هذه الآية، يريد ربّنا أنْ يخبرنا بها. هل للنار قانونٌ خاصٌ بها؟ الإجابة: نعم، الله يخبرنا بذلك في القرآن، ويشير إلى أنّ النار لها وعيٌّ معيّنٌ، ولكنّنا لن نخوض هذه المسألة هنا، وربّما خصّصنا لها فصلًا في كتابٍ لاحقٍ. سوف أكتفي هنا بآيتين تشرحان كيف للنار قانونها الخاص، بل لكلّ المخلوقات قانونها الخاص: 

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) (سورة ق: آية 30). في هذه الآية النار تسمع وتردّ الجواب. 

(تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۖ كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (سورة الملك: آية 8). في هذه الآية أيضًا نجد شعور النار وإحساسها حاضرًا وبقوةٍ. ربّما مسألة وعي النار هي مسألةٌ معقّدةٌ، ولكنْ ينبغي أنْ نترك الباب مفتوحًا لفهم هذه المعضلة، والتي قد تسوقنا إلى فهم أشياء أخرى. 

ما يمكننا استخلاصه من الآية التي ذكرت استعراض النار لآل فرعون غدوًا وعشيًا، وعطفت ذلك على يوم تقوم الساعة، أنّها تُشير إلى أنّ كلّ هذه الأحداث دنيويةٌ، وليس هناك إشارةٌ قويةٌ إلى أنّ ذلك يوم القيامة، إذ ليس هناك استعراضٌ يوم القيامة، بل هو استحقاق. الآية كذلك لا تشير إلى عذاب القبر من قريبٍ أو من بعيدٍ، ومَن يريد أنْ يثبت عذاب القبر فهذه الآية لا تشير إلى ذلك. حرف العطف بين (يوم تقوم الساعة) و(غدوًا وعشيًا) يعطي احتمالية أنْ تكون كلّ هذه الأحداث قبل يوم القيامة، وتؤكّد ما ذهبنا إليه، من أنّ يوم قيام الساعة هو يومٌ سابقٌ ليوم القيامة، بل هو يوم جني ثمار العلم الذي حُصِّل من كتاب الله، وأدّى إلى حالة الامتلاء أو حالة الساعة. ربّما تفصيل مظاهر علم الساعة في الفصول القادمة سوف يكشف بعضًا من غموض هذه الآيات. 

الآية الخامسة: (وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ یَوۡمَىِٕذࣲ یَخۡسَرُ ٱلۡمُبۡطِلُونَ) (سورة: آية 27). 

هذه الآية تكملةٌ لما بدأناه، من أنّ كلّ الحقائق على الأرض تتبلور يوم تقوم الساعة، ويصبح العلم حقيقةً واقعةً، وهو بالفعل يوم خسارةٍ لكلّ مبطلٍ. 

عندما توصّل بعض أهل العلم إلى حساباتٍ في السابق عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس كان هناك تيارٌ كبيرٌ يُعارض هذا الادعاء. مِن هذا التيار فئةٌ تريد أنْ تصل للحقيقة ولا ترى الأدلة كافيةً، وهذه الفئة لا يمكن أن تُسمّى مبطلةً، ولكنْ هناك فئةٌ متحيّزةٌ كانت تُعارض كلّ شيءٍ من أجل تحيّزها، ومن دون علمٍ ولا هدىً. هذا التيار الأخير هو المُبطل الذي يُشكّك في أمورٍ لا يُحيط بها علمًا، فعندما اختُرع التلسكوب، وظهرت حقيقة الحسابات، خسر المبطلون الذين شكّكوا من دون علمٍ ولا هدىً. الفرق بين الساعي إلى الحقيقة والمُبطل هو فرقٌ دقيقٌ للغاية، إذ حين يَسعد الساعي للحقيقة بالدليل، ويُراجع نفسه مرارًا وتكرارًا، تجد المُبطل يحاول الهروب دائمًا، واختراع الأعذار لكي يقبل ما يريد قبوله فقط. 

هل أدركنا الآن لماذا عيسى نبيّ الله كان عِلمًا للساعة؟ 

لأنّه جسّد هذه الحالة تمامًا، عندما أيّده الله بروح القدس، وآتاه الإنجيل الذي هو كلمات الله على حقيقتها. وسوف نصل للساعة عندما تتكرّر هذه الحالة مع كتاب الله القرآن، وعن طريق البشر بكلّيتهم، وليس عن طريق فردٍ بعينه. لقد انتهى عصر الأنبياء، وأطل علينا عصر الإنسان المتميّز في شتى بقاع الأرض، القادر على فكّ رموز كلمات الله، التي وُضع فيها علم كلّ شيءٍ. 

ملخص الفصل 

  • لفظ (الساعة) الذي جاء في القرآن لا يشير إلى يوم القيامة؛ بل يشير إلى ما يمكن وصفه بتعبيرنا الحالي بأنّه سعة العلم.
  • لقد تأكدّت فكرة سعة العلم أو الحدود القصوى للعلم، من خلال مفهوم (علم الساعة) الذي وضع النقاط على الحروف، وأشار إلى أنّ سعة العلم أو الحدود القصوى للعلم مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بكلمات الله. 
  • (الساعة) حالةٌ افتراضيةٌ تُمثّل السعة القصوى للعلم والمعرفة، وهي مرتبطةٌ مباشرةً بالفهم الحقيقي لكلمات القرآن وتعبيراته.
  • من تطبيقات الساعة أو (قيام الساعة) استطاعة الإنسان خلق الحياة بصورةٍ ما، وإعادة إحياء الموتى، كما فعل عيسى ابن مريم وكان علِمًا للساعة.  
  • هل يشمل علم الساعة إحياء الموتى وخلق الحياة، مثل ما فعل نبي الله عيسى؟ وهل يشير القرآن إلى أيٍّ من هذه الأحداث؟
  • ما جاء بعد فهم مدلول (الساعة) هو –حرفيًا- أدهى وأمرّ على كلّ غافلٍ وغارقٍ في التاريخ والروايات والأساطير التي لا علاقة لها بكلمات الله. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ