الفصل السابع عشر - أذّنْ في الناس بالحج

الفصل السابع عشر


أذّنْ في الناس بالحج


 

إلى وقتٍ قريبٍ، عندما كنتُ أستمع إلى بعض الذين يتحدثون عن الحجّ، فيصفونه كأنه طقوسٌ وثنية كنت أستغرب، ما الذي دفع هؤلاء إلى قول ذلك؟ كنتُ أطالع الكتابات أو بالأحرى الادعاءات لأقف على دليلٍ علمي أو منطقي، ولكن دون جدوى. لا أحبّذ أبدًا تبنّي وجهة نظرٍ أو طرح فكرةٍ ليس لها أساسٌ علميٌّ، ولذلك كنتُ أنفر من مثل هذه الكتابات.

الحقيقة أنّ أصحاب هذه الكتابات لم يقدموا أي فكرةٍ عن ماهية الحج، أو ارتباط الحج بالأنعام في أغلب الآيات التي تناولت مفهوم (الحج). والفكرة وإن كانت قريبةً جدًا من الحقيقة فهي مجرد أمنياتٍ ما لم تحمل الأدلة الكافية على برهنتها، ولا تستحق النقاش بجديةٍ، إلا عند توفّر أدلةٍ منطقيةٍ وعلميةٍ عليها.

 

ما كان أمر الحج مطروحًا على الطاولة، ولا كان مقرّرًا له أن يُناقَش في هذا الكتاب، ولكن عندما تطرّقنا إلى مفهوم (الساعة) وجدنا أنفسنا أمام علاقةٍ مع الحج لا يمكن تجاوزها. حاولنا جمع الآيات التي تحدثت عن (الحج) ومفهومه منذ البداية، فبانت لنا علاقةٌ مذهلةٌ بين الحج والساعة، وبان لنا خطورة ما يُفعَل الآن، بل واستطعنا وضع تصوّرٍ عن الكيفية التي فعل رسول الله الحج بها، وكيف نُقل إلينا. 

 

لقد كانت البداية مع سورة الحج عندما كنتُ أبحث في مدلول لفظ (الساعة)، وهالني أن أجد في بداية سورة الحج قول الله تعالى (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَیۡءٌ عَظِیمࣱ) (سورة الحج: آية 1). 

 مقدمة السورة جعلتني في قمة الحيرة، ما علاقة الحج بالساعة؟ وكيف تذكر أول آيةٍ في سورة الحج (الساعة) بهذه الكيفية؟

هناك علاقةٌ قائمةٌ بين الحج والساعة، ولكنّنا لا نُدرك أبعادها. وكانت البداية عندما استقرّ مفهوم (الساعة) على أنها سعة العلم، وهذا العلم مرتبطٌ ومختزَنٌ داخل كلمات الله، وأنّ الإنسان في رحلته إنما يحاول الوصول لهذا العلم بكل طاقته حتى دون أن يدري. فالبحث خلف الحقيقة بتجرّدٍ لا بدّ أن يقود المُنصفين إلى مصدر الحقيقة.

نعم، هذه هي البداية، الحجّ هو الوسيلة التي سوف تأخذ الإنسان إلى الساعة، بل الحجّ هو الركن الأساسي الذي يرتكن عليه العلم بصفةٍ عامةٍ، وهو مرتَكز الساعة بصفةٍ خاصةٍ. كيف ذلك؟ 

الفصول الثلاث التالية سوف تجيب على ذلك، من خلال فكّ شِفرةٍ من أعقد وأصعب الأفكار التي مرتّ عليّ. الوصول لعمق فكرة (الحج) كان بالنسبة إلي كأنني أجلس أمام كومةٍ هائلةٍ من الأسلاك المعقّدة، وأحاول فكّ هذه الأسلاك ونظمها في منظومةٍ واضحةٍ وسليمةٍ. هذا التعقيد لم يكن أبدًا بسبب صعوبة اللفظ القرآني؛ بل كان بسبب حملٍ ثقيلٍ وتراكماتٍ مثل الجبال ترسو فوق مفهوم الحج الحقيقي، فأصبح غائرًا لا يمكن الوصول إليه.

من أين جاء الحج؟ وما هو مدلول لفظ (الحج) ذاته؟

مدلول لفظ الحج في معاجم اللغة أربعة أصول:

  • الأصل الأول: الْقَصْدُ، وَكُلُّ قَصْدٍ حَجٌّ. ومن هذا الأصل تم فهم الحج على أنه قصد البيت في مكة. 
  • الأصل الثاني: الْمَحَجَّةُ هِيَ جَادَّةُ الطَّرِيقِ، يُقَالُ حَاجَجْتُ فُلَانًا فَحَجَجْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْحُجَّةِ. 
  • الأصل الثالث: الْحِجَاجُ، وَهُوَ الْعَظْمُ الْمُسْتَدِيرُ حَوْلَ الْعَيْنِ. 
  • الأصل الرابع: الْحَجْحَجَةُ النُّكُوصُ. يُقَالُ: حَمَلُوا عَلَيْنَا ثُمَّ حَجْحَجُوا. وَالْمُحَجْحِجُ: الْعَاجِزُ.

رغم تفرّع المعنى في المعجم واختلافه إلا أنّ المعنى في كتاب الله واضحٌ لا يحتاج إلى كلّ هذا العنت في فهمه. المعنى ينطق بذاته، وصدقَ من أنزل هذا الكتاب عندما قال (قرآنًا عربيًا) فهو لا يحتاج إلا أن تنظر فيه وأنت مسلمٌ، ومن دون تحيّزٍ لتستطيع فهم المقصود. 

الأصل (حج) جاء في جميع آيات الله بمعنىً واحدٍ، وهو شكلٌ من أشكال المناقشة، يُقدّم فيها كلّ طرفٍ البراهين والأدلة بغرض إثبات وجهة نظرٍ معينةٍ. الآيات تُظهر خاصيةً فريدةً للفظ (الحُجة) وهي التماسك والارتباط أو الانعقاد بصورةٍ سليمةٍ. لا يُسمى البرهان أو الدليل الواحد (حُجةً) وإنما (الحُجة) مجموعةً من الأدلة والبراهين حول أمرٍ ما. 

وسوف نتناول مجموعةً من الآيات التي وردت فيها مشتقات اللفظ لكي نُثبت ما افترضنا

الآية الأولى: (وَمِنۡ حَیۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَیۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِی وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِی عَلَیۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ) (سورة البقرة: آية 150).

الحجة التي جاء ذكرها في الآية هي الدليل أو البراهين مجتمعةً في قضيةٍ ما، هذه هي الحجة بكل وضوحٍ وبساطة. 

الآية الثانية: (قُلۡ أَتُحَاۤجُّونَنَا فِی ٱللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡ وَلَنَاۤ أَعۡمَـٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَـٰلُكُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُخۡلِصُونَ) (سورة البقرة: آية 193)

(يحاجّون في الله) أي يُناقشون ويقدّمون أدلتهم أو رؤيتهم، وهنا أيضًا المحاججة شديدة الوضوح. 

الآية الثالثة: (وَتِلۡكَ حُجَّتُنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَـٰتࣲ مَّن نَّشَاۤءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِیمٌ عَلِیمࣱ) (سورة الأنعام: آية 83).

(حُجتنا) هي البراهين والأدلة التي قدّمها نبي الله إبراهيم، وناقش من خلالها. 

الآية الرابعة: (وَحَاۤجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَاۤ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ رَبِّی شَیۡـࣰٔاۚ وَسِعَ رَبِّی كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (سورة الأنعام: آية 80). (حاجّه قومه) تعني ناقشوه وحاوروه، والنقاش والحوار هو عمليةٌ متبادلةٌ، كلّ طرفٍ فيها يُقدّم أدلته وبراهينه، وليست مجرّد خطابٍ من جانبٍ واحدٍ. 

الآية الخامسة: (یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لِمَ تُحَاۤجُّونَ فِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمَاۤ أُنزِلَتِ ٱلتَّوۡرَىٰةُ وَٱلۡإِنجِیلُ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِهِۦۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ) (سورة آل عمران: آية 65). لفظ (تُحاجّون) لا يحتاج إلى أيّ مجهودٍ لكي يعلن عن نفسه ويقول، بل هو يصيح أنه النقاش والحوار الذي يتخلّله تقديم الأدلة والبراهين، أو وجهات النظر المختلفة. 

الآية السادسة: (هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ حَـٰجَجۡتُمۡ فِیمَا لَكُم بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلِمَ تُحَاۤجُّونَ فِیمَا لَیۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمࣱۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ) (سورة آل عمران: آية 66). 

يجب أن نُفرّق بين لفظ (حاجّ) ولفظ (حاجج)، إذ إنّ اللفظ الثاني جاء بمضاعفة حرف الجيم الذي أضاف بعدًا جديدًا للكلمة من حيث الشدة والقوة، خلاف الكلمة الأولى التي جاءت بحرف جيمٍ واحدٍ. لفظ (حاجّ) يشير إلى تقديم الدليل واستقبال الدليل بشكلٍ معتدلٍ، وفي الغالب يكون الهدف الوصول للحقيقة. لفظ (يحاجج) أكثر قوةً بإضافة حرف الجيم؛ ممّا يجعل المحاججة تمسُكًا قويًا بالحُجج، وفي الغالب يكون المُحاجج على درايةٍ وتمكُنٍ بما يحاجج به، وهو الذي يمنحه هذا التماسك والقوة. وهذا المعنى واضحٌ تمامًا في الآية الكريمة، إذ يخبرنا القرآن أنّ القوم حاججوا فيما لهم به علم، وهذا يعني أنّ تمسّكهم القوي بسبب علمٍ لديهم، أمّا عندما عاب عليهم المحاجّة استخدم لفظ (تُحاجّون) من دون إضافة الجيم الأخرى؛ لأنهم في الحقيقة يُحاجّون فيما ليس لهم به علمٌ. تأثير حرف الجيم على الكلمة لا يمكن إنكاره، فقد أعطى المعنى قوةً إضافيةً بخلاف الكلمة ذات حرف الجيم الواحد. لقد جاء لفظ (حِجج) في آيةٍ في سورة القصص، وفسّرها المفسرون على أنها سنين، واللفظ لا يشير إلى ذلك أبدًا.

(قَالَ إِنِّیۤ أُرِیدُ أَنۡ أُنكِحَكَ إِحۡدَى ٱبۡنَتَیَّ هَـٰتَیۡنِ عَلَىٰۤ أَن تَأۡجُرَنِی ثَمَـٰنِیَ حِجَجࣲۖ فَإِنۡ أَتۡمَمۡتَ عَشۡرࣰا فَمِنۡ عِندِكَۖ وَمَاۤ أُرِیدُ أَنۡ أَشُقَّ عَلَیۡكَۚ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ) (سورة القصص: آية 27). 

(حِجج) هنا جمع حُجّة، ومعناها الاتفاق المتماسك القوي، على نحوٍ قَبِلَه كلٌّ منهما. تعبير (ثماني حجج) تعني ثمانية عقود بمفاهيمنا المعاصرة. قد تكون كلّ حجةٍ اتفاقًا على سنةٍ أو شهرٍ أو فعلٍ ما، ولكن ليس معناها أنها ثماني سنواتٍ حصرًا. 

عندما أتفق مع شخصٍ على عملٍ ما فإنه يفاوضني بصورةٍ ما، وهذا التفاوض هو نوعٌ من المُحاجّة، فإذا تمّ الاتفاق أصبح الاتفاق حجةً. لو اتفقتُ مع موظّفٍ لدي على إنهاء عملٍ ما، وقبِل ذلك، فهذه حجةٌ، فإذا اتفقتُ معه على تنفيذ أمرٍ آخر، فهذه أيضًا حجة، ثم أضفت أمرًا ثالثًا فستزداد الحجج حجةً، وسوف يقوم الموظف بثلاث حججٍ، وذلك يعني ثلاث اتفاقيات. قد تكون الاتفاقيات منفصلةً أو متصلةً، بمعنى القيام بالعمل نفسه، ولكنْ في ظروفٍ مغايرة. لو اتفقتُ مع عاملٍ على جني ثمار المزروعات التي أمتلكها كلّ عامٍ لمدة ثمانية أعوام، فهي ثماني حجج، بمعنى ثماني اتفاقيات، إذ إنّ ظروف كلّ مرةٍ تختلف عن مثيلاتها من حيث المقدار أو المناخ أو أيّ عوامل طارئةٍ. 

الآية السابعة: (وَٱلَّذِینَ یُحَاۤجُّونَ فِی ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ٱسۡتُجِیبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمۡ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَعَلَیۡهِمۡ غَضَبࣱ وَلَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدٌ) (سورة الشورى: آية 61). لفظ (يحاجّون) هنا يحمل أيضًا الدلالة نفسها، غير أنّ لدينا بُعدًا آخر يجب أن ننتبه له، وهو أنّ الحجة تُسمّى حجةً وإن لم تكن سليمةً، بل قد تكون واهيةً، ولا تصبح واهيةً إلا بعد تفنيدها. 

الآية الثامنة: (فَإِنۡ حَاۤجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِیَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡأُمِّیِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُوا۟ فَقَدِ ٱهۡتَدَوا۟ۖ وَّإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِٱلۡعِبَادِ) (سورة آل عمران: آية 20). 

(حاجّوك) تعني قدّموا حُججًا، وهو المدلول نفسه الذي يعني تقديم قرائن ودلائل، والنقاش حولها. في هذه الآية توجيهٌ عظيمٌ لو تنبّه له الإنسان لتغيّر حاله تمامًا. الآية تصف مشهد محاججةٍ يُقدّم فيها الطرف الأول حُججًا، والطرف الآخر يبدو أنه غير مقتنعٍ بتلك الحجج، فإلامَ أشارت الآية؟ 

إنْ قدّم أحدٌ حججًا ورآها الآخر غير كافيةٍ، أو لم يستطع هو تقديم حججٍ كافيةٍ لأيّ سببٍ كان؛ فيكفيه هنا أنْ يستمسك بمفهوم الإسلام، وهو عدم التحيّز. بمعنى لا يُكذّب ولا يُصدّق، وليكنْ همّه معرفة الحقيقة، فإذا وصل إلى الحقيقة فهي ضالّته. للأسف، ملايينٌ من البشر إذا واجهتهم حججٌ تخالف معتقداتهم ولا يستطيعون تفنيدها، تجدهم يتصايحون ويسبّون ويلعنون، في صورةٍ أبعد ما تكون عن مفهوم (الإسلام) القرآني. والعجيب أنّ أغلب هؤلاء من ضمن زمرة المتديّنين الوراثيين، الذين يظنّون أنهم مسلمون. 

الآية التاسعة: (فَمَنۡ حَاۤجَّكَ فِیهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡا۟ نَدۡعُ أَبۡنَاۤءَنَا وَأَبۡنَاۤءَكُمۡ وَنِسَاۤءَنَا وَنِسَاۤءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَـٰذِبِینَ) (سورة آل عمران: آية 61). 

الآية هنا لا تنهى عن المحاجّة، بل تُشير إلى إنهاء المحاججة إن كان كل طرفٍ لا يعترف بحجة الأطراف الأخرى؛ إذ إن الغرض من المحاججة هو الوصول لحلٍّ، من خلال مجموعةٍ من الأدلة والبراهين. فإذا كان الأمر شديد الوضوح لديك، ولكنّ الطرف الآخر لا يرى ما ترى، فمن الأفضل إنهاء المحاججة؛ لأنها لن تؤدّي إلى شيء. 

هكذا لو تتبعنا جذر (حج) الحاء والجيم في كتاب الله، لن نجد سوى مدلول النقاش والحوار وعقد الأدلة والبراهين.

يحقّ الآن للقارئ أنْ يسأل: لكنّ الحج جاء كثيفًا في القرآن، وهو معنىً مستقلٌّ بذاته، ويعني القصد، فلماذا نؤوّله إلى مفهوم المناقشة والحوار القائم على الأدلة والبراهين والقرائن؟

رغم أننا لا يجب أن نخترع مفهومًا مغايرًا لمفهوم الكلمة التي وردت في القرآن، إلا أنّ ورود لفظ (المحاججة) بهذه الكثافة وبهذه الكيفية لهو دليلٌ قاطعٌ على مفهوم الحج، وأنه نقاشٌ على أسسٍ محدّدةٍ، إلا أنّ لدينا آياتٍ قد أسّست لمفهوم الحج، لا يمكن إنكارها مِن ذي عقل. 

لقد أسّس نبي الله إبراهيم للحجّ بنصّ القرآن، وسنتعرّفُ على المشهد القرآني العظيم الذي بدأ من عنده مفهوم الحج. 

 

المشاهد القرآنية التي تبيّن مفهوم الحج

جاء فعل (المحاججة) كثيفًا مع نبي الله إبراهيم، وهو النبي الذي أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج، ومن أمثلة هذه المحاججات ما يلي: 

(وَحَاۤجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَاۤ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ رَبِّی شَیۡـࣰٔاۚ وَسِعَ رَبِّی كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (سورة الأنعام: آية 80).

هذه الآية فصّلت مسألة المحاججة التي عاشها نبي الله إبراهيم مع قومه، وسجّلتها لنا الآيات بكلّ وضوحٍ. مشاهد القرآن قصت علينا كثيرًا من تلك المحاججات، عندما دار الحوار بينه وبين قومه حول نفع وضرر الأصنام. ننتقل إلى آية أخرى تخبرنا أن الله آتي إبراهيم نبيه الحجة الصائبة. 

(وَتِلۡكَ حُجَّتُنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَـٰتࣲ مَّن نَّشَاۤءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِیمٌ عَلِیمࣱ) (سورة الأنعام: آية 83).

بالنظر إلى نبي الله إبراهيم ودوره العظيم الذي تناولناه في أكثر من موضعٍ في سلسلة كتب تلك الأسباب، سنجد أنّ المحاججة بدت كأنها روتين لهذا النبي العظيم، والقدرة على المحاججة إحدى أهمّ خصائصه وصفاته. إنّه النبيّ الباحث عن الحقيقة، الهارب من التجسيد إلى التجريد، الذي بذل الجهد في الوصول إلى ربه، حتى وصل إلى علم اليقين وحقّ اليقين وعين اليقين. حريٌّ بهذه الشخصية أن تحمل على عاتقها الحُجّة، وتحاجج بها الآخرين. إنّه أمّةٌ في التفكير والسعي والحجّة. 

لقد تبلورت كلّ هذه التفاعلات في المشهد القرآني الشهير، وهو مشهد محاجّة إبراهيم لمن آتاه الله الملك. 

(أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِی حَاۤجَّ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ فِی رَبِّهِۦۤ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُۖ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِی كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ) (سورة البقرة: آية 258). 

لقد كان مشهدًا فريدًا وفاصلًا في تأسيس مفهوم الحج وها هو نبي الله إبراهيم يحاج الرجل ويقص القرآن المشهد و لا أروع لكي يدل الإنسان على طريقة مدلول الحج. 

لقد بيّنت الآيات طريقة المحاجّة؛ إذ عرض إبراهيم حُجته فردّ عليه الرجل بحجةٍ من وجهة نظره، فردّ إبراهيم بحجةٍ أخرى، ولا سبيل هنا إلى تأويل الأمر إلى غير ذلك. لقد كانت عملية نقاشٍ حامية الوطيس، ليس فيها إلا تقديم كلّ طرفٍ ما لديه. 

ها هو نبي الله إبراهيم زعيم المحاججات يقول له ربه كما جاء في القرآن: (وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالࣰا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ) (سورة الحج: آية 27). 

لو سألت شخصًا (مسلمًا) بالمعنى القرآني: ما معنى أذّن في الناس بالحج بعد قراءة وترتيل الآيات السابقة؟ لن يجد إلا القول بأنّ الحج هو النقاش والحوار، ولا يمكن أن يذهب به خياله إلى شيءٍ آخر. لا شكّ أنّ هذا المفهوم الجديد سوف يصدم أصحاب التراث بصورةٍ لم يسبق لها مثيلٌ، وسوف يكون الدفاع مستميتًا عن المعنى المُتوارث. ولا شك أنّ أول ما سوف يرد إلى الذهن: أيعقل أن يمرّ كلّ هذا الوقت ولا نعرف معنى الحج؟ 

الحقيقة أنّ الغرض من هذا السؤال هو إنكار الحجة لا الوصول إلى الحقيقة، فعندما تتّضح لك حجةٌ واضحةٌ فإنّ التفكير السليم هو أن تعيد النظر فيما بين يديك، لا أن تُنكر شيئًا بلا علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منير. تلك حجةٌ استقيناها من كتاب الله فأتوا بحجتكم إن كنتم صادقين. 

ليس العجب في أن يظل الناس كل هذا الزمن لا يدركون مفهوم الحج كما أشار إليه القرآن بوضوحٍ، ولكنّ العجب أن يجادل هؤلاء عن تراثهم ويحاولوا أن يجعلوا كلمة الله هي السفلى، لأنهم يذكرون آباءهم أشد ذكرًا من الله.

عندما تناولنا مفهوم (الآخرة) في الفصول السابقة، وتعرضنا لنمطٍ من الناس لا خلاق لهم في الآخرة، بمعنى لن يكون لهم وجودٌ في الآخرة، كان هذا النمط من الذين يذكرون آباءهم أشد ذكرًا من الله. سوف ترى هذه النماذج بوضوحٍ عندما يجادلون ويصرون على ما ورثوه، ولن يكفيهم كلام الله أبدًا، وسوف يجدون تخريجاتٍ تُقنعهم، وسوف يحتمون برسول الله ورسول الله منهم بريءٌ. 

ما هذه البلاغة وهذا الإعجاز في كلمات الله، حتى إن مفهوم الحج ذاته في كتاب الله واضح الحجة، وسوف يُفحم كل متغطرسٍ دعيٍّ. مفهوم الحج نفسه هو أكبر محاججةٍ وأوضح محاجّةٍ لا تقبل التأويل ولا المراوغة، وسوف يُفرز هذا المفهوم أنماطًا لا حصر لها من المكذّبين الضالّين. هذا المفهوم سوف يقيم الحجة على الناس بالجملة، وهذا من عظمة المفهوم وبلاغة القرآن، ورسالةٌ لا يمكن أن يُخطئها لبيبٌ. إنّ هذا كلام الله، إذ جعل في كشف مفهوم الحج ذاته حجةً على الناس. 

عندما يتضح لفظ (الحج) وعلاقته الوثيقة بالمحاججة يجب أن تؤوّل الآيات كلها في هذا السبيل، فقد طُمست كلمات القرآن وحُبِست في حيّز معارف ضيقةٍ للغاية، حتى أنّ مفرداتٍ كثيرةً مرتبطةً بالحج أُوِّلت بطريقةٍ لا علاقة لها بمدلولاتها اللغوية أو السياق الذي جاءت خلاله. 

أمرٌ مخيفٌ أن تعيش في واقعٍ مزوّرٍ وتعتقد أنك تؤمن بالله وكلماته، وأنت في الحقيقة تؤمن بأساطير صُنعت في غفلةٍ من الزمن، تُعارض بوضوحٍ كلمات الله. كلّ ما تحتاجه هو عقلٌ وإنصافٌ في التعاطي مع ما بين يديك، لا أكثر من ذلك. سوف يعتنق الحقيقة من يستحقّها، وسوف ينكرها مَن ليس له نصيبٌ فيها.

سوف يأتي رجال الحقيقة رغمًا عن كلّ جاهلٍ ليحملوها على رؤوسهم، وسوف يصدر عنها كلّ شقيٍّ، هذه سنن الله في الخلق، ووعدُ الله للناس. مفهوم (الحج) سوف يكشف لنا الفرق الشاسع بين أمر الله وتأويل البشر؛ لكي نتيقّن أننا في قعرٍ عميقٍ، لا ندرك من خلاله مراد الله. وإذا كانت العبارات قويةً وصادمةً فالعيش في الزيف أدهى وأمر، والإصرار على التزوير جريمةٌ، واحتكار الله من قبل أناسٍ لا يؤمنون بالله بل يؤمنون بالتاريخ مصيبةٌ. 

المنهج الذي نستخدمه في فهم كلمات الله يقوم بالأساس على فهم الحالة التي تصفها الكلمة، ثمّ فهم السياق، وفي حالة الحجّ نجد أنّ لفظ (الحج) إنما دلّ بصورةٍ قاطعةٍ على مفهوم المناقشة والحوار، لذا يجب أن تُفهم حالات المفردات من خلال هذا المحور الأساسي. 

سوف أتناول بعض الآيات في سورة الحج على قدر المستطاع؛ لبيان ما هو الحج، وكيف أنّ الإشارات القرآنية إنما تتكامل وتنسجم مع مفهوم (الحج) الذي هو المحاججة والمناقشة والحوار وتقديم الأدلة والبراهين على أمرٍ ما. 

 

المشهد الأول: الساعة

بدأت السورة بالتحذير من الساعة، وهذا التحذير إنما يشير إلى الارتباط الوثيق بين الحج والساعة، بل يؤكّد أنّ الساعة ما هي إلا سعة العلم، والذي لا يمكن أن يكتمل إلا والمحاججة مستمرةٌ. 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)) (سورة الحج: آية 1-2). 

هكذا هي تعبيرات القرآن، مترابطةٌ ومتماسكةٌ، وكلّ تعبيرٍ ينقلك لتعبيرٍ آخر حتى تكتمل الصورة وتتضح. من السهل إدراك أنّ الوسيلة المباشرة للوصول إلى التراكم المعلوماتيّ، وتصحيح أخطاء التصوّرات والنظريات، وتثبيت الأفكار الجديدة، إنما هي المناقشة، أو إدارة حوارٍ حول الفكرة أو القضية المُثارة. إنها حالةٌ يعرفها كل باحثٍ؛ ويعرف أن إدراة حوارٍ حول قضيةٍ معينةٍ، وعقد مؤتمرٍ بشأنها هو السبيل الأمثل لدراستها والوصول إلى نتائج فيها. 

عندما تبدأ سورة الحج بقول الله (زلزلة الساعة) فتلك إشارةٌ واضحةٌ، والعلاقة تُعلن عن نفسها من خلال مفهوم (الحج) ومفهوم (الساعة)؛ إذ إنّ الحجّ بمعناه القرآني وهو النقاش والمحاججة ما هو إلّا وسيلةٌ ناجحةٌ لكشف الحقائق والوصول للساعة وهي الحالة القصوى للعلم أو حالة الامتلاء. هل هناك كتابٌ ألفاظه وكلماته يدلّ بعضها على بعضٍ، وتفصح كل كلمةٍ عن أختها وتزيدها وضوحًا وبياًنا، وتتماسك بهذه الطريقة المذهلة؟ 

كنّا قد تناولنا مفهوم (ذهول الأم عمّا أرضعت) و(تضع كل ذات حمل حملها)، واكتشفنا أن الوصول للساعة يصل بالإنسان للذروة، فلا يعود بحاجةٍ لمزيد من الذرية، فقد تمّت المهمة بسلامٍ، ولا حاجة غريزيةً للدفع في اتجاه إنجاب آخرين لاستكمال المسيرة. وقد أصبح من خلال الوصول لذروة العلم أمر الخلود قائمًا، وعلم الساعة ملأ كلّ الجوانب. 

 

المشهد الثاني: الحج والجدال والبعث

يتضمن هذا المشهد 6 آياتٍ، بدأت بالحديث عن مَن يُجادل في الله بغير علمٍ، وانتهت كذلك بالحديث عن هذا الصنف المُجادل الفارغ:

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ(8)) (سورة الحج: آيات 3-8).

العلاقة بين الحج والجدال علاقةٌ لا تحتاج لمجهودٍ لبيانها، فهي علاقةٌ وثيقةٌ، إذ إنّ الحجّ أقرب للنقاش والحوار على أسس سليمةٍ، أمّا الجدال فهو محاولة الانتصار لوجهة نظرٍ دون تقديرٍ للأدلة والبراهين. يأتي الجدال غالبًا مع قلّة العلم كما أخبرت الآيات، فكلما تواضع الفهم وقلّ العلم كانت فُرص الجدال كبيرةً. تعبير (شيطان مَريد) أضاف صفة التعجّل، وهو أهم صفةٍ من صفات لفظ (شطّ) الذي هو أصل كلمة (شيطان)، وأضاف كذلك صفة الإلحاح في الطلب والرغبة القوية، من خلال الجذر (ريد) الذي هو أصل كلمة (مَريد).

 ذكر الجدال بهذه الطريقة في بداية سورة الحج يؤكّد ويثبت حالة الحج القرآنية، ويجب أن يخُجل هذا الارتباط كل مجادلٍ بغير علمٍ. 

الآية التالية ربطت بين البعث ومراحل التكوين والخلق، ثم ربطت هذه الصورة الكاملة بصورة إعادة إنبات الأرض. إنّها صورةٌ توضّح بجلاءٍ الفرق بين القدرة والاستطاعة، إذ لو نظرنا إلى الإنسان اليوم وتمكّنه من عمليات التلقيح الصناعي من جانبٍ، وزراعة الأرض ونباتها بمختلف المحاصيل من جانبٍ آخر، سندرك الفرق بين القدرة والاستطاعة. فإذا كانت القدرة هي القوانين الثابتة التي تحكم تصرّف الأشياء، فإنّ الاستطاعة هي أسباب هذه القوانين، سواءٌ في مراحل الخلق أو إنبات الأرض.

ما إنْ نمدّ الخط على استقامته حتى ندرك أنّ بعث الأموات على يد الإنسان إنّما هو من أمور الاستطاعة، والذي يعمل تحت القدرة. لقد أكّدت الآيات هذا المفهوم، عندما جاء قول الله (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). 

(الله القدير) ليس معناه هو مَن يفعل ذلك مباشرةً؛ فالله قديرٌ على إنبات الزرع، ومع ذلك فإن الإنسان هو من يُمهّد الأرض، ويبذر البذور، ويروي الأرض، حتى تخرج النباتات. حتى النباتات البرية؛ فإن الرياح تنقلها، والأمطار ترويها، والتربة تحتضنها، وكلّ ذلك تحت مظلة التقديرات التي يُقدّرها القدير. مفهوم (القدرة) و(الاستطاعة) مفهومٌ كفيلٌ بأن يفتح آفاقًا لا حدود لها أمام الإنسان، ويُغلق باب الخرافات إلى ما لانهاية. 

يأتي الخلاف عندما لا يُفرّق المرء بين القدرة والاستطاعة، لكنّ آيات القرآن تفرّق بين المفهومين بوضوحٍ، فالله على كلّ شيءٍ قديرٍ، أما الإنسان فمطلوبٌ منه أنْ يستطيع. 

مرةً أخرى تشير الآيات إلى ارتباط الساعة بما قبلها (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ). ثلاث ركائز أساسيةٌ تناولتها الآيات: مفهوم الساعة، واقترانها بحالة البعث، وعلاقة كلّ ذلك بالسورة نفسها، وهي سورة الحج. تُنهي الآيات هذا المشهد بالتنبيه والتحذير من الجدال كذلك. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ). 

خلال الآيات السبعة الأولى من سورة الحج وجدنا أنّ الساعة ذُكرت مرّتين، والجدال ذُكر مرّتين، وبدت بينهما صورةٌ للحياة وإعادتها، بما يشير إلى أنّ أمر الساعة وما يتعلّق بها هو أمرٌ مثيرٌ للجدل بصورةٍ كبيرةٍ، فلا يجب الخوض فيه دون علمٍ ولا بيانٍ، وليس عيبًا أبدًا أن يتوقف الإنسان عن مناقشة ما لا يُحسن ولا يفهم. 

أتمنى أن أهمس في أذن كل رجل دينٍ وكل داعيةٍ وكل متعصّبٍ أن تريّث وامنح نفسك فرصةً للتفكير، ولا تغامر بمصيرك عندما تتبنّى ما لم تصنعه يداك من معرفةٍ، وأنت بذلك متلقٍّ لا أكثر. ما بين الهدى والضلال فاصلٌ أرقّ من الشعرة وأحدّ من السيف، فلا يتعدَّ الإنسان حدود الله فيكنْ من الجاهلين. 

المشهد الثالث: الأنماط الفكرية

(وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)) (سورة الحج: آيات 16-17) 

جمعت هذه الآيات أنماطًا فكريةً مختلفةً من الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والمجوس، ثم ذكرت بأنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة، وهذا التوجيه إنما هو توجيهٌ من أجل استقامة مفهوم (الحج) حتى لا يتمّ احتكار المعرفة، وتحويل مفهوم الحجّ إلى جدال. عندما يدرك الجميع أنّ الفصل بيد الله فسوف يكون الوصول للحقيقة هو المبدأ السائد، بديلًا عن الانتصار لفئةٍ معينةٍ أو فكرةٍ محدّدةٍ مسبقًا. الحج القرآني هو توجيهٌ إلهيٌّ لكلّ الناس، وليس لفئةٍ واحدةٍ تُحاجج وتردّ على نفسها، وإنما هو توجيهٌ ربانيٌّ للناس أجمعين، وسوف نرى صدى هذا التوجيه في آياتٍ أخرى تشير إلى عمومية الحج. 

أخطر ما في النقاش والحوار هو الكفر، وهو جَحد المعرفة، وهي حالةٌ معروفةٌ عند بعضهم، إذ تجد أنّ هناك نمطًا يجحد المعرفة بصورةٍ غريبةٍ وينكرها، وهذا النمط غالبًا ما يأخذ أمر النقاش في اتجاه الخصام. هذا النمط تراه في كلّ مرةٍ تُناقَش فيها قضيةٌ هامةٌ، فيخرج هؤلاء، وأغلبهم لا علم لهم سوى حاجةٍ في نفوسهم، أو تهوّرٍ يدفعهم لإنكار الأمر، ولو صبروا لكان خيرًا لهم. 

وجب التذكير أنه في كتاب قولًا ثقيلًا قد تمّ تحليل تعبيراتٍ مثل (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس)، وتبيّن لنا أنها لا تمُتّ بصلةٍ للتقسيمات التي يعتمدها الناس اليوم، وإنما هي تقسيماتٌ لنماذج فكريةٍ، ومن انطبق عليه النموذج كان من ضمنها بغض النظر عن اعتقاده. العجيب أن الآية لم تشمل (اليهود)، واليهود كما شُرِحَ في كتاب قولًا ثقيلًا هم أكثر الفئات تعصّبًا واحتكارًا للمعرفة؛ إذ إنّ هذه الفئة لا تعود للحق، بل تُصرّ على أنها أهدى الناس، فلا فائدة منهم، ولا سبيل إلى هدايتهم.

سوف يُفرز مفهوم الحج الجديد صنف اليهود بكثرةٍ، وسوف تراهم كيف يحتكرون المعرفة، وكيف يُصرّون عليها وينكرون ما سواها. النجاة الوحيدة من نموذج اليهود أن يكون الإنسان مُستعدًّا لقبول الحق، حتى لو خالف ما يعتقد ورسخ في ذهنه، طالما جاء هذا الحق ممتطيًا الدليل والبرهان. 

الآية التالية حذّرت من النموذج الذي يكفر الحق ويجحده، ليكون النقاش قائمًا على الإنصاف والمحاججة، لا على الإنكار والجحود. 

(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) (سورة الحج: آية 19). في الوقت نفسه جاء التوجيه الإلهي باللين وعدم الانجرار نحو الخصومة (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (سورة الحج: آية 24). 

قد كانت هذه الآيات بمنزلة التمهيد لشرح مفهوم (الحج) بالتفصيل وفكّ رموزه. 

في الآيات التالية سوف نتناول أكثر المفاهيم تعقيدًا، ونحاول فكّ شفرتها من خلال مدلول اللفظ وسياق الآيات، ومفهوم (الحج) القرآني. 

 

المشهد الرابع: مفهوم (المسجد الحرام) ومفهوم (البيت) في سورة الحج

 

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (سورة الحج: آية 25- 26)

رغم تعرّضنا لمفهوم (المسجد الحرام) عند تحليل مقدمة سورة الإسراء، واستطعنا استنتاج أنّ (المسجد الحرام) يشير إلى مكانٍ أهمّ ما يُميّزه الاستقرار والاطمئنان. ووصف (المسجد) بأنه (حرامٌ) يعني الممنوع أو صاحب الحصانة. 

تعبير الحج الجديد يجب أن يضيف لنا دليلًا على أن (المسجد الحرام) هو المكان المخصّص للمحاججة، وهو مختلفٌ عمّا نعرفه اليوم. المكان المخصّص لعملية الحج متكاملٌ مع مفهوم (المسجد الحرام) الذي تناولناه في شرح الإسراء، إذ إنّ المكانين كليهما من خصائصهما الاستقرار والاطمئنان، وأن يكونا آمنَين بالكامل، فيأمن الناس فيه على أنفسهم. 

كذلك لا بدّ أن نفرّق بين تعبير (المسجد) وتعبير (البيت) من حيث الدلالة، إذ يشير المسجد إلى موضعٍ ما، أمّا تعبير (البيت) فيشير إلى حالةٍ سوف تبدو واضحةً عندما نعقد مقارنةً بين (المسجد) و(البيت). وسوف نؤكّد مفهوم (المسجد) من خلال الآية القرآنية التالية، ثم ننتقل لفهم مدلول لفظ (البيت) من خلال الآيات التي تناولت لفظ (البيت)، والتعبيرات المختلفة التي جاء فيها ذكر (البيت) مثل: (البيت الحرام) و(البيت العتيق) و(البيت) من دون إضافةٍ. 

 

مفهوم (المسجد الحرام)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (سورة الحج: آية 25).

هذه الآية تُعطينا لمحةً عن مفهوم (المسجد الحرام)، وليس هناك أدنى مشكلةٍ في أن يكون المقصود بـ (المسجد الحرام) هو البلدة التي يوجد فيها ما يُسمّى (الكعبة) حاليًا، ولكنّ هذا التعبير غير قاصرٍ على هذه البلدة كما رأينا في سورة الإسراء. المسجد الحرام هنا هو مكان انعقاد الحج، و لا أرى أيّ مانعٍ في ذلك، أي أنه مكانٌ يأمن الناس فيه على أنفسهم، سواءً المقيم والباد الذي يأتي لغرضٍ معيّن. المعنى من الآية يشير إلى تأمين أيّ مكانٍ دون تحديدٍ، ليس فيه خوفٌ من إبداء الحجة والحجة المقابلة، وإذا انتفى هذا الشرط لن يعود لمفهوم المسجد الحرام أيّ معنىً. سوف يتأكّد لنا تدريجيًا أنّ مفهوم (المسجد الحرام) هو تعبيرٌ عالميٌّ، وليس مُغرقًا في المحلية كما فسره المفسرون عندما نتناول مفهوم البيت في القرآن والذي جاء مرتبطًا بالحج.

 

مفهوم (البيت)

سوف نتعرض من خلال الآية إلى مفهوم (البيت)، وهو من أكثر المفاهيم غموضًا وتشابكًا مع مفاهيم أخرى. 

(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (سورة الحج: آية 26).

هذه الآية ذكرت تعبير (البيت) مباشرةً بعد تعبير (المسجد الحرام)، والفرق بين المدلولين لا يمكن أن يختلط على باحث. لفظ (بيت) جاء في كتاب الله بمعنى المكان الذي يسكن فيه الإنسان، ومعنى المأوى في أكثر من موضعٍ. لكنْ يجب الانتباه إلى أنّ مفهوم (البيت) هو مفهوم حالةٍ، وليس اسم موضعٍ. لو نظرنا إلى كتاب الله لفهم معنى (بيت) سنجد آياتٍ تتحدّث عن تبييت أمرٍ ما. (وَیَقُولُونَ طَاعَةࣱ فَإِذَا بَرَزُوا۟ مِنۡ عِندِكَ بَیَّتَ طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُمۡ غَیۡرَ ٱلَّذِی تَقُولُۖ وَٱللَّهُ یَكۡتُبُ مَا یُبَیِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلًا) (سورة النساء: آية 81). 

فعل (يبيّت) في الآية يشير إلى عقد العزم على أمرٍ ما أو الإجماع على مسألةٍ معينة. كذلك مفهوم (بيت) نفسه يشير إلى حالةٍ من التجمّع والمأوى. إن نظرنا إلى مفهوم (البيت) في حياتنا المعاصرة فسنجد أنّ لفظ (بيت) يُطلَق على بيت الشِّعر؛ لأنه مَجمَع الألفاظ والقافية. ومن خلال فهم فعل (يُبيّت) ولفظ (بيت) ومن خلال فهم الحج، سنجد أنّ لفظ (بيت) يُحتمل أنْ يحمل معنىً غير تجسيديٍّ كما هو متعارفٌ عليه، إذ يُمكن أن يحمل معنى مجمع أمورٍ ومسائل معينةٍ. بيت القصيد في لغتنا المعاصرة يعني نقطة ارتكاز الفكرة، أو المحور الأساسي للفكرة. 

سوف يتبادر إلى الذهن أنّ لفظ (مكان) سوف يجعل الأمر صعبًا في القبول، إذ يشير لفظ (مكان) إلى موضعٍ ما على الأرض (مَكَانَ الْبَيْتِ)، فكيف نتجاوز لفظ (مكان) ونجزم أن البيت هو مجمعٌ ومأوىً فكريٌّ؟ 

 لو نظرنا إلى لفظ (مكان) في كتاب الله سنجد عجبًا: 

  • (وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجࣲ مَّكَانَ زَوۡجࣲ وَءَاتَیۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارࣰا فَلَا تَأۡخُذُوا۟ مِنۡهُ شَیۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَـٰنࣰا وَإِثۡمࣰا مُّبِینࣰا) (سورة النساء: آية 20). لفظ (مكان) هنا يعني قيمةً داخل حيّزٍ، ومكانة الشيء قيمته. ولفظ (المكان) على أنه نقطةٌ جغرافيةٌ هو أحد الحالات التي ينطبق عليها وصف (المكان) إذ تتموضع قيمة الشيء في حيّزٍ ما. 
  • (قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرࣲّ مِّن ذَ ٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضَلُّ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ) (سورة المائدة: آية 60). (شرٌّ مكانًا) تعني قيمتهم شرٌّ، أو أنهم ما حازوا إلا الشرّ.
  • (وَإِن یُرِیدُوا۟ خِیَانَتَكَ فَقَدۡ خَانُوا۟ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ فَأَمۡكَنَ مِنۡهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ) (سورة الأنفال: آية 71). لفظ (أمكن) في هذه الآية يوضّح المعني كثيرًا؛ إذ إنّ (أمكن منهم) تعني الاستحواذ عليهم.

عند مدّ الخط على استقامته محاولين فهم (مكان) في ظل لفظٍ مثل لفظ (الحج)، ولفظٍ مثل لفظ (البيت) سوف ندرك أنّ المقصود من (بوّأنا مكان البيت) تعني التمكن من البيت، أو بمعنىً أكثر وضوحًا أن نبي الله إبراهيم تمكّن تمامًا من بيت القصيد ومن أدواته، وهذا البيت هو مأوى ومجمع الأفكار والبراهين الدالة على الفكرة المجردة لله ووحدانيته، فقد كان يحتاج المحاججة في أكثر من موضعٍ. 

هذه الحال يعرفها الباحثون تمامًا، فعندما يتعرّض الباحث لموضوعٍ جديدٍ فإن استمراره في النقاش وطرح الأسئلة والحوار الهادف يُمكّنه يومًا بعد يومٍ من تجميع فكرته، على نحوٍ يصبح متمكنًا جدًا. 

يمكننا الآن فهم الآية في سياقها المنضبط: إن نبي الله إبراهيم كان مُحاججًا قويًا، فاستطاع بنهاية الأمر أن يكون أستاذًا وخبيرًا في المحاججة، وفي الأمر الذي كان يحاجج فيه. أعترف أن الأمر معقّدٌ للغاية، ولكنّ الفكرة سوف تبدو واضحةً تمامًا عندما نستنتج ما هو البيت الذي بوّأ الله إبراهيم مكانه في السطور القادمة. 

الجزء الأخير في الآية جزءٌ خطيرٌ بمعنى الكلمة؛ لأنه يكرّس لفكرة التجسيد التي قهرها نبي الله إبراهيم ذاته (طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). حتى نفهم معنى (التطهير) هنا يجب أن ندرك تمامًا ما هو (البيت) الذي طهّره نبي الله إبراهيم، بل رفع منه القواعد. هل من الجائز أن نقول (بيت الله) ونحن نعني مجسّمًا على الأرض، فيكون مفهوم هذا المجسّم مأوى الله أو مستقرّ الله؟ هذه فكرةٌ وثنيةٌ نعوذ بالله منها، أما عندما نقول إنّ فكرة التوحيد هي بيت الله، فهنا قد خرجنا من الوثنية إلى فكرةٍ مجرّدةٍ عن الله، ولم نُقيّد الفكرة في حيّزٍ ماديٍّ.

البيت الذي أسّسه نبي الله إبراهيم هو بيت الله على الحقيقة، وهو تمامًا ما سوف تجد الله عنده، أو مجمع فكرة الإله بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. لو تخيل إنسانٌ أنّ نبي الله إبراهيم بنى مجسّمًا وقال هذا بيت الله، فهو لم يفهم مهمة نبي الله إبراهيم من الأساس. هذا النبي العظيم الذي كلما أبحرنا في المشاهد القرآنية التي تقص علينا أحداث حياته نكتشف عظمةً لا مثيل لها، وحضورًا نادرًا من شخصيةٍ استحقت بجدارةٍ لقب (أُمّة). نبي الله إبراهيم كان حلقةً فاصلةً في تاريخ البشرية، إذ انتقل بها من مرحلة التجسيد إلى مرحلة التجريد. لقد تحوّلت فكرة الإله من فكرةٍ ماديةٍ تحلّ في الأشياء، إلى فكرةٍ مجردةٍ ليس كمثلها شيء. بعد هذا التحوّل العظيم يأتي إنسانٌ ليقول إنّ نبي الله إبراهيم بنى بيتًا مجسّدًا رمزًا للإله، أو سمّاه بيت الإله، وهو بذلك ينسف الفكرة التي أخبر بها القرآن عن نبيّ الله إبراهيم.

جميع الآيات التي ربطت بين نبي الله إبراهيم وبين مفهوم (البيت) هي آياتٌ تتحدّث عن الفكرة التي بدأها نبي الله إبراهيم، وحاجج فيها حتى استقرّ عليها، وأسّس أول فكرةٍ عن الإله، فأصبح هذا هو البيت (مثال تقريبي: بيت الشعر أو بيت القصيد). سوف نتعرّض لجميع الآيات التي ذكرت (البيت) مرتبطًا بنبيّ الله إبراهيم لبيان الفكرة، ثم نوضّح الفرق بين مفهوم (البيت الحرام) و(البيت العتيق) وهي تعبيراتٌ لا تخصّ المكان المعروف حاليًا، بل هي معانٍ تتحدث عن علاقة الإنسان بالكون، بل محاور أساسيةٌ لا بدّ أن ينتبه لها الإنسان عندما يقرؤها في سياقها، وسوف يجد انسجامًا وتناغمًا وبيانًا لأشياء مذهلةٍ أخبر عنها القرآن وأرشد، ولم ينتبه لها أحدٌ حتى هذا اليوم. 

سوف أبدأ مع أول ظهورٍ لمفهوم (البيت) مع نبي الله إبراهيم في سورة البقرة، حيث يعلن الله من خلالها أنه جعل البيت مثابةً للناس وأمنًا. 

(وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَیۡتَ مَثَابَةࣰ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنࣰا وَٱتَّخِذُوا۟ مِن مَّقَامِ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ مُصَلࣰّىۖ وَعَهِدۡنَاۤ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ أَن طَهِّرَا بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡعَـٰكِفِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ) (سورة البقرة: آية 125). 

حتى نفهم هذه الآية التي أسّست لمفهوم (البيت) لا بدّ أن نتدبر الآية السابقة، عن تمام وصول نبي الله إبراهيم لفكرةٍ مجرّدةٍ عن الإله. 

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (سورة البقرة: آية 124). 

من خلال مشاهد نبي الله إبراهيم التي حاول فيها بكلّ السبل الوصول لله حتى هداه الله لليقين، ثم المحاججة الشهيرة، بدأت تتكوّن لديه فكرةٌ عن الإله، لكنّ هذه الفكرة لم تكن مكتملةً بعد، فجاءت هذه الآية تخبرنا أنّ الفكرة قد اكتملت بفضل الله. 

(جاعلك للناس إمامًا) أي تتقدمهم، ولم يتقدمهم عليه السلام إلا في هذه الفكرة التي نذر حياته فيها، والتي أتمّها الله له. الآية أعطتنا مفهومًا شاملًا عن البيت الذي سوف يصبح بفضل نبي الله إبراهيم مثابةً للناس وأمنًا. 

(البيت) هو الكلمات التي أتمّها الله لنبيه، وهي الفكرة الأساسية عن الله، وهي فكرة التجريد، والإله الذي ليس كمثله شيء، وبيده كلّ شيءٍ، وهي فكرةٌ تخالف تمامًا أيّ فكرةٍ مجسّدةٍ. هذه الآية التي أخبرنا فيها ربنا بالكلمات هي البيت، لا شك في ذلك، وجاءت الآية التالية تخبر أن الله جعل البيت مثابةً وأمنًا للناس. 

 

نعم، (المثابة) هي العطاء الإلهي الذي يوفّر الأمن والطمأنينة لمن اتّخذ نبي الله مثالًا يقتدي به في منهجه، والنهج هنا هو أن يكون مسلمًا غير متحيزٍ وحنيفًا متطلعًا للمعرفة كما شرحنا هذه المفاهيم في كتاب قولًا ثقيلًا. 

ليس هناك عطاءٌ ولا أمنٌ أفضل ولا أعظم من فكرة الوحدانية، فبها يدرك الإنسان وجوده ومصيره ومهمته، فالتعليمات والإرشادات مصدرها واحدٌ، وكل القوانين والتقديرات تؤول إلى الواحد؛ ممّا يجعل الأمر سهلًا على إلانسان في التتبع وفهم الحقائق. إنّ فكرة فهم القرآن من داخله، وإيجاد منهجٍ علميٍّ محددٍ لفهم القرآن، هي نتيجةٌ مباشرةٌ لفكرة الوحدانية؛ فالعقل والمنطق يقول لو أن خالقًا واحدًا قديرًا عالمًا أنزل هذا الكتاب وهذه الكلمات فلا بدّ أن تكون منسجمةً مع القوانين الكونية، وتصفها بصورةٍ حقيقيةٍ. إدراك هذه الفكرة هو مفتاح الوصول إلى الله، وكأننا في (بيت الله) بالحرف والمعنى. 

خُتمت الآية أيضًا بقول الله تعالى: (وَعَهِدۡنَاۤ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ أَن طَهِّرَا بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡعَـٰكِفِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ) (سورة البقرة: آية 125). 

ما معنى (طهّرا بيتي)؟ 

اجعلا الكلمات لا يشوبها شركٌ وواضحةً تمامًا للناس، إذ إنّ لفظ (طهّر) جاء في القرآن في أغلب المواضع يخصّ التطهير المعنوي، مثل تطهير القلوب. حتى الآيات التي يظنّ بعضهم أنّ التطهير فيها جاء يصف تطهيرًا ماديًا ليست كذلك، ولكنّنا لن نتطرّق لها هنا تجنًّا للتشتيت. 

أضرب مثالًا لمفهوم (التطهير) هنا حتى تتضح الصورة: لنفرضْ أنّ باحثًا توصّل إلى فكرةٍ معينةٍ جديدةٍ تمامًا، فهنا يجب عليه عرض الفكرة على المجتمع المهتمّ بهذه الفكرة. لكن قبل عرض الفكرة يجب أن يكون متمكنًا منها، والفكرة نفسها خاليةٌ من أيّ نواقص أو عيوب يُمكن أن تصبح ثغرةً لنفاذ الحجج المضادة. الأمر الإلهي لنبي الله إبراهيم هو أمرٌ بسدّ الثغرات، وهو على ذلك مستطيعٌ بسبب خبرته ومحاججاته التي اكتسبها، والتي أخبر عنها القرآن. 

الوضع الطبيعي لفهم مدلول (المسجد الحرام) و(البيت الحرام) هو الانطلاق من مفهوم (الحج) الواضح، ثم محاولة فهم ما هو (المسجد) وما هو (البيت). ما حدث في القديم هو الانطلاق من مجسماتٍ وتصوراتٍ، ومن ثمّ حُرّف مفهوم (الحج) ذاته. إذا كان نبي الله إبراهيم سوف يؤذّن في الناس بالحج، فلا بدّ أن يتوافر مكانٌ آمنٌ لا خوفٌ فيه ولا قلقٌ لإقامة المحاججة، إضافةً لفكرةٍ تقوم عليها المحاججة، وهذا ما تمّ فعلًا؛ فالمسجد الحرام هو المكان الذي سوف يطمئنّ فيه الناس، والبيت هو الفكرة أو الكلمات التي سوف يحاجج فيها، وهي كلمات الله. ربما لفظ (الفكرة) ذاته غير واضحٍ بالشكل المطلوب، ولكن لو تعمّقنا قليلًا فسندرك أنّ لكلّ فكرةٍ عناصر سوف نتناولها بعد قليلٍ، لنحيط بالمقصود بالفكرة وعناصرها، وعلاقتها بمدلول (البيت). 

إننا نرى تطور الفكرة مع نبي الله إبراهيم خطوةً خطوةً، بدءًا من الحيرة والقلق والتساؤل المستمر عن ماهية الإله. إلى الاهتداء ثم المحاججة ثم التوصل إلى قلب الفكرة، ثم تنقية الفكرة من الشوائب والنواقص، ولم يبقَ إلا أن يعلن المحاججة العامة، وهي الحجّ الذي أعلن عنه الله في كتابه، وقال له: (أذّن في الناس بالحج). قبل أن أقوم بتحليل آية الحج التي طلب الله فيها من نبيه إبراهيم أن يؤذّن في الناس بالحج لدينا آيةٌ أخرى تشير إلى مفهوم (البيت) و(قواعد البيت)، والتي لا شكّ أنها أشكلت على كثيرين.

(وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ) (سورة البقرة: آية 127).

بمجرد فهم مقصود (البيت) سوف نرى أنّ هذه الآية تخبر عن نفسها، من خلال تعبيراتٍ ثابتةٍ وواضحةٍ. الآية تقول (يرفع إبراهيم القواعد من (البيت) وفسّرها المفسر على أنّ إبراهيم يرفع قواعد البيت، وهنا تكمن الإشكالية. 

لو أنّ نبي الله إبراهيم يرفع قواعد البيت فيصحّ أن يكون التفسير أنّه يؤسّس البيت، ومرحلة القواعد تُعدّ مرحلةً سابقةً لبناء البيت، فلا معنى مِن أن يرفع القواعد، والبيت كامل البناء. 

الآية تقول يرفع القواعد (من البيت) أي إن البيت هو الأساس، والقواعد خرجت منه، وهو المعنى الذي يشير بكلّ وضوحٍ ويؤيّد مفهوم البيت الفكري. عندما اكتمل البيت أو الفكرة الأساسية عند نبي الله إبراهيم شارك ابنه إسماعيل الفكرة، وبدأ يرفع القواعد من البيت. القاعدة تعني محور ارتكازٍ أو ركنًا أساسيًا، وقد جاءت في كتاب الله تشير إلى الارتكاز المعنوي. 

(وَلَا تَقۡعُدُوا۟ بِكُلِّ صِرَ ٰطࣲ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبۡغُونَهَا عِوَجࣰاۚ وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ كُنتُمۡ قَلِیلࣰا فَكَثَّرَكُمۡۖ وَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ) (سورة الأعراف: آية 86). القعود بكل صراطٍ هو عرقلة الإصلاح، والقعود ذاته معنىً غير مادي. 

الآية التي تخبرنا أنّ نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل رفعا القواعد من البيت تشير إلى أنهما وضعا الأركان الأساسية للبشر، والمنبثقة من البيت، أو التي أساسها الفكرة المجرّدة عن الإله. 

هذه الركائز الأساسية أو القواعد هي علاقة الإنسان بمحيطه، وكيفية تعامله مع مَا حوله، والتي أخبر عنها القرآن بوضوحٍ، وجاءت مرتبطةً بصورةٍ مذهلةٍ بعملية الحج، كالأنعام والصيد اللذَين سوف نتعرّض لهما في السطور القادمة؛ لنتعرّف على تلك العظمة، وتلك الكلمات التي تنطق باسم الإله، بدلًا من تلك الأساطير التي تنطق بتصوّرات البشر. 

إحدى تلك المشاهد القرآنية عن (البيت) وعن (الحج) جاءت في سورة آل عمران، والحقيقة أنّها صعبةٌ للغاية، وفهمها خارجَ نطاق التجسيد أمرٌ ليس سهلًا أبدًا، لا سيما في ظلّ هذا القدر الرهيب من التراكمات التراثية، واستقرارها في وجدان الناس. 

 

مدلول كلمة (بكة) 

 

لا يمكن اكتمال فهم الحج إلا من خلال مفاهيم مثل (بكة) و(مكة) و(الكعبة)، وسوف نتناول هذه المفاهيم تباعًا. 

(إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ (96) فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ (97)) (سورة آل عمران: آية 96-97).

هذه الآيات في وضعها الحالي تدعم فكرة التجسيد بشدةٍ، بسبب تعبير (ومن دخله كان آمنًا). الحقيقة أنّ التاريخ لا يؤيّد التفسير التقليدي، إذ إنّ كثيرًا مِن مَن دخل المسجد الحالي لم يكن آمنًا، بل إنّ كثيرًا من الناس قُتلوا هناك، بل وحدثت مذابح فيها، ورُدِم بئر زمزم بجثث الحجيج في عهد القرامطة. مهما كانت التأويلات ومحاولة التبرير فليس هناك عذرٌ؛ لأن التفاسير استقرّت على أنّ (البيت) هو هذا البيت المجسم في تلك البقعة. لكنّ مفهوم (البيت) بأنه الكلمات أو الفكرة التي جاء بها نبي الله إبراهيم سوف يُزيل هذا الارتباك ويوضّحه بصورةٍ رائعةٍ. لو استعرضنا -فقط- الآية التي تسبق هاتين الآيتين لأدركنا مفهوم (البيت) تمامًا، والذي يتكامل مع ما توصلنا إليه من خلال الآيات السابقة. 

(قلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) (سورة آل عمران: آية 95)

تتحدّث الآية عن مِلّة إبراهيم، وهي منهجه الذي وضعه للناس. ما هي ملة إبراهيم صلوات ربي عليه؟ ملة نبي الله إبراهيم هي كونه مسلمًا حنيفًا، و(مسلمًا) تعني منصفًا غير متحيزٍ، و(حنيفًا) تعني متطلعًا إلى المعرفة بشغفٍ كما شرحنا ذلك في أكثر من موضعٍِ، ويمكن مراجعة كتاب قولًا ثقيلًا للوقوف على هذه التحليلات باستفاضة. ملة إبراهيم قادته إلى فكرة التوحيد، والإله الذي ليس كمثله شيء. وهذا -كما ذكرنا- هو البيت الذي أسّسه هذا النبي العظيم، وعلى الناس أن يحتموا به ويلوذوا به، ولو دخل الناس هذا البيت أو اعتصموا بهذه الفكرة فلا شك سوف يكونون آمنين من الشّرك. ولهذه الفكرة التي تولّدت في عقل نبي الله إبراهيم عناصر يمكننا إجمالها فيما يلي: 

1- الغرض: كان نبي الله إبراهيم يبحث عن جدوى الوجود، وهل هناك غرضٌ لوجوده في هذه الحياة، إذ يتحقق الغرض بمعرفة وجود المُسبّب لهذا الوجود أولًا. 

2- معلومات: كان لدى نبي الله إبراهيم بعض المعلومات عن الظواهر الطبيعية، ومدى نفع الأشياء وضررها، والتي سجلها القرآن لنا في أكثر من مشهدٍ.

3- الاستدلال: لقد وضح الاستدلال عندما تنقّل نبي الله إبراهيم بين القمر والشمس والكواكب محاولًا التعرّف على الخالق، وكان في كلّ مرةٍ يستخدم بعض الاستدلالات، مثل: هذا أكبر، أو أن هذا لا يصحّ أن يكون إلهًا لأنه أفل وغاب، وهكذا انتقل من استدلالٍ إلى استدلالٍ محاولًا الوقوف على الحقيقة. 

4- النتيجة: وهي ما توصّل إليه نبي الله إبراهيم بالنهاية، وأن الله ليس كمثله شيءٌ، وأنه فوق كلّ شيءٍ. 

الفكرة وعناصرها هي البيت الذي أسّسه نبي الله إبراهيم، إذ لم نجد أحدًا قبله استطاع أن يبني استنتاجًا مكتملًا بهذا الشكل وهذا الترتيب، وقد أهّله كونه مسلمًا حنيفًا أن يكون مثالًا يُقتدى لكلّ البشرية. 

لو أردنا أن نستمرّ ونفهم ما هي قواعد البيت، فسوف ندرك على الفور أنها هي المفاهيم المتشعّبة من هذه الفكرة، مثل:

  • مفهوم القدرة، ومفهوم العلم، ومفهوم الرحمة، وكلّ المفاهيم التي يمكن أن تُستَخلص من الفكرة الأساسية. 
  • كذلك الافتراضات هي من القواعد التي يمكن أن تُرفع من البيت، لفهم الغيب وما سوف يؤول إليه مصير الإنسان. 
  • التداعيات كذلك هي من القواعد؛ فلكلّ فعلٍ ردُّ فعلٍ، ولكلّ سببٍ نتيجةٌ. 
  • إضافةً إلى أنّ علاقات الأشياء ببعضها هي من أهم القواعد التي يمكن أن تؤسَّس على مفهوم البييت الأول. 
  • وجهات النظر والأسئلة هي أيضًا من القواعد التي يمكن أن تتفرّع من مفهوم البيت. 

البيت وقواعده هو في الحقيقة مركز الحج، والذي يجب أن يحجّ الناس إليه؛ بمعنى النقاش حول هذه الأساسيات، والتي هي مفتاح كل علمٍ، ومنبت كل معرفةٍ في تاريخ البشر ومستقبلهم. 

أول بيتٍ وُضع للناس هو ذلك البيت الذي يشمل الفكرة الأساسية عن الإله، وعناصر هذه الفكرة، وهذا البيت وُضع للناس ببكة. فما معنى (بكة)؟ قبل أن أتولى مفهوم (بكة) بالتحليل سوف أمرّ على التعبير القرآني (ومن دخله كان آمنًا) إذ إن هذا التعبير قد يُؤيّد فكرة البيت المجسم، الذي إن دخلته كنت آمنًا. فماذا يعني (مَن دخله كان آمنًا)؟ 

دائمًا ما ينزع الإنسان إلى فهم الألفاظ بشكلٍ مجسّدٍ، رغم أنّ هناك احتمالاتٍ أخرى جاءت في القرآن تشير لخلاف ذلك. تعبير (من دخله كان آمنًا) هو أحد هذه التعبيرات التي لا يستطيع الإنسان الإفلات منها بسهولةٍ، أو فهمها خارج نطاق البيت المجسد، رغم أنّ فعل (دخل) جاء يصف دخولًا غير ماديٍّ، مثل دخول الناس في السِّلم، والسِّلم في حدّ ذاته فكرةٌ، وليس جسدًا. 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱدۡخُلُوا۟ فِی ٱلسِّلۡمِ كَاۤفَّةࣰ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ٰتِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ) (سورة البقرة: آية 208). 

(من دخله كان آمنًا) تعني مَن دخل في هذا السبيل وهو سبيل التفكير السليم بعناصره فسوف يكون آمنًا. ما يجعل الإنسان غير آمنٍ هو أن يسيطر عليه الهوى،  أو أن يكون الغرض ليس غرضًا نزيهًا، أو ألا يكون هناك وجودٌ لمعلوماتٍ أو استدلالٍ أو نتائج. من سار في دروب التشويش وقلّد دون دخول هذا البيت، الذي أول مَن أسّسه هو نبي الله إبراهيم، فلن يكون آمنًا. 

إذا كان الدخول في السّلم يعني تفعيل عناصر السلم، والسعي لفعل كل ما يوجب السلم وإظهار ذلك، فإن الدخول للبيت هو كذلك تفعيلٌ لكلّ عناصر البيت التي ذكرناها، من تحقيق الغرض، وتوفير المعلومات، ثم الاستدلال، ومحاولة استخلاص النتائج. 

قد يعتقد القارئ أن مفهوم الحج أصبح صعبًا للغاية، والحقيقة هو كذلك؛ فهو مفهومٌ خاصٌّ بطبقة المفكّرين والفلاسفة والباحثين؛ لأن هؤلاء مَن سوف تقع على عاتقهم المحاججة. 

نأتي الآن على لفظ (بكة) الذي جاء في الآيات أيضًا، وجعل الأمر أكثر صعوبةً في التقبّل؛ لأن (بكة) بحسَب التراث هو اسم القرية التي وُلد فيها نبي الله، إضافةً إلى اسم (مكة) واسم (أم القرى)، ولها مجموعة أسماءٍ عظيمةٌ.

عند استعراض القرآن وفهم السياق سوف نكتشف أنّ (بكة) ليست (مكة)، وأنّ كليهما لا يشير إلى اسم هذه البقعة أبدًا. لفظ (القرية) هو ما يشير إلى هذه البقعة من حيث حالتها وصغرها ومحدوديتها، والذي ورد في أكثر من موضعٍ في كتاب الله متعلّقًا بأحداث وقت نزول القرآن. 

(وَقَالُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ عَلَىٰ رَجُلࣲ مِّنَ ٱلۡقَرۡیَتَیۡنِ عَظِیمٍ) (سورة الزخرف: آية 31). 

(وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ قُرۡءَانًا عَرَبِیࣰّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَتُنذِرَ یَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَیۡبَ فِیهِۚ فَرِیقࣱ فِی ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِیقࣱ فِی ٱلسَّعِیرِ) (سورة الشورى: آية 7). 

لفظ (أم القرى) أو (القرية) لفظٌ عامٌ، وجاء هنا يشير إلى البقعة الجغرافية التي عاش فيها الرسول العظيم، ولفظ (بكة) على سبيل المثال لا يشير إلى هذه البقعة، وإنما يشير إلى حالة تأسيس البيت الذي تناولناه مع نبي الله إبراهيم.

كذلك فإن اختلاف لفظ (بكة) عن (مكة) ليس اختلافًا اعتباطيًا، بل هو مقصودٌ من ربّ العالمين، ويجب أن يخجل المفسّر إذا جعل كلّ هذه المفردات في سلةٍ واحدةٍ وصفًا للمكان نفسه من دون دلالةٍ خلفها.

أصل كلمة (بكة) هو بكوء، وكما جاء في قاموس اللغة تعني البكاء، أو نقص الشيء وقلّته. البكاء ذاته هو حالةٌ لا إراديةٌ ناتجةٌ عن إحساس الفقد. ولا يبكي الإنسان إلا عندما يفقد شيئًا، أو يشعر بالضعف أمام أمرٍ ما. 

عندما نضع المعطيات جنبًا إلى جنبٍ سوف ندرك أنّ (بكة) تُمثّل حالة افتقاد أمرٍ ما، وهذا الأمر يكاد يعلن عن نفسه مع نبي الله إبراهيم. فقد كانت البشرية تغطّ في نومٍ عميقٍ، ولا تُدرك معنى الإله، وليس لديها أدنى فكرةٍ عن وجوده. في هذه اللحظة الفارقة جاء نبي الله إبراهيم بأمرٍ عظيمٍ كهذا. (ببكة) تعني بلحظةٍ حالكةٍ، يخيّم فيها افتقاد أهمّ مبدأ من المبادئ الإلهية، وهو التجريد، وفكرة التوحيد، التي جاء بها نبي الله إبراهيم. (أول بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة) أي بتلك الحالة الفارقة، والتي كان فيها العَوَز على أشدّه. 

يجب أن ينتبه القارئ أو المسلم القرآني إلى أنّ مفهوم (الحج) ذاته شديد الوضوح، وكذلك مفهوم (البيت)، ولا يمكن أن يُحمل على أنه بيت الله بشكلٍ تجسيديٍّ؛ فهذا أمرٌ خطيرٌ للغاية، ومن لا يستطيع إدراك خطورته فلا يجب أن يخوض فيه مستسهلًا أمرًا عظيمًا. 

لو بحثنا في المصادر التاريخية قبل الإسلام عن اسم (مكة) أو (بكة) أو اسم هذه البقعة فلن تجد شيئًا يشير إليها أبدًا، وكلّ ما كُتب عن هذه البقعة كان بعد استتباب الأمر للدولة الإسلامية، فأصبحت كلّ المسميات تحصيل حاصلٍ بناءً على تفسير الناس وقتها. حتى المعاجم التي ظهرت تأثّرت كثيرًا بهذه التفسيرات، رغم وجود التناقض الكبير بين مدلول اللفظ في القرآن ومدلوله لدى البشر وقتها. أوضح مثالٍ على ذلك هو مثال (الحج) الذي نتناوله الآن، والذي لم ينتبه إليه أحدٌ حتى يومنا هذا، رغم وضوح مفهوم الحج والمحاججة، ولا سيما أنّ مَن أسّس له هو نبي الله إبراهيم. 

مِن الأشياء اللافتة للنظر أنّ العرب قبل الإسلام في تلك البقعة التي تسمى (مكة) لم يكن اسم إسماعيل وإبراهيم من أسمائهم، وهم المجتمع القبلي شديد التعلق بأجداده وأسلافه. لن تجد في أسمائهم التي وصلتنا قبل الإسلام أيّ ذكرٍ لإسماعيل أو إبراهيم، رغم الزعم بأنّ من بنى هذا البيت هو إبراهيم وإسماعيل. هل من المعقول أنّ بيتًا له هذه المكانة التي يعتقدونها، ويعرفون من بناه، بل وبحسَب التاريخ هو من أعطاهم الفضل والشرف، ثم لا يُطلِق أحدٌ منهم اسم بانيه على أولاده؟

شيءٌ آخر مثيرٌ للاهتمام أن اليهود والمسيحيين ينسبون أنفسهم كذلك لنبي الله إبراهيم، وكان اليهود تحديدًا أهل معرفةٍ وأهل كتابٍ، ومع ذلك لم يسكنوا بجانب هذه البقعة أبدًا، ولم يحجّوا إليها، بل كانوا يقيمون في يثرب وبقعٍ أخرى غير تلك القرية. 

حتى بعد الإسلام لم يهتم اليهود بتلك البقعة أبدًا، ولا يعتقدون أنها تخصّ نبي الله إبراهيم. بغض النظر عن تلك الإشارات التاريخية والتي لا تُشكّل أسسًا لفهم اللفظ القرآني نجد أن اللفظ القرآني محايدٌ، ومن خلال فهمه من داخل القرآن يخبر عن حقائق تختلف تمامًا عن ما هو سائد اليوم، بل يجعل ما هو سائدٌ أقرب للوثنية وطمس كلمات الله بصورةٍ مرعبةٍ. 

(بكة) تلك الحالة المظلمة، الحالة التي يتخبّط فيها الناس نتيجةً حتميةً لافتقاد أهمّ مبدأ، وهو مبدأ وجود الخالق، وفكرة الإله عند الناس. للأسف الشديد أرى هذه الحالة تتكرّر اليوم بصورةٍ مفزعةٍ، وإن لم يُفِق الناس من هذه الظلمة فسوف يتهدّد البشرية خطرٌ داهمٌ. العالم اليوم ينقسم في معظمه إلى طائفتين: 

الطائفة الأولى تراثيون يحرّفون بجهلٍ كلمات الله، ويصدّون عن سبيل الله أهلَ العلم والفكر، ويصيحون في الناس أنّ الدين بالنقل لا بالعقل، حتى بدأ التديّن يطرد كلّ مفكّرٍ ومثقّفٍ، ويجذب كلّ السُّذّج و السطحيين والمقهورين. 

الطائفة الثانية هي التي تسير خلف شهواتها وملذاتها، متمردةً على كل شيءٍ دون أيّ فرصةٍ للتراجع أو التفكير في العواقب.

إنها حالة (بكة) بامتياز، ولن ينقذ البشرية منها إلا عودةٌ سليمةٌ لكلمات الله، والتعرف على الإله من خلال كلماته وتعبيراته التي أخبر بها عن نفسه، ومن خلال دلائل علميةٍ ملموسةٍ مقاسةٍ يتصدّى لها رجال العلم والبحث الحقيقيّون. إننا بحاجةٍ ملحةٍ اليوم قبل الغد إلى مصباحٍ يضيء العقل الذي أصبح لا يقتنع إلا بالدليل، فيُغلق باب الأساطير. 

عندما ننظر إلى تكملة الآية بعد لفظ (بكة) سنجد أن الله يقول عن هذا البيت: (مباركًا وهدىً للعالمين)، (المباركة) هي الزيادة في الاستقرار والاطمئنان، و(الهدى) لا يخفى على أحدٍ، وهو الاسترشاد والرؤية الصائبة. علاقة هذه المعاني والمدلولات غير المادية تشير بثباتٍ إلى مفهوم (البيت) غير المادي، وأنه فكرةٌ، والفكرة هي التي تهدي، وليست مجسّمًا أو مجموعةً من الحوائط. 

الآية التالية بعد الآية التي ذكرت (بكة) زادت وضوح فكرة البيت، وأعطت دلائل غايةً في الروعة: 

(فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ) (سورة آل عمران: آية 97).

(فيه آياتٌ بيناتٌ) أيُّ بيتٍ فيه آياتٌ بيناتٌ؟ لا شك أنه البيت الذي أسّسه نبي الله إبراهيم، وهذه الآيات البينات هي العلامات الواضحات على الخالق. 

عندما نتحدث عن الفكرة وعناصرها سندرك على الفور أن دخول البيت بهذه الطريقة سوف يمنح الداخل آياتٍ بيناتٍ، أما المجسّمات التي نعتزّ بها اليوم، واستبدلناها ببيت الله فلا تشير إلى أيٍّ من هذه الآيات البيّنات. 

حتى تظهر فكرة الآيات البينات دعنا نضرب مثالًا: لدينا مجموعةٌ من العلماء، جلسوا للمحاججة على أسسٍ سليمةٍ دون تحيزٍ أو أغراضٍ خبيثةٍ. في خاتمة هذه المحاججة سوف تتجلّى الحقيقة، والتي بدورها سوف تقود إلى الله. دخول البيت الذي أسّسه نبي الله إبراهيم يجعل الإنسان آمنًا، وفي حالة هدايةٍ مستمرةٍ؛ بسبب حصوله على الآيات البينات. أيّ أمرٍ علميٍّ يُثمر بالنقاش المستمر عن استقرارٍ على نتيجةٍ معينةٍ، وهي لا شكّ هدىً للعالمين. لا يجب أن نُغفل كل هذه المفردات التي تتحدث عن جانب الهداية والآيات المرتبطة بالحج والبيت، وننزع إلى بناء هيكلٍ ثمّ نقوم بتقليم كل الآيات على مقاس هذا المجسّم. 

لقد خُتمت الآية بقول الله: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا)، حجّ البيت لن يتوافر لكلّ الناس، بسبب القدرات العقلية المختلفة لكل شخصٍ، ولكنه سبيل أصحاب العقول الراقية، وهذه الدعوة لكل الناس بنصّ القرآن، والتي تُثبت كذلك أن الحج هو النقاش ولا شيء آخر. ولأن الحج لن يستطيعه الناس جميعًا، فلا عجب ألا يَفهم مفهوم (الحج) كل الناس؛ لأنه مفهومٌ خاصٌ جدًا. المصيبة أن يُحرّف مفهوم (الحج) بفجاجةٍ، ثم يسود هذا المفهوم أممًا مختلفةً وعلى مرّ العصور. سوف يُعدّلُ هذا المفهوم لا محالة، وهذا وعد الله، وبقدر ارتقاء الناس وإعلائهم لكلام الله سوف تعود المفاهيم الصحيحة لوضعها الطبيعي، وبقدر التعصّب والتحيّز والشرك سوف يحارب الناس المفاهيم الجديدة، حتى يخزيَهم الله وينصر كلماته على يد من يشاء من عباده. 

بعد أن انتهينا من (بكة) سوف نتعرض للفظ (مكة) والذي لم يرد ذكره إلا مرةً واحدةً في كتاب الله.

 

مدلول لفظ (مكة)

(وَهُوَ ٱلَّذِی كَفَّ أَیۡدِیَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَیۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرًا) (سورة الفتح: آية 24). 

أصل كلمة (مكة) مكو، وهو -كما جاء في المعجم- الصفير، أو الأصوات التي تخرج من البطن نتيجةً لوجود بعض الانتفاخات. كذلك جاء أحد مشتقات (مكة) في كتاب الله في سورة الأنفال على هيئة (مكاء). (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَیۡتِ إِلَّا مُكَاۤءࣰ وَتَصۡدِیَةࣰۚ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ) (سورة الأنفال: آية 35). 

بالنظر إلى أصل الكلمة وسياقها في الآية، سنجد أنّ (مكاء) تعني أصواتًا غير مفهومةٍ أو بلا معنى. يمكن تقريب معنى المكاء هنا إلى أنه جلبةٌ وضوضاءٌ ليس لها معنى. 

نعود لاسم (مكة) لفهم مدلوله كما جاء في الآية الوحيدة في كتاب الله. الآية تصف لحظة انتصار المسلمين على أعدائهم، وتخبرنا بأنّ الله كفّ أيديهم -أي الأعداء- عن المسلمين، رغم أنّ المسلمين قد ظفروا بهم؛ أيْ انتصروا عليهم.

التعبير عجيبٌ نوعًا ما، فكيف يكفّ أيدي هؤلاء القوم رغم أنّهم مهزومون بالأساس ببطن مكة، بعد انتصار المسلمين عليهم؟ 

بعد الانتصار يحدث نوعٌ من الجلبة والهرج، وهذه الجلبة والهرج موافقةٌ تمامًا لمدلول لفظ (مكة) كما جاء في المعاجم، فيصبح المعنى هنا: إنّ الله كفّ أذى الأعداء الذي كان يمكن أن يصيب المسلمين من داخل الهرج والضوضاء التي حدثت. (بطن مكة) تعني بواطن الهرج والجلبة التي صاحبت بالفعل فتح هذه البلدة. التاريخ يُخبرنا بالفعل عن مناوشاتٍ حدثت في أثناء فتح مكة بعد تمام الفتح، لكنْ سرعان ما استتبّ الأمر. القرآن يصف هذه الحالة، ويصف حالة الهرج وما بطن فيها، من خلال التعبير القرآني (بطن مكة). 

الادعاء الذي يتبنّاه التراثيّون بأنّ العرب قد فهموا لغة القرآن، بل هم أكثر الناس درايةً بهذه اللغة، يسقط كلما فتحت التفسير ورأيت كمّ الاختلاف والتباين حول معاني الكلمات ومدلولاتها. عندما جعلنا مدلول الكلمة دالًا عليها أخبرت الكلمات عن الحالة التي تصفها، واستطعنا بالفعل استنتاج معلوماتٍ غاية في الأهمية. 

آية سورة الأنفال ذاتها التي جاء فيها لفظ (مكاء) تشير إلى أنّ هؤلاء القوم لا يفقهون شيئًا. (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَیۡتِ إِلَّا مُكَاۤءࣰ وَتَصۡدِیَةࣰۚ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ) (سورة الأنفال: آية 35). 

(صلاتهم عند البيت) تعني مقابل البيت أو عند قصد البيت. البيت هنا أيضًا هو فكرة الإله، وليس بيتًا مجسّدًا، وهنا يتضح المعنى بأن صلاتهم أو اتصالهم بالإله كانت تعلوه الضوضاء والضجيج والتشويش.

هذا يعني عدم وضوح فكرة الإله لديهم جيدًا، وليس معناه البيت المُجسّم. التاريخ يثبت ذلك أيضًا، إذ إنّ هذه البقعة كانت بقعةً وثنيةً لا تعقل شيئًا تقريبًا، ولم يكن فيها علمٌ ولا معرفةٌ، وكانت كلّ الموبقات مباحةً فيها. لم يعرفوا ما الرحمن وما الله، وكانت جُلّ معارفهم مستقاةً من لقاء بعضهم العابر مع اليهود أو النصارى إذا سمحت لهم الظروف بذلك. (صلاتهم عند البيت) أي تواصلهم مع فكرة الإله ما كانت إلا تخاريف لا أساس لها. 

لم يرد ذكر (مكة) إلا مرةً واحدةً في كتاب الله، مرتبطًا بنهاية معركةٍ، ومع ذلك أصبحت (مكة) من أكثر الأسماء تقديسًا في أمةٍ تزعم أنها تقرأ القرآن. 

عندما أسّس نبي الله إبراهيم الفكرة الأولى عن الإله، والتي استحق بفضلها الريادة وأن يكون أمةً، أصبحت هذه الفكرة بعده هي البيت الذي يدور حوله الناس ويطوفون. منهم من يقترب كثيرًا من المفهوم الحقيقي، ومنهم من أصبحت صلاته مكاءً بلا معنىً ولا هدفٍ. وبين هذين النمطين جاءت أنماطٌ مختلفةٌ، كلٌّ منها يرى فكرة الإله بحسَب معارفه. فكرة الإله الذي يريد من الإنسان فعلًا معينًا هي ما يجب أن يقوم عليها مفهوم المحاججة أو مفهوم الحج، وهذه الفكرة هي التي سوف تجيب عن: لماذا الإنسان هنا؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟. من هنا جاء الإذن والتوجيه الإلهي إلى نبي الله إبراهيم تحديدًا بأن يؤذّن في الناس بالحج، أي يُعلّمهم بأن يتناقشوا حول مفهوم (البيت) و(القواعد) التي رفعها نبي الله إبراهيم من البيت. 

المشهد الرابع: أذّن في الناس بالحج

(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (سورة الحج: آية 27)

هكذا أصبح مفهوم (الحج) مكتملًا بهذه الآية، إذ بعد أن تمكّن نبي الله إبراهيم من أدواته، ومن الموضوع الذي أقام عليه مدةً زمنيةً طويلةً يبحثه ويدرسه، وقد سجّل لنا القرآن مشاهد عديدةً عن بحثه ودراسته وتفكيره النبيل. 

بعد أنْ أصبح خبيرًا جاءه الأمر بأن يؤذّن في الناس بالحجّ. ليس هناك أوضح من ذلك، بل عندما قرأنا كتاب الله صارت الآيات تنطق دون مجهودٍ يُذكر. (أذّن في الناس) بمعنى قلْ للناس، أو أعلم الناس بالحج، يعني تداول الحُجج وناقش فيها. عندما أعلن الفقهاء أنّ (مكة) مُحرّمةٌ على غير المسلمين وقعوا في حيرةٍ من أمرهم عندما قرؤوا هذه الآية، وهي تعلن صراحةً بأنّ الأذان لـ (الناس) بالحج وليس لفئةٍ معينةٍ. لكنهم انفكوا من الآية بالقول بالنسخ، فجعلوا الآية التي جاء فيها التحذير من اقتراب المشركين من المسجد الحرام دليلًا -بحسب اجتهادهم- على منع الناس من دخول (مكة)، فجعلوا القرآن عِضِين حَرفيًّا، جُزُرًا معزولةً بينها اختلافٌ كبيرٌ. 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسࣱ فَلَا یَقۡرَبُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَـٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَیۡلَةࣰ فَسَوۡفَ یُغۡنِیكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۤ إِن شَاۤءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ) (سورة التوبة: آية 28). 

اعتقدَ المفسر أن هذه الآية هي التي نسخت قول الله (أذّنْ في الناس بالحج). ويمكن أن نفهم حيرة المفسر وقوله بالنسخ، في ظلّ غموض مفهوم (الحج) ومفهوم (البيت)، ولكن الآن أصبح الأمر يُخبر عن نفسه. (المسجد الحرام) في الآية هو مكان انعقاد الحج، وسورة التوبة تُعَنوِن لمسألة الحج الأكبر، والتي هي من أخطر الموضوعات، وسوف نتناولها في حينها مع هذه الآية بشيءٍ من التفصيل. 

أمّا وقد استطعنا فكّ شفرة الحج، فقد أصبحت الآية الآن تنطق بالحقّ، إذ التّأذين بالحجّ هو لكلّ الناس، وليس لطَيفٍ أو نموذجٍ فكريٍّ واحدٍ. النمط الواحد لا يُحاجج، بل يتّبع ويُعلن الموافقة، أما الحجّ بمعناه القرآني فلا بدّ أن يكون بين الجميع، إذ يُقدّم كلّ طرفٍ حُججه. الموضوع أشبه بإقامة مؤتمرٍ ضخمٍ، تجري فيه مناقشة كلّ أمرٍ جديد، حتى يتم الاستقرار على معرفةٍ وأفكارٍ جديدةٍ كلّ مرةٍ. 

لك أن تتخيّل منذ ألفٍ وأربعمائة سنةٍ يُوجّه القرآن الناس لإقامة مؤتمرٍ ضخمٍ تُقدّم فيه الحجج، وتناقش فيه الأمور، ولا يُهمّ أن يقتصر الأمر على أحدٍ بعينه، بقدر ما يهمّ أن تكون الحجة متماسكةً. كيف كان ليكون شكل الناس في يومنا هذا لو تمّ الحج بهذه الطريقة؟ لكنّ ما جرى أنه بدلًا من الامتثال للأمر القرآنيّ صار الأمر كما نرى، لا وجود لِما يُسمّى بالحجّ من الأساس، بل أُفرغ الاسم من مدلوله تمامًا. 

عندما فسّر المفسر لفظ (ضامر) قال إنها الناقة الضعيفة أو الهزيلة، إذ إنّ الناس يأتون للحجّ على ظهور الإبل فتضعف من المسير الطويل. نعم، هذا تفسير لفظ (ضامر) وهو تفسيرٌ يغوص في بيئةٍ صحراويةٍ لا تدرك النقاش ولا الحجج، وأغلب مفرداتها تدور حول الإبل والجبال ومظاهر طبيعيةٍ محدودةٍ للغاية. 

لفظ (ضمر) كما جاء في المعاجم يشير إلى الإمساك على شيءٍ بقوةٍ، ولعل الناس أسمَوا البعير الضعيف (ضامرًا) بسبب التصاق جوانبه من شدة الجوع. معنى (ضامر) معنىً أشمل بكثيرٍ من ذلك، لا سيما مع التنبيه بالحج الذي جاء في أول الآية.

(الضامر) في ظل وجود الحُجة يعني المُمسك بشيءٍ بقوةٍ، وهذا الشيء -من خلال السياق- هو الحجة. الآية تشير إلى أن مجرّد التأذين في الناس بالحجّ سوف يجعلهم يأتون رجالًا؛ أي يأتون بقوةٍ وعزمٍ، كُلٌّ يملك حجته القوية، وسوف يأتي من كل حدبٍ وصوبٍ رجالٌ لإلقاء ما في جعبتهم من أفكارٍ وحججٍ. (الضامر) هو الذي يضمر شيئًا، وهذا الشيء هو حجةٌ أو فكرةٌ ما. وسوف يأتي كل ضامرٍ بفكرته إلى مقر الحج، ويعلنها ويحاجج فيها. (الضامر) هو مفهوم الباحث الذي يملك شيئًا، ولديه أدلةٌ عليه؛ إذ يشير معنى (ضمر) إلى قوة الإمساك بالشيء. الباحث الذي لا يملك فكرةً وحجةً قويةً يقدمها لا يسمى ضامرًا، وإنما لفظ (ضامر) يعني أولئك الذين سوف يُقدّمون شيئًا في الحج. 

لتبسيط المعنى، لنفترض أنّ في مجال الفلك جاء إنسانٌ بحجةٍ ما، وفي مجال الطب جاء آخر بحجةٍ ما، وفي مجال الفلسفة جاء آخر. كلّ واحدٍ من هؤلاء ضامرٌ، وكل ضامرٍ سوف يقصده المهتمّون بالمجال الذي أنتج فيه. هذا معنى الآية، سوف يأتي أرباب الفلك بكلّ عزمٍ نحو علم الفلك وحججه، وسوف يأتي المهتمّون باللغة لمن يُضمر حجج اللغة وأفكارها. هذه الطريقة هي طريقة تقديم العلوم والأفكار وازدهارها، إذ في كلّ مرةٍ تُصحِّح الأفكار بعضها بعضًا، ويتعلّم الصغير من الكبير، وقليل الخبرة من ذوي العلم، وتتراكم المعرفة وتسير البشرية بخطىً ثابتةٍ نحو كشف الحقائق. كم هو بليغٌ التعبير القرآني (من كلّ فجٍّ عميقٍ)! وفيه إشارةٌ إلى تنوّعٍ وعُمقٍ لا مثيل له. فيه بُعدٌ جغرافيٌّ؛ إذ يأتي الناس من كلّ البقاع إلى هذا المؤتمر الضخم، وبعدٌ معرفيٌّ؛ إذ تتراكم وتنصبّ الأفكار الجديدة من كلّ حدبٍ وصوبٍ. هذا هو الحج، وهذه هي مفرداته التي تكاد تُنبِئ عن نفسها، وتنادي على الناس أنِ اقرؤوا كتاب الله وانصروا كلماته، ولا تستسلموا لتاريخٍ مزوّرٍ وتراثٍ حجّم كتاب الله، وجعله مثل الطلاسم. 

 

المشهد الخامس: الأنعام

 

(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (سورة الحج: آية 28).

ارتباط الأنعام بالحج كان من أكبر المسائل التي احتاجت لوقتٍ لفهم مدلولاتها، وفهم العلاقة بينهما، ولا شك أن التراث وثبات طريقة الحج التي ورثناها كان من أكبر العوائق لفهم ذلك. 

كنتُ قد تناولتُ الأنعام في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب، وأشرتُ إلى هذه الكائنات العجيبة ووضعها في كتاب الله. اليوم وبعد طول دراسةٍ اكتملت الصورة وزاد اليقين أنّ هذه الكائنات تحتلّ مكانةً خاصةً. 

لماذا بهيمة الأنعام تحديدًا؟ هل الحج أو هذا المؤتمر الضخم يحتاج إلى كلّ هذا التأكيد على الطعام والشراب بهذه الكثافة؟ 

الأمر لا يتعلق بالأنعام ذاتها، بل يتعلّق بالإنسان وتعامله مع محيطه. وجود الأنعام في آيات الحج ركنٌ أساسيٌّ يوضّح للإنسان حدود تعامله، بل يقول له إن مسؤولياتك هنا، وانتبه لها. 

عندما قرأنا قول الله تعالى (أُحلّت لكم بهيمة الأنعام) في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب كانت النتيجة التي توصلنا إليها أن الأصل في الأشياء المنع، وليس الإباحة كما ذكر الفقهاء.

الفقهاء قالوا إن الأصل في الأشياء الإباحة، بمعنى ما لم ينزل في تحريمه نصٌّ فهو مباح. الحقيقة أنّ هذه القاعدة فضفاضةٌ جدًا ولا تأخذ في الحسبان الميزان الكوني، وتجعل الإنسان مركز الكون، وهو ليس كذلك. الأنعام وسورة الأنعام جاءت لتوضيح مسؤوليات الإنسان، وما يحق له، وما لا يجوز التعدّي عليه. الحِلُّ ليس مقابله الحرام هنا، بل الحِلُّ يعني ما يحقّ الانتفاع به، وخلافه ما لا يحقّ التعدي عليه، أما الحرام فلا يجب الاقتراب منه أبدًا. 

فعندما يقول الله (أُحلت لكم بهيمة الأنعام) فهذا يعني أنّ ما سواها ليس من حقك التعدي عليه، بل الحفاظ على ما سواها. الأمر أشبه بشركةٍ فيها موظفٌ جديدٌ أخذه المدير في جولةٍ، وقال له: هذا مكتبك، وهذه الأدوات يحق لك استغلاها. هذه الجولة وضّحت للموظّف ما يحقّ له، وما سوى ذلك ليس للموظف حقّ عَدِّه مباحًا له. لا يمكن للموظف أنْ ينقل مكتبه إلى مكانٍ غير المُخصّص له ويقول أنه موظفٌ في الشركة ويحقّ له كلّ شيءٍ، أو أنْ يستخدم شيئًا ليس ضمن دائرته. 

مسألة الأنعام هي مسألةٌ شائكةٌ للغاية، وهي مسألةٌ تُحدّد انتفاع الإنسان من ما حوله، وأول انتفاعٍ هو حقّ الطعام. في كتاب الله وجدنا أنّ ارتباط الأنعام بالحج ارتباطٌ اساسيٌّ؛ وكأنّ الأنعام وعلاقتها بالإنسان هنا هي أحد أهم المرتكزات أو القواعد التي انبثقت من فكرة وجود الله، إذ يستطيع الإنسان بها فهم دوره، وحدود هذا الدور. سورة المائدة وضعت لنا قواعد عظيمةً لعلاقة الإنسان بالأنعام، وعلاقة الإنسان بالكون، وسوف نتناول بعضًا من آياتها التي أسّست لهذه العلاقة في هذا الفصل بعد قليل. 

لكي نستطيع استخلاص قائمة المباح من الطعام في القرآن، وترتيب أفضليتها، يجب أن نبحث عن جميع الآيات التي جاء فيها ذكر الطعام. باختصارٍ شديدٍ سنجد من الحيوانات بهيمة الأنعام، وصيد البحر، والثمار، والفواكه. في كتاب الله إشارةٌ عجيبةٌ لبعض المأكولات التي لا يكفّ القرآن يد الإنسان عنها، ولكنّه في الوقت نفسه لا يُرحّب بها، وهي من ما يخرج من الأرض، مثل: العدس والفول والبصل. 

لم يمنع القرآن استخدام هذه الأشياء في الطعام، ولكنّه أشار إلى أنها أدنى، وأن الطعام الآخر هو خير.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍۢ وَٰحِدٍۢ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلْأَرْضُ مِنۢ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ ۚ ٱهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّـِۦنَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (سورة البقرة: آية 61). 

هل يجب على الإنسان إعادة النظر في الطعام الذي يتناوله، ولا سيما بعد هذه الإشارات؟

لاشكّ أنّ هذه الإشارات تحتاج لأبحاثٍ طويلةٍ ونقاشاتٍ ساخنةٍ؛ لأننا نتحدّث عن ألفٍ من السنين، يبدو أنها غيّرت عادات الإنسان الغذائية، وقد تكون عودة الإنسان إلى الطعام الخير بدلًا من الأدنى نقلةً نوعيةً من حيث الحالة الصحية، بل والحالة الرّوحية. 

إنه أمرٌ لا بدّ أن يخضع لتقديم الحجج والبراهين حتى نصل إلى كنهه وحقيقته، ولكنها إشارةٌ من أعظم الإشارات، وعلاقةٌ خلفها أسرارٌ مذهلةٌ، ولا شك في ذلك. 

لنا الآن وقفةٌ مع بداية سورة الأنعام ونهايتها، والتي تحمل ملخّصًا لعلاقة الإنسان بالكون، ومحورها الأنعام.

الآية الأولى: 

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ) (سورة الأنعام: آية: 1).

لفظ (يعدلون) هنا هو المقصود، إذ إنّ لفظ (عدل) في حدّ ذاته يعني تغيّر حالةٍ من وضعٍ إلى وضعٍ جديدٍ. الإنسان مطالبٌ بالعدل في المواقف غير السوية، ويجب عليه تغيير حالة الموقف من الانحراف إلى السوء، ومطالَبٌ بالعدل في القول، فيُغيّر حالة القول من قول كذبٍ أو قولٍ يُراد به مصلحةٌ إلى الوضع الحقيقي. بربهم يعدلون تعني أنهم يستبدلون أو يغيرون. إذا رأيت وضعًا في حالة اتزانٍ فإن العدول عن هذا الوضع هو خللٌ، وهذا هو ما حذّر منه القرآن. 

بدأتْ سورة الأنعام بذكر خلق السموات والأرض، وجعل النور والظلمات، وهذا هو الميزان الكوني الأعم والأشمل، ثمّ ذكرت الآية أنّ الذين كفروا بربهم يعدلون؛ أي يُغيّرون الحالة. هذا هو جرس الإنذار الذي تدقّه الآيات باستمرار، فتُحذّر من التغيير غير المدروس وغير السليم. 

 

لماذا قال القرآن (يعدلون) ولم يقل مثلًا (يظلمون)؟ 

يبدو جليًا أن الإنسان يُسبّب هذا الخلل نتيجةً لعلمه، وليس بقصد الخلل ذاته؛ لذلك كان وصف هذه الحالة بـ العدل أكثر ملاءمةً من وصفه بالظلم. الذي يُهجّن النباتات أو الحيوانات، أو يجري التجارب، هو في الحقيقة لا يظلم؛ وإنما غرضه الإصلاح، ولكن قد تكون هذه التعديلات خطيرةً، وقد تُسبّب خللًا كبيرًا. لذا من المهم أن تخضع لتفكيرٍ عميقٍ ومحاججةٍ، وأن تكون دائمًا موضوعةً في قائمة الحج. 

حذّر القرآن أيضًا من تغيير خلق الأنعام، والذي جاء توضيحه بالكامل في الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب، والذي احتوته الآية التالية:

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا) (سورة النساء: آية 119). 

علاقة الحج بالأنعام من حيث الطعام تؤيد أنّ الأنعام ركنٌ أساسيٌ في حياة الإنسان؛ فيجب أن يكون حريص كل الحرص في التعامل معها، ويجب أن يراعي الميزان الكوني في ذلك. أستطيع أن أذهب بعيدًا لأقول: إنّ عودة الإنسان للانتظام في السلم الغذائي لها علاقةٌ مباشرةٌ بمفهوم الحج وكونه مناقشةً وتقييمًا للحجج وتفنيدًا لها. عندما تبدأ سورةٌ كاملةٌ اسمها الأنعام بآيةٍ كهذه تُحذّر من حدوث خللٍ، ثم نجمع هذه النتيجة مع الحجّ، ثم باقي الآيات التي تحدّثت عن الأنعام، فسوف ندرك أنه لا بدّ من مراجعة تقييم هذه الكائنات، وأن توضع بصورةٍ سليمةٍ على طاولة البحث؛ لأن المؤشرات كلها تؤيّد علاقةً فريدةً بين الإنسان وهذه الكائنات وباقي الكون. 

الآية الأخيرة: 

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة الأنعام: آية 165). 

الآية الأخيرة في سورة الأنعام تشير إلى دور الإنسان في الأرض، وهو جعله خليفةً بمعنى أن يكون أداةً من أدوات الله في هذا الكون، وأن ينسجم معه، ويَحذر من التعدّي. مرةً أخرى تشير سورة الأنعام إلى أنّ على الإنسان أن يعرف تحديدًا ما هو مباحٌ، والذي جاء على رأس المباحات الأنعام، وبهيمة الأنعام في الطعام. وأن يعرف أيضًا ما لا يحقّ له التعدي عليه؛ لأنه لا يملكه بل هو مستخلَف فيه. 

لاحظْ أنّ الاستخلاف هنا يصبّ تمامًا في مفهوم (الاستطاعة) ولا يصبّ في مفهوم (القدرة). عندما ذكرنا أن الله جعل الإنسان خليفةً في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب كنا قد رجّحنا أن الإنسان خليفةٌ لمخلوقاتٍ سبقته، وبالتأكيد ليس خليفةً لله ليقوم بأفعال الإله المطلقة. في لفظ (خلائف) هنا نجد بعدًا آخر بعد وضوح مفهوم (الاستطاعة) و(القدرة) الذي تناولناه في الفصل الحادي عشر، إذ يدلّ مفهوم (خلائف) على أن الإنسان مُطالبٌ بفعل أفعالٍ كبيرةٍ جدًا، من خلال مفهوم (الاستطاعة). لن يصبح الإنسان إلهًا، بل سوف يصبح يد الله وإحدى أدواته في الكون، عندما يعلم تمامًا حدوده وإمكانياته. 

 

يمكننا تلخيص علاقة الأنعام بالحج في أمرين رئيسين:

  1. الأمر الأول: إن الأنعام هي الركن الأساسي الذي يُحدد علاقة الإنسان بالكون، من حيث ما له، وما لا يجب التعدي عليه؛ لذا كان التركيز شديدًا عليها في الحج، على نحوٍ يكون محور الحج هو مهام الإنسان في الكون على تشعّبها، وجاءت الأنعام كبذرة هذا النقاش الذي يجب على الإنسان أن يبني عليها. معنى هذا أنّ الإنسان سوف يُناقش ويُقدّر الحُجج على كل أمرٍ، وفي كلّ علمٍ، إذ تتلخص علاقة الإنسان بالكون في هاتين الحالتين: ما يحق له، وما لا يحق له. 
  2. الأمر الثاني: إن الأنعام بوصفها طعامًا خيرٌ من الطعام القائم على الأعشاب أو بعض ما تنبت الأرض، والعودة لنظامٍ غذائيٍّ مثل هذا سوف يعزّز قدرات الإنسان الصحية والعقلية والروحية. سوف نجد صدى هذه الفائدة بصفةٍ عامةٍ في الآية التالية في سورة الحج التي تناولت مفهوم (البيت العتيق). 

 

المشهد السادس: البيت العتيق

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (سورة الحج: آية 29). 

لم يرد ذكر (البيت العتيق) إلا مرتين في كتاب الله، وفي معرض الحديث عن الأنعام، وهذا أمرٌ مثيرٌ للاهتمام. عندما حاولت المعاجم فهم لفظ (عتق) قالت هو الكرم خلقةً وخلقًا، وهو القِدم. المعجم الاشتقاقي أورد معنى (العاتق) وهو ما بين المَنْكِب (مُجتَمع رأس الكتف والعَضُد) والعُنُق. المنطقة التي تسمح بتحريك الكتف هي العاتق كما جاء في المعجم، ولعلّ لفظ (عتق) الذي نستخدمه بمعنى أعطى حريةً لشيءٍ يكون معنىً فرعيًا، إذ يشير إلى حرية الحركة التي يُمثّلها العاتق. 

عندما حاول المفسر تفسير تعبير (البيت العتيق) قال: إنه عتيقٌ لأنّ الله أعتقه من الجبابرة، وقال بعضهم: إنه عتيقٌ لأن أحدًا لم يملكه، وقال بعضهم: عتيقٌ بمعنى القديم. 

هكذا نرى الاختلاف في فهم لفظ (عتيق) واضحًا، وهو دلالةٌ على عدم وضوح المعنى لدى المفسرين بدقةٍ. لو وضعنا لفظ (البيت العتيق) في سياقه، ولدينا الدلائل الكافية على وضع الأنعام المميّز، سنجد أنّ (البيت العتيق) يشير إلى جزءٍ من الأنعام وهو مجمع الرأس والعضد (لحم الكتف). 

حتى نفهم الآية مجملةً سوف نحاول فهم (التفث) و(النذر)، حتى نُدرك المقصود كاملًا.

مدلول لفظ (تَفَث) 

المعنى المحوري للفظ (التفث) هو انتشار الوسخ، ومنه جاء تفسير (ليقضوا تفثهم) بمعنى قصّ الأظافر، وحلق شعر الرأس وغير ذلك. 

أرى أنّ المعنى يتعلق بالاجتماع ذاته، وهو اجتماع الحج، بمعنى ألا يتركوا خلفهم شيئًا، ويُنظّفوا أماكنهم، وهو أسلوبٌ متّبعٌ في شتى الأماكن والمؤتمرات، إذ لا يترك الباحث أو أيٌّ من الحضور شيئًا من ملحقاته، مثل الأوراق أو الأدوات التي استخدمها. (التفث) يشمل كلّ ذلك، وهو يعني ألا يترك هذا الإنسان خلفه أيّ قمامةٍ. 

لكَ أن تتخيّل أنّ مؤتمرًا اجتمع فيه مليون شخصٍ، وأحضر كلٌّ منهم أدواته وأوراقه وأشياء مساعدةً له، ثم تركها خلفه دون اهتمامٍ، كيف سيكون وضع هذا المكان بعد المغادرة؟ 

لقد ذهبت للحج عام 2015، وأذهلني ما رأيت بعد انتهاء يوم عرفة من كمٍّ مهولٍ من النفايات والقمامة في كلِّ مكانٍ، وهذا يومٌ ليس فيه إلا طعامٌ وشرابٌ، وليس فيه دراسةٌ ومحاججةٌ وأدواتٌ تلزم لذلك. (قضاء التفث) هو هذا التوجيه الإلهي بعدم ترك قمامةٍ ونفاياتٍ خلفهم؛ حرصًا على استمرار هذا اللقاء، وترسيخ هذا المفهوم في أذهان الناس على مرّ العصور. 

مدلول لفظ (نذورهم) 

لفظ (نذر) -كما جاء في المعاجم- يدُلُّ عَلَى تَخْوِيفٍ أَوْ تَخَوُّفٍ. مِنْهُ الْإِنْذَارُ: وهو الْإِبْلَاغُ. بالنظر إلى كتاب الله، وورود الكلمة فيه، سنجد أنّ (نذر) تعني إعلامًا أو إبلاغًا بشيءٍ ما، أو الإعلان عن شيءٍ ما، والنذير هو من يقوم بهذا الإعلان. 

معنى (النذر) الذي يتداوله الناس على أنه عهدٌ يقطعه الإنسان على نفسه بوجوب شيءٍ ما يدور حول نفس المعنى، والذي جاء في سورة آل عمران:

(إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَٰنَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ) (سورة آل عمران: آية 35). 

النذر هنا إعلانٌ للشيء؛ فكأن امرأة عمران أعلنت لله أنّ ما في بطنها سوف يكون لخدمة الله. 

من هنا نجد أنّ تعبير (ليوفوا نذورهم) يعني ينتهوا من إعلاناتهم. إنه تعبيرٌ عن انتهاء المؤتمر أو المرحلة الأخيرة، إذ يجب عليهم قبل المغادرة إغلاق الإعلانات التي جاءت في المؤتمر، وعدم ترك مسائل معلّقةً دون حسمٍ. وفاء النذر هنا يشبه تبادل وسائل الاتصال بين المهتمين بالمسألة التي كان النقاش حولها، أو الاتفاق على استكمال أيّ خطواتٍ قادمةٍ، أو أيّ أمرٍ من شأنه استيفاء ما جاء في المناقشات. 

تأتي المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الطعام، والتي لها دلالةٌ عجيبةٌ أيضًا، بل إنّ تحديد جزءٍ معينٍ أو استحباب جزءٍ معينٍ وهو (البيت العتيق) هو أمرٌ غايةٌ في العجب، ولا نملك إلا أن ننتظر لفهم علّة هذا الأمر الذي لا نملك عنه إلا القليل. ومعنى (الطواف) هو التناول بشكلٍ ما، أو المرور بهذا الشيء. 

بعد آية البيت العتيق مباشرةً تأتي آيةٌ تؤكّد على مفهوم إباحة الأنعام، ممّا يؤكد ما ذهبنا إليه من أنّ البيت العتيق جزءٌ من الأنعام كما بيّنا.

(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (سورة الحج: آية 30). 

تأكيداتٌ متتاليةٌ وإشاراتٌ كثيفةٌ على علاقة الأنعام بالحج، ومفرداتٌ تفصيليةٌ عن عمليات محاججةٍ ونقاشٍ على أعلى المستويات، وإرشاداتٌ تخبر عن الخالق بكلّ قوةٍ، ومع كلّ ذلك طُمِسَت بالكلية. 

جاء بعد ذلك أربع آياتٍ تتحدّث عن الأنعام وعن بهيمة الأنعام، وعن البيت العتيق مرةً أخرى، في تأكيدٍ عجيبٍ على هذه العلاقة التي لا نزعم أنّنا أحطنا بكلّ جوانبها، بل نستطيع القول إننا وقفنا على أعتابها. 

(حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)) (سورة الحج: آيات 31-34). 

الحنيف كما شُرح في كتاب قولًا ثقيلًا هو المتطلّع للمعرفة، وتعبير (حنفاء لله غير مشركين) يوجّه الناس للتطلّع إلى المعرفة التي جعلها الله لهم داخل كلماته، وألا يخلطوا الأمور فيضلّوا. إنها دعوةٌ لأهل العلم ليكون همّهم المعرفة بتجردٍ كاملٍ حتى يستقيم فهمهم. والآية لا تُلزم بتصوّرٍ معينٍ، وإنما تشير إلى حقائق مكتنزةٍ في الآيات، ويجب أن يتطلّع الإنسان لفهمها، ولا يعاملها بإهمالٍ كما يحدث الآن. العجيب أنّ الآية تصف علاقة الأنعام بالإنسان، وأنها من (شعائر الله)، والشعائر -كما سوف نأتي عليها بعد قليل- هي ما تزيد من إدراك الإنسان لوجود الله. 

نعم، عندما نجد نصًا يشرح للإنسان دوره وعلاقته بمحيطه فهو من شعائر الله، أيْ من الأشياء التي يستطيع من خلالها الإنسان إدراك يد الله ووجود الله. 

مرةً أخرى يقول الله (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (فيها) تعود على الأنعام، وبذلك فإنّ (البيت العتيق) مرتبطٌ بالأنعام. أرى أنّ (المنافع) هي التي محلّها البيت العتيق، بل إن الإشارة الربانية هنا تأخذنا إلى القول بأن (البيت العتيق) هو أفضل ما في الأنعام، ولعلّ له علاقةً بالعادات الصحية السليمة، أو الحالة الروحية. 

فهم (البيت العتيق) بهذه الطريقة فتح الطريق أمامنا لفهم آيةٍ من أعقد الآيات، تحدثت عن (البُدن)، وربطت البُدن بالأنعام كذلك. 

 

المشهد السابع: مفهوم (البُدن)

(وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (35) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (36)) (سورة الحج: آية 35-36). 

قال المفسرون عن (البدن) إنها البقر والإبل؛ إذ إنّ مفهوم (البدن) يشير عندهم إلى الحيوانات الكبيرة. وعندما مررت على هذه الآيات كان من الواضح أنّ الحديث عن أنعامٍ أيضًا، بدلالة اللحوم والدماء. لكنني طرحتُ السؤال تلو السؤال: لماذا جاء لفظ (البدن)؟ وما دلالته؟ فقد ورد اللفظ في القرآن مشيرًا إلى الجسد الذي لا حياة فيه. 

(فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ) (سورة يونس: آية 92). 

(البدن) -كما هو واضح في الآية- إشارةٌ للجسد أو الجسم من دون حياة، ولو قرأنا سياق الآيات التي تتحدث عن الأنعام في مشهدٍ متكرّرٍ وتأكيدٍ عجيبٍ، ثم أضفنا فهم (البيت العتيق) الذي أشار إلى جزءٍ من الأنعام، فسوف يصبح مفهوم (البُدن) هو باقي الجسد.

نعم، البُدن هو المتبقي من الأنعام، خلاف البيت العتيق حتى لا يظنّ أحدٌ أنّ هذا الجزء فقط هو الذي يؤكل، بل جاءت هذه الآية لتؤكّد أنّ باقي الجسد فيه خيرٌ كذلك. 

إنه بيان الآيات وشعائر الله، والتي سوف يدرك من خلالها الإنسان وجود الله، عندما يدرك العلاقة القوية بين الأنعام والبيت العتيق وحالته الصحية. مَن يستطيع تبيين هذه الأشياء والتأكيد عليها بهذا القدر إلا صاحب العلم والقدرة المحيطة؟ الناس في الغالب يتعاملون مع الإله بشيءٍ من الاستخفاف؛ إذ يرون أنّ كلمات الله لا تحتمل كلّ هذا العلم، بل هي بسيطةٌ، جاءت لمجموعةٍ من البشر كانت تعيش في عَوَزٍ معرفيٍّ، ومنطقةٍ مقفرةٍ، ولا يمكن أن يخاطب القرآن هؤلاء القوم بكلّ هذه التفاصيل. هذا الادعاء باطل حيث أنّ القرآن لا يخاطب هؤلاء تحديدًا؛ بل هو يخاطب الإنسان بصفةٍ عامةٍ، سواءٌ أنتبه الإنسان أم لم ينتبه، فهذه تجربته وعليه خوضها. الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الخلية بكلّ تعقيداتها، والذرة بكلّ مكوّناتها، فلماذا يُسطّح الناس المعرفة في كتاب الله، ولماذا يعتقدون أن بسطاء المعرفة قادرون على فكّ شفراتها. 

 

إنّه شيءٌ في منتهى العجب، أن تجد مَن يُنادي ألا يقرب القرآن إلا مُتخصّص، وهو يقصد أولئك الفتية الذين نذروا حياتهم في حفظ النصوص التاريخية. 

نحن لا نُنازع الأمر أهله، ولا نقوى على مجاراتهم في نصوصهم التاريخية، وإنما نقف على اللفظ القرآني، وعلاقة هذا اللفظ القرآنيّ بالكون، وهو أمرٌ أبعد ما يكون عن خيال أصحاب الخطابة والسجع وحفظ النصوص. 

علاقة الأنعام بالحج من تلك العلاقات التي مهما حاول أرباب التاريخ تأطيرها فلن يستطيعوا؛ لأنها خارج أُطرهم المعرفية، ولا يجدون لها قياسًا في نصوصهم التاريخية. 

كذلك علاقة الحج بالصيد التي تناولها القرآن، هي علاقةٌ تكميليةٌ لعلاقة الحج بالأنعام، وعلاقة الإنسان بالكون، ولا يمكن حملها على البساطة التي جرى تناولها به في الماضي. 

الصيد والحج 

عندما حاولنا فهم علاقة الصيد والأنعام من جهةٍ، والحج من جهةٍ أخرى تكشّفت لنا أمورٌ لو أنفقنا سنواتٍ طويلةً ما استطعنا فهمها من دون فهم لفظ (الحج)، ومفهوم (البيت) الذي أسّسه نبي الله إبراهيم. 

الآية الأولى: 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَوۡفُوا۟ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِیمَةُ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ إِلَّا مَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ غَیۡرَ مُحِلِّی ٱلصَّیۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ مَا یُرِیدُ) (سورة المائدة: آية 1).

هذه هي أول آيةٍ في سورة المائدة، واسم السورة يأخذنا إلى المحور الأساسي الذي تدور حوله السورة، وهو المائدة، أو ما ينتفع به الإنسان، وما له من هذا الكون الفسيح. 

بدأت السورة بالعقود، وأول عقدٍ هو إباحة بهيمة الأنعام على وجه العموم إلا ما يتلى عليكم؛ بمعنى ما سوف يُبيَّن في الكتاب وهو القرآن، والذي بالفعل بيّن ما يحلّ لك من الكون. الجزء الثاني من الآية وهو (غَیۡرَ مُحِلِّی ٱلصَّیۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ) يعني عدم الصيد في المواضع الممنوعة التي سوف يبيّنها القرآن. وعندما يقول الله (وأنتم حرم) يجب أن نفهم المقصود من لفظ (حُرُم).

(وأنتم حرم) تعني وأنتم ممنوعون بصفةٍ عامةٍ، وليس معناه في موسم الحج التقليدي، والتعبير القرآني تكملةٌ للآية التي أحلّت بهيمة الأنعام. يستقيم المعنى تمامًا الآن عندما ندرك أن بداية الآية تتحدث عن ما هو متاح للإنسان، وفي نهاية الآية تعطي تفاصيل على أن الأصل في الإنسان أنّه ممنوعٌ من التعدّي على غيره، أقصد بلفظ (غيره) هنا كل مكونات الكون. يجب أن يكون الإنسان على حذرٍ شديدٍ مع التعبير القرآني (وأنتم حرم)، والذي يكفّ يد الإنسان ويُقيّد إطلاقها في الكون من دون رقيب بحجة أنّ كل ما في الكون مباحٌ، والإنسان سيّد هذا الكون. الآية تضع النص المؤسّس لعقدٍ من أهمّ العقود بين الإنسان وبيئته، ثم سيأتي تفصيل بنود هذا العقد في آياتٍ أخرى كما سوف يتضح. 

الآية الثانية:

(يـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡیَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَ وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَ ٰنࣰاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُوا۟ۚ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ) (سورة المائدة: آية 2)

الآية الثانية من سورة المائدة جاءت مفصِّلةً لما قبلها، وسوف نأتي على كلّ كلمةٍ فيها من خلال مفهوم (الحج) السابق، وعلاقة الحج بالأنعام التي اتضحت لنا. 

 

أولًا: مدلول لفظ (شعائر) 

أصل كلمة (شعائر) هو شعر، وهو من الإدراك، إذ إنّ آيات القرآن مليئةٌ بالتعبيرات التي تحمل معنى الشعور، وهو إدراك الشيء والإحساس به. عندما نرى تعبير (شعائر الله) هنا يجب أن نقف ونطرح السؤال: ما علاقة مدلول لفظ (شعائر) بلفظ الجلالة؟ 

الله ليس كمثله شيءٌ، وهذا أصل (البيت) الذي وضعه نبي الله إبراهيم المؤسس الأول للفكرة المجردة عن الإله، وهو كذلك لا تدركه الأبصار؛ فليس جسمًا ماديًا. من هنا يصبح مفهوم (شعائر الله) هو الوسائل والسبل التي تجعل الإنسان يُدرك مفهوم الله، أو وجود الله، أو يرى فيها يد الله. لكي نفهم ما هي شعائر الله يجب أن نلقي نظرةً على الآيات التي ورد فيها لفظ (شعائر) والتي جاءت جميعها متعلّقةً بالحج والأنعام. 

  • (إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَاۤىِٕرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَیۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِیمٌ) (سورة البقرة: آية 158)

الصفا والمروة من شعائر الله، وهي خاصةٌ بالحج ذاته، وسوف نأتي على شرحها بالتفصيل في الفصل القادم، ولكن يكفينا هنا أن نشير إلى أنّ الحج وأركانه الأساسية هي وسيلةٌ من أهمّ الوسائل لإدراك الله ووجوده، والشعور بيده في كل شيءٍ. إدراك الله والشعور بوجوده لا يتمّ عن طريق الوراثة أو عن طريق التقليد، بل عن طريق اكتشاف تلك العلاقات العجيبة التي أخبر عنها خالقها بكل دقةٍ، ثمّ وقفنا عليها، أو من خلال اختبار المعرفة التي أخبر عنها خالقها، فإذا قادتنا حقيقةٌ مدرَكةٌ إلى الله فهي هنا تكون من شعائر الله. لفظ (شعائر) ليس له مدلولٌ حقيقيٌ اليوم، ولو سألت أعتى المتخصصين عن مدلول اللفظ لن تجد تفسيرًا ذا مدلولٍ، بل أصبح لفظ (شعائر) مدلولًا خاصًا بنفسه لا يعكس حقيقته. 

  • (ذَ ٰلِكَۖ وَمَن یُعَظِّمۡ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ) (سورة الحج: آية 32). 

جاء لفظ (شعائر) هنا أيضًا متعلِّقًا بالأنعام وعلاقتها بالحج؛ ممّا يشير إلى أنّ تحديد علاقات الإنسان بالكون وما يحيط به هو أهمّ الأدوات التي تُشعر الإنسان بوجود الله، ويده في كل شيءٍ. هذا هو معنى (شعائر) والتي من خلالها يدرك الإنسان وجود الله وقدرته وعلمه. 

الآية ذكرت قول الله (لا تُحلّوا شعائر الله) أي لا تتساهلوا فيها أو تستبيحوها؛ بل اعملوا عليها توضيحًا وبيانًا وإعلاءً لقيمتها وتطهيرها ممّا سواها؛ فهي مرتبطةٌ ببيت الله الذي أشار إليه القرآن، من أنه الكلمات والمدلولات التي تصف وتدلّ على الله. 

 

ثانيًا: الشهر الحرام 

لا يمكن فهم مدلول (الشهر الحرام) بعيدًا عن السياق الذي جاء فيه، والسياق هنا هو علاقة الإنسان بالكون، وتحديدًا بما يجوز له وهي الأنعام. عندما فسّر المفسر (الشهر الحرام) ذكر شهورًا محددةً، وإن كان هناك بعض الاختلاف الطفيف، ولكنّ الإجماع كان على شهر رجب منفردًا، ثم ثلاثة شهورٍ متتالية، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومُحرّم. لم يرد في القرآن أيّ تحديدٍ لهذه الشهور، وإنما هي محض اجتهادٍ، وقد كانت لدى أهل هذه البقع الجغرافيّة قبل نزول القرآن، فلم يحدث تغيّرٌ فيها، بل بقيت على ما هي عليه. 

ما معنى الشهر الحرام؟

الشهر من خلال القرآن يعني حالة ظهورٍ معينةً، ويمكن أن يصف شهرًا قمريًا، أو أيّ حالة ظهورٍ أو إشهارٍ. في هذه الحالة هو وصف شهرٍ قمريٍّ، أي المدة الزمنية ما بين 29 يومًا وثلاثين يومًا. 

ما دفعنا لذلك هو أنّ تفاصيل الشهور جاءت في القرآن مددًا زمنية، عندما قال عنها الله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا).

(إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرࣰا فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ یَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَاۤ أَرۡبَعَةٌ حُرُمࣱۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُوا۟ فِیهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ وَقَـٰتِلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ كَاۤفَّةࣰ كَمَا یُقَـٰتِلُونَكُمۡ كَاۤفَّةࣰۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ) (سورة التوبة: آية 36). 

إذن نحن أمام مدةٍ زمنيةٍ ممنوعةٍ على الإنسان، جاءت في سياق الحديث عن الأنعام والعقد بين الإنسان والكون، فيما يخصه وما لا يخصه. 

كذلك ذكرت الآية أن هناك أربعة شهورٍ حُرُمًا، ولم تعطِ أية تفاصيل عن هذه الأربعة. بالنظر إلى علاقة الأنعام وبهيمة الأنعام، وهي ثمانية أزواج، كما جاءت في الآية التالية، سوف ندرك علاقة الثمانية بالأربعة.

(ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰجࣲۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَیۡنِۗ قُلۡ ءَاۤلذَّكَرَیۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَیَیۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَیۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۖ نَبِّـُٔونِی بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ (134) وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَیۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَیۡنِۗ قُلۡ ءَاۤلذَّكَرَیۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَیَیۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَیۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۖ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَاۤءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا لِّیُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَیۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ (144)) (سورة الأنعام: آيات 143-144). 

أصناف الأنعام التي جاء ذكرها في القرآن، والتي أشار القرآن إلى إباحة أكلها للإنسان، أربعةُ أصنافٍ بمجموع ثمانية أزواج، وهي البقر والإبل والماعز والضأن. 

تعلّق الشهر الحرام في الآية محلّ دراستنا بالأنعام، وموافقة الأشهر الحُرُم الأربع لعدد أصناف بهيمة الأنعام، يدفعنا للقول بأن كل صنفٍ من الأنعام له شهرٌ حرامٌ خاصٌّ به. من خلال مفهوم (الشهر الحرام) وهو المدة الزمنية التي يُمنع الإنسان فيها من استخدام ما كان يستخدمه؛ والعلة في ذلك هي إعطاء فرصةٍ للأنعام لاستكمال دورتها. من خلال المعطيات التي بين أيدينا سنجد أنّ مفهوم (الشهر الحرام) هو مفهوم شهر التزاوج لدى هذه الكائنات، فلا يجب أن يعتدي الإنسان فيها، وعليه إعطاء الفرصة كاملةً لهذه الحيوانات لإكمال دورة التكاثر بسلامٍ وبصورةٍ كاملةٍ. ليس هناك معنىً من أن تكون الشهور ثابتةً أو لها أسماءٌ معينةٌ، بل إنّ شهر التزاوج لكلّ فصيلةٍ، سواءٌ كان في الشتاء أو الصيف أو الربيع هو الشهر الحرام الخاص بها، والذي يجب على الإنسان التوقّف عنده من استخدام الأنعام، وإعطاء فرصةٍ للتزاوج. 

 

ثالثًا: الهدي 

لفظ (الهدي) لفظٌ محيّرٌ؛ لأنه جاء مرتبطًا في بعض المواضع بالحج ذاته، وفي المواضع الأخرى مثل التي بين أيدينا بالأنعام. دلالة لفظ (الهدي) يرجع إلى الهدى، وهو الاسترشاد والفهم والاهتداء. المفسر القديم جعل الهدي مرادفا للأنعام، وهو في ذلك معذورٌ؛ بسبب التشابك الرهيب بين الألفاظ بعضها ببعض، والتي تحتاج إلى أرضيةٍ معرفيةٍ جيدةٍ لفهم كلّ هذه العلاقات. 

لو نظرنا إلى لفظ (هدي) ذاته الذي جاء مرافقًا للحج دون الأنعام لأدركنا معناه، وهو الاسترشاد الناتج عن المناقشات؛ إذ إنّ الحج في ذاته هو مجموعٌ من الحجج والبراهين والمناقشات. 

(وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۖ وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۚ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ ذَ ٰلِكَ لِمَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ) (سورة البقرة: آية 196). 

في هذه الآية مجموعةٌ من المفردات سوف نتناولها بالتفصيل في الفصل القادم، ولكننا سنقف هنا قليلًا مع لفظ (الهدي)، وهو الاسترشاد، أو قل التوصيات الناتجة عن الحج. عندما نناقش أمرًا ما فإن الأمر الطبيعي هو أن تتبلور هذه المناقشات عن فهمٍ جديدٍ لبعض الأمور، هذا الفهم الجديد القائم على الحجة والمنطق هو (الهدي) الذي أمر الله الإنسان بالاغتراف منه قدر استطاعته. 

عندما نجد لفظ (الهدي) ذاته، قد جاء في سياق الأنعام وتقنين استخدامها فهنا يصبح (الهدي) هو التوصيات الخاصة بالأنعام. 

(يـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡیَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَ وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَ ٰنࣰاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُوا۟ۚ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ) (سورة المائدة: آية 2)

معنى ذلك أنّ التوصيات الناتجة عن الحج بخصوص تعامل الإنسان مع محيطه، وعلى رأسها (الأنعام) هي من شعائر الله، والتي يجب على الإنسان أن يقف عندها طويلًا. 

 

رابعًا: القلائد

لفظ (القلائد) لفظٌ ليس سهلًا بالمرة، وقد جعله المفسر مرادفًا لتلك العلامات التي توضع على الذبائح لكي يعلم الناس أنها سوف تُذبح أو تصير (هديًا) بالمعنى التراثي. 

أصل لفظ (قلائد) هو قلد، وهو يعنى في معاجم اللغة تَعْلِيقِ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ وَلِيَهُ بِهِ. لفظ (قلّد) الذي نستخدمه في لغتنا المعاصرة يحمل صفةً من هذا القبيل، نسخ شيء من شيءٍ آخر، والنسخ يجري لأنّ النسخة الأصلية غير كافيةٍ أو نادرةٌ. كذلك لفظ (قلادة) يحمل صفةً من هذا المعنى؛ إذ القلادة تُمنح لعددٍ قليلٍ بغرض تمييزهم عن الآخرين. من هنا يمكننا فهم (القلائد) على أنها نسخٌ قليلةٌ نادرةٌ، أو عزيزة الوجود. ربط هذا المعنى بالأنعام سوف يعطينا مفهوم الأصناف النادرة أو القليلة، والتي يجب على الإنسان هنا عدم الاقتراب منها. معنى ذلك أنه إذا قلّت الأصناف الموجودة عن المعتاد فيجب أن يكف الإنسان عنها ويعطيها فرصةً للتكاثر مرةً أخرى. ولو أن هناك أفرادًا مميزين فيجب أن تُترك لهم مساحةٌ للتكاثر والانتشار، فلا يستبيحها الإنسان فيقضي عليها. 

يمكن فهم (القلائد) من خلال فهم بعض الأنواع المميزة من الحيوانات والأصناف الجيدة في الضأن والماعز والبقر والإبل؛ إذ يجب على الإنسان عدم استباحتها بالشكل الذي يقضي عليها. لفظ (القلائد) جاء في موضعين فقط في كتاب الله، في مجمل الحديث عن الأنعام. 

 

خامسًا: البيت الحرام 

جاء في الآية محل دراستنا تعبير (ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ) في معرض التحذير. فكيف فسّر المفسر هذا التعبير؟

يقول المفسر في هذا التعبير: إن المقصود لا تُحلوا قاصدي المسجد الحرام، إذ إنّ لفظ (آمّين) يعني قاصدين. الآية تُحذر بصراحةٍ تامّةٍ مِن قصد البيت الحرام، أو تعمد قصده؛ إذ إنّ تعبير (ءامين البيت الحرام) يعني قاصديه. لو تمّ تأويل الآية بصورةٍ مباشرةٍ تبعًا للفهم التراثي فهذا معناه لا تقربوا البيت الحرام الذي في البقعة المتعارف عليها الآن؛ ممّا يجعل المفسر في مأزقٍ كبيرٍ. 

كيف يُحذّر الله من قصد البيت الحرام؟ 

لأنّ المفسر جعل (البيت الحرام) هو (الكعبة) والتي بدورها في (المسجد الحرام) والذي بدوره في (مكة)، والتي هي (أمّ القرى) نفسها؛ فكان من الطبيعي أن يحدث كلّ هذا الارتباك والتشويش، وتصبح المعاني كالطلاسم، ولا يعتقدُ بسلامتها ووضوحها إلا إنسانٌ استلم هذه المعاني بالوراثة دون بحث. عند مجرد البحث وتفنيد المعاني نجد اختلافًا كبيرًا، وهذا لا يجوز على كلام الله. فلو أن فيه اختلافًا كبيرًا ما كان من عند الله. الاختلاف قائمٌ ولا يستطيع أحدٌ إنكاره، ولكنه اختلافٌ في الفهم، والإصرار عليه جريمة. 

لقد ذُكر تعبير (البيت الحرام) في كتاب الله في موضعين فقط، الموضع الأول في بداية سورة المائدة، والآخر في أواسط سورة المائدة أيضًا.

(جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِیَـٰمࣰا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡیَ وَٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَۚ ذَ ٰلِكَ لِتَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ) (سورة المائدة: آية 97). 

الحديث عن البيت الحرام هو حديثٌ مرتبطٌ بالأنعام تمامًا، وبالحدود التي رسمها القرآن في تعامل الإنسان مع باقي المخلوقات من حوله. 

البيت كما شرحناه في أكثر من موضعٍ هو مأوى ومجمع ومُلتقى الأشياء المقصودة، وأعطينا مثالًا لمفهوم (البيت) في أكثر من موضعٍ، وبذلك فإنّ (البيت العتيق) هو جزءٌ مُعينٌ في الأنعام، والبيت المعمور جاء في الجزء الثالث من سلسلة تلك الأسباب على أنه الخلية وما تحتويه، والمتعلقة بعمليات التطور. كذلك مفهوم (بيت الله) هو مأوى ومجمع الأفكار التي تصف صفات الله وقدرته، والمحور الأساسي هو ليس كمثله شيءٌ. (البيت) في سورة قريش أيضًا كما جاء في كتاب الطور هو مأوى ومجمع الكائنات في عصور الشتاء القارص أو العصور الجليدية. (البيت) بصفةٍ عامةٍ هو مأوىً ومكان تجمّعٍ. تعبير (البيت الحرام) هو تعبيرٌ يصف تجمّعًا أو مأوىً يُمنع الإنسان من الاقتراب منه، وبما أن الحديث عن الأنعام وحدود الإنسان مع المخلوقات فهو يعني تجمّع الكائنات التي لا يحق للإنسان الاقتراب منها بوجهٍ عامٍ. تعبير (البيت الحرام) هو تعبيرٌ يشير إلى التجمعات غير التي تلاها ربنا على الإنسان وأرشده للتعامل معها أو الاستفادة منها. كلّ ما لم ينزل به تصريحٌ للاستفادة منه واستخدامه من المخلوقات هو البيت الحرام بالنسبة إلى الإنسان. 

بعد بيان مفهوم (البيت الحرام) سوف يصبح مفهوم الكعبة الذي جاء في بداية الآية شديد الوضوح، وهو كذلك يتعلق بالكائنات وحدود تعامل الإنسان معها. 

 

مدلول لفظ (الكعبة) 

ورد لفظ (الكعبة) في كتاب الله في موضعين، وهما في سورة المائدة؛ ممّا يشير أيضًا إلى أنه مفهومٌ من مفاهيم استغلال الإنسان للكون، وتعامله مع الطبيعية. 

حتى نستطيع فهم مدلول (الكعبة) سوف نبدأ بالآية التي جاء فيها ذكر الكعبة أولًا: 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلصَّیۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمࣱۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدࣰا فَجَزَاۤءࣱ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ یَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ هَدۡیَۢا بَـٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةࣱ طَعَامُ مَسَـٰكِینَ أَوۡ عَدۡلُ ذَ ٰلِكَ صِیَامࣰا لِّیَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَیَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِیزࣱ ذُو ٱنتِقَامٍ) (سورة المائدة: آية 95). 

الآية تشير إلى عموم منع قتل الصيد وأنتم حرم؛ أي ممنوعون من الصيد في الحالات التي بيّنها القرآن، والتي شُرحت في السابق. 

في فصل الأنعام في كتاب الطور جاء تفصيل الأصناف الأربعة من الأنعام، والتي شملت أنواعًا بريةً عديدةً، مثل الوعول والغزلان والظباء وحيوانات اللاما وغير ذلك كثير. لدينا مجموعةٌ متنوعةٌ من بهائم الأنعام، منها ما هو مستأنسٌ ومنها ما هو بريٌّ. ما هو مستأنسٌ يُعدّ مال الإنسان، ويعلم الإنسان جيدًا أن عليه مراعاة ماله بفطرته، فلا يذبح الإناث في موسم التزاوج، ولا يقضي على الأفراد النادرة؛ وهو على ذلك لديه وعيٌّ يُمكِّنه من حفظ الأنواع التي استأنسها. الجانب الآخر هو الحياة البرية فيما يخص هذه الكائنات، وكأنها كائناتٌ لا تخصّ أحدًا بالمفهوم الضيق؛ فهي معرضةٌ لكل عمليات الإبادة والصيد الجائر، وهذا بدوره يُسبّب خللًا عظيم التأثير في شتى مناحي الحياة.

جاء (الكعبة) أحد أهم الأركان الأساسية في عمليات الصيد، ولو نظرنا إلى لفظ (كعب) الذي هو أصل كلمة (كعبة) سوف ندرك ما المقصود من لفظ (الكعبة). كما جاء في مقاييس اللغة أصل كلمة (كعب) يَدُلُّ عَلَى نُتُوٍّ وَارْتِفَاعٍ فِي الشَّيْءِ. 

كذلك ورد مشتق لفظ (كعب) في كلمة (كواعب) في القرآن: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)) (سورة النبأ: آيات 31-33). 

رغم أن المفسر القديم قال عن لفظ (كواعب) أنها تعني أثداء النساء، إلا أنّ سياق الآيات يتحدث عن الفاكهة والثمار، ولو أنّ لدينا معرفةً بسيطةً بتكوين الثمار فسوف ندرك أنّ لفظ (كواعب) يعني حالةً من التمدد أو النمو المتماثل، ولفظ (أتراب) ذاته يعني تساوي الأشياء. عندما تبدأ الثمار بالتكوّن فإنها تبدأ من نقطة الغصن ممتدّةً للخارج، وكلما كانت الظروف صالحةً كانت عملية التكعيب ذاته، والتي تعني البناء في كل الاتجاهات، متماثلةً وسليمةً. يُسمّى المكعب مكعبًا؛ لأنه يحمل هذه الصفة نفسها، وهي التمدد المتساوي في جميع الاتجاهات. كذلك ورد لفظ (كعبين) في معرض الحديث عن الوضوء: 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبࣰا فَٱطَّهَّرُوا۟ۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰۤ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَاۤءَ أَحَدࣱ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَاۤىِٕطِ أَوۡ لَـٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَلَمۡ تَجِدُوا۟ مَاۤءࣰ فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدࣰا طَیِّبࣰا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُم مِّنۡهُۚ مَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیَجۡعَلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ حَرَجࣲ وَلَـٰكِن یُرِیدُ لِیُطَهِّرَكُمۡ وَلِیُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) (سورة المائدة: آية 6). 

ذهب المفسر هنا إلى أن (الكعبين) هما العظمتان البارزتان في القدم. ولو طالعنا الآية سوف نجد أن لفظ (الكعبين) جاء بصيغة المثنى، رغم أن لفظ (المرافق) الذي جاء مصاحبًا للأيدي جاء بصيغة الجمع؛ ممّا يشير إلى أنّ (الكعبين) ليسا العظمتين البارزتين في القدم، وإنما الكعبان هما (كعبٌ) متعلقٌ بالأرجل، وكعبٌ متعلقٌ بالرأس. الآية تقول (امسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)، وذلك يجعل لفظ (الكعبين) متعلقًا بالأرجل والرؤوس. 

بمعنىً أدقّ نجد أنّ (الكعب) هو نقطة النمو؛ إذ يُعدّ كعب الرِجل نهايتها، وكعب الرأس هو آخر نقطةٍ في الرأس، والتي تتم من عندها الاستطالة. من هنا نجد أنّ الكعب بصفةٍ عامةٍ هو نقطة النمو أو الاستطالة في كل الاتجاهات، وعندما يأتي لفظ (الكعبة) مرتبطًا بالصيد والمخلوقات، فهنا لا نجد حرجًا في فهم اللفظ كما جاء في السياق، وهو نقطة نموّ هذه الكائنات، أو ما يطلق عليه بلغتنا المعاصرة الزَّريعة أو النواة، أو المجموعة الصغيرة التي تنمو وتصبح قطيعًا كبيرًا. 

عندما يحدث صيدٌ جائرٌ فإن الدول تتدخل لحماية المتبقي من الكائنات، وتمنع وتُحرّم نهائيًا الاقتراب من هذه الكائنات. هذه التجمعات الصغيرة التي يجب أن يرعاها الإنسان لكي تتمدّد في كل الاتجاهات هي (الكعبة) التي جاء ذكرها في كتاب الله. 

الآية تطلب مباشرةً الابتعاد عن الصيد المحرّم، سواءٌ في أشهر التزاوج أو القلائد أو البيت الحرام، أو أيّ نوعٍ من الصيد لم يأتِ به تصريحٌ أو إباحةٌ، لا سيما الصيد الذي قد يُسبب انقراض الأنواع. 

(یَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلࣲ مِّنكُمۡ هَدۡیَۢا بَـٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ) هذا الشطر يعني إذا حدث نوعٌ من الصيد الجائر أو المحرم فإنّ على الإنسان عدل هذا الأمر، عن طريق إصدار ما يصون الكائنات ويحافظ على الذرية. (هديًا) تعني استرشادًا، و(بالغ الكعبة) تعني الوصول إلى المراد والمحافظة على كعبة المخلوقات، أو نواة كلّ أمةٍ من المخلوقات، وعدم تعريضها للانقراض. 

الآية الثانية التي جاء ذكر الكعبة فيها هي الآية التي ربطت الكعبة بالبيت الحرام أيضًا، وأصبح معناها شديد الوضوح.

(جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلۡكَعۡبَةَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ قِیَـٰمࣰا لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَٱلۡهَدۡیَ وَٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَۚ ذَ ٰلِكَ لِتَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ) (المائدة: آية 97). 

الآن أصبحت (الكعبة) بمعناها الواضح وهي النواة أو الذرية أو المجموعات المعرضة للانقراض، هي البيت الحرام التي حذّر القرآن من الاقتراب منها. 

إذا كان (البيت الحرام) مفهومًا شاملًا يشمل كلّ مأوىً وتجمعٍ للمخلوقات ممنوعًا على الإنسان، فإنّ الكعبة أصبحت قلب هذا المنع، وهي المجموعات الصغيرة التي يُرجى أن تكون نواةً لمجموعاتٍ كبيرةٍ، والتي قد تعرّضت إمّا لصيدٍ أو لعوامل بيئيةٍ أدّت إلى انقراضها أو ندرة وجودها. 

بنهاية آيات الصيد نجد التوجيه القرآني في إباحة الصيد في سورة المائدة أيضًا، والذي جاء مفصّلًا في مواضع مختلفةٍ من كتاب الله. 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَیَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلصَّیۡدِ تَنَالُهُۥۤ أَیۡدِیكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَخَافُهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیمࣱ) (سورة المائدة: آية 94). 

لا يمكن أن يكون الصيد هنا على إطلاقه، ولكنه مقيّدٌ بما قيّده الله في الآيات التي تناولناها في المواضع السابقة، وفي الآيات التي فصّلت الطعام والشراب في مواضع أخرى، ولا سبيل إلى تفصيل باقي الآيات هنا تجنّبًا للإطالة والتشتيت. 

آيةٌ تلو الآية تضيف للمعنى معنىً، وتشير إلى تجليّات الخالق، وكلماتٍ تنطق بالحقّ، وتشير إلى مُنزِلها، وتُعلن عن وجوده في كلّ كلمةٍ وكلّ حرفٍ، وتتكامل بانسجامٍ يليق بجلال هذا الخالق العظيم. هذه هي شعائر الله، والتي تحتاج للحجّ بمعناه القرآني، بمعنى المحاججة والنقاش بغرض الوصول للحقيقة، والتي سوف تقود مباشرةً لإدراك وجود الله. 

هل استطاعت الأمة والقرآن بين يديها إدراك هذه المفاهيم العالمية والتي تخاطب كبار العقول، أم أنها تفرّغت لسفاسف الأمور، وصنعت دينًا موازيًا مشغولًا ببديهياتٍ عفا عليها الزمن. 

المشهد الثامن: نهاية سورة الحج

سوف أنتقل إلى نهاية سورة الحج، والتي تحوي إشاراتٍ ودلالاتٍ واضحةً على مفهوم الحج.

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (سورة الحج: آية 72). 

لأنّ الحج عملية مُحاججةٍ ومناقشةٍ فلا شك من وجود نمطٍ من الناس ينكرون الحقيقة ويجحدون المعرفة، ولا شكّ أنّ هذا الطرح ذاته سوف يُلاقي عاصفةً من النقد والاستهجان تحت تبريراتٍ لا تمتّ لكتاب الله بصلةٍ، وإنما هي محض تصوراتٍ بشريةٍ أخذت مكانها في عقول الجموع، واستتبّ لها الأمر فأصبح نقدها أو تفنيدها أمرًا مستحيلًا. 

كلّ من يكفر بآيات الله توعّده الله بذلك المصير الأسود، فإذا وصلتك المعرفة فإمّا عليك الاحتماء بها، أو البحث عن الحقيقة، وإن لم يكن للإنسان علمٌ ولا هدىً سوى بعض المحفوظات فمِن الأفضل التروّي قليلًا حتى لا يُهلك نفسه من حيث لا يدري. آيات الله الواضحة لا تتطلّب مجهودًا لفهمها، سوى إنصافٍ في التعامل ورغبةٍ في المعرفة. الآية تُحذّر بوضوحٍ من إنكار شيءٍ أو جحوده من دون حجةٍ واضحةٍ، والأفضل عرض الحجج أمام بعضها حتى يستطيع الإنسان استخلاص الحقّ، ولا يقع عليه اللوم. 

الانزواء والاتكاء على حالة ثقةٍ زائفةٍ، وعدم الاطلاع على الحجج المقابلة سوف يؤدي بصاحبه إلى أسفل سافلين، وهو يظنّ أنه من المهتدين. أقولها دومًا لست مِن مَن يطلب من الناس تصديق ما يقول، بل أطلب منهم اختبار ما أقول، وكلّ إنسانٍ كفيلٌ بتحديد بوصلته، فقد ولّى زمن الوصية، ولا أنبياء بعد اليوم يتحدّثون بأمر الله. 

الآية التالية تناولناها عند الحديث عن الخلق وقدرة الإنسان على خلق حياةٍ، وهي آيةٌ محوريةٌ في فهم قدرة الإنسان وحدودها الشاسعة، وكيف يمكن للإنسان أن يكون أداة الله في الكون. 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (سورة الحج: آية 73). 

ورود هذه الآية في سورة الحج بهذا الشكل يُعطينا إشارةً هامةً يجب أن نقف عليها، وهي أنه لا حرج من التعرّض لمثل هذه المسائل، ومنها استطاعة الإنسان، بل يجب أن يكون موضوعًا للبحث والحوار، حتى لا يظنّ التراثيون أنّ مناقشة مثل هذه المسائل تَعَدٍّ على الله وتطاولٌ. 

خُتمت سورة الحج بالتوجيه لفعل الخير، ثم الجهاد الذي وضحته السورة، عندما أرشدت إلى أنّ نبي الله إبراهيم هو مَن سمّاهم المسلمين. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) (سورة الحج: آية 77-78). 

المسلم كما بيّنا في أكثر من موضعٍ هو الإنسان المنصف في التعامل مع الأفكار، وليس لديه تحيُّزٌ، وهو المبدأ الشريف الذي تقوم عليه جميع المؤسسات العلمية، بل هو المبدأ الذي تسعى جميع المؤسسات التعليمية المتحضرة إلى غرسه في نفوس طلابها. من دون مبدأ الإسلام وهو عدم التحيز لا يمكن للحقيقة أن تظهر، ولا يمكن لمعرفةٍ جديدةٍ أن تلقى قبولًا، وسوف تظل المجتمعات تموج في بحارٍ من الجهل المتوارث ما لم تفطن لمبدأ الإسلام القرآني، وهو الإنصاف الكامل في التعاطي مع كلّ ما يستجدّ، وإعلاء مبدأ البرهان والدليل. 

 قبل أن أنتقل إلى الفصل القادم أرغب بتوضيح نقطةٍ هامةٍ بالنسبة إلى مسألة الأنعام، وهي أن الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب جاء فيه فصلٌ كاملٌ عن الأنعام، وتحدّث عن تعبيرٍ عجيبٍ، وهو قول الله (أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج).

(خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰحِدَةࣲ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ ثَمَـٰنِیَةَ أَزۡوَ ٰجࣲۚ یَخۡلُقُكُمۡ فِی بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ خَلۡقࣰا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقࣲ فِی ظُلُمَـٰتࣲ ثَلَـٰثࣲۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ) (سورة الزمر: آية 6). 

تناول هذا الفصل فكرة أنّ الأنعام قد تكون نزلت من مكانٍ آخر غير الأرض، أو أنها ليست بالأساس من مخلوقات الأرض، بسبب بعض المفردات التي شرحت ذلك. أودّ أن أشير إلى احتماليةٍ قويةٍ جدًا هنا، وهي أنّ تعبير (أنزل لكم من الأنعام) قد يشير إلى جعل الأنعام في متناول الإنسان، وباقي المخلوقات لا سبيل للإنسان عليها. سواءٌ أكان الإنزال المادي للأنعام هو المقصود، أم كان إنزالها بمعنى جعلها في دائرة استخدامات الإنسان، أم كان الاثنان معًا هما مقصود الآية، فإننا نقرّ بأهمية هذه المخلوقات، وعلاقتها المركزية مع الإنسان والكون. 

ما زال لدينا كثيرٌ من المفاهيم كي نوضّحها في الفصل القادم، ونستجلي بعض النقاط التي لم تكن واضحةً بالقدر الكافي في هذا الفصل، وسوف نبدأ بإلقاء مزيدٍ من الضوء على مفهوم (المسجد الحرام). 

 ملخص الفصل 

  • فهم لفظ (الحج) فقط من خلال القرآن جعلنا نعيد النظر في قدرٍ هائلٍ من المسميات التي جعلها المُفسّر محليةً، وتدور حول بقعةٍ جغرافيةٍ صغيرةٍ للغاية. 
  • مجرد فهم اللفظ وفهم جذوره مع نبي الله إبراهيم دفعنا دفعًا لفهم مدلول (البيت)، ثم مدلول (البيت العتيق) و(البيت الحرام) و(الكعبة)، وكلها تعبيراتٌ متعلقةٌ بالأنعام. 
  • الحج ركنٌ أساسيٌّ في حياة البشرية، ومن خلاله يستطيع الإنسان تطوير معلوماته، وفهم وجوده، وفهم مراد الله منه، وهو حالةٌ علميةٌ ومعرفيةٌ لا علاقة لها بما يدور حاليًا.
  • المصرّون على التراث مقابل اللفظ القرآني، والذين سوف يستميتون في الدفاع عن التراث مقابل الحجة الواضحة، لسنا منهم في شيءٍ، ولسنا سواءً. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة