الفصل الثاني عشر - اضربوه ببعضها

الفصل الثاني عشر


اضربوه ببعضها


 

ملخّص علاقة نبي الله عيسى بإحياء الموتى وخلق الحياة أنّ الإنسان إذا استطاع السموّ بنفسه لدرجةٍ يستطيع من خلالها التفاعل مع الروح بنقاءٍ، فإنّ فهمه للحقائق التي تحملها كلمات الله سوف يفتح له كلّ أبواب الاستطاعة. الإنسان يستطيع؛ هذا هو مراد الله من الإنسان كما فهمنا من سورة المائدة، وتشير الآية تلو الآية إلى هذه الاستطاعة، والأمثلة من الأنبياء والأصفياء عديدةٌ، ولكنّ الإنسان يريد أنْ يتخلّى عن مفهوم (الاستطاعة) ويطلب من الله أنْ يستطيع. لا يريد أنْ يفهم أنّ الله قادرٌ وأنّه هو المطالب بالاستطاعة. 

الناس ومنذ عهدٍ قريبٍ كانوا لا يستوعبون كيف تنتقل صورة الإنسان وصوته عبر الأثير، وعندما اختُرع التلفاز أصبح الأمر بدهيًّا بالنسبة للناس أجمعين. لا شك أنّك إذا تطرقت لموضوع إحياء الموتى فإنّ أكثر الناس استنفارًا ومعارضةً أولئك الذين لا علم لهم ولا هدىً، أمّا في أوساط العلماء فسترى من يقول بكلّ ثقةٍ إنّه أمرٌ مثيرٌ للإعجاب، ولا أرى مانعًا من حدوثه. 

إعادة الحياة للمادة الميتة ليس أمرًا مستحيلًا، بل هو أمرٌ يمكن ملاحظته على مستوى المشاهدات اليومية وذلك في حالة النبات، ويمكن متابعته من خلال الأبحاث الحديثة التي تحاول إعادة الكائنات المنقرضة إلى الحياة عن طريق التكنولوجيا الحيوية، وذلك إنْ عددنا أنّ إعادة المنقرضات إلى الحياة بمنزلة بعثٍ جديدٍ. تُعدّ هذه الفكرة بدائيةً مقارنةً بفكرة إعادة الكائن ذاته للحياة، وليست عملية استنساخ. حتى الاستنساخ لم يكن مطروحًا للنقاش في الأزمنة الماضية، وكان مجرّد الحديث عن إعادة الحيوانات المنقرضة أمرًا يُثير السخرية. الحديث الآن عن محاولة إعادة الحيوانات المنقرضة أمرٌ بحثيٌّ بامتيازٍ، بل هو قابلٌ للحدوث بنسبةٍ كبيرةٍ للغاية. 

طرح أمر إحياء الموتى في مجتمعاتٍ تظنّ أنّ الأرض مسطحةٌ، أو أنّ التطوّر خرافةٌ هو أمرٌ بلا فائدةٍ أو جدوى، لذا أتمنّى أن يبقى هذا الكتاب بعيدًا عن أيدى هؤلاء المتطفّلين وأتباعهم. 

قد يقبل الإنسان إعادة كائنٍ حيٍّ للحياة من جديد نوعًا ما، ولكنْ هل يمكن أنْ يقبل ذلك على الإنسان نفسه، وبيد إنسان مثله؟

هل يمكن أنْ يتقدّم العلم لدرجة أن تُجمع عظام إنسانٍ مات منذ آلاف السنين، ثمّ تُكسى لحمًا، ثم تُنفخ الروح فيها، ومن ثمّ يفتح عينيه ليجد نفسه وسط مجموعةٍ من البشر، ولكنّهم غير أولئك الذين عايشوه؟ بعث الإنسان ذاته وليس استنساخ إنسان آخر أو خلق جديد ، بشكل أكثر صراحة وضوح إعادة بعث الإنسان نفسه من جديد. 

لن يبدو الأمر محلًا للنقاش إلا من خلال فهم الروح والنفس، وعلاقتهما بالجسد، وبما أنّنا تناولنا مفهوم الروح والجسد في الفصل الثالث من الكتاب، فسوف يُصبح الطريق أمامنا ممهّدًا لفهم استطاعة الإنسان على إحياء الموتى. 

أعطى القرآن لمحاتٍ غايةً في الدقة عن مسألة حياة الموتى، بل ذهبت الآيات لأبعد ممّا يمكن تخيّله. لكنّ الركن الأصيل في عدم فهم قدرة الإنسان على إحياء الموتى هي عدم الرغبة في الخوض في هذه المسألة؛ لأنّهم عدّوها تجاوزًا في حق الله. هذه الصورة الذهنية للإله عند بعضهم، والتعاطي مع القرآن بطريقةٍ جعلته أسير عقودٍ مضتْ، منعتْ مجرّد التفكير في الأمر، رغم وجود أدلةٍ واضحةٍ على مسألة إحياء الموتى. الإله لا يتحدّى الإنسان، والإنسان ليس مجرّد حالةٍ طارئةٍ عبثيةٍ، بل لديه مهمةٌ في منتهى الأهمية لا بدّ أنْ يتحمّل مسؤوليتها. 

لقد أعطى الله للإنسان كتابًا ومعلوماتٍ، وطلب منه الاستعانة بها لتحقيق هذه المهمّة. التصورات الحالية عن الإله وعن الحياة الأخرى وعن كلّ الأمور الغيبية لم تأتِ من الغوص عميقًا في فهم اللفظ القرآني، بل جاءت من تصوّراتٍ سابقةٍ لأفرادٍ اعترتهم كثيرٌ من الصور المشوشّة؛ بسبب الأطر المعرفية الضيقة في تلك الأزمنة، واستمرّ الوضع هكذا حتى أصبح لدينا مسلماتٌ جعلت الحياة عبثيةً بصورةٍ كبيرةٍ، وسجنت الإنسان في شكلٍ طقوسيٍّ غريبٍ. لا بدّ أنْ نسأل أنفسنا السؤال الخطير: لماذا كلّما ازداد الإنسان ثقافةً وعلمًا ازداد نفوره من الدين؟ لماذا كلما ارتقى الإنسان معرفيًا ازداد رفضًا لفكرة الإله؟

في إحدى محاضرات البروفيسور نيل ديجراس تايسون أستاذ فيزياء الفلك المشهور عرض بعض المعلومات عن استفتاءٍ أُجري على المجتمع الأمريكي، وقد كان هذا السؤال محور الاستفتاء: هل تعتقد أنّ هناك ربًا يسمع صلاتك ودعاءك؟ الاستفتاء كان بغرض قياس مدى اعتقاد الناس بوجود إلهٍ في المجتمع الأمريكي. وسوف نعرض نتائج هذا الاستفتاء كما عرضها البروفيسور تايسون نفسه، مع التعليق على بعض النقاط.

أظهر الاستفتاء أنّ نسبة 90 بالمئة من المجتمع العام متدينون. وهذه النسبة انخفضتْ بصورةٍ ملحوظةٍ في الأوساط العلمية الأعلى؛ فقد كانت نسبة مَن يعتقدون بوجود إله بين الحاصلين على المؤهّل الجامعي هي 60 بالمئة فقط. وقد انخفضت النسبة بصورةٍ ملحوظةٍ عندما انتقلنا من فئة الحاصلين على التعليم الجامعي العادي إلى الفئة الأعلى، وهم الحاصلون على الماجستير والدكتوراه. لماذا انخفضت النسبة بهذا الصورة الملحوظة؟ 

 

لأنّ خريجي التعليم الجامعي العادي بصفةٍ عامةٍ يحصلون على معلوماتهم من خلال النقل من الكتب، دون مهارات البحث والتحليل، وهذا وضعٌ طبيعيٌّ للغاية في هذه المرحلة. ويختلف الأمر في فئة التعليم الأعلى، إذ يكتسبون مهارات التفكير العليا، مثل النقد والتحليل والقياس، من خلال الأبحاث التي يُكلّفون بها.

كما أشارت الدراسة إلى أنّ 40 بالمئة فقط من فئة العلماء أو ما يُسمى بعد الدكتوراه يعتقدون بوجود إلهٍ.

 

الملاحظ أنّه كلما تقدّمت درجة العلم قلّت نسبة المؤمنين بوجود إله، وهذا الأمر طبيعيٌّ للغاية؛ بسبب طرح التساؤلات والنظرة النقدية التي يحملها كلّ مَن يتقدم في العلم، ولا يجد لها إجاباتٍ منطقيةً، أو يراها محض خرافاتٍ تخالف الحقائق والبدهيّات. هذه النسبة انخفضت إلى 7 بالمئة فقط في أوساط "النخبة" من العلماء، ثم انخفضت إلى ما يقارب 1% في أوساط الفلاسفة، بل وكما ذكر الكاتب، لو استبعدتَ فلاسفة الدين فسوف تصل النسبة إلى صفر بالمئة. 

سبب كل ذلك ليس الدين ذاته؛ بل التصور البشري السائد عن الدين، واحتكار الدين من قبل مجموعةٍ من متواضعي الفهم للغاية. أزعم أنّ القرآن حتى يومنا هذا لم يُختبَر، ولم يوضع على طاولة البحث الحقيقية والمقاييس العلمية، وكلّ ما جاء عن القرآن هو قصصٌ وأساطير لا تمتّ للفظ القرآني بصلةٍ، بل هي محض تصوّراتٍ بسيطةٍ للغاية، لن تصمد في العصر القادم. 

المتديّن لديه صراع في الغالب بين ما يعتقد وما هو مسجّل في الكتب الفقهية، والذي يعُدّه جزءًا أصيلًا من الدين والحياة بصفةٍ عامّةٍ. في حين أنّ بعض هؤلاء المتدينين التقليديين ينفرون من بعض السلوكيات التي يرتكبها المتطرّفون، إلا أنّهم لا يستطيعون إنكار أنّها جزءٌ أصيلٌ من التصوّر الذي يؤمنون به، إلا إذا كان المتديّن عاميًّا لا يقرأ شيئًا، أو ليس لديه أيّ درايةٍ بما يؤمن به.

تجد هذا المتديّن ينفر من الرّق والسبي وقتل المخالف، في حين أنّ كتب التراث مليئةٌ بقدرٍ هائلٍ من هذه الأمور، والتي يستخدمها المتطرّفون في تطبيق تصوّرهم عن الدين. لا تدري هل هذا المتدين يعلم ما يؤمن به، أم أنه يؤمن ببعضٍ ويكفر ببعض؟ أصحاب التديّن التقليديّ في مأزقٍ حقيقيٍّ، ولا يعلمون ذلك، بل لديهم انتقائيةٌ فجّةٌ في اختيار ما يُناسب تصوّرهم غير القائم على أيّ أرضيةٍ معرفيةٍ سوى مزاجيةٍ غريبةٍ. عندما نواجه هؤلاء بجعل النص القرآني نصًا مؤسّسًا واستبعاد ما سواه من المعادلة كنصٍ ملزمٍ تجد المسكين يثور ويرتعد، معتقدًا أنّ هذا هدمٌ للدين. إنّه لا يستطيع إدراك أنّ النص القرآني سوف يجعله متّسقًا مع حياته، أمّا التاريخ والنصوص البشرية سوف تجعل منه مسخًا، وتصنع داخله صراعًا بين القبول والرفض. 

لو أنّ هذا العاميّ الذي لا يدري ما يؤمن به قد قرأ النصوص الكاملة التي يؤمن بها وطبّقها فسوف يجد نفسه في جبهة المتطرفين لا محالة ولا مناص من ذلك. هذا ليس حكرًا على الإسلام، فكلّ النصوص الدينية القائمة على التصوّرات البشرية تدفع أصحابها الذين يتمسّكون بها إلى التطرّف وكره الآخر. لم لا وهي في الحقيقة نصوصٌ بشريةٌ، نتاج تفاعل الإنسان مع نصوصٍ قد تكون إلهيةً في عصورٍ قديمةٍ، وعلى أرضيةٍ معرفيةٍ بسيطةٍ، وقد اختفى النص الإلهي أو فقدَ عطاءه، وبقي النصّ البشريّ وتمدّد حتى أصبح هو الدين؟

هذا هو السبب المباشر الذي جعل كثيرًا من فئة الفلاسفة والعلماء ينفرون من التديّن؛ لأنه من وجهة نظرهم نصوصٌ باليةٌ تُفرّق الناس أكثر ممّا تجمعهم، ثم أضفْ على ذلك مخالفة هذه النصوص صراحةً للعلم والدلائل المُقاسة. 

تتبّع آيات القرآن وربطها سويًا سوف يعطينا إشارةً إلى أنّ هناك حياةً ثانيةً، وأنّ الإنسان سوف يكون قادرًا على إحياء الموتى بدرجةٍ ما في المستقبل. هذا ليس تنبُّؤًا؛ بل هو قراءةٌ متأنيةٌ لآياتٍ متعدّدةٍ في كتاب الله، وربط بعضها ببعض. كثيرةٌ تلك الآيات المتناقضة والتي حاول الشّرّاح الهروب منها أو تفسيرها بطريقةٍ غير منطقيّةٍ، ثمّ وجدنا أنّها فسّرتْ نفسها، وأصبحت أكثر اتساقًا مع باقي آيات الكتاب.

سوف نتناول مسألة استطاعة الإنسان إحياء الموتى من خلال عدة مشاهد قرآنيةٍ، وأول هذه المشاهد هو استطاعة نبي الله عيسى إحياء الموتى. 

المشاهد القرآنية التي تناولت مسألة إحياء الموتى

المشهد الأول: 

مشهد إحياء الموتى جاء في آيتين من آيات رب العالمين خاصًا بنبيّ الله عيسى، جاء الحديث في الآية الأولى على لسان نبيّ الله عيسى لقومه: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (سورة آل عمران: آية 49). 

والآية الثانية خطابٌ من رب العالمين لنبيه عيسى: (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ) (سورة المائدة: آية 110). 

إذا كانت فكرة خلق حياةٍ في كياناتٍ ماديةٍ لا حياة فيها غايةً في الصعوبة؛ بسبب تعقيداتٍ وعلاقاتٍ متشعبةٍ، وعدم وجود آياتٍ كثيفةٍ تدلّ عليها، فإنّ فكرة إعادة الموتى للحياة تبدو أكثر بساطةً، بل إنّ القرآن يدفع باتجاهها باستمرار، من خلال تعدُّد ذكرها في كتاب الله، وكثرة الأمثلة، والتفصيلات الكثيرة التي يمكن أنْ تُساعدنا على فهم الفكرة. 

قبل أنْ نبدأ بحثنا، علينا التفريق بين (الموت) و(الوفاة)؛ حتى ندرك مسألة عودة عيسى ابن مريم آخر الزمان، وجذورها التي تُعدّ من الاعتقادات الراسخة لدى المتديّنين، والتي ليس عليها دليلٌ واضحٌ من كتاب الله، رغم خطورة هذا الأمر. 

لو نظرنا إلى جذر كلمة (الموت) سوف نجد أنّ كلمة موت لها أصلٌ صحيحٌ، ومعناه ذهاب القوّة من الشيء، ولو أضفنا مدلول الكلمة من خلال كتاب الله سنلاحظ أنّ الموت هو عملية تعطّل الوظائف، أو قلْ نفاد الطاقة الحيوية. أمّا (الوفاة) فأصل الكلمة وفى، ومعناها إتمام الشيء وإكماله؛ ولذلك فإنّنا نجد أنّ عملية الوفاة إذا كانت تشير إلى انتهاء حياة الإنسان فإنّها لا بدّ أن تأتي بعد عملية الموت، وهي تعطّل الوظائف الحيوية أو توقّفها. الأمر أشبه بحالة الخروج إلى المعاش، والتي تبدأ بانتهاء مدة الموظف الفعلية، وانقطاع صلته بمكان العمل، إذ لا يكون مطلوبًا منه الحضور للعمل، وفي هذه الحالة يمكننا تشبيه الأمر بحالة الموت، أمّا عملية استيفاء الأوراق لإنهاء كلّ مستحقاته، التي تظلّ ساريةً بعد الموت، فعندما تنتهي هذه العملية فهي الوفاة. 

الموت تعطّلٌ للوظائف، وذهابٌ للقوة والطاقة، وهو عمليةٌ فيزيائيةٌ غالبًا، ومنظورةٌ أيضًا. أمّا الوفاة فهي استيفاءٌ لا بدّ له أنْ يأتي بعد الموت وليس قبله. وبوضوحٍ أكبر، فإنّ عملية الموت تصيب الجسد أمّا عملية الوفاة فتصيب النفس، وقد تناولناها في الفصل الثالث من خلال مفهوم النفس. 

الآيتان الكريمتان اللتان أشكلتا على أغلب المفسرين في وفاة نبيّ الله عيسى، واستدلّ كثيرٌ منهم بهما على عودته، هما هاتان الآيتان: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سورة المائدة: آية 117).

(إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (سورة آل عمران: آية 55). 

من الواضح هنا أنّ الموت لم يحدث بمفهوم تعطّل الوظائف وذهاب القوة، بل حدثت الوفاة مباشرةً، وهي استكمال وظيفته على الأرض وتمامها. أمّا ما ذهب إليه المفسّرون من أنّ مسألة الوفاة خاصةٌ بالرسالة وسوف يعود، فليس عليها أيّ دليلٍ من خلال هذه الآية الكريمة. الوفاة بمعنى الاستيفاء أشمل وأعمّ من مفهوم الموت بكثيرٍ. 

لأنّ نبي الله عيسى روحٌ من الله، وهو حالةٌ خاصةٌ جدًا، فكأنّ الوفاة تعلّقت بالنفس، فإذا كانت الروح هي المدخلات، فإنّ النفس هي المخرجات؛ لذا جاء التعبير بالوفاة ليُناسب الحالة الفريدة لنبيّ الله عيسى، مشيرًا إلى استكمال دوره وانتهائه. عندما يقول الله إنّي متوفيك، فهذا يعني لنا استيفاء النفس الطاهرة التي كانت تخرج لتعلّم الناس، والمؤيّدة بروح القدس.

القرآن من خلال هذه الآية ينفي الزعم بأنّه عائدٌ، والآية تردّ على المزاعم السابقة التي ردّدت مثل هذه الأقوال، وتناقلها المفسّرون وأقرّوها. قد يكون هناك جذرٌ لهذه المزاعم، وسوف نتعرّض في نهاية الفصل لهذا التصوّر، ونجيب عن السؤال: لماذا قد يفهم الناس أنّ نبي الله عيسى عائدٌ مرةً أخرى؟ 

هنا يبرز سؤالٌ: لماذا لم يذكر القرآن صراحةً أن عيسى مات بدلًا من قوله (توفيتني)؟ 

أولًا: لأنّ نبي الله عيسى كان حقًا حالةً خاصةً، ولم يوصف أحدٌ من الأنبياء بالصفات والخصائص التي وُصف بها هذا النبي، فهو كان كلمةً من الله وروحًا منه ومؤيدًا بروح القدس، ولذلك تصبح الوفاة هي الأنسب لحالته تحديدًا.

ثانيًا: رسالة الرسول أو النبي تنتهي بوفاته، وليس لحادث موت النبي تأثيرٌ في الأحداث، لذلك لم نجدْ أنّ القرآن أعطى وزنًا لمسألة موت الأنبياء، ولم يذكرها إلا في حالاتٍ محدودةٍ جدًا، بسبب تعلّقها بموقفٍ معينٍ، مثل موت نبي الله يعقوب، وموت سليمان عليه السلام. أنبياءٌ مثل نبي الله إبراهيم ونبي الله موسى وهم الأكثر ذكرًا في كتاب الله، لم يذكر القرآن شيئًا عن موتهم، لأنّ رسالتهم قد تمّت، ولن يضيف ذكر حادثة الموت شيئًا للأحداث. 

هذا هو الفرق بين القرآن والتاريخ، فالقرآن معنيٌّ بصورةٍ أساسيّةٍ بالمعرفة، وبكل ما يمكن أنْ يُشكّل مصدرًا للمعرفة، أمّا التاريخ فهو سيرٌ للأحداث، بغضّ النظر عن قيمتها المعرفية. 

لفظ (إذن) الذي جاء مرتبطًا بإحياء الموتى لا يوجّه الإنسان إلى الطريقة التي سوف يحيي بها الموتى، ولم يأتِ ليقول للإنسان إنّه لن يستطيع إحياء الموتى.

لفظ (إذن) في معاجم اللغة هو علم الله، والإذن هو إعلامٌ بشيءٍ ما. لو حاولنا فهم لفظ (إذن) وما يتعلّق به في كتاب الله بلغتنا المعاصرة، سوف نجد أنّ الإذن إعلامٌ بشيءٍ ما، أو لفتٌ للانتباه. الأذان هو أيضًا إعلامٌ بشيءٍ ما أو لفت الانتباه لأمرٍ ما، إذ إنّ أذان الصلاة هو إعلامٌ بدخول وقت الصلاة. كذلك (الأُذُن) وهي عضو السمع لدى الإنسان، يبدو أنّها سُمّيت بذلك لأنّها أوّل مرحلةٍ من مراحل الانتباه، وتكون عن طريق السمع، فالعين عليها غطاء، إذ إنّ الرؤية محدّدةٌ باتجاهٍ ويقظةٍ، أمّا السماع فغير محدّدٍ باتجاهٍ، وهو أسبق، بل هو الوسيلة الأنجح في إثارة الانتباه. 

الآية لا تنفي قدرة البشر على إحياء الموتى، بل ربطت ذلك بإذن الله، أيْ أنْ ينتبه الإنسان لكلمات الله. مثال ذلك: عندما أقول لطالبٍ لن تدخل المحاضرة إلا بإذني، فهذا ليس معناه أنّي سوف أحرم الطالب من دخول المحاضرة، بل هو تنبيهٌ له بأنْ يلتزم آداب المحاضرة حتى أسمح له بالدخول، وإن لم يفعل فلن آذن له. 

هل وضحت الآن العلاقة بين علم الساعة وكلمات الله وآيتين من أعظم الآيات، وهما استطاعة الإنسان بثّ الحياة في جامد، واستطاعته إحياء الموتى. 

لو لم يكن لنا من خلال الآيتين اللتين جاء فيهما ذكر إحياء الموتى على يد نبي الله عيسى إلا وضع احتمال إمكانية إحياء الموتى، وقبول فكرة إحياء الموتى بوصفها نوعًا من آيات الله التي تمّت على يد بشرٍ، حتى وإن كان نبيًا، لكفانا ذلك. 

المشهد الثاني من مشاهد إحياء الموتى سوف يُسهم جدًا في فهم الآلية التي يمكن للإنسان بها إحياء الموتى، وسوف يقصّ علينا إشاراتٍ غاية في الروعة. 

المشهد الثاني: مشهد البقرة 

هذا المشهد هو مشهد سر الحياة بالنسبة لي، بل هو مشهدٌ يقص على بني آدم سرًا من أعظم الأسرار، بل قد يكون مفتاح إحياء الموتى بلا منازع. أستطيع أنْ أذهب إلى أبعد نقطةٍ وأقول إنّ سورة البقرة بالتحديد هي نظريةٌ معرفيةٌ خاصةٌ بإعادة الحياة، وأنّ فكّ رموزها وألفاظها سوف يكون من أهمّ علوم الساعة التي أخبر الله عنها، وهي هنا تتكامل تمامًا مع ما ذهبنا إليه من استطاعة البشر إحياء الموتى، بل هي إذنٌ من الله وتوجيهٌ وإرشادٌ. 

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (سورة البقرة: آيات 67-73). 

لقد تناولنا هذه القصة في الجزء الثالث من سلسلة تلك الأسباب – الطور- فصل الأنعام، ولا مانع من توضيح أبعادها مرةً أخرى؛ بسبب أهمية فهم إشاراتها هنا في معرِض الحديث عن إحياء الموتى. 

على الرغم من أنّ المفسرين قالوا إنّ هذه القصة تدلّ على تعنّت بني إسرائيل وعدم رغبتهم في تنفيذ الأمر الإلهيّ، إلا أنّ المتتبّع للآيات الكريمة يدرك تمامًا الحيرة التي وقع فيها بنو إسرائيل، ورغبتهم في معرفة هذه البقرة، ويبدو أنّ اختيار بقرةٍ لم يكن سهلًا، لا سيما إذا كان لفظ [بقرة] يعني فصيلًا معينًا تقع تحته مجموعةٌ كبيرةٌ من المخلوقات (راجع فصل الأنعام - الجزء الثالث - تلك الأسباب- الطور).

قد يقول إنسانٌ: كان يُجزئهم أنْ يذبحوا أيّ بقرةٍ، دون السؤال عن التفاصيل أو معرفتها؛ وهذا الرأي له وجاهته، لكنْ بالنّظر إلى طبيعة بني إسرائيل التي تميل إلى السؤال والتدقيق ما كان لهم أنْ ينفّذوا هذا الأمر إلّا بعد أنْ يثقوا أنّهم على الطريق الصحيح. لذا بادروا نبي الله موسى بالسؤال عن ماهيّة هذه البقرة؛ حتى يتمّ تقليل المجموعة التي يجري الانتقاء والاختيار منها.

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) (سورة البقرة: آية 68).

ورغبةً منهم في أن يكون اختيارهم صحيحًا مئةً بالمئة استفهموا مرةً أخرى من نبي الله موسى عن لونها؛ رغبةً في تضييق الاحتمالات:

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (سورة البقرة: آية 69).

ما يدفعنا للقول إنّ بني إسرائيل لم يكونوا متعنتين؛ بل كانوا يسألون رغبةً في معرفة المطلوب بالضبط، هو قولهم في الآية التالية: إنّا إنْ شاء الله لمهتدون.

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) (سورة البقرة: آية 70).

 قول بني إسرائيل: إنّا إنْ شاء الله لمهتدون؛ يدلّ على رغبةٍ منهم في الوصول للحقيقة. وقولهم: إنّ البقر تشابه علينا يدلّ على أنّ هناك مدىً متّسعًا من الكائنات التي ينطبق عليها لفظ [البقر]، وليس كما نعتقد هو البقر الذي نعرفه نحن، أو نعرف صنفًا واحدًا منه.

إذا كان المفسّر القديم قد رأى أنّ موقف بني إسرائيل يدلّ على خبثٍ وعدم رغبةٍ في تنفيذ أمر الله، دون دليلٍ حقيقيٍّ على ذلك سوى انطباعاتٍ من آياتٍ أخرى، فليَ الحقّ في الاعتقاد أنَّ بني إسرائيل في هذا الموقف كانوا يرغبون في معرفة نوع البقرة بشكلٍ صحيح، معرفةً يقينيةً، بدليل إخبار القرآن أنهم قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون. لو أنّ الأمر كان خبثًا وسوء نيةٍ لأخبرنا القرآن بذلك، كأن يقول: وإنهم لكاذبون أو يخادعون. القرآن لم يذكر ذلك، وكان التركيز على المدة الزمنية التي استغرقها الوصول إلى ذبح البقرة، بدليل قول الله (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ).

لا شكّ أنّه عندما يصدر لك أمرٌ بفعل شيءٍ غير مبرّرٍ سيكون الأمر مثيرًا للتساؤل، وأمر البقرة جاء سابقًا لحادثةٍ لم تكن قد حدثت بعد؛ لذا لم يفهم بنو إسرائيل جدوى هذا الفعل الذي جعلهم في حيرة. 

يبدو هنا أنّ عامل الوقت كان هامًا للغاية، حتى إنّ الأمر بذبح البقرة جاء قبل حدوث القتل أو ذكر القتل، ممّا يدفعنا للقول إنّ الأمر يقصّ علينا خبرًا علميًا، ومعرفةً عميقةً بامتياز. 

سوف أضرب مثالًا لبيان الأمر، لو افترضنا أنّ رجلًا ذا خبرةٍ معينةٍ في مجلسٍ ما، ويجلس مع مجموعةٍ من أصدقائه، وبينما هو في المجلس إذ رأى هذا الرجل الخبير علاماتٍ على أحد الجلوس تدلّ على أنّه في طريقه لأزمةٍ قلبيةٍ. فإذا طلب هذا الرجل من أحد الحاضرين الاتصال بالإسعاف فورًا فلا شكّ أنّ الجميع سيستغرب. لماذا يطلبون الإسعاف طالما لا يرون ما يرى، وسوف يظلّ الجدل طويلًا. الحقيقة أنّ عامل الوقت هنا هامٌ للغاية، فإنْ لم تصل الإسعاف في وقتٍ وجيزٍ لربما لن يفيد ذلك في إنقاذ حياة الإنسان. 

هذا من وجهة نظري يشبه ما حدث في قصة البقرة. الله يطلب منهم أن يجهّزوا بقرةً أو أنْ يذبحوها، فيتساءل الناس ما جدوى ذلك، وما هذه السخرية. يُصرّ نبي الله موسى بأمر الله أن ينفّذ القوم الأمر؛ لأنّ أمرًا ما سوف يقع، ولكنْ ليس لديهم علمٌ بذلك. يظلّ الجدل حتى ينتهي أخيرًا بذبح البقرة، وتكون هذه البقرة سببًا في إعادة قتيلٍ إلى الحياة. ربما يسأل إنسانٌ: لماذا لم يخبر الله الناس أنّ قتيلًا سوف يُقتل، وليُجهّزوا بقرةً لكي يُنقَذ؟ 

لا يعمل القرآن هكذا، فهو يهدي الناس، ولا يُغيّر لهم اختياراتهم، وهذا فرقٌ لا بدّ أنْ يكون شديد الوضوح في أذهان من يتدبرون القرآن. كذلك لماذا لم يذكر لنا القرآن أن سبب ذبح البقرة هو إعادة القتيل للحياة؟ الحقيقة أن القرآن أخبر بذلك عندما قصّ القصة ثم قال: كذلك يحيي الله الموتى. (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). عدم إدراك الناس للمعرفة القرآنية هو أمرٌ يخصّ أصحابها، وتأويل الآيات بصورةٍ لا تراعي السياق و الفروق الطفيفة في الكلمات هو سمة العصور القديمة. ربما لم ينتبه المفسّر لما تخبر به الآيات؛ بسبب عدم وجود معرفةٍ يمكن أن يرتكن إليها في وضع احتمالية إعادة الموتى للحياة. 

ما السر الذي يمكن أن يكون في ذبح البقرة؟ وكيف لها أنْ تُعيد إنسانًا للحياة؟

من خلال قصة البقرة، وعامل الوقت الذي بدا هامًا للغاية، أعتقد أنّ المقصود هو دماء الأبقار، فأول ما يفسد هو الدماء، وربما كانت الدماء هي التي تحمل سرّ عودة الحياة للبشر. بالتأكيد نحن نضع تصوّرًا بناءً على اللفظ والتعبير القرآنيّ، ونتمنّى أنْ يتولّى المتخصّصون هذه الأفكار بمزيدٍ من التحليل والدراسة. قد يكون شيئًا آخر غير الدماء، ولكنْ لا شكّ أنّ البقر له علاقةٌ وثيقةٌ بعودة الإنسان إلى الحياة. 

لماذا لم يقف المفسر القديم ويسأل: ما علاقة البقر بعودة الحياة، ولديه حوله كثيرٌ من الأساطير التي ربطت بين البقر وسر الحياة في علاقةٍ عجيبةٍ؟ 

لا يخفى على أحدٍ ما تُمثله البقرة في الفكر الهندوسيّ وعلاقتها بالحياة. ربّما اعترى هذا التصوّر كثيرٌ من التحريف والتبديل، كما هي عادة البشر، لكنّ ما نجزم به، ومن خلال القرآن، أنّ هناك علاقةً وثيقةً بين إعادة الموت والبقرة، وأنّ هناك سرًا كامنًا لا بدّ أنْ ينجلي يومًا. 

 تحتل البقرة أو الإله حتحور مكانةً عجيبةً لدى القدماء المصريين، ولها علاقةٌ وثيقةٌ بالخصوبة والجمال أيضًا، بل إن بعضهم يشير إلى أنّها سرّ الحياة كذلك. لا شكّ عندي أنّ هذه الأساطير قد وجدت طريقها إلى الثقافة البشرية من خلال نصوصٍ دينيةٍ سابقةٍ، بل على الأرجح من قصة البقرة التي استُخدمت في إحياء الموتى على عهد نبي الله موسى. لو أنّ لدينا بحثًا دقيقًا أجري بشكلٍ علميٍّ لِما تمثّله البقرة في الفكر الهندوسي وفي الحضارات القديمة فلا شكّ أنّه سوف يقودنا إلى منبع هذه القصص، وعلاقتها بالحدث القرآني، والذي يبدو أنّه يؤشّر للإنسان بالاستطاعة على إحياء الموتى. 

من أعجب ما يكون هو انتهاء مشهد البقرة بقول الله سبحانه: (فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ یُحۡیِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَیُرِیكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ) (سورة البقرة: آية 73). يريكم الله آياته بمعنى العلامات أو الأحداث التي تقبل التفكّر والتدبّر، والآية الكريمة نفسها قالت: لعلكم تعقلون. القرآن يُلحّ على الإنسان أنْ يعقل، وأنْ ينظر في الآية، والإنسان مع ذلك لا يريد. هل هناك جحودٌ بكلمات الله وآياته أكثر من ذلك؟ 

مدلول لفظ (الآية) 

يقول سيبويه: أصل آية (أيَيَة) على (فَعَلَة) مثل (أَكَمَة، وشَجَرَة) فلما تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها انقلبت ألفًا فصارت (آية) بهمزة بعدها مدة. أما الكسائي فيرى أنّ أصل آية هو (آيِيَة) على وزن (فاعِلة) مثل (آمِنَة) فقلبت الياء الثانية ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتباسها بالجمع. يقول الفراء إنّ أصل آية هو (أيية) بتشديد الياء الأولى، فقلبت ألفًا كراهةً للتشديد فصارت (آية).

أصل الكلمة من وجهة نظري هو الألف والتاء؛ أي إنّ أصلها (آت). يأتي الشيء بمعنى أنّه سوف يحصل، أو أنّه سوف يُصبح في المتناول، ولفظ (آية) ليس بعيدًا عن هذا الأصل، إذ إنّ الآية في القرآن هي كلّ حدثٍ واضحٍ سواءٌ كان حدثًا كونيًا أو حدثًا لفظيًا أو حتى بمعنى علامة. (آية) تعني شيئًا في متناول الإنسان بالفعل، ويستطيع التحقّق منه، ولا أرى لها دلالةً أخرى، ونحو ذلك الأمثلة التالية:

- مثالٌ على حدث لفظيٌّ: (رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ) (سورة البقرة: آية 129). لا شكّ أنّ الآيات اللفظية كلّها في متناول الإنسان، ويستطيع التحقّق منها لو تعقّل وتدبّر. 

- مثالٌ على حدثٌ كونيٌ: (إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءࣲ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲ وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ) (سورة البقرة: آية 164). الآيات الكونية كذلك في المتناول، ويستطيع الإنسان التحقّق منها، وهذا هو التعقّل والتفكّر، عندما تتطابق الآية اللفظية مع الآية الكونية. 

- مثالٌ على آية بمعنى علامة: (وَقَالَ لَهُمۡ نَبِیُّهُمۡ إِنَّ ءَایَةَ مُلۡكِهِۦۤ أَن یَأۡتِیَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِیهِ سَكِینَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَبَقِیَّةࣱ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَـٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ) (سورة البقرة: آية 248). العلامة هنا يمكن التحقّق منها، ولكي يستطيع الإنسان التحقّق منها لا بدّ أنْ تكون في متناوله. 

بالمنطق نفسه كانت عملية إحياء الموتى التي قصّها القرآن، ويقول عنها إنّها آيةٌ، ممّا يدلّ على أنّها في المتناول، بل ويستطيع الإنسان التحقّق منها. فإن كان الإنسان لا يستطيع التحقّق منها فلن تكون آيةً، وهذا يأخذنا لمفهومٍ عظيمٍ، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى عن أمرٍ ما في كتابه إنه (آيةٌ) فهنا يجب أن يشمّر العلماء عن سواعدهم للتحقق، وسوف يرون صدق مَن أنزل القرآن. 

مدلول لفظ (الآية) لا يحتاج لكثيرٍ من الشرح لأنه يُفصح عن نفسه في كتاب الله؛ فهي ما يمكن النظر فيه ودراسته، وليست علامةً لا قيمة لها، إذ ارتبطت في أغلب مواضعها بالتعقّل؛ فهي حدثٌ يحمل قدرًا من المعارف التي تتطلّب التعقّل والتفكّر. لذلك عندما يربط القرآن مشاهد إعادة الحياة للناس بقوله إنها آية؛ فهو يُعلّمهم أنّ هذا الأمر شيءٌ عظيمٌ يحمل معارف كبيرةً فتفكّروا فيها وتدبّروا واعقلوا.

بعضهم يفهم هذا الأمر خلاف ذلك، فهو يعتقد أنّ ذكر البقرة في القرآن إنّما هو استنساخٌ لتصورٍ بشريٍّ عن قدسية البقرة، ممّا يدفعه للقول بأنّ القرآن هو مجموعةٌ من القصص والحكايات المستقاة من مختلف الأساطير والموروثات القديمة، وليس كتابًا من عند الله. عند هذه النقطة لا نملك لهؤلاء شيئًا؛ فهم يتصوّرون أمرًا بناءً على ما لديهم، والفيصل بيننا وبينهم علم الساعة، والساعة أدهى وأمرّ. 

لو لم تكن البقرة هي سرّ الحياة بالفعل لما جاءت سورةٌ باسم البقرة، ولَمَا قصّ القرآن قصةً عجيبةً إنْ لم تكن حقيقيةً مئة بالمئة، وإنْ لم تكن ذات فائدةٍ للإنسان لأصبح النصّ الإلهيّ يحمل كثيرًا من علامات الاستفهام. لماذا يذكر القرآن هذه القصة بهذا الشكل، والله يعلم أنّ عصر العلم والتطور المعرفي قادمٌ لا محالة، وأنّ قصصًا كهذه إن لم تكن منطقيةً فسوف تقود الناس لتكذيب النص الإلهي برُمّته؟ 

إنّ هذه الخوارق أو الآيات التي تبدو مستحيلةً هي برأيي إعلان الإله عن نفسه، فكأنّه يقول لهم أنا مَن نزّلت هذه الكلمات بغرض مساعدتكم ورُقيّكم معرفيًا، وليس بغرض التسلّط عليكم كما يصوّر ذلك رجال الدين التراثي. عندما يكتشف الإنسان كلّ هذه العلاقات، وكيف أنّ هذا النص يشير إلى كلّ تلك المعارف منذ ذلك الزمن البعيد سوف يؤمن بخصوصية هذا النص، ومن ثمّ سيتعامل معه بما يليق، وسوف يخبر النص عن الذي أنزله. 

إنّنا نتلمّس طريقنا من بين إيمانٍ وراثيٍّ لا يرى في آيات الله سوى عظةٍ وعبرةٍ، ولا يستطيع استنتاج نتيجةٍ واحدةٍ أو تدبر آيةٍ من دون تحيّزٍ، ومنحرفين فكرًا يملأ قلوبهم الحقد الأسود، ويرون أنّ القرآن مجموعةٌ من الأساطير. وها نحن نهمس في أذن البشرية أنّنا أمام نصٍ عجيبٍ وفريدٍ، ونحن في حاجةٍ ماسةٍ لأنْ نكتشفه بغضّ النظر عن مسألة الإيمان به أو عدم الإيمان به. 

البقرة كذلك لها ذكرٌ خاصٌّ في العهد القديم والعهد الجديد، بل إنّ هناك ربطًا بينها وبين المسيح، وهذا الربط برأيي ما هو إلا نتاج مسألة إحياء الموتى، التي كانت البقرة سببًا مباشرًا فيها، وكذلك جرت هذه الظاهرة على يد نبيّ الله عيسى. كلّ هذه الإشارات تشير إلى أنّ عملية البعث أو إعادة الحياة لميّتٍ عمليةٌ يشير إليها القرآن بغزارةٍ، ولكنْ بسبب بساطة المعرفة انطمست تلك الآيات ولم تكدْ تبين. 

قصة البقرة وحدها كفيلةٌ بأن يعتقد الإنسان أن باستطاعته إعادة الموتى للحياة بإذن الله؛ لأن من أعاد القتيل للحياة ليس نبي الله موسى، بل هم القوم المأمورون بضربه ببعضها. لماذا هذا الترتيب وهذه التفاصيل؟ 

القرآن يخبرنا أن بشرًا استطاعوا إعادة الحياة لقتيلٍ، ولكن تذكر دائمًا أن ذلك بإذن الله. قد يعتقد الإنسان أن القصة لا تحمل كل ذلك، وأنها مجرد قصةٍ للعظة والعبرة، أو حتى مجازية التعبير. هذه الطريقة في التعاطي مع كلمات الله ليست طريقة العقل البشري الجبار، وإنما هي طريقةٌ بدائيةٌ للغاية، تخشى طرح الأسئلة، وتحاول تضميد إيمانها الهش على حساب المنطق والتعقّل.

 لو أن عبقريًا كتب قصةً فسيُخضعها النقّاد للبحث والتحليل، وسيُدركون أن هذا العبقري سيختار كلماته بعنايةٍ فائقةٍ؛ فكل كلمةٍ لديه تقدم رسالةً. ولو أن مخرج العمل الفني إنسانٌ عبقريٌ فستراه لا يهمل أيّ تفصيلةٍ، بل يقدم رسائله من خلال كادراتٍ (عناصر) قد لا يُلاحظها المشاهد العادي، ويَعُدُّ كل تفصيلات المشهد ذات أهميةٍ. فما بال القوم يتعاملون بكل هذا الكسل مع كلمات الله، ويعتقدون أن كلماته وتعبيراته أهون بكثيرٍ من أن تقدّم معرفةً عظيمةً للبشرية. 

المشكلة لا تكمن أبدًا في الكلمات أو التعبيرات، وإنما تكمن في العقول الضعيفة التي تلقت هذه الكلمات، ولا ترى فيها سوى بعض السجع والموسيقى. 

تتبُّع آيات القرآن سوف يخبرنا مزيدًا من التفاصيل، وسوف تتوالى المفاجآت مع سبر أغوار تلك الآيات التي تتحدّث عن الحياة والموت في القرآن. 

العجيب أنّ سورة البقرة حافلةٌ بمشاهد الموت وإعادة الحياة، ومن هذه المشاهد تلك الآية التي حاجّ فيها نبي الله إبراهيم ذلك الرجل، الذي ادّعى أنّه يُحيي ويميت. 

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (سورة البقرة: آية 258).

خروج نبي الله إبراهيم من حالة الجدل حول القدرة على الإحياء والموت إلى آيةٍ أعظم بكثير، وهي تحوّل الشمس، أو بمعنىً أكثر دقةً تغيّر دوران الأرض يجعلنا نقول إنّ مسألة إعادة الحياة للميت فيها نظر، لا سيما مع وجود آياتٍ كثيرةٍ تدعم هذا التصوّر. حقيقةً لا أعلم إنْ كان الرجل لديه استطاعةٌ بالفعل على إحياء الموتى أم لا، لأنّ القرآن لم يعقّب، ولم يخبرنا أنّ الرجل كاذبٌ وكلّ ما في الأمر أنّ نبي الله إبراهيم نقل المناقشة من حيّز الاستطاعة إلى حيّز القدرة. إنّه الفرق الجوهريّ بين إنسانٍ أو مخلوقٍ يستطيع ويحاول وخالقٍ له مقاليد السموات والأرض، والخلط بين المفهومين مُدمّرٌ للبنية المعرفية، ويزجّ الإنسان في القول على الله بما لا يعلم. 

المشهد الثالث:

مرةً أخرى تأخذنا سورة البقرة إلى مشهدٍ مهيبٍ، حيث يقصّ علينا القرآن قصة الرجل الذي أماته الله مئةً عامٍ ثمّ بعثه: 

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (سورة البقرة: آية 259).

الحقيقة أنني أتوقّف كثيرًا أمام قول الله في هذه الآية (ولنجعلك آية للناس). مسألة بعث الرجل بعد فترةٍ طويلةٍ كما قصّ القرآن هي آيةٌ للناس؛ بمعنى أنّ الناس يستطيعون التحقّق منها وإدارة عمليةٍ عقليةٍ حولها. ما هذه البلاغة الإلهية! القرآن يشير للإنسان بأشياء لا تخطر على بال. بعث رجلٍ بعد مئة عامٍ هو آيةٌ للناس، فهل بعد هذا البلاغ المبين حجةٌ لمن يقول أنّ بعث الميت لا يمكن التحقّق منه؟ القرآن بصورةٍ واضحةٍ يقول إنّ الإنسان سوف يستطيع، فلماذا يضع الإنسان نفسه في خانة العجز؟

لو لم تكن مسألة بعث الرجل هكذا قابلةً للتحقق فلا يمكن أنْ تكون آيةً، بل سوف تكون وبالًا ومصدر سخريةٍ؛ لأنّ القرآن يتحدث عن قصصٍ غير واقعيةٍ. لم يقل القرآن: آمنوا بذلك، بل قال: آيةً للناس، وهذا هو الركن الصلب الذي يؤيّد أنّ مسألة البعث قابلةٌ للتحقّق. 

الآية التي ذكرت بعث الرجل أعطت تفصيلًا جديدًا لعملية البعث، فهي عمليةٌ تجري على مراحل، والله يقول له: انظر إلى العظام كيف ننشزها بمعنى تأمّل كيف يجري التحامها سويًا. ثم تأتي المرحلة الثانية، وهي كسوها لحمًا، ليعلم أنّ الله على كلّ شيءٍ قديرٍ. لو أنّ عملية البعث عمليةٌ لحظيةٌ ما كان هناك فائدةٌ من أنْ يرى هذه المراحل، وكان يكفيه أنْ يُبصر أمامه حماره واقفًا. لكنْ لأنّ عملية البعث آيةٌ من الله فهو يشرح كيفيتها؛ لعلّ الإنسان يستطيع إدراك الحقيقة خلف كلمات الله. 

لا يفوتنا هنا استخدام ضمير (نا) الفاعلين في عملية البعث، ولم يقل الله سبحانه وتعالى في هذه العملية تحديدًا فعلت بنفسي؛ إذ إنّ هذا الفعل كما يبدو لي هو من أفعال الاستطاعة التي وُكّلت بها أدوات الله في خلقه، أمّا الله سبحانه وتعالى فهو القدير؛ أي الذي قدّر كلّ هذه الأشياء كما جاء في نهاية الآية. عندما نرى ضمير المفرد في الأفعال فيجب أنْ نحيله إلى معنى القدرة وليس الاستطاعة. مثل أن يقول الله (هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتࣲۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ) (سورة البقرة: آية 29). (خلق لكم) لا تحمل المعنى التجسيديّ؛ بل تحمل المعنى التقديريّ، فالله يُقدّر الأشياء فيقوم كلّ أمرٍ بما عليه أن يقوم به، وهذه هي دلالة استخدام ضمير (نحن) في التعبير عن الأفعال. 

في قصة الرجل الذي أماته الله مئة عامٍ ثم بعثه مثالٌ شديد الوضوح على رسالة الله للبشر، فعندما أنكر الرجل عودة الحياة لهذه القرية كان ردّ الله عليه أنك أنت أيضًا سوف تعود للحياة. القصة في مجملها رسالةٌ لمَن كان لديه ريبٌ في مسألة البعث وإمكانية حدوثها. لا شك أن الرجل لم ير بعث نفسه، لكنه رأى أمامه بعث الحمار، وهو بعثٌ لم يكن لحظيًا، بل كان على مراحل؛ ممّا يوضح الرسالة خلف القصة وخلف ذكرها. 

مدلول لفظ (بعث)

لفظ (البعث) ذاته يشير إلى مهمةٍ ووظيفةٍ، هكذا جاء لفظ (البعث) في كتاب الله يشير إلى هذه الحالة. لفظ (بعث) في اللغة هو الإثارة، والإثارة في حدّ ذاتها نوع من الشغل من أجل هدفٌ. عندما يقول الله إنه سيبعث الناس فهذا يعني سوف يرسلهم في مهمةٍ، وليس مجرد إحياءٍ ونهاية المطاف. انظر إلى مدلول (البعث) في القرآن لتدرك أن اللفظ لا يحتاج لجهدٍ لتوضيح حالته وخصائصه، بل ينطق بالحق كما هي كلمات القرآن وألفاظه. 

(رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ)(سورة البقرة: آية 129). 

أستطيع أن أذهب أبعد من ذلك وأقول إن مدلول (البعث) في أغلبه جاء مع الأهداف النبيلة، فقد جاء مع الرسل والنبيين، وجاء مع المصلحين، وكأن اللفظ ذاته يحمل دلالةً على أن الناس المصلحين هم مَن سوف يُبعثون لأداء مهمةٍ معينةٍ. 

ما زلنا في سورة البقرة ومشاهد إعادة إحياء الموتى والبعث، ولدينا مشهدٌ آخر من مشاهد هذه السورة، و هو مشهد بني إسرائيل في عهد نبي الله موسى الذين أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون. يقول القرآن إن الله أحياهم مرةً أخرى، وهذا الإحياء إنما هو رسالةٌ شديدة الصلة بموضوع السورة واسمها، وعلاقة البقرة بالحياة. مشاهد متعددةٌ تخبر الإنسان بشيءٍ واحدٍ، أنّ العودة للحياة ممكنةٌ في ظروف طبيعية حيث عاد الكثير للحياة في الماضي بعد الموت.  

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56))(سورة البقرة: آية 55-56). 

الآية تقول (بعثهم) وليس أحياهم؛ لأن الفرق بين البعث والحياة فرقٌ كبيرٌ. إذا كان البعث إشارةً إلى المهمة -وفي الغالب هي مهمةٌ نبيلةٌ سوف يقوم بها الإنسان- فإن الحياة بصفةٍ عامةٍ هي مجرد عودة الجسم لأداء وظائفه الحيوية. الآية تتحدث عن قومٍ أخذتهم الصاعقة فماتوا فأعادهم الله للحياة، فمنهم من سوف ينتبه لمهمته وعندها يكون قد بُعث، ومنهم من سوف يُصرّ على عناده ويفشل مرةً أخرى في يكون فقط قد عاد للحياة. 

مشهدٌ آخر في سورة البقرة عن الذين خرجوا وهم ألوفٌ، فأماتهم الله ثم أحياهم: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ خَرَجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَهُمۡ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُوا۟ ثُمَّ أَحۡیَـٰهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَشۡكُرُونَ)(سورة البقرة: آية 243). 

لا يمكن فصل كل هذه المشاهد عن موضوع السورة واسمها، الذي يُعَنوِن لمسألة عودة الحياة مرةً أخرى للموتى. أتمنى أن يطول بي العمر لكي أتناول كل كلمةٍ في هذه السورة بالتحليل والدراسة، حتى أقف على كامل سرّ العودة للحياة. بقدر ما سوف ينتبه العالم لهذه السورة ويتولاها الباحثون المخضرمون بعيدًًا عن التقليديين بقدر ما سوف نقترب من اكتشاف سر العودة للحياة، وبقدر ما سيبقى الناس في دائرة التقليد بقدر ما سوف تبقى تعبيرات سورة البقرة وكلماتها مطموسةً تحت نير التراث. 

من خلال ما سبق، ومن خلال ضمّ كل المعطيات التي بين أيدينا، من فهم حقيقة علم الساعة وحالة نبي الله عيسى، وأحد أهم الظواهر والآيات التي جاء بها؛ فإننا نستطيع القول بأنّ إحياء الموتى بل إعادة الموتى للحياة بما يُسمى البعث هو حقيقة سوف يستطيع الإنسان يومًا ما الإتيان بها من خلال علمٍ أتاحه الله في كتابه. 

لنضعْ بعض الأسئلة ونحاول الإجابة عليها من خلال كتاب الله؛ لأنّ مسألة استطاعة الإنسان إحياء الموتى بل بعث الإنسان مرةً أخرى عمليةٌ في غاية الحساسية، وسوف تشير لما بعدها، كما سوف نرى في الفصول القادمة. 

هل هناك شواهد ودلائل أخرى على وجود حياةٍ ثانيةٍ للإنسان بمواصفات الحياة التي نعيشها؟ هل سيستطيع الإنسان إعادة الحياة لكلّ البشر السابقين، أم أنّ هذه العملية سوف تكون محدودةً بحدود؟ هل سيؤدي هذا العلم إذا تحقّق إلى غرور الإنسان؟ 

سنحاول الإجابة على كلّ هذه الأسئلة في السطور القادمة. 

لا يمكنني الإلمام بكلّ الآيات التي تحدّثت عن الحياة والموت؛ بسبب تشعُّبها وعلاقاتها المتشابكة، والتي تحتاج لوقتٍ طويلٍ ومجهودٍ مضاعفٍ لفهم الروابط بينها، لكنّنا سنتطرّق للآيات التي تحمل إشاراتٍ واضحةً واحتار فيها المفسرون. عندما اكتشفنا استطاعة الإنسان على إحياء الموتى وأنها إمكانية غير مستحيلةٍ في علم الله، أصبحت الآيات أكثر وضوحًا ودلالةً على أنّ هناك إعادةً للحياة على يد الإنسان بشكلٍ ما.

الآيات التي تحمل دلالاتٍ واضحةً على وجود حياة ثانية

المشهد الأول

الآية الأكثر إثارةً للجدل، والتي أكثرَ فيها الشراح القول، وأصابت كثيرين بالحيرة، هي الآية في سورة غافر التي تحدثت عن موتتين وحياتين. 

(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) (سورة غافر: آية 11). 

أقوال المفسرين حول هذه الآية تمحورت حول أنّ الموتة الأولى هي الموتة قبل الحياة التي نعيشها، أي ونحن في عالم الذرّ، والموتة الثانية هي التي نعرفها، أمّا الحياة الأولى فهي حياتنا الدنيا، والحياة الثانية هي حياة الآخرة. بعض المفسرين استدلّوا بهذه الآية على أنّ هناك حياةً في القبر؛ لأنّ لفظ (أمتّنا) لا بدّ أنْ تسبقه حياةٌ، فدفعهم ذلك للقول بأنّ هناك حياةٌ في القبر، قبل الحياة الآخرة. 

بعضهم ذهب إلى أنّ المقصود بالموتتين هو موتة القلب والروح، وليس موتة الجسد. لا شك أنّ الآية مربكةٌ جدًا؛ لأنّها مباشَرةٌ للغاية في إشارتها لموتتين وحياتين، ونحن لا نعلم إلا موتةً واحدةً تصيب الإنسان، وهناك آياتٌ في القرآن تشير إلى أنّ هناك موتةً واحدةً تصيب الإنسان، فكيف يمكننا فهم كلّ هذه التناقضات.

بعد أن افترضنا أنّ بعثًا سوف يكون على يد الإنسان، ولا شك أنه سيتمّ بإذن الله قبل يوم القيامة، ثمّ نجد أنّ هذه الآية تُشير إلى هذه المرحلة الخطيرة بكلّ وضوحٍ. لفظ (أمتّنا) يعني أنّ الإنسان كان حيًّا قبل أن يقع عليه الموت، وليس معناه أنّ الموتة الأولى هي قبل الخلق؛ لأنّ فعل الإماتة لا يقع إلا على حيٍّ. 

لفظ (أحييتنا) يدلّ على حياةٍ بمعناها الذي نعرفه من عملياتٍ حيوية، وهذا ما يشير إليه لفظ (حياة) في القرآن، فلا سبيل لعدّ لفظ (حياة) لفظًا مجازيًا هنا، أو القول بأن هناك حياةً في القبور، فهذه لا تُعدّ حياةً من الأساس. لو أنّ في القبر شيئًا فهو يجري على النفس وليس على الجسد، لأنّ الجسد هو المعنيّ بالحياة. من ذلك نجد أنّ لفظ (حياة) هو لفظٌ حقيقيٌ يصف بالفعل حياتين وموتتين كما بيّنت الآية. ويجب ألّا نغفل أنّ الآية تتحدّث عن الكافرين بدلالة الآية السابقة لها.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) (سورة غافر: آية 10). 

فعل (الإحياء) هنا من أفعال الاستطاعة، ولكنّه يجري تحت مظلة القدرة الإلهية، وهو ما يتكامل مع مفهوم استطاعة الإنسان إحياء الموتى عندما يصل إلى علم الساعة. 

ما يُثبت أنّ إعادة الحياة للناس سوف تجري بواسطة الإنسان ذاته هو بقاء الكافرين على كفرهم، إذ لو أنّ الأمر كما يُصوّره التقليديّون لما كان هناك مجالٌ للتكذيب. الكافر إذا بعثه الله مباشرةً مرةً أخرى لن يظلّ على كفره، بل سيدرك الحقيقة ويؤمن إنْ كان هناك فرصةٌ لذلك. 

الأمر يبدو مختلفًا تمامًا؛ لأنّ الإنسان سوف يعيد الموتى للحياة مرةً أخرى، وعندما يُبعَث هؤلاء سوف يجدون تقدّمًا علميًا، وسوف يستمرّون في غرورهم وعدم إيمانهم بوجود إلهٍ، ويستمرّون في جحود الحق. الآية تقول لنا إنّ حياةً ثانيةً لا تختلف بشكلٍ كبيرٍ عن الحياة الأولى، بل ستظلّ فيها الأعمال ساريةً، والاختبار قائمًا، بدلالة هؤلاء الذين اعترفوا بأنهم ماتوا مرّتين وعاشوا مرّتين، ومع ذلك لم يتّعظوا. لا يمكن لعاقلٍ أن يعتقد أن الحياة الثانية هي الحياة النهائية بعد يوم القيامة؛ لأن الكافرين اعترفوا بنصّ القرآن أنهم لم يرتدعوا واستمروا على كفرهم. ألّا يُفهم ذلك كلّ هذا الوقت أمرٌ في غاية الغرابة، وما كان له أن يكون بهذه الغرابة إلا بسبب حملٍ ثقيلٍ من التراث، ينفي أيّ حياةٍ ثانيةٍ في هذه الدنيا. لو علّمت أناسًا اللغة العربية فقط دون أيّ مؤثراتٍ، ووضعت بين أيديهم هذه الآية، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنهم هو وجود حياتين على هذه الأرض، والحياة الثانية سوف تجري بطريقةٍ عاديةٍ نوعًا ما، وليس فيها تغيّرٌ كثيرٌ في طريقة تفكير الناس. 

دعنا نُسمّي هذا البعث (البعث الأول)، وهو الذي سوف يجري على يد الإنسان بإذن الله، وهذا أمرٌ يبدو أنّه امتدادٌ طبيعيٌّ للتقدّم العلمي والتكنولوجي المتنامي اليوم، إذ مع تقدّم الأدوات، ومع الوصول لعلم الساعة، سوف يتمكّن الإنسان من إعادة الحياة للموتى. في هذه الحالة سوف يُبتلى المؤمن أو الأقل إيمانًا أو الحيادي بلاءً حسنًا؛ لأنه سوف يُعاين ويتأكّد من أمورٍ لم تكن بالنسبة له مؤكدةً. على الجانب الآخر، سوف يجد الكافر مئة تبريرٍ للإنكار والكفر، وأن ينسب ذلك للعلم فقط من دون الله، حتى لو أحضروا له مائة دليلٍ فالكافر بطبيعته يميل لتجنّب الأدلة؛ لاعتقاده الفاسد بأنها نوعٌ من الخداع. 

مسألة كروية الأرض اليوم تستطيع أن تشرح لنا كيف يمكن للكافر أن يكفر في ظلّ وجود حقائق مؤكدةٍ، ومع ذلك يُنكرها بكلّ جحودٍ. كروية الأرض مثبتةٌ من قديم الأزل بالحسابات والتجارب، بل والمشاهدات اليومية، وحديثًا صُوّرت من الفضاء، ومع ذلك هناك عددٌ لا بأس به يؤمن تمامًا بأنّ الأرض مسطحةٌ، وأنّ مسألة كروية الأرض مؤامرةٌ كونيةٌ. ماذا ينتظر هؤلاء من أدلةٍ حتى يقتنعوا بكروية الأرض، إن لم يعترفوا لا بعلم الحساب ولا الفيزياء ولا الفلك؟ 

هذا النمط العجيب من البشر لا تنتظر منه الاقتناع بالدليل، فهو في الغالب لا يعرف معنى الدليل من الأساس، ويخلط الأمور بصورةٍ عجيبةٍ. لو مات هذا الإنسان وعاد للحياة عن طريق إنسانٍ آخر فهو في الغالب لن يعترف بوجود إلهٍ من الأساس؛ لأنه عاين أنّ إنسانًا آخر أحياه، ولا وجود للإله المتجسد الذي عاش حياته يرسم له صورةً في مخيلته. لا شك أنّه سوف يُصرّ على ما هو فيه، ولن يَحدث أيّ تغييرٍ في سلوكياته، بل سوف تتغير أدوات الإنكار وطرقه لديه. 

هل يمكن رؤية البعث الأول؟

في حياتنا الدنيا حالاتٌ عديدةٌ لأناسٍ تشوشّت أفكارهم، أو فضّلوا البقاء على الحياد؛ بسبب ظروف اقتصاديةٍ أو ظروفٍ اجتماعيةٍ، أو أيّ حائلٍ حال بينهم وبين المعرفة، وهناك من مات صغيرًا ولم يفعل شيئًا ولم يخض الاختبار. وهناك أطفالٌ ماتوا بعمر يومٍ، وهناك من وُلد بإعاقةٍ عقليةٍ أو مرضٍ نفسيٍّ أو أيّ عاملٍ حال بينه وبين أنْ يخوض اختباره.

يبدو لي أنّ البعث الأول سوف يأتي بعد تقدّمٍ مذهلٍ على كلّ الأصعدة، على نحوٍ يستطيع الإنسان فيه التعامل مع كلّ الأمراض وأنواع المشكلات الصحية، سواء العقلية أو النفسية، وسوف يستطيع تجديد خلايا الجسم باستمرارٍ، حتى يصل الإنسان لمرحلةٍ يتمكّن فيها أن يعيش بصورةٍ تبدو مستمرةً ودون خلل. 

عندما يحدث البعث الأول لا شك عندي أنّ التقدّم العلميّ سوف يكون قادرًا على إبقاء الجسم البشري عند طورٍ معينٍ، على نحوٍ لا تشيخ فيه الخلايا ولا ينفد مخزونها. وذلك سوف يمنح فرصةً للصغير أن يكبر إلى درجةٍ معقولةٍ، ويمنح الفرصة للشيخ والعجوز أن يحصل على جسدٍ كالشباب. لذا كان البعث الأول هو الفرصة لكلّ من لم ينل حظًا كافيًا في الاختبار في الحياة الدنيا، لكنْ بقدر ظهور هذه الحقائق سوف تكون هناك مبرراتٌ للكفر وجحود الحقائق. 

إنها النفوس البشرية، وتفاعلها على مدار التاريخ يخبرنا بذلك، بل إنّ الأحداث اليومية تخبرنا بأنّ رؤية الحقيقة والتأكّد منها لن تمنع بعضهم من الكفر وإنكارها. بهذه الطريقة سوف يصبح البعث الأول بمنزلة فرزٍ دقيقٍ لفئةٍ تنتهج الخير، فمن كان على بيّنة في الحياة الأولى فهو كذلك في الحياة الثانية، ومن كان أعمى في الأولى فسوف يظلّ هكذا أعمى لا يستفيق. 

(وَمَن كَانَ فِى هَٰذِهِۦٓ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِى ٱلْءَاخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلً) (سورة الإسراء: آية 11). 

هل معنى ذلك أنّ الحياة الثانية هي الحياة الآخرة التي تحدّث عنها القرآن، و أشارت إليها آيات عديدة؟

بعد فرزٍ دقيقٍ لمفهوم (الآخرة) والذي سوف نتناوله في الفصل القادم تبيّن بالفعل أنّ الحياة الآخرة هي الحياة التي سوف يستطيع الإنسان بعث أخيه الإنسان فيها، وفي هذه الحياة ما لا يخطر على بال، ولكنّ القرآن أعطى بعض الإشارات. 

لا شك أننا جميعًا كنّا نتلو هذه الآية ونفهم أنّ المقصود منها هو الحياة الآخرة النهائية بعد يوم القيامة. لكنْ لا يمكن أنْ يكون المقصود بالآخرة هو يوم القيامة؛ لأنّ يوم القيامة حتى الكافرون سوف يقولون: فهل إلى خروجٍ من سبيل. بمعنى أنّه في يوم القيامة سوف يدرك الجميع بلا استثناء، لذلك لا يستقيم معنى استمرار الضلال والزيغ إلا مع حياةٍ ثانيةٍ تكون فيها احتمالات الهداية والضلال متساويةً. سوف يظلّ الأعمى أعمى، وسوف يجد المبرّرات كما نرى دائمًا ونشاهد من الضالين.

سوف نتناول مفهوم (الآخرة) بالتفصيل في الفصل القادم؛ لتصبح الصورة أكثر وضوحًا وأكثر إذهالًا! 

المشهد الثاني 

لدينا في كتاب الله إشاراتٌ أخرى لوجود حياتين، ولكنْ قد يشكل على الناس مسألة الموتتين، كما في سورة البقرة: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ۖ ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) (سورة البقرة: آية 28) 

هذه الآية تشير إلى حياتين، ولكنْ بالمنطق الذي تناولناه قد يتوهّم بعضهم أنّ هناك ثلاث موتاتٍ؛ لأنّ الله يقول هنا كنتم أموتًا.

لفظ (كنتم أمواتًا) يختلف عن لفظ (أمتّنا)؛ إذ إنّ فعل (أمتّنا) لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود حياةٍ سابقةٍ، أمّا (كنتم أمواتًا) فجائز التحقق قبل أن تدبّ فيه الحياة.

الآية في سورة البقرة تتحدّث عن ثلاث مراحل بكلّ وضوحٍ، وهي مرحلة الحياة الدنيا والتي عبّرت عنها الآية من خلال التعبير القرآني (فأحياكم) الواقع بين (كنتم أمواتًا) ولفظ (يميتكم) في قوله (وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم). هذه هي الحياة الدنيا التي بدأت من مادةٍ غير حيةٍ وهي العلقة والنطفة، أو حتى الطين في البداية الأولى. لذلك فالمقصود بقول الله (كنتم أمواتًا فأحياكم) هو (دبّت الحياة في المادة غير الحية). بعد هذه الحياة تأتي الموتة الأولى، والتي عبّرت عنها الآية بقول (ثم يميتكم). تأتي بعد ذلك مرحلة البعث الأوّل أو الحياة الثانية، والذي جاء في التعبير القرآني (ثم يحيكم)، ثم تأتي المرحلة الثالثة والتي بدت منفصلةً عن المراحل السابقة بحرف العطف (ثم) حيث قال الله (ثم إليه ترجعون). 

تبرز هنا إشكالية: لماذا لمْ تُكرر الآية لفظ (ثم يميتكم) بعد لفظ (يُحيكم) الثاني؟

هذا السؤال يمكن الإجابة عنه بفهم البعث الأول، فهل يصيب الموت الثاني جميع الأحياء وقتها أم لا؟

بدايةً لا بدّ أنّ الموت الثاني سوف يصيب الكافرين بنصّ الآية (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) (سورة غافر: آية 11). هنا يبرز سؤال: ماذا عن الصالحين؟

يبدو أنّ الصالحين مستثنَون من ذلك، أو أنّ هناك بعض الاستثناءات التي ذكرها الله في كتابه، والتي وضّحت أنّ بعضهم لن يقع عليه إلا الموتة الأولى. أول هذه الآيات هي التي جاءت على لسان المؤمنين بقولهم في سورة الصافات 

(أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)) (سورة الصافات: آية 58- 59). هذا المعنى قد تقرّر بعد ذلك في سورة الدخان:(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (سورة الدخان: آية 56). الحديث في هذه الآية أيضًا عن الصالحين، والذين وعدهم الله بموتةٍ واحدة. الحقيقة أنّ بعضهم قد ينطلق من هذه الآية لكي ينفي البعث الأول الذي قد يحدث على يد الإنسان، فيرى أنها حياةٌ واحدةٌ وموتٌ واحدٌ لكلّ البشرية، ضاربًا عرض الحائط بالدلائل القوية على وجود البعث الأول؛ بسبب الإرث التاريخي الضخم الذي يؤيّد ذلك. لكنّ المتمعّن في هذه الآية يدرك أنّ تأكيد القرآن على قوله: الموتة الأولى للصالحين، يدرك أنّ هناك احتمالًا لوجود موتٍ ثانٍ لغير الصالحين، وهذا ما أكّدتُه من خلال الآيات السابقة. 

لو أنها موتةٌ واحدةٌ للجميع فلماذا ذكر القرآن لفظ (الموتة) مضافًا للفظ الأولى؟ لو أنها موتةٌ واحدةٌ لما كان لفظ (الأولى) يحمل أيّ معنىً، ولكنْ لأنّ هناك موتةً ثانيةً جاء التأكيد على الموتة الأولى. لو قلتَ لمجموعةٍ من الطلاب لن تخوضوا إلا الاختبار الأول فهذا معناه أن هناك اختباراتٍ أخرى، ولكنْ هم تحديدًا لن يخوضوا إلا اختبارًا واحدًا. هذه الآية لا يمكن أن تكون تأكيدًا على أنّ الموت موتةٌ واحدةٌ، بل هي على العكس تمامًا تأكيدٌ على أن هناك موتةً أخرى. 

مسألة وجود حالتين أو نمطين من البشر أحدهما ستصيبه موتةٌ واحدةٌ، والثاني موتتان نجدها متوافقةً جداً مع السير المنطقي لأحداث القرآن، بل وأحداث آخر الزمان لو جاز لنا التعبير.

عند وصول الإنسان إلى مرحلة علم الساعة، ومن ثمّ تطبيق هذا العلم، والوصول إلى درجة إحياء الموتى، ومن ثمّ مرحلة ما يشبه الخلود، فهذا يعني أنّ مَن سوف يعيش في هذا الوقت لن يموت إلا موتةً واحدةً وهي الموتة المرتبطة بالنفخ في الصور المؤهّلة ليوم القيامة، كما قال عنها ربنا. 

النفخ في الصور كما جاء في القرآن هو المسبّب لعملية الصعق، والذي أصاب قوم نبي الله موسى وماتوا بتأثيره هو الصاعقة (الصوت الشديد) راجع  الجزء الثاني من سلسلة كتب تلك الأسباب للوقوف على مدلول الصاعقة. 

(وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) (سورة الزمر: آية 68). 

النفخ في الصور سوف يسبّب موت بعضهم، ولكنه لن يُسبب الموت لآخرين، مثل ما حدث مع نبي الله موسى عندما خرّ صعقًا ولكنه لم يمت. 

(وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِى وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوْفَ تَرَىٰنِى ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ)(سورة الأعراف: آية 143). 

في آية سورة الزمر التي تحدثت عن النفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض نجد أنه يوجد استثناءً عندما قال الله (إلا من شاء الله). إذًا هناك نفخٌ في الصور، وهو المرحلة الأخيرة التي سوف تأتي على الجميع، فيكون الكافر عندها قد مات موتةً أولى وبُعث، ثم نفخ في الصور فمات الثانية. أمّا الذين عاشوا في هذه الفترة فلن تصيبهم إلا هذه الموتة. يبقى الصالحون والذين يبدو لي من الآية الكريمة أنهم مستثنون بقول الله تعالى (إلا من شاء الله)، ومن خلال الآيات السابقة التي ذكرت موتهم مرةً واحدةً. 

لدينا آية كريمة كذلك في سورة النمل تشير إلى فزعٍ يصيب أهل السموات والأرض، يصاحب النفخ في الصور، مع وجود الاستثناء كذلك. 

(وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَٰخِرِينَ) (سورة النمل: آية 87).

إننا أمام صورةٍ مركبةٍ ومتشعبةٍ، ولكنها متكاملةٌ جدًا لتعطينا بُعدًا واضحًا للعدل الإلهي، وكيف أنّ كلّ إنسانٍ سوف يُمنح الفرصة كاملةً للتعبير عن إرادته في الاختيار. 

قد يكون الفزع هنا منصبًّا على من لم يمت من النفخ، ولكن هناك استثناء أيضًا، أو ما يمكن أن نُسمّيه استثناء الصفوة من هذا الفزع، على نحوٍ لا تصيب هؤلاء الصفوة إلا الموتة الأولى، ولن تصيبهم الموتة الثانية، ولا حتى الفزع من النفخة الثانية. الفزع هنا تحديدًا من وجهة نظري منصبٌّ على المستثنين من الصعق في عملية النفخ، ولعلهم الذين عاشوا هذه المرحلة فظنوا أنهم ميّتون مرةً أخرى، ولكنّه لم يحدث لأنّ الفزع إذا أصاب الإنسان من حادثةٍ فهو لا يزال حيًا، مثاله مَن يسمع صوت الرصاصة ولكنّها لا تقتله. النفخ الذي أزعجك لن يصعقك. سوف نأتي على ذكر السموات والأرض عندما نجيب على السؤال الهام في الفصول التالية، وهو: أين الجنة؟

دعونا نضع تصوّرًا لمرحلة البعث الأول بقدر ما أوتينا من معرفةٍ، ولا بدّ أن نشير إلى أنّ مسألة البعث الأول شديدة الوضوح من حيث المبدأ، ولكنّ التفاصيل قد تختلف عمّا تصورناه. لو أخبرت شخصًا منذ ألف عام عن الهاتف أو الطائرة لربما عدّك مجنونًا، ولو استطاع شخصٌ في العصور الماضية تخيّل وسيلة مواصلاتٍ طائرةٍ فإنّه سيتصوّرها تصوّرًا بدائيًا، مثل حصانٍ طائرٍ، ولكنّه لا يمكن أنْ يصل بفكره لفكرة الطائرة الحالية، أو الصعود إلى الفضاء عن طريق الصواريخ. نحن هنا نضع تصوّرًا بحسب المعلومات المتاحة لدينا، ولكنّ الخطوط العريضة ثابتةٌ لدينا، من أنّ مرحلةً ستأتي بعد علمٍ كثيفٍ، يصبح فيها الإنسان قادرًا على بعث الموتى من جديد.

تصوّر البعث الأول

نظرًا للتقدم الهائل الذي تشهده البشرية في الوقت الحالي، والتسارع الرهيب الذي يعتري كلّ مراحل الحياة، من حيث التغلب على الأمراض، والدراسات العميقة لعلوم الجينات، وعلوم الكون من فيزياء وكيمياء ورياضيات وشتى أنواع العلوم، أعتقد أنّ العالم في طريقه إلى إطالة عمر الإنسان إلى أمدٍ طويلٍ جدًا، بل وتجديد الخلايا وإبقاء الإنسان بحالة الشباب الدائم. مع الاكتشافات المتزايدة، وهنا أودّ أنْ أشير إلى اكتشاف تلك الشفرة المختبئة خلف كلمات ذلك الكتاب العجيب وألفاظه، والذي يحمل مفاتيح وتفاصيل كلّ شيءٍ، سوف يكون الإنسان على أبواب القدرة على إعادة الحياة للموتى، والتي لا شك سوف تَحدث على مراحل، شأن كلّ مراحل العلم. ومع الاستمرار في العلم والبحث سوف تزداد استطاعة الإنسان على إعادة الحياة للميت بصورةٍ كبيرةٍ وثابتةٍ. 

التراكم المعرفي المستمرّ قد يُمكّن الإنسان من استخدام بعض أجزاءٍ من الهياكل العظمية للبشر، على نحوٍ يستطيع بناء الجسد عليها، وعن طريق أجهزةٍ أو تقنياتٍ معينةٍ يُمكنه بثّ موجاتٍ كهربيةٍ في محاولةٍ لإعادة الحياة لهذا الجسد. إنّها عمليةٌ تشبه محاولة توصيل النفس بالجسد، أو حالة الإفاقة التي تجري بعد العمليات الجراحية. أعتقد أنّ فهم الروح والنفس وعلاقة البقر بالحياة سوف يُسهم بشكل لا مثيل له في التعجيل بأبحاث إعادة الحياة. 

قد تزداد معارف الإنسان بصورةٍ غير مسبوقةٍ، فيصبح قادرًا على إعادة الأموات في ظلّ وجود خلايا بسيطةٍ جدًا من آثارهم، بل ويمكنه من خلال هذه الخلايا إحياء أقاربهم وبناء شجرةٍ وراثيةٍ معينةٍ. لا شكّ أنّ هذه مجرّد تصوّراتٍ، ولكنّ العلم قد يتطور بصورةٍ لا يمكننا توقعها الآن.

قد تكون عملية إعادة الأموات مكلفةً للغاية في البداية، ولكنْ مع مرور الوقت قد تصبح إعادة الأموات مسألةً أرخص بكثيرٍ من تصنيع ترانسستور الآن. هنا يبرز سؤالٌ هامٌ: هل تستطيع الأرض استيعاب كلّ هذه الأعداد في ظلّ قلّة الموارد؟

الحقيقة أنّ الإشارات الإلهية المتعددة لمسألة صعق مَن في السموات والأرض وفزعهم في أثناء عملية النفخ، وكذلك التوجيه الإلهي الذي يرشد الناس لإمكانية النفاذ من أقطار السموات والأرض تدفعنا للقول إن الإنسان قد يتمكن من غزو الفضاء بل واستعماره في مراحل علم الساعة وقيام الساعة التي هي تطبيقات علم الساعة. أو حتى استطاعة الإنسان بناء مستعمرات في الغلاف الجوي أو محطات عملاقة يعيش فيها. 

لا أشكّ أنّ هناك لحظةً قادمةً لا محالة سوف يستطيع الإنسان بها التعامل مع كواكب داخل مجموعتنا الشمسية واستعمارها، بل وسوف ينطلق من هذه الكواكب إلى الكواكب المجاورة بالتسلسل، وهذه المرحلة سوف تحتاج لأعدادٍ هائلةٍ من البشر؛ للتعمير والانطلاق إلى مراحل أخرى. إنّها حدود الاستطاعة التي حثّ الله عليها الإنسان وأشار إليها. 

هذا التصوّر يعطينا لمحةً عن مهمة الإنسان الأساسية، وهي تعمير الكون والانطلاق داخله بكلّ قوةٍ وباستمرار. سوف تكون الأرض مركز انطلاق الإنسان. الأرض هي المحطة التي سوف يقف عليها الإنسان ويتطوّر بشكلٍ كبيرٍ، والتي سوف تؤهّله للانطلاق لباقي الكون. سوف نرى صدى هذا التصوّر في الفصول القادمة، من خلال آيات الله في القرآن، والذي يشير إلى تلك العمليات، وأنّ الإنسان مخلوقٌ يستطيع فعل أكثر بكثيرٍ ممّا يعتقد هو ذاته حاليًا. 

هناك أيضًا نقطةٌ قد تكون غائبةً عن كثيرين، وهي قاعدة الاختيار، والتي نرى تأثيرها في كلّ شيءٍ، أو ما يُسمى بالاختيار الطبيعي في علوم البيولوجيا الوراثية. حتى وإن كانت هذه القاعدة تشوبها بعض التشوّهات وعليها بعض الانتقادات إلا أننا نرى مضمونها متحقّقًا في كثيرٍ من أمور الحياة، بل هي من التقديرات التي وضعها الله في هذا الكون. فكلّ ما يستطيع التكيّف يستمرّ للمراحل التالية، وكل ما لا يستطيع يفني أو ينقرض. هذه القاعدة تضرب بقوةٍ العناصر الأولى المكوّنة للإنسان ذاته؛ إذ يتكوّن الجنين من بويضةٍ وحيوانٍ منويٍّ. هل تعلم أن الأنثى تحمل في المبيض ما يقارب 300 ألف بويضةٍ في سنّ البلوغ، ولا يحالف الحظ إلا عددًا قليلًا للغاية منها، ما بين الاثنين والأربعة في المتوسط، لكي يصبح الإنسان الذي تراه بعينك ويكمل مسيرة الحياة. كذلك الحيوانات المنوية لدى الرجل تبلغ ما يقارب 200 مليون حيوانٍ منويٍّ في  الملي المكعب، ولا يحالف الحظ منها إلا 1 أو اثنين أيضًا، وهو ما تراه إنسانًا كاملًا يكمل مسيرة الحياة. هذه القاعدة العجيبة في الاختيار من بين كثيرين، لماذا يظن الإنسان أنها لن تنطبق عليه في المراحل المتقدمة، مع وجود تأكيداتٍ كثيفةٍ على أن الأكثرية لا تعقل ولا تعلم ولا تشكر؟ لا أستبعد أبدًا أن يكون معدل الانتخاب الطبيعي قليلًا للغاية في البعث الأول؛ اعتمادًا على عوامل عديدةٍ، منها: مدى صلاح هذا الإنسان، أو مدى تطبيقه لمبدأ الحيادية والإنصاف في حياته. وسوف نعود مرةً أخرى لهذه الجزئية في الفصل القادم، عندما نتناول مفهوم (الآخرة). 

لعلّ قارئًا متعجلًا يعتقد أنّ تصورًا كهذا هو تصورٌ إلحاديٌّ، لأنّه يلغي تمامًا فكرة الإله، ويجعل كلّ شيءٍ يسير برغبة الإنسان وقدرته. هذا التعجّل مصيبةٌ، لأننا نشير إلى أنّ هذا هو التوجيه القرآني كما نقرؤه، وانّ صورة الإله المجسّدة الراسخة في عقول التراثيّين هي ما ننفيه، ونثبت صورة الإله كما نقرؤها في كلماته التي أنزلها بين سطور كتابه، ولسنا مسؤولين عن تصوّراتٍ بشريةٍ وتعصّباتٍ قبليةٍ ضيّقةٍ، ترى الدنيا والكون ما هو إلا أرض قبيلةٍ والإله شيخ هذه القبيلة.

إنّنا نرى أنّ الإله رعى الإنسان ورعى تطوّره من خلال وحيٍّ مباشرٍ لبعض خلقه الذين يستحقون ذلك بسبب شخصياتهم الفريدة؛ فأجرى على أيديهم تغييراتٍ مفصليةً في تاريخ البشرية، وهم الأنبياء، ولكنّ هؤلاء الأنبياء ليسوا إلا حلقةً من حلقات هذا التطور المتسارع، وليسوا حكمًا على المستقبل ولا أهله، ولا هم شركاء في الحكم مع الإله. لقد وضحَت الصورة لدينا، ونرى أنّ الإنسان سيكون أداة الله في هذا الكون الفسيح، أو أحد أدوات الإله، وهو يُعَد لذلك على قدمٍ وساق. 

هذا التطور لن يقوم به إلا الصّفوة أو الصالحون الذين يستحقّون هذه المهمة النبيلة، هذا وعد الله أنّ الأرض يرثها عباده الصالحون. أمّا الناكصون على أعقابهم، والذين لا يعرفون مراد الله منهم، ويعادُون سير الحياة، فليس لهم مكانٌ في هذه العملية التي تجري منذ جعل الله في الأرض خليفة. عندما قال إبليس لآدم: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكَين أو من الخالدين، كان يبدو أنّه يعرف ما سوف يؤول إليه مصير الإنسان، وأنّه سوف يكون ذا شأنٍ عظيمٍ مثل الملائكة أو خالدًا، فحاول استغلال هذه النقطة، ودفع آدم لتعجّل الأمر والسقوط في الاختبار الأول. لكنْ لأنّ الله يعلم أنّ هذا الإنسان يستطيع حمل الأمانة رعاه خطوةً بخطوةٍ، حتى وصل هذا الإنسان لمرحلةٍ ناضجةٍ تُمكّنه من فهم ما عليه عمله وإدراكه. تبدو الأمانة التي حملها الإنسان هي الانطلاق وتعمير الكون باستمرارٍ والحفاظ على هذا الكون والعناية به، من خلال علمٍ متنامٍ ومعرفةٍ متراكمةٍ، وفهمٍ لدوره ومكانته في هذا الكون. 

(إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (سورة الأحزاب: آية 72). 

 لقد حيّرت هذه الآية كثيرًا من المفسرين في سبيل فهم ما هي (الأمانة)؟ ولكن عندما ندرك أن الأمانة بطبيعتها هي ما يحتاج للحفظ وعدم العبث، ثم ضمّ هذه المعطيات للآيات التي تتحدّث عن دور الإنسان في الكون ومدى استطاعته، سوف ندرك معنى الأمانة بكل إنصافٍ. إنها الكون بما فيه، ويجب أن يفهم الإنسان هذا جيدًا، ويدرك مكانته في هذا الكون بوصفه حاملًا للأمانة، وليس سيدًا للمخلوقات. سوف يتضح هذا المعنى عندما نأتي على المدلول المذهل للحج، وعلاقة الحج بالأنعام والكون. 

 لماذا الإنسان؟ وهل يحتاج الله للإنسان لتعمير الكون؟ ولماذا كلّ هذا العناء؟

الإجابة عن مثل هذا السؤال تكمن في الفرق بين مفهوم القدرة والاستطاعة، والذي تناولناه في الفصل السابق. كذلك فهم الصيغة التي يصف بها ربنا الأفعال، وهي في الغالب صيغة (نحن) و(نا) الفاعلين، والتي تشير إلى الملأ الأعلى أو أدوات الإله. أمّا صفاته العليا وذاته فهي التي تُقدّر الأشياء وتحيط بكل شيء، وقد أعطتْ لنا سورة الإخلاص نبذةً غاية في الروعة عن تفرّد الإله الذي ليس كمثله شيء. 

سورة الإخلاص 

من أسماء السور العجيبة سورة الإخلاص، لأنّ السورة نفسها لا تحتوي هذا اللفظ ضمن ألفاظها. وتتضمّن سورة الإخلاص أربع آيات كريمة: 

(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)) (سورة الإخلاص: آيات 1-4)

سوف نتطرّق إلى آيتين فقط من آيات هذه السورة العظيمة، والتي تؤسّس وتشير إلى قانون الوجود الأوحد، عندما أشارت إلى أصل كلّ شيءٍ. دعونا في البداية نحاول فهم الإخلاص والمقصود من التّسمية. 

لفظ (خلص) هو تنقية الشيء كما جاء في قواميس اللغة؛ ولذلك فإنّ (الإخلاص) هو النقاء، والنقاء في حدّ ذاته هو إرجاع الشيء إلى أصله الأول. سوف ندرك أنّ أوّل آيتين تتحدثان عن صفتين متفردتين للخالق، هما منبع كلّ شيء. 

·        الصفة الأولى هي الفردية، والتي عبّرت عنها الآية الأولى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)

هناك فروقٌ عديدةٌ بين لفظ (أحد) ولفظ (واحد)، لكنّ ما يعنينا هنا هو أنّ لفظ (أحد) لا تجري عليه العمليات الحسابية بخلاف الواحد، بمعنى أنّ الأحد لا يقبل الجمع. الآية الكريمة تُمثل الأصل الأول الذي يرجع إليه كلّ شيء وهو الفردية المطلقة، والتي هي صفة الخالق حصرًا. من هنا يمكننا القول إنّ الفردية المطلقة مستحيلةٌ في الموجودات. لن نستغرق وقتًا طويلًا لِندرك أنّ قانون جميع الموجودات هو قانون الزوجية، وقد عبّر ربنا عن ذلك في سورة الذاريات: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة الذاريات: آية 49). 

·        الصفة الثانية هي صفة الصمدية؛ والتي جاءت في الآية الثانية (الله الصمد)

أصل كلمة (صمد) الصلابة، ومن خلال تتبع الكلمة سنجد أنها تعني الثبات مع الاستقرار، ومنها جاء الصمود، وهو البقاء في وضع الثبات والاستقرار. هل تعرف معنى ذلك؟

معنى ذلك أنّ الأصل النقي الثاني هو الثبات والاستقرار، وهو خلاف الحركة. من هنا يمكننا القول إنّ الأصل هو السكون (الاستقرار والثبات) والحركة طارئٌ، وهذا مبدأٌ قد يُغيّر نظرتنا لكثيرٍ من الأشياء. 

طالما أنّ الأصل هو السكون فلا يمكن للموجود (المخلوق) أن يكون ساكنًا بشكل مطلق، ولا بدّ أن يكون متحركًا. 

النظرة السائدة هي أنّ السكون يعني الانهيار، لكنها تبدو نظرةً ضيقةً بعض الشيء، فليس هناك سكونٌ مطلقٌ، بل هناك تحرّكٌ وتحوّلٌ وتغيّرٌ في حالة (الحركة). 

هذه الفرضية يُصدّقها قول الله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء: آية 44). 

التسبيح في حد ذاته هو الحركة المستمرة للموجودات، والذي تناولنا مدلوله في أكثر من موضعٍ. 

أودّ أن أضع هنا ملاحظةً على نظرية الانفجار الكبير، التي تنصّ على أن الكون كان بالماضي في حالةٍ حارةٍ شديدة الكثافة فتمدّد، وأن الكون كان يومًا جزءًا واحدًا عند نشأته. بعض التقديرات الحديثة تُقدّر حدوث تلك اللحظة قبل 13.8 مليار سنةٍ. يقول العلماء: إن الكون آخذٌ في التسارع نتيجةً للانفجار الأول، وهناك عددٌ من الاحتمالات لمصير الكون بناءً على هذه التصورات، والتي لن أخوض فيها هنا. ما أودّ تسجيله فقط أنّ الكون ربما لم يحدث له انفجارٌ، وإنما تمدّد من السكون الأول، أو بدأ من سرعة صفرٍ ثم أخذ في التسارع. الانفجار يجعل المكونات تصل إلى سرعةٍ نهائيةٍ في البداية، ثم تأخذ في التباطؤ. ما أعتقده أن التسارع بدأ من السكون لكي يصل إلى لحظة اتزانٍ ثم يعود للتباطؤ مرةً أخرى. هذا مجرد تصوّرٍ، وليس عليه دلائل كاملةٌ، ولكني وددتُ تسجيله هنا من ضمن ملاحظاتي على لفظ (الصمد). 

ملخص ما أرغب في قوله هنا أنّ هناك اعتقادًا لدى كثيرٍ من العلماء بوجود قانونٍ واحدٍ يربط كلّ مكونات الكون بعضها ببعض. سورة الإخلاص إن لم تكن قد أشارت إلى هذا القانون كاملًا، فقد أرشدت إلى اثنين من أهمّ دعائم هذا القانون. قانون الزوجية والأصل هو الفردية. قانون الحركة والأصل هو السكون. 

النقطة الثانية تحديدًا قد تثير شهية علماء الطبيعة، لفهم كيف يمكن للسكون أن يكون أصلًا، وأنّ الحركة طارئةٌ، وربما ترتّبت أشياء أخرى كثيرةٌ بناءً على هذا المفهوم. 

 لعلّ فهم الفرق بين الذات والأفعال يجعلنا نفهم بصورةٍ سليمةٍ دور الإنسان في هذا الكون، وأنه ليس عبثًا وليس خلودًا بلا هدف، أو جنّةً مترامية الأطراف بسبب بعض الطقوس. الصورة التراثية للإله جعلت الجنة مكافأة نهاية الخدمة للإنسان، وتحتل جزءًا يكاد يكون مهملًا من الكون. لو طبّقنا قانون النسب في شكلٍ يستدعي مئات الأسئلة: لماذا نحن هنا؟ ولماذا نحن تحديدًا؟ وماذا عن باقي الكون المترامي الأطراف؟ وهل سوف ننتهي بالموت؟ وهل حقًا بعد الموت استمتاعٌ لا نهائيٌّ نظير بعض الطقوس؟ 

شكل الاستمتاع غير النهائي مزعجٌ لبعضهم، إذ إنّه يجلب إلى الأذهان العبثية. هل جئت لهذه الحياة لأقوم ببعض الطقوس ثمّ أموت وأحيا لأجد نفسي في متعةٍ لا نهائيةٍ، ولا أعرف لماذا جئت، ومتى، ولماذا أستمتع؟ 

القرآن أجاب عن هذه التساؤلات، والتي بدتْ غير التي ترسّخت في العقول، ومازال هناك كثيرٌ من الخبايا التي تبحث عن مَن يفكّ رموزها؛ لنفهم بصورةٍ أكثر اتساقًا ومنطقيةً لماذا نحن هنا. 

إذا كان عملنا أننا سوف نكون أداةً من أدوات الإله، بل سوف ندخل في زمرة (نحن) أو جنود ربك؛ من أجل تعمير الكون والانطلاق داخله، وقد تكون هناك وظائف لا نعلم عنها شيئًا اليوم، وربما مع تطوّر المعرفة تتكشّف لنا كثيرٌ من الأمور. فكّ رموز كلمات هذا الكتاب سوف يخبرنا كثيرًا مِن الذي سوف يُمكّننا من الإجابة بدقةٍ عن كثيرٍ من الغموض الذي يلفّ مصيرنا وحياتنا. 

معضلة الذُرية (التناسل)

إحدى تلك المعضلات المحيّرة والتي يمكن أنْ تكون قد كشفت عن نفسها بفهم البعث الأول، وقدرة الإنسان على إحياء إخوانه من البشر السابقين، هي: لماذا يندفع الإنسان غريزيًا إلى التكاثر والذرية؟ 

رغم أنّ الحياة تبدو متعبةً في كثيرٍ من الأحيان، بل إنّ الموت الذي ينتظر الإنسان في النهاية يجعلها مؤلمةً وتدفع الإنسان إلى تجنّب الذرية إلا أنّ ما يحدث هو خلاف ذلك. ما الذي يجعل الإنسان يضحّي بكثيرٍ من راحته وأمواله في سبيل أنْ يُربّي طفلًا؟

حلّ هذه المعضلة سوف يُفسّر لنا: لماذا عند قيام الساعة سوف تَذهل كلّ مرضعةٍ عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذات حملٍ حملها. سير الحياة هو التطوّر باستمرارٍ، والإنسان غريزيًا يحاول الوصول لمرحلة الخلود، أو على الأقل مرحلة البعث الأول. لذلك كان أمر التناسل أيضًا غريزيًا جدًا. لكنْ كيف يمكن للإنسان أنْ يصل إلى هذه المرحلة؟

لا يمكن الوصول إلى هذه المرحلة إلا من خلال تطوّرٍ مستمرٍّ وتراكمٍ معلوماتيٍّ متواصل، وهذا يتطلّب أجيالًا عديدةً على نحوٍ يفوقُ كلُّ جيلٍ الجيلَ الذي سبقه. كلّ جيلٍ يتقدّم خطوةً ويأتي بعده جيلٌ آخر يكمل المسيرة، ويضع لبنةً أخرى في مسيرة البشرية هذه. إنها تفاعلاتٌ متسلسلةٌ نفعلها دون وعيٍ كاملٍ منا، فنحرص على أنْ يكون لنا امتدادٌ يكمل المسيرة بأفضل ممّا بدأنا. 

هذه هي الطريقة الوحيدة الضامنة لوصول الإنسان لمرحلة علم الساعة، أو الحدود القصوى للعلم، والذي معه سوف يتمكّن من إعادة إحياء أسلافه مرةً أخرى. الإنسان الذي يسعى للذرية بكلّ قوةٍ هو في الحقيقة يسعى لإنقاذ نفسه من العدم، أو الدفع باتجاه إعادة حياته مرةً أخرى. الإنسان حريصٌ كلّ الحرص على أنْ يكون له أطفالٌ، وحريصٌ على أنْ يكون أطفاله أفضل منه ثقافيًا ومعرفيًا؛ لأنّ هذه هي الطريقة الوحيدة الضامنة للوصول لمرحلة البعث. تبدو هذه الرغبة مسجلةً في اللاوعي لدينا، ونسعى بكلّ قوةٍ إليها، حتى أنّنا لا ندري لماذا هذا السعي الحثيث والرغبة الجارفة نحو الذرية. 

فهم البعث الأول بل قدرة الإنسان على إحياء الموتى فسّر لنا كثيرًا من الأمور العجيبة، وهي إصرار الإنسان على ترك أثرٍ بعده، بل تُفسّر لنا قول الرسول الكريم الذي وضّح لنا انقطاع عمل ابن آدم بعد موته إلا مِن ثلاث: ولدٍ صالحٍ يدعو له، وصدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ يُنتفع به. إنّه الأثر الذي سوف يدلّ عليه، أو الذي سوف يُعجّل بإعادة الحياة مرةً أخرى، دون أن يكون واعيًا تمامًا بذلك. 

يبدو لي أنّ شواهد القبور وإصرار الإنسان على حفظ جسده بعد مماته، بل والدفن في مكانٍ معلومٍ هو نتاج هذه الغريزة غير المعروفة، والتي تدفع الإنسان لكي يساعد القادمين من المستقبل لاكتشاف مكان موته وإعادته للحياة مرةً أخرى. 

هناك آياتٌ كثيرةٌ تشير إلى أنّ للعظام دورًا في عملية البعث، ولعلّ البعث الأول سوف يكون محدودًا بعلمٍ وقدرةٍ معينةٍ، أهمها وجود أثرٍ أو دليلٍ ماديٍ على الإنسان المراد إحياءه. لعلّ ضياع أثر الإنسان أو عظامه أو أيّ دليلٍ يمكن أن يقود إليه هو ضياع فرصة الإنسان في البعث الأول على الأقل، أمّا البعث الثاني وهو النفخ في الصور، والذي سيكون شاملًا لكلّ المخلوقات بغضّ النظر عن الأثر، هو الفرصة الوحيدة له. لعلّ الإنسان يريد غريزيًا أن يأخذ فرصةً أخرى؛ لعله يُصلح فيها ما فاته، لذلك تجده مشغولًا بترك أثرٍ، سواء كان ماديًا يدلّ عليه، أو معنويًا يُذكّر الناس به.

يبدو مع مرحلة قيام الساعة وظهور الحقيقة وتطبيق علم الساعة، والذي من أهمّ بنوده حياةٌ مستمرةٌ وإعادةٌ للموتى، أن غريزة الذرية سوف تصبح ضعيفةً للغاية أو قد تتلاشى، وسوف يزهد الإنسان في أن تكون له ذريةٌ؛ لأنّ الهدف قد تمّ، ولا حاجة لمزيدٍ من التعب والإرهاق. هذا ما يفسر لنا لماذا سوف تتفكك العلاقة بين الأم تحديدًا وبين جنينها أو رضيعها؛ لأنها هي التي تُعاني التعب وأقصى درجات الإرهاق في هذا الأمر. 

من الملاحظات العجيبة والتي جعلتني أتوقّف أمامها كثيرًا هي ملاحظة التحنيط، التي كان يقوم بها المصريون القدماء، والتي بدا أنها على علاقةٍ وثيقةٍ بعملية البعث الأول. 

المصريون القدماء 

إنه لشيءٌ يدعو للتفكير بعمقٍ، تلك المشاهد التي تركها لنا القدماء المصريون، إذ كانوا حريصين كلّ الحرص على حفظ جثث موتاهم، وحفظ أدواتهم الدنيوية معهم.

هذا التاريخ المزوّر الذي لا بدّ من مراجعته، والذي صوّر أنّ هؤلاء القوم وثنيّون، وأنّهم رغم مظاهر التقدم كانوا يعبدون عددًا من الآلهة، ولغتهم غريبة ولا تتماشى مع مظاهر الحضارة التي تركوها خلفهم، قد نعود إليها في كتابٍ قادم.

اعتناء القدماء المصريين بشكلٍ خاصٍ بحفظ الجثث، وحفظ الأدوات الحياتية وخاصةً الذهب، بدا لي أنّه على علاقةٍ بمعرفتهم أنّ هناك بعثًا دنيويًا سوف يحدث في آخر الزمان، وأنّ الإنسان سوف يستطيع الحياة مرةً أخرى، فحاولوا تقديم المساعدة قدر الإمكان، بحفظ الهيكل العظمي على الأقل وأكبر قدرٍ من الجسد بشكلٍ سليمٍ، ثم هداهم تفكيرهم إلى حفظ بعض الأدوات التي قد يحتاجونها في ذلك الوقت. لا أرى أنّ هذا الفعل كان فعلًا ساذجًا؛ بل أراه كان على خلفيةٍ معرفيةٍ لم تتوافر لنا، ولم تكن لتتوافر لنا إلا من خلال قراءةٍ متأنيةٍ لكلمات الله في القرآن. 

بعد هذا الكتاب، أعتقد أنّه لا بدّ أنْ يعتني الإنسان بعملية الدفن بشكلٍ أكثر رقيًا ممّا يجري الآن، وأنّ الذين يلجؤون إلى حرق الجثث، والتخلّص من كلّ بقاياها عليهم مراجعة الأمر مرةً أخرى. 

لعل هذا الفصل يُلقي الضوء على أهمية تطور البشرية، وأهمية أنْ نعمل سويًا في تكاتفٍ حتى نصل إلى مرحلة البعث الأول على الأقل، وأنْ تكفّ البشرية عن التجاذب والتشاحن، والعمل على الدفع بقوةٍ في اتجاه العلم والمعرفة. كذلك يتّضح جليًا جريمة أولئك الذين يُصرّون على تفاعل العصور السابقة، ويحاولون استدعاء الماضي ويستميتون في ذلك مقابل المستقبل، وكيف أنّ هؤلاء يجرّون البشرية إلى الماضي، ويُعطّلون مسيرتها. كذلك يمكننا فهم لماذا توعّد الله أولئك الذين يكذبون آيات الله بغير علمٍ ولا هدىً، سواءٌ تلك الآيات اللفظية، مثل الآيات في كتابه، والتي تحمل معلوماتٍ ودلائل على الكون، أو الآيات الكونية، والتي تظهر على أيدي علماء الطبيعة، مثل التطور وعلوم الفلك. الذين يقفون حجر عثرةٍ أمام آيات الله، ويسعون في حشد الناس ضدّها هم شرٌّ مكانًا وأضلّ الناس سبيلًا. 

الفرق بين (القبور) و(الأجداث)

ارتبط الموتى وإعادتهم في كتاب الله بلفظين هما (القبور) و(الأجداث) فما الفرق بينهم؟ ذُكرت (القبور) في كتاب الله في خمسة مواضع، ارتبط بعضها بالبعث، وجاء لفظ (بعثر) مرتين مرتبطًا بالقبور في سورة الانفطار وسورة العاديات. (وَإِذَا ٱلۡقُبُورُ بُعۡثِرَتۡ)(سورة الانفطار: آية 4)(أَفَلَا یَعۡلَمُ إِذَا بُعۡثِرَ مَا فِی ٱلۡقُبُورِ)(سورة العاديات: آية 9).

لفظ (بعثر) يتكون من لفظ  (بعث) وهو الإثارة، بالإضافة إلى حرف الراء الذي  يضيف خاصيةً جديدةً للفظ. كذلك لفظ (عثر) له أصلٌ وهو الاطلاع على الشيء. من خلال المقاربة بين الجذرين (بعث) و(عثر) نستطيع القول إن (بعثر) يفيد الاطلاع على القبور، لغرض بعث وإثارة مَن فيها. جاء لفظ (ما في القبور) ليشير أن بداخلها شيئًا ما، وهو لا شكّ بقايا الميت. هذه النتيجة من خلال المعطيات السابقة تؤكد لنا أنّ استطاعة الإنسان إعادة الحياة للموتى تتطلب وجود شيءٍ ماديٍّ لكي يستطيع إنسان العصر القادم إعادة الحياة للميت.

عندما حاولنا فهم ما يدلّ عليه لفظ (الأجداث) لم نجد سوى أنه القبور في المعاجم، ولم يزد أحدٌ على ذلك، وأظن هذا المعنى إنما تم استقاؤه من الآيات التي تتناول الأجداث في القرآن. لكن بالنظر إلى اختلاف لفظ (القبور) ولفظ (الأجداث) سندرك الرسالة التي يريد الله أن يُطلعنا عليها بأن هناك أمرًا مختلفًا، وليست القبور كلّها أجداثٌ. 

في محاولةٍ لفهم لفظ (الأجداث) وجدنا لفظًا مقاربًا في الصوت، وهو لفظ (جدس) بحرف السين. (جدس) له أصلٌ صحيحٌ، ويعني ما لا شيء فيه، ويُقال أرضٌ جدسٌ بمعنى أرضٌ لا نبات فيها. كذلك جاء لفظ (الأجداث) في كتاب الله مرتبطًا بلفظ (ينسلون)، وينسل هو انسياب شيءٍ من شيءٍ آخر؛ ممّا يشير إلى أن هذه الأشياء مختلطةٌ ببعضها بقدرٍ ما. 

(وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یَنسِلُونَ)(سورة يس: آية 51). 

نؤيّد بقوةٍ أن لفظ (الأجداث) يصف حالةً قديمةً جدًا للمتوفَّين، على نحوٍ لم يتبق منهم شيءٌ، أو أنّ مكوّّناتهم اختلطت بمكوناتٍ أخرى، فأصبح من الصعب التفريق بين المكونات بعضها من بعض. تعبير (إذا نفخ في الصور) كذلك يدفعنا للقول إن الخروج من الأجداث هو الحالة الثانية التي سوف يجمع الله فيها كل الناس بلا استثناءٍ. من هنا أجد أن الإنسان عليه الانتباه بشدةٍ لهذه المسألة، والاعتناء بعملية الدفن قدر المستطاع؛ لأن أمرًا عظيمًا في المستقبل ينتظره. 

القرآن يحمل مفاتيح حياة الإنسان وسعادته، فمن يحاول جهده ويسعى للمعرفة سوف يحيا حياةً سعيدةً في الدنيا، بل ويستطيع بصورةٍ كبيرةٍ أن يساهم في عودته للحياة الآخرة. ومَن لا يهتمّ يكفيه حزنًا وبؤسًا وشقاءً أن يفوّت على نفسه فرصًا ثمينةً من سعادة الدنيا وحظ العودة للآخرة. لا شك أنه بالقدر الذي يسعى فيه الإنسان للمعرفة بقدر ما يسعد، وبقدر ما يغفل ويستسهل التقليد بقدر ما يُكدّر حياته، ثم يعتقد كما صبّوا في آذانه أنه ابتلاءٌ من الله. يكفي هؤلاء عقابًا أن يعيشوا في نكدٍ ويموتوا في جهلٍ، ثم ينتبهوا على حقيقة أنهم كانوا يظنون أنهم يحسنون صنعًا.

لا أقول لكم إنّ ما أقوله حقائق واقعةٌ لا تقبل النقد، بل أقول لكم أن تبذلوا الجهد في الفهم والمعرفة؛ لأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يسلكه الإنسان للسعادة. 

نأتي الآن للسؤال عن نتيجة هذا العلم، وهل يمكن أن يؤدي هذا العلم إلى غرور الإنسان وكفره في نهاية الأمر؟

الشواهد تشير إلى أنّ البشر –غالبًا- عندما يطول عليهم الأمد يتناسون ويُصيبهم الغرور. لا شك عندي أن الإنسان سيصيبه بعض الغرور، وسوف يعتقد بأنّه أصبح قادرًا على الأرض كما بيّنا ذلك في الجزء الأول من سلسلة تلك الأسباب، وهي مرحلة ظنّ القدرة والامتلاء المعرفي، وعندها سوف تأتي –كما أعتقد- مرحلة الخراب أو تدمير ما على الأرض كما بيّنا. في كلّ عصرٍ سيكون هناك الصالحون وهناك المكذّبون والمعاندون والمغرورون رغم جلاء الحقيقة ووضوحها. كذلك لدينا آيةٌ قرآنيةٌ تخبرنا أنّ الأرض يرثها عباد الله الصالحون، فكيف يُمكننا فهم هاتين الآيتين جنبًا إلى جنب؟ 

(وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ)(سورة الأنبياء: آية 105).

(نَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارࣰا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدࣰا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ)(سورة يونس: آية 24)

الوعد العام هو أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، أما غرور أهل الأرض فهو حالةٌ طارئةٌ، فإذا عاد الناس عن غرورهم عادت الأرض لطبيعتها. ميراث الأرض لعباد الله الصالحين لا ينفي غرور الناس وارتكانهم لما بين أيديهم، ومن ثم يظنون الاكتفاء، وهنا تحدث الفواجع؛ لكي تذكرّ الناس بأن اطمئنانهم زائفٌ. 

الموضوع له جوانب متعددةٌ، وسوف نقدّم مزيدًا من التفاصيل في الفصول القادمة على مثل هذه الجزئيات، عند التعرّض لمفهوم (الآخرة) ومفهوم (القارعة) ومفهوم (القيامة). الأمر متشعبٌ للغاية، ولكنّه على ذلك منسجمٌ مع بعضه بعضًا، ويفسّر بعضه بعضًا. 

يتبقى لنا إشارةٌ خفيفةٌ لمسألة عودة المسيح وظهور المسيخ الدجال التي تملأ التراث الديني عند المتدينين التقليديين، إذ يمكننا الآن فهم من أين جاءت هذه الأسطورة. 

عودة نبي الله عيسى

من خلال آيات القرآن وتعبير توفيتني الذي تم مناقشته من قبل لا أرجّح أبدًا عودة نبي الله عيسى، ولكنْ قد يكون المقصود هو عودة حالة نبي الله عيسى. هذا يعني استطاعة الإنسان تفسير كلمات الله بشكلٍ سليمٍ وصحيحٍ، والذي سوف يتزامن مع علم الساعة. علم الساعة سوف يؤدي إلى تقدّمٍ علمي لا مثيل له، وظهور آياتٍ كالتي جاء بها نبيّ الله عيسى، وهي خلق حياةٍ وإحياءٌ للموتى. 

قد يقول بشرٌ إنّ هناك شبه إجماعٍ في كثيرٍ من المعتقدات على عودة المسيح، أو أنّ بعض الاعتقادات تزعم أن نبي الله عيسى قال كلامًا فُهم بأنه سوف يعود بشخصه. يبدو واضحًا أنّ ما قام به نبي الله عيسى هي خوارق آخر الزمان، والتي سوف تجري على يد الإنسان، ونبي الله عيسى كان تدريبًا عمليًا على ذلك. فكرة نزول المسيح في آخر الزمان عليها إشكالاتٌ لا حصر لها؛ فلو نزل فعليًا فعلى أيّ هيئةٍ ينزل، هل ينزل بصفة إنسانٍ عاديٍّ أم ينزل نبيًّا؟ 

لا يمكن أن ينزل عيسى مرةً أخرى على هيئة نبيٍّ؛ لأن القرآن ختم هذه الحقبة بقول الله: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحَدࣲ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣰا)(سورة الأحزاب: آية 40). 

سيجد التراثيّون تخريجًا لهذه المعضلة، بأن يقولوا سوف ينزل بشريعة النبي محمدٍ ويحكم بها، ويصبح تحت لواء النبي محمٍد. هذا الادعاء ليس عليه أيّ دليلٌ، ولا يوجد له تبريرٌ، فكيف لنبيٍّ أن ينزل إلى الحياة فاقدًا أهمّ صفةٍ تعظيميةٍ نالها وهي النبوة، ولماذا ينزل هو ويحكم بشريعة النبي محمدٍ؟ لمَ لا يعود النبي محمدٌ نفسه، أو يحييه الله مرةً أخرى؟ كيف نسي القرآن أن يستدرك ويقول إن محمدًا ليس آخر الأنبياء، لأن عيسى ما زال حيًا، وسوف يعود آخر الزمان؟

كيف تعود الحياة لمراحل بدائيةٍ انتهت بنص القرآن؟ وهل هذا يؤيد تطوّر الإنسان ورقيّه الذي يشير إليه القرآن دائمًا ويخبر عنه؟ تحليل الآيات القرآنية يخبرنا أن الحالة التي حدثت على عهد نبي الله عيسى سوف تتكرّر، ولكنها على يد إنسان ذلك العصر، وليس عيسى نفسه مَن سوف يعود. وإلا فيجب أن يعود التاريخ مرةً أخرى، وتفقد البشرية سبب وجودها، وتصبح عالةً وفاسدةً لا صلاح يرجى منها، إذا احتاجت بعد كل هذا العصر لأنبياء تقوّمُها بعد أن ختم الله بنصّ القرآن نزول الأنبياء. 

المسيخ الدجال 

تقول أسطورة المسيخ الدجال إنّه رجلٌ أعور، يستطيع أن يُحيي الموتى، وهذه أعظم الفتن التي سوف تواجه الإنسان. لا شكّ -كما ذكرنا- أنّ هناك علاقةً بين المسيح عيسى ابن مريم وقدرته على إحياء الموتى ولفظ (المسيخ)، والذي يبدو بوضوحٍ أنه استنساخٌ لحالة عيسى ابن مريم. إنّه التراث البشريّ عندما ينتقل من جيلٍ إلى جيلٍ، ويضع البشر تصوراتهم فتتحوّل الحقائق إلى أساطير. 

مسألة إحياء الموتى وخلق الحياة هي ما سوف تتحقق، ولكن سوف يستمرّ أهل الإيمان والصلاح في اعتقادهم بوجود الإله القدير العليم رغم تحقّق مثل هذه الأشياء الخارقة على يد البشر، في حين يكفر كلّ مرتابٍ، ويعاند كلّ متكبّرٍ، وقد يعتقد بعضهم أنه لا إله، أو أنّ الإنسان هو سيد الكون وإلهه. 

سنحاول شرح كيف عرفت أسطورة المسيخ الدجال طريقها إلى التراث الديني، بعد أن تمكّنّا من فهم استطاعة الإنسان إحياء الموتى وخلق الحياة، وكيف يمكن أن يُسبّب هذا فتنةً عظيمةً لكلّ مرتابٍ. 

يبدو لي أنّ الأمر كان موجودًا في كتب الله السابقة، وأشار الأنبياء إلى هذا الأمر بصورةٍ ما، ولكنّ قدرة البشر على استيعاب الأمر لم تكن بالقدر الكافي، فلم يستوعبوا أنّ البشر في آخر الزمان قد يستطيعون إحياء الموتى، فحوّلوا الأمر إلى أسطورة المسيخ الدجال.

يبدو الأمر أنّ هذه القدرة رغم كونها قدرةً فائقةً فهي سوف تتسبب في إيمان بعضهم، لا سيما الذين يتابعون علم الساعة، وكيف أنّه جاء من كلمات الله، وأنّ كلمات الله أخبرت بهذا العلم بوضوحٍ، لكنْ في الوقت نفسه سوف تتسبّب هذه الأفعال ذات العلم الفائق باستمرار فئةٍ من الناس في إنكار وجود الخالق، ونسبة ذلك إلى العلم أو إلى الكفر الصريح. 

قد يكون المسيخ الدجال فكرةً سوف تترسخ في عقل كلّ مرتابٍ عندما يتمّ خلق الحياة وإحياء الموتى على يد البشر، فذلك يعني لهم أن البشر ذاتهم هم الإله، أو أن ذلك إعلانٌ لموت أسطورة الإله كما يذكر بعض الفلاسفة. 

ما بين حياتنا الدنيا والبعث الأول غمضة عينٍ، أو كأنّه يومٌ أو بعض يومٍ، إنه وعد الله، والله لا يخلف وعده. لا أعتقد أنّ من مات سوف يشعر أنه مات؛ لأنّ تعطل الوظائف سوف يُغيّب الوعي تمامًا، ولكن مع البعث سوف يفيق الميت ويدرك ساعتها أنه مات فعلًا، وأنه لبث في كتاب الله إلى يوم البعث. 

قصة أصحاب الكهف الذين لم يدركوا عدد سِنيِّ مكثهم في الكهف، وكذلك الرجل الذي أماته الله مئة عامٍ، يدفعنا للقول إن الميت في الغالب لا يدرك أنه مات (أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِا۟ئَةَ عَامࣲ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ یَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰاۚ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ)(سورة البقرة: آية 259). 

يبدو الأمر لي أشبه بمن يدخل عمليةً جراحيةً، فلا يشعر أنه غاب عن الوعي وأنّ العملية الجراحية جرت إلا بعد إفاقته. كذلك مَن يتعرّض لحادثةٍ ويغيب عن الوعي فهو لا يدرك ماذا حصل، ولا كم لبث إلا عند إفاقته. كذلك الموت وكل ما يقال خلاف ذلك هو محض تخمينات. لكي يدرك الإنسان ويكون واعيًا يحتاج إلى جسدٍ ماديٍّ وروح ٍتتفاعل مع هذا الجسد، حتى يشعر الإنسان ويدرك. في السابق وقبل فهم ماهية الروح والنفس كان يمكن قبول أنّ الإنسان قد يشعر أنه مات؛ إذ يعتقد بعضهم أن النفس هي من تشعر وتدرك.

الآن وبعد فهم الروح والنفس لا سبيل لمثل هذه الادعاءات، بل أؤيّد بشدةٍ أن الميت لا يشعر أنه مات بالفعل. قد يشعر الإنسان بأنه سوف يموت، ولكنّ شعوره بأنه مات فعليًا لن يتحقّق إلا عند بعثه. الحياة ليست عبثيةً، ولا هي قصةٌ من قصص ألف ليلةٍ وليلةٍ؛ وإنما لها هدفٌ وغايةٌ تسير نحوها، ومن مات انتهت فرصته في الحياة الدنيا، ولينتظرْ فرصته الثانية في الحياة الآخرة إن كان يستحق. قد يقول بعضهم: ولكنْ من المنطقيّ أن يتعذّب المجرم بما فعل. نعم، العذاب واردٌ، ولكن بعد الحساب، وبعد إجراء محاكمةٍ. وحتى لفظ (العذاب) ذاته له معنىً عميقٌ سوف نتناوله في الفصول القادمة بغير ما تعارف الناس عليه. 

مسألة أنّ الإنسان يشعر أنه مات، وأنه يشعر بالإحياء، منافٍ تمامًا لمفهوم الروح الذي شُرح، ويُحوّل كل العقلانية والمنطقية التي يتحدث بها القرآن ويخاطب بها الناس إلى هباءٍ منثورٍ. 

فيا من فقدت عزيزًا أو تظنّ أنّ الحياة قد توقّفت عندما فقدتَ أحد أحبّائك، أو تخشى الموت، ما هو إلا يومٌ أو بعض يوم، ثم تفتح عينيك على عالمٍ آخر يستقبلك فيه آخرون أكثر رقيًا أخلاقيًا وتطوّرًا، يرحبون بك في البعث الأول لتستكمل فرصتك تمامًا، بعيدًا عن أيّ مؤثّراتٍ أو ظروفٍ قد تحول بينك وبين ما تريد فعله اليوم. سوف تكون حرًا تمامًا، وسوف تفاجئك التطوّرات والمغريات، فتذكّر ذلك جيدًا وكن مستعدًا لذلك اليوم. 

الضامن الوحيد للوصول لهذا اليوم هو أنْ تكون مبصرًا واعيًا في هذه المرحلة، أو أن تحاول -على الأقل- أن تكون كذلك في هذه الحياة الدنيا، ولا تكن متحيّزًا، ولا تحاولْ تعطيل آيات الله من دون علمٍ ولا هدىً، ولا تكن إحدى أدوات الهدم. 

ما زال الموضوع يحتاج لكثيرٍ من التوضيح والبيان، وسوف نستكمل الحديث عن الآخرة أو الحياة الثانية في الفصل القادم. 

ملخص الفصل

·        تكاملت الآيات القرآنية التي أشارت إلى قدرة نبي الله عيسى على إحياء الموتى مع مشاهد إعادة الحياة للإنسان الواردة في سورة البقرة، لتعطي صورةً كاملةً عن استطاعة الإنسان إحياء الموتى بوصفها نتيجةً لعلم الساعة.

·        بدا واضحًا أنّ الإنسان يُعدّ ليكون أداةً من أدوات الإله، من خلال تحليل الكلمات القرآنية المتعلقة بالبعث والإحياء. 

·        ما ذُكر في نزول نبي الله عيسى آخر الزمان، وظهور ما يُسمّى بالمسيخ الدجال، ما هو إلا صدىً لما يحدث آخر الزمان، ولِمَا أشار إليه القرآن، ولكن يبدو أنّه لم يُفهم كاملًا، وصار بين الناس كالأساطير. 

·        استطاعة الإنسان إحياء الموتى، والتي سوف تتمّ من خلال علم الساعة الكامن في فهم كلمات القرآن بشكلٍ سليمٍ، هي الحالة نفسها التي جاء بها نبي الله عيسى المؤيد بروح القدس. 

·        فتنةٌ الناس بهذا الحدث قد تُحوّلهم إلى كافرين، وناكرين لوجود الإله، وهذا ما قد يكون أسّس لأسطورة المسيخ الدجال.  

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة