الفصل التاسع - عيسى المسيح

الفصل التاسع


 عيسى المسيح


 

عيسى نبيّ الله أكثر الشّخصيّات إثارةً للجدل؛ بسبب ميلاده العجيب، والآيات العجيبة التي رافقت قصّته، والتي لم يكن لها مثيلٌ. لقد حمل لنا القرآن تعبيراتٍ عجيبةً تصف حياة هذا النبي، وتُلقي الضوء على أمورٍ لو وُضعت تحت المجهر لتكشّفت لنا معلوماتٌ يقف العقل أمامها حائرًا؛ بسبب الترابط العجيب بين المشاهد القرآنيّة المختلفة التي وصفت حياة عيسى نبيّ الله، ووصفت الفترة المفصليّة التي جاء فيها، وكيف أنّه كان حالةً فريدةً لا مثيل لها. 

 

ليس لدينا شكٌّ في أنّ عيسى كان طفرةً، وتحوّلًا عظيمًا، وأنّ ميلاده بالطريقة التي وصفها القرآن كان لزوم عمليةٍ لا يقوم بها غيره، ولا بد لها من شخصٍ معدٍّ بطريقةٍ فريدةٍ، بتدخلٍ إلهيٍّ مباشرٍ، وهذا هو يقيننا هنا. مَثل عيسى كمَثل آدم عليهما السلام، كان كلٌّ منهما تحوّلًا من أعظم التحوّلات في تاريخ البشرية. أمّا آدم فكان البداية، حمل النفخة الأولى من روح الله، والتي أعطته القدرة على التّسمية. إنّها مرحلةٌ متقدّمةٌ من الوعي والإدراك، استطاع من خلالها آدم التّعبير عن أفكاره، أو ما يدور داخله، من خلال وصف الأشياء، كما ذكرنا ذلك في فصل الروح من هذا الكتاب.

لقد نفخ الله في آدم من روحه فتكلّم، واستطاع التّعبير عن الفكرة، أمّا عيسى فقد وصفه الله بأنّه روحٌ منه. الأمر يتعلق بالوعي والإدراك على أعلى مستوىً، والقدرة العجيبة على التّفاعل مع الروح التي لم تحدث لأحدٍ من قبل. 

حتى لا يختلط الأمر يجب أن نفهم التعبير القرآني (روحٌ منه) من خلال ضرب مثالٍ تقريبيٍّ؛ لأن  بعضهم يعتقد أنّ تعبير (روحٌ منه) يكافئ تمامًا تعبير (جزءٌ منه)، وهذا غير دقيقٍ بالمرة. تعبير (روحٌ منه) يشبه تمامًا قولنا: علمٌ من الله، أو قدرةٌ من الله، ولا يُعقل أن يعتقد أحدٌ أنّ العلم أو القدرة هي جزءٌ من الله. تعبير (روحٌ منه) يعني أن عيسى كان حالةً خاصةً، وأن الروح التي يحملها نقيةٌ للدرجة القصوى.  

لكي نستطيع فهم دور هذا الرسول العظيم، لا بدّ أن نقوم بتحليلٍ كاملٍ للمواقف التي تخلّلت حياته ورسالته، وربط كلّ المشاهد القرآنيّة التي تناولت قصّته. سوف نحاول كذلك الوقوف على لفظ (عيسى)، و(المسيح)، وتعبير (كلمة الله) و(روحٌ من الله) وأخيرًا (علم الساعة) وما المقصود بـ (الساعة) التي جاء عيسى عِلمًا لها في الفصل القادم. 

 

 مدلول لفظ (عيسى) 

 

جاء في كتاب [بصائر ذوى التمييز] للفيروز أبادي أنّ اسم عيسى اسمٌ أعجميٌّ غير منصرفٍ؛ للعجمة والعلميّة. وقيل: واشتقاقه من العَيَس وهو البَياضُ، والأَعْيَسُ: الجَمَلُ الأَبيض، وجمعه عِيسٌ. قيل له عِيسَى لِبَياضِ لَونه، وقيل من العَوْس وهو السّياسة، وأَصله عِوْسًا، قلبت الواو ياءً لكسر ما قبلها، وقالوا عِيسا لأنّه ساسَ نفسه بالطَّاعة، وقَلْبَه بالمحبّة، وأُمَّته بالدّعوة إِلى ربّ العزَّة.

 

تبعًا للمنهج الذي نتبناه، فلا يمكن أنْ يكون اسم عيسى أعجميًا، ولكنّه عربيٌّ كسائر كلمات القرآن الكريم وألفاظه العربية التي تُفصح عن نفسها وتُنيب. سوف نحاول فهم اسم (عيسى) من خلال مدلول جذره وهو (عسى) الذي جاء غزيرًا في كتاب الله. 

جاء في مدلول ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني: (إنّ لفظ (عسى) يعني طَمِعَ وترجّى، وكثيرٌ من المفسّرين فسّروا (لعلّ) و(عَسَى) في القرآن باللّازم، وقالوا: إنّ الطّمع والرّجاء لا يصحّ من الله، وفي هذا منهم قصورُ نظرٍ، وذاك أنّ الله تعالى إذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإنسان منه راجيًا، لا ليكون هو تعالى يرجو، فقوله: (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) (سورة الأعراف: آية 129). أي: كونوا راجين في ذلك.) 

لدينا مجموعةٌ كبيرةٌ من الآيات القرآنيّة التي جاء فيها لفظ (عسى) وهي تفيد الرجاء أو الأمل، والرجاء ذاته هو الأمل عندما يُحمل على الجانب الخيّر. وهي كما يلي: 

(فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)(المائدة: 52). (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)(التحريم: 5). (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(البقرة: 216). (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)(محمد: 22). (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ)(البقرة: 246). (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)(النساء: 19).

 

لفظ (عيسى) هو نفسه لفظ (عسى) ولكنْ بزيادة الياء بعد حرف العين، لذا نجد أنّ مدلول (عيسى) لن يختلف عن لفظ (عسى) ذاته من حيث الصفات والخصائص، وهو حالة الرجاء والأمل. لفظ (المخلّص) الذي التصق تاريخيًا بنبيّ الله عيسى لا يذهب بعيدًا عن مفهوم الرّجاء، فقد كان نبيّ الله عيسى حالةً شديدة الوضوح من الرجاء، بل كان رجاءً يمشي على الأرض، ومن خلال تحليل اللفظ القرآنيّ الذي وصفه خير وصفٍ. 

قد يمنحنا فهم لفظ (عيسى) من خلال القرآن فرصةً لفهم سبب نعت النّاس نبيّ الله عيسى بالمُخلّص، ولماذا ذهبوا للقول بأنّه ابن الله أو أنّه هو الله ذاته. عيسى هو النبيّ الوحيد الذي وصفه القرآن بأنّه روحٌ من الله، وأنّ الله أيّده بروح القدس، ولعلّ هذه الميزة الفريدة هي ما شوّشت على النّاس تفكيرهم، وبدلًا من عدّ عيسى حالةً فريدةً وعجيبةً حقًا تقودنا لفهم التطوّر المعرفيّ للبشرية، صنعوا منه إلهًا، أو ابن إله، وهذا هو حال النّاس على مرّ العصور، التّطرّف وتجاوز الحدّ في الوصف والتّعبير.

حتى يومنا هذا وفي المجتمعات البسيطة، ترى النّاس يُلبسون صفاتٍ خارقةً لبعض الشّخصيّات المتميّزة التي عاشت بينهم، وما إنْ تموت هذه الشّخصيّة حتى تنهال التوصيفات المتجاوزة، والتي لا تمُتّ بصلةٍ لصاحبها. الموت والغياب حالةٌ عجيبةٌ تجعل النّاس يبالغون لأقصى حدٍّ في وصف الغائب، لا سيما إنْ كان متميّزًا. وهذا حال مجتمعاتٍ عديدةٍ حتى يومنا هذا، فما بالكم بمجتمعاتٍ عاشت منذ ألفَي عامٍ، كيف ستتعامل بعد وفاة المسيح، وهو بالحقّ حالةٌ فريدةٌ لا مثيل لها.  إذ بالإضافة إلى تعبير (روح منه) فإنّ الآيات العجيبة التي حدثت على يدي هذا النبي العظيم كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في وضع هذا النبي العظيم موضع الإله أو ابن الإله. 

 

مدلول لفظ (المسيح)

 

وصف القرآن نبيّ الله عيسى بوصف المسيح كذلك، وهذا الوصف عجيبٌ، وعندما تحاول فهم ماذا يعني المسيح، ستجد أقوال المفسّرين تدور حول فكرة (المسح)، كما يلي:

يقول الطبري: (وأما المسيح، فإنه فعيل، صُرف من مفعول إلى فعيل، وإنّما هو ممسوح، وكلمة (المسيح) تُطلق على عيسى ابن مريم).

يقول ابن الأنباري: (لأهل اللغة خمسة أقوالٍ، أحدها: إنّه قيل له مسيحٌ لسياحته في الأرض، وهو فعيل من مسح الأرض؛ أي مِن قطعها بالسياحة. والأصل فيه مسيح على وزن مفعل، فأُسكِنت الياء، ونُقلت حركتها إلى السين لاستثقالهم الكسرة على الياء. وقيل: إنّما قيل له مسيحٌ لأنّه كان ممسوح الرِجل، وليس لرِجله أخمص، والأخمص ما لا يمُسّ الأرض من باطن الرِجل، وقيل: سُمّي مسيحًا لأنّه خرج من بطن أمّه ممسوحًا بالدّهن. وقيل: سُمّي مسيحًا لأنّه كان لا يمسح ذا عاهةٍ إلا بَرِئ، وقيل: المسيح الصديق.).

عدّ أهل اللغة أصل كلمة (المسيح) هو مسح، ولكن لو أنّ الميم في لفظ (المسيح) ليست من أصل الكلمة، مثل: لفظ (محمد) وأصله حمد، فإنّ أصل كلمة (المسيح) هو ساح، والسياحة في اللغة وفي القرآن هي الانسياب أو التجوّل بلغتنا المعاصرة.

(فَسِیحُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرࣲ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُمۡ غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِی ٱلۡكَـٰفِرِینَ)(سورة التوبة: آية 2). 

المسيح بمعنى الذي يسيح في الأرض، والسياحة هي التجوّل، وقد ذكره ابن الأنباري في أول الأقوال، وهذا ما تؤكّده الآية، ولكن باختلاف أصل الكلمة، إذ نؤيّد أن أصل (مسيح) هو ساح (سيح)، وليس مسح. 

ورد لفظ (المسيح) في كتاب الله في تسعة مواضع مرتبطةٍ بتبليغ الرسالة، وليس فيها موضعٌ واحدٌ مرتبطٌ بالوحي أو التنزيل، أو لفظ (آتينا) كما جاء مع لفظ (عيسى).

 

(وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِیحَ عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ لَفِی شَكࣲّ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینَۢ)(سورة النساء: آية 157).

جاء لفظ (المسيح) يشير دائمًا إلى حالة التبليغ، والتي تتمّ بالتجوّل، كما جاء في سورة المائدة: (لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِیحُ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ أَنصَارࣲ)(سورة المائدة: آية 72). 

(المسيح) بمعنى السائح أو المتجوّل، والتجوّل في حدّ ذاته كان ضرورة  ملحة في هذا العصر  خدمةٌ للرسالة التي يحملها كما سوف نرى بعد قليل. 

على الجانب الأخر نجد أن لفظ عيسى هو اللفظ الذي ارتبط بالتنزيل أو ارتبط بتعبير (آتيناه الإنجيل)،أو تعبير (روح القدس). 

(وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَقَفَّیۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَاۤءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰۤ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِیقࣰا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِیقࣰا تَقۡتُلُونَ)(سورة البقرة: آية 78)

(قُولُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَاۤ أُوتِیَ مُوسَىٰ وَعِیسَىٰ وَمَاۤ أُوتِیَ ٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ)(سورة البقرة: آية 136)

الآية الشهيرة والتي يقول فيها الله (إنّي متوفّيك) جاءت بصيغة (عيسى) وليس (المسيح)؛ لأنّه عند هذه اللحظة لم يعد مسيحًا، فقد توقّفت السياحة والتجوّل بالوفاة. 

(إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَىٰۤ إِنِّی مُتَوَفِّیكَ وَرَافِعُكَ إِلَیَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَجَاعِلُ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡ فِیمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ)(سورة آل عمران: آية 55).

من خلال مقارنة لفظ (المسيح) و(عيسى) لن يخفى علينا مدلول كلّ لفظٍ، إذ إنّ مدلول (عيسى) هو الرجاء والأمل، وغالبًا يأتي مع التنزيل والتأييد، أمّا لفظ (المسيح) فجاء مرتبطًا بمهمّة التبليغ، والتي كان التجوال ركنًا أساسيًا فيها. 

لعلّ الظرف التاريخيّ وقتها، وسطوة الرومان، لم يمكّناه من التبليغ في مكانه، فكان دائم التجوال؛ فلذلك هو المسيح. لقد كان في حكم المطارد، ينشر دعوته بين المضطهدين، ولا يستطيع الإقامة بشكلٍ كاملٍ؛ تجنبًا لاقتفاء أثره من قبل الدولة  الرومانية في ذلك الوقت. 

لم تذكر المصادر الرومانية القديمة أو تُشرْ لوجود شخصٍ اسمه المسيح، ولعلّ هذا بسبب تجوّله بين النّاس، وعدم إقامته في مكانٍ ثابتٍ، لذلك لم يكن مشهورًا عندهم. عجيبٌ أمر هذا النبي العظيم، فرغم مروره الخاطف على البشرية إلا أن أثره كان عظيمًا، ورغم أنه لم يكن مشهورًا في وقته، وكان مطاردًا من قبل الدولة الرومانية، إلا أنّ ذكره بلغ الآفاق وملأ المشارق والمغارب، واحتل في القرآن هو وأمه مكانةً رفيعةً وقيمةً عليا. 

الآنَ تكامل مفهوم (المسيح) مع مفهوم (بني إسرائيل)؛ إذ إنّ (بني إسرائيل) -كما ذكرنا- هم الرُّحل أو المهاجرون أو اللاجئون، و(عيسى المسيح) عندما يتجوّل سوف يمرّ بهؤلاء ويستقرّ معهم، ولذلك كانت دعوته لهم، ولم تكن للمقيمين حيث الدولة الرومانية القوية التي تبسط نفوذها على أجزاءٍ كبيرةٍ من الأرض. ولن يتسنّى لهذا النبيّ العظيم الدعوة إلا من خلال تجوّله، وبين المتجوّلين أمثاله، حتى لا تفتك به الدولة الرومانيّة وقتها. لذلك يجب الانتباه لمفهوم (بني إسرائيل) الذي جاء مع نبي الله عيسى، وعدم الخلط بينه وبين مفهوم (اليهود)، وعدم الانسياق خلف رواياتٍ زائفةٍ. المفردات في القرآن فرّقت بين هذه المسميات، وأشارت إلى أن عيسى المسيح كان يدعو بني إسرائيل أو الرحل أو المهاجرين، وهؤلاء قد يكونون من عقائد مختلفةٍ، وإن كان يغلب عليهم جميعًا صفة الاضطهاد والتنقل في ذلك الوقت وعدم الإقامة في الأرض. قد يكون هؤلاء مختلفون في اعتقاداتهم كسائر الناس، ولكنْ لا شك أنهم متّفقون في أنهم مهاجرون أو مرتحلون أو مضطهدون. 

بعد فهم مدلول (عيسى) ومدلول (المسيح)، دعونا نتساءل: إذا كان عيسى يعني الأمل والرجاء، فماذا يعني ذلك؟

من خلال المشاهد التالية سوف نستخلص ماهية هذا الرجاء والأمل، وإلى أيّ شيءٍ يرمِ. 

المشاهد القرآنية التي ذُكر فيها عيسى عليه السلام.

 

المشهد الأول: مرحلة الصبا

 

أوّل مشهدٍ قرآنيٍّ أخبرنا عن هذا الرجاء أو هذا الأمل الذي منحه الله للبشرية، من خلال هذا النبيّ العظيم، جاء مبكّرًا في مرحلة طفولة نبيّ الله عيسى أو في سنّ الصبا، كما ذكر القرآن. إنّه مشهد الكلام الذي تميّز به عيسى نبيّ الله وهو صغيرٌ، ومخاطبته للقوم بكلامٍ بليغٍ وموجزٍ. لقد أفردنا فصلًا كاملًا عن كلام عيسى في المهد، في الجزء الأول من سلسلة كتب تلك الأسباب. وقد كان ملخّص الفصل أنّ نبيّ الله عيسى لم يتكلّم رضيعًا كما ذكرت الروايات، بل تكلّم بكلامٍ بليغٍ في سنٍّ صغيرةٍ أو في سنّ الصبا وهو ما بين 6 إلى 8 سنواتٍ. 

عندما قدّمنا تفصيلًا واضحًا عن الفرق بين الكلام والقول والحديث، أدركنا أنّ فضيلة الكلام التي تميّز بها عيسى نبيّ الله في هذه السّنّ إنما كانت إشارةً كافيةً على الوعي والإدراك والفهم المُتقدّم الذي ميّز هذا النبيّ العظيم. لقد منحنا هذا المشهد صورةً واضحةً بأنّنا أمام نموذجٍ -إن جاز لنا التّعبير- عبقريٍّ من حيث الفهم والتّعبير عن هذا الفهم، بما لمدلول لفظ (الكلام) من دلالةٍ واضحةٍ على ذلك، ولمزيدٍ من المعرفة عمّا ذكرنا يُمكن مراجعة الجزء الأول من سلسلة تلك الأسباب. إنّنا إمام مُبشّراتٍ واضحاتٍ بأنّ شخصًا استثنائيًا قد حضر زمانه، ليس في فنون القتال أو فنون الرياضة، بل في الفهم والوعي والتّعبير عن هذا الوعي، كما قادنا هذا المشهد. 

المشهد الثاني: كلمته وروحٌ منه

 

هذا المشهد يضيف لنا تأكيدًا على أنّ عيسى ابن مريم كان حالةً خاصةً من الوعي والإدراك، كما يشير إلى ذلك القرآن، عندما وصفه بأنّه كلمة الله وروحٌ منه. 

(یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ وَلَا تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥۤ أَلۡقَىٰهَاۤ إِلَىٰ مَرۡیَمَ وَرُوحࣱ مِّنۡهُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُوا۟ ثَلَـٰثَةٌۚ ٱنتَهُوا۟ خَیۡرࣰا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱۖ سُبۡحَـٰنَهُۥۤ أنّ یَكُونَ لَهُۥ وَلَدࣱۘ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا)(سورة النساء: آية 171). 

 

كلمات الله هي الحقيقة المطلقة، فإذا وصف القرآن شخصًا بأنّه كلمة الله فهذا يعني أنّنا أمام حقيقةٍ مجسّدةٍ، بل أمام أقصى درجات الحقيقة. الآية نفسها تقول عن عيسى ابن مريم إنّه (روحٌ منه)؛ أيْ روحٌ من الله. لقد جاء وصف عيسى ابن مريم في هذه الآية بأنّه (كلمة الله وروحٌ منه) تفسيرًا لما قد يظنه النّاس بأنّه ثالث ثلاثةٍ، أو أنّه شريكٌ مع الله. 

نعم، لقد كان عيسى حالةً فريدةً، وقد يكون هذا ما جعل النّاس يعتقدون بألوهيّته، والله يقولُ لهم إنّه بالفعل كان حالةً خاصةً، وكان حقًا يمشي أمامهم، ولكنّه لم يكن إلهًا، فهو كان روحًا من الإله، ورجاءً للناس، وأملُهم في التخلّص من التخبّط والجهل، والعودة إلى الحقائق. القول بأن (روحٌ منه) تعني جزءًا من الله قولٌ طفوليٌّ، فهذا يعني أن الله يتكوّن في ذاته من روحٍ، وهذا منافٍ تمامًا لكونه ليس كمثله شيءٌ.

 

كما ذكرنا آنفًا أن روحًا منه إنما تشبه علمًا منه أو قدرةً. الروح منتسبةٌ لله، ولكنها ليست جزءًا من الله، وهذا الفرق جدُّ خطيرٍ.  لقد كان بعث عيسى ضرورةً ملحةً؛ بسبب طبيعة العصر، وحاجة البشرية لمعلمٍ مثل عيسى يفسر ويوضح بصورةٍ نقيةٍ ليس فيها شائبةٌ. 

 

لو فرضنا أنّ شركةً تصنع أجهزةً متقدّمةً للغاية، وتريد أنْ تُرسل بعض هذه الأجهزة لبعض البلدان، فهناك طريقان لضمان فهم عمل هذه الأجهزة والتعامل معها. الطريقة الأولى: هي إرسال دليلٍ (كتالوج) يشرح الخطوات وكيفية التعامل مع الجهاز، وهذه الطريقة تتطلّب قدرًا من التعليم والفهم، فلا يمكن أنْ يتعامل مع الدليل أشخاصٌ بدائيون، وإنما يصبح الدّليل فعّالًا وذا فائدةٍ عندما يكون المتلقّي على قدرٍ من المعرفة والفهم. الطريقة الثانية: هي إرسال خبيرٍ متخصّصٍ يشرح للناس طريقة عمل الجهاز والتعامل معه بكلّ دقّةٍ واحترافيةٍ، وهذه الطريقة نافعةٌ في المجتمعات البسيطة؛ لأنّها تساعدهم في تلقّى تدريبًا حيًّا على التعامل مع الجهاز. 

عيسى ابن مريم كان الحالة الثانية، فهو كلمة الله وروحٌ منه، جاء يبيّن للناس ما هم فيه مختلفون، وكان ينطق بالحقّ؛ لأنّه منذ اللحظة الأولى مؤيّدٌ من الله. لو أردنا أنْ نقول: إنّ نبيًا كان ينطق الحقّ في كلّ ما يقول ويفعل، فهو عيسى ابن مريم، ولا أحد غيره، كما أخبر القرآن بذلك. 

في العصر الذي جاء فيه ابن مريم كان الاختلاف على التوراة على أشدّه، فتداركت النّاس رحمة الله، في صورة وعيٍ وإدراكٍ فاقَ العادة، مُتجسّدًا في عيسى، ليكون لهم رجاءً وخلاصًا من الجهل الذي يسبحون فيه. كلّ المشاهد القرآنيّة تُؤيّد ذلك، وتدعم هذه الصورة، وأقوى هذه المشاهد على الإطلاق هو المشهد الذي ذكر الله فيه أنّ عيسى كلمته، وأنّه روحٌ منه، وهذا ما قد يدفع بعضهم للاعتقاد بأنّه الله، أو ابن الله، ولهذا كان التحذير شديد اللهجة من الخلط بين القوى المطلقة وأسباب هذه القوى. 

 

لقد كان عيسى سببًا من أعظم الأسباب وأبلغها ولا ريب. والبشرية كانت في حاجةٍ ماسّةٍ لعيسى ابن مريم في ذلك الوقت، فإنْ نزل كتابٌ -وقد نزل وهو التوراة من قبله- فسيختلفون فيه، فكان لزامًا أن يأتي عيسى ينطق بالحقّ، ويصدّق التوراة، ويزيل الغمام، وينير الطريق. إنّه الخبير الذكيّ المحنّك الذي سوف يشرح لهم ويبيّن. لقد كانت البشرية وقتها لا تقدر على فهم الكُتُب السماويّة أو قُل الكتالوجات الربّانيّة بصورةٍ منفردةٍ، وقد اختلفوا في ذلك اختلافًا كبيرًا، فجاء عيسى علاجًا لذلك. وسوف نتطرّق للمقارنة بين التوراة والإنجيل والقرآن، وبيان وظيفة كلّ كتابٍ كما فهمنا من القرآن، في هذا الفصل حتى تتضح الصورة ويكتمل المشهد. 

 

المشهد الثالث: روح القدس

 

لقد تناولنا شرح مفهوم روح القدس في فصل الروح، وها نحن هنا نستكمل تفصيل ذلك؛ تأكيدًا للمثال الذي ضربتُه في المشهد السابق، بأنّ عيسى كان كمَثل الخبير الذي أرسلته الشركة لكي يشرح للناس كيفية التعامل مع الجهاز الحديث.

التأييد الذي ناله عيسى نبيّ الله من روح القدس كان تأييدًا يتناسب مع المهمة التي سوف يقوم بها، وهي استخلاص حقائق التوراة. أجل، إنّ مهمّته استخراج حقائقَ ومعلوماتٍ من التوراة وشرحها للناس. ودعونا نتطرّق للآيات التي ذكرت تأييد عيسى ابن مريم بروح القدس، ونرى ماذا تخبرنا:

 

الآية الأولى:

(وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَقَفَّیۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَاۤءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰۤ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِیقࣰا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِیقࣰا تَقۡتُلُونَ)(سورة البقرة: آية 87). 

وضّحت هذه الآية المقصود أيّما توضيحٍ، فبعد أن آتى الله نبيه موسى الكتاب، يخبرنا أنّه آتى نبيّه عيسى البيّنات، وكأنّ عيسى جاء يبيّن. عندما نقف على لفظ (إنجيل) سوف ندرك أنّ عيسى كان شارحًا للكتاب الذي آتاه الله لموسى، ولكنّه ليس شرحَ مجتهدٍ أو مفسّرٍ أو تفاعلًا يصيب ويخطئ.

لقد كان عيسى عليه السلام مؤيّدًا بروح القدس، بمعنى أنّه ينطق بالحقائق، وفي حالةٍ نقيّةٍ من الوعي والإدراك. لم تأتِ هذه الحالة إلّا لعيسى ابن مريم، أمّا سائر الأنبياء فينطقون ويتكلمون بقدر تفاعلهم مع كلمات الله، وإذا بلّغوا ما أنزل الله، فليس لهم إلّا أنّ يقولوا ما أُنزل إليهم. 

حتى ندرك الفرق بين النبي محمد والنبي عيسى يجب أن نتطرق لكيفية تعاطي القرآن مع كلٍّ منهما في مسألة (البينات). 

في حين يخبرنا القرآن قول الله: (وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ) بمعنى أنه شخصٌ متميزٌ، ومن أهم خصائصه هو ارتباطه بالبينات، بينما يخبرنا عن حالة نبي الله محمد فيقول الله عنه: (آتيناك الذكر لتبين للناس) (بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(سورة النحل : آية 44). 

لم يقل الله: آتيناك البينات، بل (آتيناك الذكر)، والذكر هو الحقائق المطلقة في القرآن، والرسول يبلغها للناس. هذا الفرق الدقيق هو حتميٌّ في تطور البشرية وارتقائها، ولنضرب مثالًا لذلك. قد تلاحظ هذا الفرق حتى في الشأن السياسيّ؛ ففي الأنظمة البدائية كان النظام الملكي هو النظام المسيطر، فالملك يحكم ويدير ويقوم بكل الأعمال، أما عندما تتقدم الدول يصبح دور الملك هامشيًا للغاية، أو قد يختفي تمامًا، وتتولّى عملية الإدارة مؤسساتٌ قويةٌ من خلال دستورٍ يوضّح حدود التعامل بين الجميع. 

 

لقد كان عيسى النبي هو الحكيم الذي يوجّه ويقود البشرية شخصيًا، أما محمد صلوات ربي عليه فجاء بالدستور  والكتاب الذي سوف يكون متاحًا للجميع لاستنباط المعرفة من خلاله. 

لم يخبرنا القرآن أبدًا أن عيسى قال قولًا فعاتبه فيه الله، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ بسبب طبيعة عيسى التي تناولناها في السطور السابقة؛ لكنّ القرآن عرض لنا قصص أنبياء كُثرٍ  كانوا على خلاف ذلك، وأخبرنا عن تفاعلهم الشخصي، والذي كان في منتهى الصدق، ولكنه لم يكن في منتهى الصواب كما كان الأمر مع عيسى, 

لقد حكى لنا القرآن قصة داود وسليمان، وكيف أنّ كلًا منهما كان ذا علمٍ، ولكنّ فهم سليمان غاب عن داود. 

 

(وَدَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَـٰهِدِینَ (78) فَفَهَّمۡنَـٰهَا سُلَیۡمَـٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَیۡنَا حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ یُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّیۡرَۚ وَكُنَّا فَـٰعِلِینَ (79))(سورة الأنبياء: آيات 78-79).

لو أنّ أحدًا منهما أو كليهما مؤيّدان بروح القدس ما نطقا إلا حقًا مطلقًا، ولكن لأنهما ينطقان بالعلم والحكمة التي علّمهما الله، فإنّ للفروق الشّخصيّة دورًا واضحًا، جعلت سليمان أكثر فهمًا للمسألة من داود عليه السلام. 

 

في سورة ص كذلك لمحةٌ شديدة الوضوح إلى أنّ داود ينطق ويقول ما يرى هو، وليس ما يمكن أن نُسميّه وحيًا مباشرًا من الله، أو أنّه مؤيّدٌ بروح القدس: (یَـٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَـٰكَ خَلِیفَةࣰ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ)(سورة ص: آية 26). 

 

كذلك عاتب القرآن نبيّ الله محمّدًا في بعض الأفعال والأقوال، وقد ذكرنا ذلك مُفصّلًا في كتاب قولًا ثقيلًا، ممّا يغنينا عن تكرار هذه المواقف هنا. ما نودّ قوله أنّ عيسى في هذا التوقيت وتلك الظروف كان حالةً فريدةً تحتاجها البشرية للخروج من الاختلاف، فآتاه الله البيّنات يوضّح للناس ما هم فيه مختلفون. لقد كان تجسيدًا للحقيقة، لا يغيب عنها ولا يميل، وهذا ما استنبطتُه من المشاهد القرآنيّة التي وصفت هذا النبيّ الكريم. 

 

الآية الثانية:

(تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَـٰتࣲۚ وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ وَلَـٰكِنِ ٱخۡتَلَفُوا۟ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُوا۟ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَفۡعَلُ مَا یُرِیدُ) (سورة البقرة: آية 253). 

 

في هذه الآية الكريمة نجد تأكيدًا أن الله آتى عيسى ابن مريم البينات وأيده  بروح القدس، والتي لم تكن لأحدٍ غيره. لقد ذكرت الآية الكريمة الرّسل بالمجمل، ثمّ ذكرت عيسى ابن مريم حالةً منفصلةً هنا؛ لأنّه بحقٍّ حالةٌ فريدةٌ من ناحية الوعي والإدراك الناتج عن كونه روحًا من الله، ومؤيدًا بروح القدس، وكلمة الله. 

 سوف نستكمل هذا المشهد بمشهدٍ آخر، وهو مشهد الآيات الخارقة في هذا العصر التي تمّت على يديّ نبيّ الله عيسى.

المشهد الرابع: تخرج الموتى 

لا شك أنّ عيسى ابن مريم كان حالةً لا نظير لها؛ بسبب كثافة الإشارات القرآنيّة الدالة على ذلك، ولعلّ أهمّ هذه الإشارات هو التّعبيرات الواردة في سورة المائدة، والتي وصفت الآيات التي جاء بها عيسى ابن مريم: 

(إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ) (سورة المائدة: آية 110). 

هل هناك شخصٌ آخر ذكره القرآن استطاع أنْ يأتي بمثل هذه الآيات، كأنْ يخلق من الطين كهيئة الطير، أو أْنْ يُخرج الموتى؟ لو أردنا أنّ نسبح بالخيال بعيدًا، وحاولنا التّنبّؤ بأقصى ما يمكن أنْ يفعله العلم، فسوف يذهب تفكيرنا إلى القدرة على الخلق، وإعادة الموتى. ولأنّ عيسى ابن مريم عليه السلام كان حالةً فريدةً، فقد كانت الآيات التي جاءت مصاحبةً له حالاتٍ لا مثيل لها، بل وتمثّل من وجهة نظري النقطة القصوى في طريق العلم. وسوف نتعرّض لهذه المسألة بشيءٍ من التفصيل، ونشرح التّعبير القرآنيّ (علمٌ للساعة) والتعرّض لمفهوم (الساعة). 

من خلال المنهج الذي أستخدمه في سلسلة كتبي أشرت غير مرّةٍ إلى أنّ ذكر الآيات الخارقة في القرآن ليست للعبرة والعظة؛ بل هي إرشادٌ للبشر إلى أنّهم قادرون على الإتيان بها بالعلم وحسن التقدير. 

هذه الآية تُلقي الضوء على هذه الفكرة، إذ إنّ نبيّ الله عيسى، وهو الحالة الخاصّة من الوعي والإدراك، أو قلْ هو الحالة المجسّدة للحقيقة، قد فعلها بإذن الله.

ومن وجهة نظري إنّ وصول الإنسان لهذه المرحلة من والوعي والإدراك سوف يجعله قادرًا على فعل ما فعله نبيّ الله عيسى. وسوف أُجيب على السؤال التالي في الفصول القادمة تجنُّبًا للإطالة والتشتيت هنا، وهو: هل الإنسان قادرٌ على إحياء الموتى والخلق من خلال القرآن، أم إنّ الأمر مغلقٌ لا سبيل إليه؟ 

 

المشهد السادس: الإنجيل 

 

العلاقة بين التوراة والإنجيل علاقةٌ واضحةٌ لا تحتاج إلى مجهودٍ لبيان حقيقتها، وقد تكلّم فيها كثيرٌ من المحقّقين، وها نحن هنا نضع اللّمسات الأخيرة لهذه العلاقة، ونحاول فهمها من خلال مدلول اللفظ في القرآن. 

عندما تعرّضنا لفهم لفظ (التوراة) في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب، ذكرنا أنّ لفظ (التوراة) يشير إلى شيءٍ يواري شيئًا آخر، واستخلصنا من ذلك أنّ التوراة هي الصورة المكتوبة من كلمات الله. وبمعنىً أكثر وضوحًا فإنّ التوراة هي رسم الحروف والكلمات، أيْ رسم المنطوق الصوتي للكلمات. 

إنّنا هنا نتحدّث عن لفظٍ متخصّصٍ للغاية، فإذا أردنا أنْ نتحدّث بصورةٍ شموليةٍ فيلزمنا وصف ما أنزل الله بوصف (الكتاب) على نحوٍ يشمل كلّ شيءٍ، من رسم الكلمات، وما تعنيه هذه الكلمات والمفاهيم والوصايا. الأمر أشبه بالفرق بين لفظ (القرآن) و(الكتاب) و(الذكر) الذي تناوله كثيرٌ من الباحثين، وتناولتُه كذلك في كتاب قولًا ثقيلًا. إذا كان لفظ (القرآن) يشير إلى الآيات التي يتناولها الإنسان بالقراءة والتحليل والتدبّر، ومدلول (الكتاب) يُشير إلى الآيات التي يؤمن بها الإنسان بغضّ النظر عن منطقيّتها، و(الذّكر) هو الحقائق المطلقة المحفوظة من خلال النص، فإنّ  الفرق بين التوراة والإنجيل شبيه لذلك تمامًا. 

التوراة وصفٌ لرسم الكلمات والحروف أو الشكل التصويريّ للحروف والكلمات والمقاطع الصوتية. ويمكن مراجعة المزيد عن لفظ (التوراة) ومدلوله في الجزء الثالث والرابع من كتاب تلك الأسباب. 

إذا كانت التوراة هي النمط التصويريّ للحرف أو المقطع الصوتي، فماذا يكون الإنجيل؟ لقد جاء لفظ (الإنجيل) و(التوراة) متلازمين في تسعة مواضع من كتاب الله، من أصل 12 موضعًا.

سنذكر أولًا ما قاله الشُرّاح عن معنى (الإنجيل): 

جاء في [عمدة الحفّاظ] لـ السمين الحلبي (والإنجيل: أحد الكتب الأربعة. المنزل على عيسى ابن مريم. وأكثره مواعظُ وأمثالٌ، وأحكامه قليلةٌ جدًا، لأنّ عيسى جاء مقرِّرًا لأحكام التوراة إلا يسيرًا. واختلف النّاس فيه هل له اشتقاقٌ أم لا؟ والظاهر لا اشتقاق له لأنّه أعجميٌّ. ثمّ القائلون باشتقاقه اختلفوا؛ فقال بعضهم: سُمّي لاستخراجه من عند الله تعالى على يد عيسى عليه السلام). 

 

من خلال لفظ (الإنجيل) ذاته، ومن خلل جذر الكلمة، سنجد أنّ لفظ (إنجيل) يعني بالفعل المستخرَج من شيءٍ سابقٍ، مثاله الابن نجل أبيه. يُقال للولد (نجلًا) لأنّه خرج من والديه، وكذلك (الإنجيل) تبعًا لمدلول اللفظ، نستطيع القول بأنّه ابن التوراة أو المستخرج من التوراة. لفظ (الإنجيل) ليس أعجميًا كما ذهب بعض المفسّرين، بل هو عربيٌّ مبينٌ، ومدلوله يعني المستخرَج، وهكذا عوّدنا القرآن، أنْ يُسمّي الأشياء تسميةً حقيقيةً، فكلّ اسمٍ يحمل صفات المُسمّى وخصائصه.

 

تلازُم لفظ (التوراة) و(الإنجيل) ومن ثمّ مدلول كلمة (التوراة) التي بيّنّا بأنّها رسم المنطوق الصوتيّ، فإنّ الإنجيل يبدو واضحًا لي، فهو فهمٌ وتفسيرٌ لهذا المدلول الصوتيّ على حقيقته. وهذا هو الهدف العظيم الذي قام به نبيّ الله عيسى على أحسن وجهٍ، بالتزكية الإلهيّة له، وإعداده بصورةٍ فريدةٍ لتولّي هذه المسؤوليّة العظيمة. لم يقلْ ربّنا أنّه أنزل الإنجيل على عيسى، وإنما قال أنزل الإنجيل بشكل عام، وعندما نُسب الإنجيل إلى عيسى استخدم لفظ (آتينا) الإنجيل. 

(قَفَّیۡنَا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم بِعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡإِنجِیلَ فِیهِ هُدࣰى وَنُورࣱ وَمُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَهُدࣰى وَمَوۡعِظَةࣰ لِّلۡمُتَّقِینَ)(سورة المائدة: آية 46). 

 

الآية الكريمة تؤكّد المعنى؛ إذ إنّ عيسى يُصدّق التوراة وآتاه الله الإنجيل. وحتى تصبح الأمور أكثر وضوحًا يُمكننا تمثيل هذه الحالة بحالة نزول كتاب الله القرآن، فالمنطوق الصوتيّ هو كلماته وحروفه كما نرى ونعلم، ومع ذلك لم يفهم النّاس كثيرًا جدًا من ألفاظه وتعبيراته كما هو واضحٌ من تضارب التفاسير، وكما بيّنّا في أكثر من موضعٍ. المنطوق الصوتيّ لجميع كلمات الكتاب نزل من عند الله، وكذلك مدلولاتها والحقائق المحفوظة في هذه الكلمات والحروف والتّعبيرات، كلّها من عند الله. إذا قال الله إنّه آتى فلانًا القرآن، فهذا يعني قدرة فلانٍ على قراءته (تدبر الكلمات والألفاظ وتحليلها) بصورتها الحقيقيّة.

وإذا قال الله إنّه آتى فلانًا الذكر، فهذا يعنى قدرة فلان على معرفة الحقائق المطلقة التي تحتويها الألفاظ والتّعبيرات، ومن ثمّ استخراج القوانين والنظريات المعرفية بصورتها الحقيقية. لم يقلْ ربّنا ذلك عن القرآن والكتاب، وسوف نعود لهذه النقطة في السطور التالية، ولكنْ لِنعدْ مرةً أخرى للتوراة والإنجيل. 

 

(التوراة) هي -كما بيّنّا- الرّسم الصوتيّ، وبداية الكتابة المنهجية، ورسم الحروف المعبرة، فكلّ حرفٍ يدلّ على معناه، لكي تُفهم هذه الكلمات بصورةٍ حقيقيةٍ. ولأنّ البشرية وقتها لم تكن بالقوّة والتقدّم العقليّ، جاء عيسى روحًا من الله، وكلمة الله، ومؤيّدًا بروح القدس لهذه المهمة، وهي استخراج المعاني الحقيقيّة لما حوتْه التوراة، وهذه المعاني والتأويلات حقيقيةٌ، وليست مجرّد اجتهادٍ بشريٍّ من عيسى ابن مريم. 

 

الأمر مختلفٌ مع القرآن؛ لأنّ البشرية تقدّمت خطوةً للأمام، فطلب الله منها أنْ تقرأ وتتدبّر، أمّا في حالة التوراة والإنجيل فلم يطلب الله من النّاس قراءتها بمعنى تدبّرها، وإنّما طلب تلاوتها أو إقامتها. بل إنّ آيةً صريحةً في سورة المائدة تُرشدنا إلى أنّ الحُكم بالتوراة كان مقصورًا على الأنبياء بما استُحفظوا، وليس بما قرؤوا أو تدبّروا. 

(إِنَّاۤ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِیهَا هُدࣰى وَنُورࣱۚ یَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِیُّونَ ٱلَّذِینَ أَسۡلَمُوا۟ لِلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُوا۟ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُوا۟ عَلَیۡهِ شُهَدَاۤءَۚ فَلَا تَخۡشَوُا۟ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِی ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ)(سورة المائدة: آية 44). 

هذه الفروقات الطفيفة بين الكلمات لا بدّ أنْ تلفت انتباه المتدبّرين؛ لأنّ من أنزلها هو الخالق، وله في كلّ حرفٍ وكلّ كلمةٍ آيةٌ تدعونا إلى البحث خلفها بكلّ طاقتنا.  (يحكم بها النبيون) تعبيرٌ غايةٌ في الإعجاز والبلاغة الربانية. لماذا النبيون؟ لأنهم صورةٌ نقيةٌ للوحي، و وبإمكانهم التعامل مع التوراة، أما الناس في مجملهم في هذه العصور فليسوا بهذا القدر. لم يُذكر هنا الإنجيل؛ لأن الإنجيل حالةٌ خاصةٌ بعيسى ابن مريم، ولم يستخرجه غيره لكنه من قلب التوراة. لذا نقول إن الكتاب الذي أنزل الله هو كتابٌ يحوي التوراة والإنجيل، ولكن لم يستطع أحدٌ استخراج الإنجيل إلا عيسى ابن مريم. 

الآية التالية والتي تناولناها من قبل في سورة المائدة، تُعطينا لمحةً عن تعليم الله لعيسى التوراة والحكمة والإنجيل، ولم ينزل الإنجيل على عيسى منفصلًا كما يظنّ بعضهم. 

(إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ)(سورة المائدة: آية 110). 

وما يدفعنا للقول بأنّ التوراة والإنجيل هما المحتوى نفسه، غير أنّ التوراة هي رسم الكلمات، والإنجيل تفسيرٌ لهذه الكلمات، هو الآية التالية التي تطلب من المؤمنين إقامة التوراة والإنجيل. 

(وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُوا۟ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةࣱ مُّقۡتَصِدَةࣱۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ سَاۤءَ مَا یَعۡمَلُونَ)(سورة المائدة: آية 66). 

لو أنّ الكتابين مختلفان لنسخ أحدهما الآخر، أو لحلّ محلّه، بسبب التطوّر المعرفيّ للبشرية؛ ولكنْ لأنّ المسمّيَين هما وصفٌ للمحتوى نفسه جاءا في أغلب المواضع مقترنَين؛ لعلّ النّاس يدركون هذه الحقيقة.  الآية موجهةٌ لمن جاؤوا بعد عيسى ابن مريم؛ لذلك جاءت التوراة مقترنةً بالإنجيل، فقد ظهر الإنجيل على يد هذا النبي العظيم. 

آيةٌ أخرى تزيد الأمر وضوحًا، ولكنّ المفسر حاول تبرير الآية بشيءٍ غريبٍ، وهذه الآية تخبرنا أنّ الجنّ قالوا: إنا سمعنا كتابًا أُنزل من بعد موسى عندما كانوا يستمعون للقرآن.

(قَالُوا۟ یَـٰقَوۡمَنَاۤ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَـٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِیقࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ)(سورة الأحقاف: آية 30). 

يقول المفسر إن دلالة هذه الآية أن الجن كانوا يهودًا لأنهم لم يذكروا الإنجيل. الحقيقة أن الجن ليسوا يهودًا ولا نصارى ولا هذه التقسيمات التي نعرفها، وقولهم في آيةٍ (منا المسلمون ومنا القاسطون) إنما هو تعبيرٌ عن الإنصاف وغير الإنصاف، ولو طال بنا الوقت فسوف نتعرّض لسورة الجن في كتابٍ قادم لنرى أسرارًا ودلائل من سورة الجن، وماذا يعني الجن.  

عندما قال الجن (إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى) وعدم تعقيب القرآن يجعلنا نُصرّ على أن الكتاب الذي نزل واحدٌ، ويحتوي على التوراة والإنجيل، والآية دليلٌ في غاية القوة على ذلك. 

كثيرٌ من المحقّقين يدركون هذا الأمر، وأنّ الإنجيل هو شرحٌ للتوراة، ولكنّ ألفاظ القرآن بيّنت ذلك بوضوحٍ وجلاء، بل واستطعنا فهم سبب حمْل عيسى نبيّ الله كلّ هذا الوعي والإدراك والفهم، والتأييد بكلّ هذه التأييدات. السّبب لأنّ مهمّته هي إبراز الحقيقة للناس، وشرح ما اختلفوا فيه بصورةٍ صحيحةٍ وسليمةٍ. وعلى ذلك يصبح (عيسى) الرجاء والأمل الحقيقي، و(المسيح) الذي ظلّ متجوّلًا مرتحلًا يُبلّغ النّاس، ويحمل لهم الأمل والخلاص من غياهب الجهل الذي يحيون فيه. 

لدينا ملاحظةٌ على ذكر التوراة والإنجيل في كتاب الله، وكيف طلب الله من النّاس اللجوء للاحتكام لكلٍّ منهما. لم يقلْ الله في القرآن أنْ يحكم أهل التوراة بما أنزل الله، لكنّه قال في سورة المائدة (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه)، أمّا في حالة التوراة فقال الله عنها: إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكم بها النبيون، فما دلالة ذلك؟ 

(وَكَیۡفَ یُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِیهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ یَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَۚ وَمَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ (43) إِنَّاۤ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِیهَا هُدࣰى وَنُورࣱۚ یَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِیُّونَ ٱلَّذِینَ أَسۡلَمُوا۟ لِلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُوا۟ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُوا۟ عَلَیۡهِ شُهَدَاۤءَۚ فَلَا تَخۡشَوُا۟ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِی ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ)(سورة المائدة: آيات 43-44). 

التوراة لم تكن سهلةً حتى يستخلص النّاس الأحكام منها بسهولةٍ ويسرٍ، وهذا ما نفهمه من القرآن، ولكنّها كانت نصًا محفوظًا بطريقةٍ معيّنةٍ لهداية البشرية، ويأتي الأنبياء يحكمون بها نبيًا تلو نبيٍّ. حتى جاء عيسى ابن مريم، وكان طفرةً بكلّ ما تعني الكلمة من معنىً، فاستخرج الأحكام والمعاني بصورةٍ حقيقيّةٍ وسليمةٍ، وعند ذلك أصبح لدى النّاس نسخةٌ مبسّطةٌ وواضحةٌ يستطيعون الاحتكام إليها، ولذلك قال ربّنا عن ذلك: وليحكم أهل الإنجيل وليس النبيّين. لقد تمّ الانتقال من مرحلة حكم النبيّين عن طريق التوراة إلى حكم النّاس بصفةٍ عامةٍ على يد نبيّ الله عيسى، إذ جعل النصّ في متناول الناس. 

(وَلۡیَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِیلِ بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِیهِۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ) (سورة المائدة: آية 47). 

لكي نختم هذه الجزئية لا بدّ أنْ نذكر الآية التي ذَكر فيها عيسى ابن مريم نبيّ الله علة وجوده، وهي أنّه جاء بالحكمة وليبيّن للناس بعض الذي يختلفون فيه: (وَلَمَّا جَاۤءَ عِیسَىٰ بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالَ قَدۡ جِئۡتُكُم بِٱلۡحِكۡمَةِ وَلِأُبَیِّنَ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی تَخۡتَلِفُونَ فِیهِۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ)(سورة الزخرف: آية 63). ما هذه البلاغة وهذه الدقة في التعبير؛ لقد ذكر المسيح أنه جاء بالحكمة ليبين الذي يختلفون فيه، وهل نحتاج لدليلٍ أوضح من ذلك على أن الإنجيل  إنما كان تبيانًا للتوراة التي اختلف فيها الناس. 

للأسف الشديد طبيعة النّاس تأبى الانصياع للحق في وقته، لذلك آمنت طائفةٌ وكفرت طائفةٌ، وهذا الصراع سوف يظلّ إلى يوم الدين، طائفتان رئيستان، إحداهما تتبع الحق أينما وُجد، وأخرى تستميت دفاعًا عن موروثها، وتقاتل ضدّ التغيير. سنة الله في الخلق أنْ ينصر أصحاب الحق ويُخزي المشركين. 

التوراة والإنجيل مثالٌ من أعظم الأمثلة على التطوّر المعرفي للبشرية؛ إذ جاءت التوراة وكأنّها كتاب المتخصّصين، يحكم بها النبيّون فقط. ومع تقدّم البشرية خطوةً جاء عيسى يستخرج أحكامها ويُبيّنها لتصبح في متناول الناس، ثم خُتمت فترة تقويم البشرية بالقرآن؛ إذ يمكن للنّاس دراسته وفهمه وتدبّره واستيعاب مفاهيمه، ولكنّ النّاس لا ينصاعون بسهولةٍ للحقائق، وتختلف درجة استيعاب هذه المفاهيم بدرجة اختلاف القدرات العقلية للناس. 

السؤال المحير هنا: لماذا أرسل الله عيسى بهذه الميزة الفريدة، ولم يُنزل كتابًا مؤوَّلًا يقرؤه عيسى كأيّ نبيٍّ من دون تدخلٍ منه، مثل القرآن الذي أنزله الله على محمدٍ عليه الصلاة والسلام؟ 

الإجابة على هذا السؤال سوف تنقلنا للفصل القادم، والخاصّ بالساعة وعلم الساعة. إنّها خمس آياتٍ في سورة الزخرف، أعطتنا حلًا لهذه المعضلة. 

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61)(سورة الزخرف: آيات 57-61). 

عيسى ابن مريم هو عبدٌ أنعم الله عليه بهذه المعرفة، وهو بشرٌ؛ لأنّ التطور المعرفي للبشر يجب أنْ يكون من داخلهم. ليس مطلوبًا كما يعتقد بعض التقليديّين أنّ تسير الأشياء وفق مشيئةٍ غير مسبّبةٍ، بل هي أقدارٌ وقوانين يخدم بعضها بعضًا، ويدعم بعضها بعضًا. لا شكّ أنّ الله قادرٌ على أنْ ينزل ملائكةً، أو يجعل من البشر ملائكةً، ولكن ليس هذا هو المطلوب. يجب أنْ تخوض البشرية تجربتها، وتعصف بها الاختبارات المعرفيّة حتى تترقّى معرفيًا خطوةً بخطوةٍ كما أخبر القرآن منذ بدء الخليقة، وعملية إرسال الأنبياء عمليةٌ مقدّرةٌ، وكلّ نبيٍّ يدفع البشريّة أو يقوّم خطاها بقدرٍ معلومٍ حتى تستكمل مسيرتها. 

من وجهة نظري، إنّ عيسى كان حلقة وصلٍ هامةٍ، وإرشادًا للبشرية بأنّ فترة حكم النبيّين القائمة على تنفيذ الأمر بحذافيره قد أوشكت على الأفول، وأنّ عصرًا جديدًا قادمٌ، يقوم على قدرة الإنسان على فهم النص ومحاولة تأويله. وقد كان عيسى مثالًا عمليًا وحقيقيًا لهذا النموذج الفريد، وكان مقدّمةً لعصر القرآن، الذي طلب الله فيه من النّاس أنْ يتدبّروا ويقرؤوا، ولا يتّخذوا النبيّين أربابًا. 

لقد كان عيسى عِلمًا للساعة، أو أحد المقدّمات الهامّة للساعة، واستحقّ ذلك عن جدارةٍ، فكيف فسّر المفسّرون هذه الآية، وكيف حوّلوا معناها إلى أسطورةٍ أسهمت في طمس عالميّة القرآن وبلاغته، وحوّلته إلى كتابٍ يشبه الأساطير، حتى فَقَدَ كثيرٌ من النّاس حول العالم الثقة في النصّ الإلهيّ. 

سوف نلقي مزيدًا من الضوء على آية (علمٌ للساعة) في الفصل القادم، لنكتشف كيف كان عيسى عِلمًا للساعة، وليس شرطًا من أشراط الساعة كما هو مُشاعٌ. 

 

ملخص الفصل 

لفظ (عيسى) يعني الرجاء والأمل، وكان بحقٍّ رجاءً وأملًا؛ إذ بيّن للناس الحكمة والعلم المحفوظ في التوراة. 

الإنجيل والتوراة هما أمرٌ واحدٌ، غير أنّ التوراة هي النص المكتوب، أمّا الإنجيل فهو تفسير هذا النص الذي جاء به نبيّ الله عيسى. 

  

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة