الفصل الخامس - المعارج
الفصل الخامس
المعارج
بعد الانتهاء من تحليل سورة النجم التي تُعدّ الركن الأساسيّ
الذي يتّكئ عليه التقليديون في إثبات حادثة المعراج، بل ويثبتون بها أنّ كلّ ما
نطق به النبي وحيٌ من الله، دون تفريقٍ بين القرآن أو الحديث، في خلطٍ واضحٍ
للنصِّ الإلهيِّ والنصّ البشريّ، الذي هو تفاعلٌ مع النصِّ الإلهيّ.
لعلّ القارئ أدرك تمامًا لماذا استغرقنا كلّ هذا الوقت في
محاولةٍ لفهم مفرداتٍ غايةٍ في الأهمية في سورة النجم، ولماذا نحاول بكلّ قوّةٍ
فهم علاقة الألفاظ القرآنية ببعضها، وعلاقتها بموضوع السورة. تحليل الكلمات في
كتاب الله وتتبع اللفظ القرآني يضع أمام كلّ إنسانٍ دليلًا قاطعًا لا يقبل الجدال
على أنّ هناك عملية تزويرٍ لا مثيل لها، وتحريفًا عظيمًا لكلمات الله، حتى بدت
كالأساطير، وهي التي تقرأ الكون والنفس، وتشرح للإنسان علاقاتٍ وقوانين في غاية
الدّقة والإحكام.
نحن لا نحتاج لرواةٍ صادقين أو كاذبين، ولا لكلّ هذا الكمّ من
التدقيق والتمحيص على الإنتاج البشري، ولا لكلّ هذه الفرضيات والأبحاث في نيّات
أشخاصٍ عاشوا منذ مئات السنين لا ندري عن ظروفهم ولا عن واقعهم المعرفي شيئًا؛ لأننا
نمتلك أدواتٍ تُمكّننا من فهم كلمات الله وفهم مقصودها.
تعدّ
حادثة الإسراء والمعراج من المسلّمات لدى الغالبية العظمى من المسلمين اليوم، على
الرغم من أنّها ليست كذلك لدى كثيرٍ من السابقين أنفسهم. ودار حولها جدلٌ كبيرٌ.
أمّا المتأخّرون فمنهم من يعتقد أنّ الرحلة كانت رؤيا، ومنهم من يعتقد أنّها حدثت
على وجه الحقيقة، وهو الرّأي السائد حتى يومنا
هذا.
نعم، يرى الجمهور أنَّ الإسراء والمعراج كانا (بالروح) والجسد
معًا؛ لأن الرحلة لو كانت منامًا لما وجدتَ كلّ هذه الضجة حولها، ولَعددتها منامًا
وانتهى الأمر.
في فتح الباري يقول ابن حجر
(وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة؛ فمنهم من ذهب إلى أنّ الإسراء
والمعراج وقعا في ليلةٍ واحدةٍ، وفي يقظة النبي، وبجسده وروحه بعد البعثة، وإلى
هذا ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار
الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يُحيله حتى يحتاج إلى
تأويل).
جميع الكتابات والأبحاث التي
تناولت رحلة الإسراء المعراج، واعترضت على حدوثها، لم تقدّم في الحقيقة بحثًا
متكاملًا يشرح ويُفنّد الآيات التي فسّرها المفسرون على أنها تخصّ رحلة المعراج،
وكذلك الآية الثابتة في سورة الإسراء، والتي تشير إلى رحلة الإسراء. لم يُقدّم
أحدٌ -من وجهة نظري- دليلًا قويًا على ردّ الإسراء -تحديدًا- من خلال كتاب الله،
في مقابل زخمٍ غير عاديٍّ من الروايات التي تُثبت رحلة الإسراء ومن ثمّ المعراج.
كثيرٌ من المفسّرين وكبار رجال
الدين يعتقدون بصحة الرحلة، سواءً الأرضيّة أو السماويّة، ومتّفقون أنّه لا يمكن
الاعتراض على صحّة الرّحلة طالما لا يوجد دليلٌ من كتاب الله قاطعٌ على ردّ
الرحلة، وهذا في حدّ ذاته عين الإنصاف.
ما دفعني لكتابة هذا الفصل،
والفصول المتعلقة بهذه الرحلة العجيبة، هو نتائج غير متوقعة بالمرّة، لا يمكن
ردّها إلّا مِن متحمّسٍ لا يدري من أمر البحث شيئًا، أو أنه لا يُقدّر كلام الله
حقّ قدره، أو أنّه يُساوي بين كلام الله وكلام الأدباء الذين يشطحون بخيالهم،
ويُعبّرون عن الخيال لا الحقيقة.
عملية تحليل اللفظ القرآني في
هذه المسألة تحديدًا كانت مذهلةً، واستغرق البحث أكثر من سنتين كاملتين، محاولًا
فيها دراسة الأمر مجدّدًا؛ لعلّه على غير ما أفهم. وقد توصّلتُ إلى النتيجة التي
دوّنتُها هنا، وحسب المنهج الذي أستخدمه، فإن أراد باحثٌ ردّ النتيجة، فلا بدّ
أنّه يردّ المنهج المستخدَم، ويردّ كلّ النتائج التي توصّلنا إليها في سلسلة الكتب
المنشورة. أمّا حركات الجسد ونبرات الصوت، فهذا ما لا يعنينا، ولا نقيم له وزنًا،
وليس له أدنى قيمةٍ، إلا عند العامّة الذين لن يقنعهم الدليل والبرهان مهما وضُح،
ومهما كان قويًا.
دعونا نتّفق -كما قال
كثيرٌ من المفسرين- على أنْ نقبل هذه الحادثة طالما لم يقمْ دليلٌ على خلافها،
فإنْ قام الدليل فيجب أن نبحثها بصورةٍ مستقلةٍ؛ بغية الوصول إلى الحقيقة، لا بغية
إثبات وجهة نظرنا. في البداية سوف أعرض أشهر حديثٍ عن حادثة الإسراء والمعراج،
وبعض آراء الفريقين المؤيّد والمعارض، مع تفنيد هذه الآراء.
لا شكّ أنّ هناك مجموعةً من
الأحاديث الواردة عن هذه الحادثة، ومنها ما هو في صحيح البخاري وصحيح مسلم، مثل
الحديث المشهور الذي رواه أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة.
(عن
أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق،
وهو دابةٌ أبيض طويلٌ، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه). قال:
(فركبته حتى أتيت بيت المقدس)، قال: (فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء).
قال:
(ثم دخلتُ المسجد، فصلّيت فيه ركعتين، ثم خرجتُ، فجاءني جبريل عليه السلام بإناءٍ
من خمرٍ وإناءٍ من لبنٍ، فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت
الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل:
ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم،
فرحّب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام
فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد
بُعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا -صلوات
الله عليهما-، فرحّبا ودعوا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح
جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم،
قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه
وسلم، وإذا هو قد أُعطي شطر الحسن، فرحّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء
الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال:
محمد، قال: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحّب
ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) (سورة مريم:
آية 57). ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ فقال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح
لنا، فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم، فرحّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى
السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن
معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى
صلى الله عليه وسلم، فرحّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح
جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم،
قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: قد بُعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه
وسلم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كلّ يومٍ سبعون ألف ملكٍ لا
يعودون إليه. ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا وَرَقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها
كالقِلال.
قال:
(فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيّرت، فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من
حسنها، فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاةً في كلّ يومٍ وليلةٍ،
فنزلتُ إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فرض ربك على أمّتك؟ قلت: خمسين
صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنّ أمتك لا يطيقون ذلك؛ فإنّي قد بلوت
بني إسرائيل وخبرتهم).
قال:
(فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب، خفف على أمتي، فحط عني خمسًا، فرجعت إلى موسى، فقلت:
حط عني خمسًا، قال: إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف).
قال:
(فلم أزل أرجع بين ربي -تبارك وتعالى- وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمّد،
إنّهنّ خمس صلوات كلّ يومٍ وليلةٍ، لكلّ صلاةٍ عشر، فذلك خمسون صلاةً، ومن همَّ
بحسنةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنةً، فإنْ عملها كُتبت له عشرًا، ومن همَّ بسيّئةٍ فلم
يعملها لم تكتب شيئًا، فإنْ عملها كُتبت سيئةً واحدةً).
قال:
(فنزلتُ حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربّك
فاسأله التخفيف)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقلتُ: قد رجعت إلى ربي حتى
استحييتُ منه). انتهى الحديث.
يقول
أهل التفسير ورجال الدين عن هذا الحديث: إنّه من أعلى درجات الصّحّة؛ فالحديث رواه
البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقد ثبتتْ معجزة الإسراء والمعراج للنبي صلوات ربي
عليه من طُرقٍ مستفيضةٍ بلغت حدّ التواتر، فلا يمكن قبول مخالف هذه المعجزة بالعقل
أو الهوى.
دعونا
نتفق مع أهل التفسير ورجال الدين على أنّ هذه المعجزة لا مسوّغ أبدًا لمخالفتها
بالهوى، أمّا أمر العقل فيبدو أنّ القوم لا يدركون معنى العقل من الأساس. كتاب
الله هو الذي حثّ على التعقّل، ونهى عن الهوى؛ فكيف يرى أهل التفسير استعمال العقل
من نواقض العلم. أعتقد أنّ أهل التفسير لا يقصدون بقولهم العقل القائم على الدليل
والبرهان والتحليل المنطقي؛ وإنما يقصدون الرأي الشخصيّ الملبّس بالهوى دون دليلٍ
وبرهانٍ، وهذا في حقيقته ليس عقلًا؛ وإنما يندرج تحت بند الهوى أيضًا.
بدايةً،
دعونا نُحدّد جزئيّتين بسيطتين في الحديث السابق، ونحاول فهمهما
الجزئية
الأولى: في بداية الحديث جاء ما يلي (أتيت بالبراق، وهو دابّةٌ أبيض طويلٌ، فوق
الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه). قال: (فركبته حتى أتيت بيت
المقدس)، قال: (فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء).
قال:
(ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين)
السؤال الذي يطرح نفسه:
أيّ حلقةٍ وأيّ مسجدٍ يقصد الرّاوي؟
المسجد الأقصى من خلال
الروايات التاريخية ذاتها لم يكن قائمًا وقت رسالة الرسول صلوات ربي عليه. فإنْ كان المسجد الأقصى
موجودًا فلماذا عندما وصل عمر بن الخطاب بيت المقدس صلّى على سُلّم كنيسة القيامة،
ولم يفتتح الصلاة في المسجد الأقصى؟ يبدو أنّ الذي وضع الحديث وضعه بعد بناء
المسجد الحاليّ في عهد الأمويين، وأراد أن يجعل مكانه قبلةً للناس بديلًا عن مكّة؛
إذ إنّ الخلافات السياسية بين قطبي الدولة كانت على أشُدّها وقتها. قطبٌ يتّخذ من
مكةً منطلَقًا للوصول إلى الخلافة، وقطبٌ يبني خلافةً جديدةً في بلاد الشام،
بعيدًا عن مكة.
يمكن
للقارئ مراجعة هذه الجزئية في الكتب التاريخية، التي ذكرت فتح بيت المقدس، ودخول
عمر بن الخطاب هذه المدينة، ولا داعي لذكرها هنا.
الجزئية
الثانية: هي مسألة فرض الصلاة على رسول الله، وقد كانت خمسين، وبعد أنْ قدِم رسول
الله على نبي الله موسى وقصّ عليه القصّة، طلب منه نبي الله موسى أن يعود إلى ربه
ويسأله التخفيف. استجاب رسول الله لأخيه موسى وعاد لربه، وبالفعل خفّف ربّه عنه
خمس صلوات لتصبح خمسًا وأربعين. عاد رسول الله مرةً أخرى وقابل نبي الله موسى،
الذي سأله أن يعود مرةً أخرى إلى ربّه ويسأله التخفيف. هكذا أصبح رسول الله في
الحديث ذاهبًا وعائدًا بين ربّه وموسى، حتى وصلت الصلاة إلى خمس صلواتٍ فقط.
عندما
تسأل أهل التفسير وأهل الفقه: لماذا كلّ هذه الحيرة؟ ولماذا راجع نبي الله موسى
رسول الله كلّ هذه المرات؟ يكون الجواب: لعلّ الله أراد أنْ يقول لنا إنّه يُقيّض
لعباده من عباده من يشاء لغرض التخفيف عنهم، كما قيّض موسى لمحمدٍ، وجعله سببًا في
تخفيف الصلاة. وهناك رأيٌ آخر يقول: إنّ نبي الله موسى عندما اطّلع على الألواح
ورأى ما خصّ الله به أمّة رسول الله، تمنّى أنْ تكون أمّته. فقال له الله: هي أمّة
محمد، فتمنّى أن يرى محمدًا، فرآه في رحلة المعراج.
هل ما
ورد في السطور السابقة عن سبب مراجعة نبي الله موسى لرسول الله يقوم على دليلٍ أو
برهانٍ؟
كلّ
ما ورد من تبريراتٍ هي مجرّد آراءٍ شخصيةٍ، ليس عليها أيّ دليلٍ؛ بل إنّ الدليل من
كتاب الله يدحض هذه القصة تمامًا. هل يليق بالإله صاحب العلم المحيط أنْ يُصدر
أمرًا ثم يتراجع عنه؟ هل يعلم موسى من أمر أمّة محمّد أكثر ممّا يعلم ربّها؟
ثم
كيف يمكن أن تكون خمسين صلاةً؟ وهل هذا يقبله عقلٌ، على نحوٍ تكون فيه صلاةٌ كلّ
نصف ساعةٍ تقريبًا، وهذا يعنى: لا نوم ولا عمل، بل كلّ ما في الأمر صلاةٌ تلو
الصلاة، بهيئتها التي نعرفها حاليًا.
كتاب
الله يدحض هذه القصة؛ لأنّ الله سبحانه يقول بنصٍّ صريحٍ: إذا حكم فلا معقّب
لحكمه، وأنّ قوله الحق.
(أَوََلَمْ
يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ
يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة الرعد:
41).
(وَهُوَ
ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَیَوۡمَ یَقُولُ كُن فَیَكُونُۚ
قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ یَوۡمَ یُنفَخُ فِی ٱلصُّورِۚ عَـٰلِمُ
ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ) (سورة الأنعام: آية
73).
هل
يليق بمَن لا مُعقّب لحكمه، وقولُه الحق، كلّ هذا التردّد والمراجعة، ولا يَذكر عن
هذه الحادثة شيئًا في كتابه؟ ما لكم لا ترجون لله وقارًا؟
كيف
يحكم الله لأمّة محمّدٍ بخمسين صلاةٍ، ثم يُعقّب موسى على حكم الله، ويطلب من رسول
الله مراجعة ربّه، وليست مرةً واحدةً بل تسع مراتٍ.
لقد
ذكر كتاب الله في أكثر من موضعٍ أوقات الصلاة بصورةٍ عامّةٍ، وهي ثلاث أوقاتٍ
رئيسةٍ، فلماذا القول إنّ الصلاة كانت خمسين صلاةً دون أيّ دليلٍ من كتاب
الله.
(أَقِمِ
الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (سورة الإسراء: آية 78).
كتاب
الله الزاخر بأحكام الصلاة، والأدلّة عليها، وأنّها ثلاثة أوقاتٍ، لم يذكر شيئًا
عن هذا الأمر، ويجب أنْ نُلاحظ هنا تعبير (أوقات)؛ لأنّ هناك فرقًا كبيرًا بين
أوقات الصلاة وعدد الصلوات، لكنْ ليس هنا محلٌ دراسة هذا الأمر.
لقد
ذكر المفسّرون قول الله سبحانه وتعالى أنّه فعّالٌ لما يريد، ونسوا قوله كلّ شيءٍ
بقدرٍ، وأنّه قدّر كلّ شيءٍ تقديرًا، وأنّه طلب من الناس استعمال العقل، عندما
أشار إلى أنّ أكثر الناس لا يعقلون.
المعتزلة
والقدريّة يقولون إنّ الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان رؤيا في المنام، لكنّ
هذا الرأي عارضه كثيرون، والمعتزلة والقدرية لم يقدّموا دليلًا قويًا على
حجّتهم.
ذكر
ابن أبي العزّ الحنفيّ -وهو المُتوفى عام 792 هـ- ردًا على حجة المعتزلة والقدرية،
ما نصّه: (والعبد [أي: المذكور في آية الإسراء] عبارةٌ عن مجموع الجسد والروح، كما
أنّ الإنسان اسمٌ لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح،
فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلًا، ولو جاز استبعاد صعود البشر
لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة، وهو كفر).
استند
ابن أبي العزّ على لفظ (عبد) المذكور في آية الإسراء، على أنّ الإسراء حدث بالجسد
والروح، وكذلك المعراج. وأنا أتّفق مع أنّ كلمة (العبد) تعني الانتقال الكامل،
ولكنّ كلمة (العبد) تُشير إلى رحلة الإسراء وليس المعراج. القول بأنّ لفظ (العبد)
هنا يُشير إلى المعراج هو قفزٌ على النتائج، وعندما نأتي على فصل الإسراء سوف
نتعرّف أكثر من هو المقصود بالعبد.
نفي
المعراج ليس وليد اللحظة، وهناك آياتٌ استند إليها المفسرون في كتاب الله، تنفي
-برأيهم- المعراج من الأساس، دعونا نستعرض بعض الأدلة، ونضيف عليها أدلةً أخرى، من
خلال تحليل الكلمات في كتاب الله.
أدلةٌ
من القرآن الكريم تنفي حدوث المعراج
المشهد الأول: ترقى في
السماء
(وَقَالُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا
تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى
تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ
إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (الإسراء: الآيات 90-93).
الآية
واضحةٌ بصورةٍ لا تقبل الجدال؛ فها هم المشركون يطلبون من رسول الله آياتٍ ماديةً
على رسالته، ومن ضمنها أن يرقى في السماء، ولن يؤمنوا لهذا الرقي إلا إذا أنزل
عليهم كتابًا من السماء يقرؤونه. فطلب منه الله أن يقول لهم بنص القرآن: ما هو إلا
بشرٌ رسولٌ؛ أي أنّه لن يرقى في السماء من الأساس.
لم
تقنع هذه الآية الكريمة مؤيدي المعراج؛ بل اتهموا من يُفسّرها هكذا بأنّ فهمه
سقيمٌ، ولا يستقيم مع سياق الآيات، وحجّتهم في ذلك أنّ أحدًا من المفسّرين لم
يفسّرها هكذا.
أما
عن تفسيرها برأيهم، وبحسب أهل العلم بنظرهم، هو أن تصعد إلى السماء ونحن نراك تصعد
إليها، وليس المراد بذلك: أن يصعد إلى السماء ثم يخبرهم أنّه صعد إليها، كما جاء
في ابن كثير: (أي: تصعد في سُلّمٍ ونحن ننظر إليك).
هذه
الآية الكريمة هي الرّكن الأساسيّ الذي سوف نقوم عليه، وسنحاول تحليل ألفاظها، وفهم
الآية الكريمة:
أولاً:
سورة الإسراء التي ذُكرت فيها رحلة الإسراء، وكذلك الآية التي تنفي رُقيّ رسول
الله في السماء، مكيّةٌ نزلت قبل هجرة الرسول إلى المدينة.
ثانيًا:
اختلف المفسّرون في زمن رحلة الإسراء والمعراج، وجاءت مجمل أقوالهم كالتالي:
يقول ابن عساكر: إنّ أحاديث الإسراء في أوائل بعثة الرسول
صلوات ربي عليه. أمّا ابن إسحاق فيقول: إنّ الرحلة كانت بعد البعثة بنحو عشر سنين.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عن الزهريّ أَنَّهُ قَالَ: "أُسْرِي بِرَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ". وروى
الحاكمِ: (فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْخَمْسُ بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، قَبْلَ مُهَاجَرِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ
شَهْرًا).
ممّا لا شكّ فيه أنّ السورة نزلت بعد ما يُسمى رحلة الإسراء
والمعراج؛ إذ بدأت بالقول: (سبحان الذي أسرى)؛ أي إنّ الحادثة حدثت بالفعل بنظرهم.
أمّا الآية التي تنفي رُقيّ رسول الله في السماء فهي الآية 93 من سورة الإسراء
نفسها، وهذا أمرٌ عجيبٌ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي
السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا
نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (سورة
الإسراء: آية 93).
سورة
الإسراء التي يستدلّ بها المفسّر على رحلة الإسراء والمعراج، جاءت فيها آيةٌ تنفي
رُقيّ الرسول إلى السماء، فكيف يمكن تفسير ذلك؟ هل يعقل أنْ ينفي القرآن رُقيّ
رسول الله في السماء بعد أن يصعد فعليًا إلى السماء؟
إنْ كان رسول الله صعد بالفعل إلى السماء، فمن المفترض أنّ
الناس قد عرفوا ذلك، فكان يلزم أنْ يطلبوا منه كتابًا على صعوده، وليس طلب الصعود
نفسه. معنى أن يطلبوا منه الرُّقيّ في السماء؛ أي إنّهم لا يعلمون أنّه أرتقى في
السماء من الأساس، كما يعلمون أنّه لم يُفجّر الأرض عيونًا، وليس له بيتٌ من
زخرفٍ.
لو أنّ رسول الله ارتقى في السماء، لكان الردّ: لقد ارتقيتُ،
ولكنّكم تُكذّبون. أو يُشير إلى تلك الآيات التي تُؤيّد رُقيّه في السماء، ولكنْ
جاءت الإجابة قاطعةً بأنّه لم يفعل، من خلال قوله: (هل كنت إلا بشرًا
رسولًا).
القول بأنّ المشركين طلبوا منه أن يصعد أمامهم وهم يرونه، هو
قولٌ مرسَلٌ، ولا يؤيّده القرآن؛ إذ تقول الآيات: (لن نؤمن لرُقيّك)، أيْ إنّ
الرُّقيّ في السماء -بطبيعة الحال- سوف يكون أمرًا غيبيًّا بالنسبة إليهم، ولذلك
قالوا (لن نؤمن). الإيمان يأتي مع الغيبيّات؛ لذلك هم يعرفون أنّه لو قال لهم
رقيتُ فليس لديهم من الوسائل ما يكشف عدم رُقيّه؛ ولذلك طلبوا منه كتابًا يُسجّل
هذا الرُقيّ.
لقد كان هؤلاء
المشركون أكثر فطنةً من كثيرين؛ إذ اعتقدوا أنّ أمرًا عظيمًا كهذا لا بدّ أنْ يسجل
بوضوحٍ. والادّعاء بأنّ الآية تعني: (ارتقِ ونحن ننظر إليك) هو ادعاءُ مَن لا يفهم
معنى كلمة الإيمان ومدلولها التي جاءت في الآية الكريمة، ولا يفهم لماذا طالبوه
بكتابٍ يُسجّل هذا الرُّقيّ.
الآية واضحةٌ وضوح الشمس، ولكن للأسف الشديد؛ بسبب ثقل التراث
يُصرّ كثيرون على أنّ المعراج حدث، برغم نفيه القاطع في كتاب الله. ويجب أن يلفت انتباهنا أنّه
برغم طلب المشركين كتابًا يُثبت رُقيّ رسول الله في السماء، فلا توجد آيةٌ واحدةٌ
في كتاب الله تتحدّث بصراحةٍ ووضوحٍ عن صعود النبي إلى السماء، كما تحدّثت آية
الإسراء عن العبد الذي أسرى به الله إلى المسجد الأقصى.
للأسف
الشديد تأويل آيات الذكر الحكيم بهذه الطريقة لا يستند إلى حقائق، وإنّما قائمٌ
بالأساس على رؤية المفسّر الشخصية وقناعته بالأحداث. ولو أنّ المفسر تجرّد لفهم
الآية الكريمة، لما احتاج كثيرًا من الجهد ليفهمَ أنّ مسألة رُقيّ رسول الله إلى
السماء لم تحدث؛ إذ نفاها الله تمامًا من خلال هذه الآية، ولو أنّ هناك أيّ
استدراكٍ لَذكره كتاب الله، فهو تفصيلٌ لكلّ شيءٍ، وتبيانٌ لكلّ شيءٍ. وقد ذكر
ربنا مثالًا لذلك في كتابه، عندما أمر نبيّه بعدم الاستغفار للمشركين، ثم وضّح من
خلال آيات الذكر الحكيم موقف استغفار نبي الله إبراهيم لأبيه.
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (سورة التوبة: آيات 113- 114).
لو لم يُبيّن القرآن موقف استغفار نبي الله إبراهيم
لَتساءلنا: كيف يأمر الله نبيه بعدم الاستغفار للمشركين، وها هو نبي الله إبراهيم
يستغفر لأبيه وهو من المشركين؟ كتاب الله لا يُغفل تلك التفصيلات، فكيف بحادثةٍ
بمثل هذا الثّقل؟ وكيف يختفي أيّ ذكرٍ صريحٍ لها؟ بل يحدث خلاف ذلك تمامًا؛ وتشير
الآية التي بين أيدينا إلى أّنّ رسول الله لم يصعد إلى السماء.
المشهد الثاني: سلّمًا في السماء
دليلٌ آخر من كتاب الله ينفي تمامًا صعود النبي إلى السماء
كما جاء في سورة الأنعام: (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ
أَن تَبۡتَغِیَ نَفَقࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمࣰا فِی ٱلسَّمَاۤءِ
فَتَأۡتِیَهُم بِـَٔایَةࣲۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ) (سورة الأنعام: آية 35).
الآية تقول للرسول: (إن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو
سلّمًا في السماء)، فهل صعد الرسول حقًا إلى السماء بعد هذه الآية؟
الحقيقة أنّ كلمات الله شديدة الوضوح، لا تحتاج إلى كلّ
هذا القدر من العنت والجحود، لا لشيءٍ إلّا لأنّ آخرين كان لهم رأيٌ آخر لا ندري
عن تداعياته شيئًا. عندما يقول لي أحدهم إنّ علماء جهابذةً أفتَوا بغير ذلك، وأنّ
المعراج حدث رغم وضوح هذه الآيات، أقول له بكلّ بساطةٍ أنت بحاجةٍ ملحّةٍ لإعادة
تعريف مفهوم (علماء)، و ماذا يعني لفظ (جهابذة).
ينبغي أن نتبع التفكير السليم في تقييم الأشياء، فإن كان
لدينا رأيُ شخصٍ يظنُّ النّاس أنّه عالمٌ، ثمّ ثبت أنّ هذا الرأي خرافةٌ، عندها لا
يصح أن نستميت في إثبات أنّ الخرافة حقيقةٌ، بل سنُدرك فورًا أنّ العالِم لم يكن
عالِمًا. لماذا يفكّر الناس بالمقلوب، ويضعون العربة أمام الحصان، فالفكرة هي من
تُخبرنا عن مستوى الشخص الفكري، وليس الشخص مَن يُخبرنا عن مستوى صدق
الفكرة.
من لا تلفت انتباهه هذه الآيات، ويُصرّ كلّ هذا الإصرار على
رواياتٍ تُخالف كتاب الله، ولديه تبريراتٌ ساذجةٌ، فإنّه يحمل ما تحمِل، ولا
يضرّنا اعتقاده شيئًا.
من أين أتى الناس بقضية المعراج هذه؟ ولدينا سورة كاملة اسمها
المعارج، لا تذكر أيّ شيءٍ عن معراج رسول الله، بالرغم من أنّها ذكرت معراج
الملائكة والروح.
المشهد
الثالث: المعارج
دليلٌ آخر على أنّ المعراج لم يحدث هو سورة المعارج، والإشارة
القرآنية لمدّة العروج ومسافته من الأرض إليه سبحانه وتعالى.
أصل كلمة (مِعراج) هو عرج، وله أصلٌ صحيحٌ وهو الميل، ويقال
طريقٌ معرج أي ذهب يمينًا ويسارًا، كما جاء في قاموس اللغة لابن فارس.
وردت مشتقات كلمة (عرج) في كتاب الله في عشرة مواضع، كلّها
تشير إلى أنّ كلمة (عرج) نفسها تعني الميل يمينًا ويسارًا، كما دلّ على ذلك جذر
الكلمة. سوف نحاول فهم الكلمة من خلال ورودها في كتاب الله؛ لنُبيّن حقيقة معارج
السماء، وارتباطها بالمعراج الذي نحن بصدده.
الآيات التي وردت فيها مشتقات (عرج)
الآية الأولى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى
عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (سورة يس: آية 39).
عند تفسير هذه الآية الكريمة أجمع المفسرون على أنّ المقصود
بالعرجون القديم هو عذق النخل اليابس، وهو الجزء الذي يتدلى منه التمر عندما يجف،
فيصبح لونه أصفر ومنحنٍ، وهو على ذلك يشبه القمر وهو هلال.
كما هو واضحٌ، التفسير اعتمد على مدلول الكلمة لدى سكان
الجزيرة، ولم يراعي جذر الكلمة أو الحالة التي تصفها الكلمة، فجاء التفسير سطحيًا،
يصف شكلًا ظاهريًا لأحد منازل القمر، ولا أدري ما علاقة اللون الأصفر بطور الهلال،
ولماذا قال ربّنا عن العذق قديمًا، إذا كان شكله الظاهريّ كقوسٍ وهو أخضر، ولا
يتغيّر كثيرًا عندما يتيبّس؟
من خلال جذر كلمة (عرجون) وهو عرج، والذي يصف الميل أو
التعرّج، نستطيع القول إنّ الآية الكريمة تصف حركة القمر في مداره، والتي يسير
فيها القمر متعرّجًا.
من المعلومات العلمية البسيطة عن المدار الذي تدور فيه الأرض،
هو أنّ هذا المدار يتحرّك صعودًا وهبوطًا في أثناء دوران الأرض حول الشمس. القمر
يتبع الأرض ويسير معها في هذا المدار بشكلٍ مُتعرّجٍ. أي إنّ حركة القمر حول الأرض
ليست حركةً دائريةً مغلقةً؛ وإنما يتحرّك حول الأرض في حركةٍ تُشبه الحركة
الموجيّة، وهي تمامًا حالة العروج.
التعبير القرآني في الآية الكريمة (حتى عاد)، وكذلك الوصف
القرآني للعرجون بأنه قديم، أضاف دليلًا آخر، وتمّم الصورة التي يرسمها لفظ
(العرجون) وأكملها. من خلال تحليل لفظ (عاد) ولفظ (قديم) سوف ندرك ما المقصود
بالعرجون تمامًا، وكيف أنّه يصف دورة القمر، والذي يتحرّك فيه حركةً تُشبه الحركة
الموجيّة بل هي حركة موجية حقيقة.
جذر كلمة (عاد) هو عَوَدَ، وأصلها تثنية الأمر، بمعنى عَودًا
على بدءٍ. لفظ (عاد) يصف حركة رجوع شيءٍ ما، ومعنى ذلك انتقالٌ من نقطةٍ متقدّمةٍ
إلى نقطةٍ متأخّرةٍ. أمّا لفظ (قديم) فأصله قِدَم، وأصلها سبْقٌ، أو شيءٌ سبق
حدوثه.
كما ذكرنا أنّ القمر يتحرّك مع الأرض، فهو يتحرّك في شكل
موجاتٍ؛ إذ يرتفع فوق مستوى الأرض مرةً، ويهبط تحت مستوى الأرض مرةً، وهكذا. عندما
ينتقل القمر من نقطةٍ متقدّمةٍ (فوق مستوى الأرض) إلى نقطةٍ متأخّرةٍ (تحت مستوى
الأرض) في مداره بالنسبة إلى الأرض، فهو هنا عاد، وعندما يعود لوضعه الأصلي، من
أسفل مستوى الأرض إلى نقطةٍ في أعلى مستواه خلال مداره، فهو كأنّما عاد إلى وضعه
القديم. لفظ (عاد) ولفظ (قديم) مع وصف العرجون أعطى وصفًا تفصيليًّا لحركة القمر،
ودلّ على أنّها حركةٌ موجيّةٌ في مداره، بشكلٍ تامٍّ وكاملٍ.
إنّ هذه الآية فقط تستطيع أنْ تضعنا أمام مفهوم العروج، وهو
الحركة الموجيّة بكلّ ثقةٍ ووضوحٍ.
الآية الثانية: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم
بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ) (سورة الحجر: آية 14)
العروج هو السير بشكلٍ متعرّجٍ، أو كما ذكرنا، هو حركةٌ تشبه
الحركة الموجيّة، وهذه الآية الكريمة تُشير إلى أنّ السماء ليست جميعها صالحةً
للعروج، وإنّما أبوابٌ محدّدةٌ في السماء هي الصالحة للعروج؛ أي للتحرّك إلى أعلى
في شكل حركةٍ موجيةٍ.
فهم هذه الآية الكريمة لن يكتمل إلا بفهم الآية التي تليها:
(لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ)
(سورة الحجر: آية 15). ما الذي يدعو الإنسان للقول إنّ بصره سُكّر أو أنّه مسحورٌ
إذا فُتح له بابٌ من السماء للعروج فيه؟
لو أنّ العروج في السماء عمليةٌ طبيعيةٌ يمكن أن يقوم بها
الإنسان بوسيلةٍ ما، مثل طائرةٍ أو صاروخٍ لما أثار ذلك استغرابه، ولكن يبدو أنّ
العروج في حدّ ذاته هو ما يثير الاستغراب. ما يدفعنا للقول بأنّ العروج في حدّ
ذاته هو ما يثير الاستغراب، أنّ العروج جاء مقرونًا في كتاب الله بالملائكة
والروح؛ أيْ بالكائنات غير المنظورة أو الدقيقة. وعلى خلاف ذلك، عندما وصف القرآن طلب
المشركين من رسول الله أن يصعد إلى السماء لم يصفه بالعروج، وإنّما وصفه بالرُقيّ.
العروج
في حدّ ذاته -كما ذكرنا- حركةٌ موجيةٌ، ويبدو أنّ أبوابًا معيّنةً في السماء هي
المسموح بالعروج فيها؛ لذلك يحمل العروج سرًا عجيبًا، يجعل الإنسان إذا فُتح له
بابٌ من السماء للعروج، يقول إنّما سُكّر البصر، أو يظنّ أنّه مسحور. إنّنا هنا
نُصرّ على الفرق بين لفظ (الرّقي) ولفظ (العروج)، وأنّ الطريقة المتاحة للإنسان
للصعود إلى السماء هي الرُقّي، أمّا الحالة العجيبة والتي تحمل أسرارًا كثيفةً فهي
حالة العروج أو الحركة الموجيّة. هل يمكن أنْ تفتح هذه السورة الباب أمام توقّعاتٍ
بالانتقال بسرعاتٍ فائقةٍ؟
حديثًا،
علمنا أنّ الأجسام المتحركة بسرعةٍ سواء كانت كبيرةً أو صغيرةً فإنّها تتحرّك
حركةً موجيةً، ولكنّ هذه الحركة تكون واضحةً بصورةٍ كبيرةٍ، ويمكن قياسها في
الأجسام الصغيرة، بل إنّ هناك ارتباطًا بين السرعة والحركة الموجية أو العروج الذي
وصفه القرآن.
هل
تشير السورة إلى قدراتٍ غير اعتياديةٍ سيحصل عليها الإنسان، من خلال اكتشاف حقيقة
العروج، وارتباطه بالخروج من مجال الأرض؟ هل الأمر مرتبطٌ بسرعةٍ معينةٍ؟ أنا هنا
لا أدرى على وجه التحديد، غير أنّ عروج الإنسان في السماء سوف يكون مثيرًا
للإعجاب.
الآية الثالثة: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن
تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا
فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً
طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون)
(سورة النور: آية 61).
الأعرج هو من يمشي بشكلٍ متعرّجٍ، وحركته تشبه الحركة الموجية
حقًا. المعنى نفسه تكرّر في سورة الفتح كذلك، وهو العَرَج: (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) (سورة الفتح: آية
17).
الآية الرابعة: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا
يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (سورة سبأ: آية 2).
كثافة استخدام لفظ (عرج) مع الحركة في السماء، تُشير
بثباتٍ إلى أنّ هذه الحركة من مبادئ التحرّك والصعود في السماء، ويبدو أنّ الإنسان
بوضعه الحاليّ لا يعرج في السماء، وإنّما يرقى، وإن كان عروجه جائزًا فسيكون
مُثيرًا للإعجاب.
الآيات التالية تؤيّد المعنى نفسه، وهو أنّ الحركة في السماء
(الفضاء) حركةٌ موجيّةٌ بامتيازٍ:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا
يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (سورة الحديد:
آية 4)
(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (سورة المعارج: الآية 4)
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا
تَعُدُّونَ) (سورة السجدة: آية 5).
في بداية سورة المعارج (تعرج الملائكة والروح إليه في يومٍ
كان مقداره خمسين ألف سنةٍ) وهذا عن الملائكة والروح، فكيف يزعم الناس أنّ رسولًا
من البشر عرج وعاد في اللية نفسها؟
لو جرى على الرسول ما يجري على الملائكة والروح بنصّ الآية،
فسيحتاج لكي يصعد خمسين ألف سنةٍ، ويعود في خمسين ألف سنةٍ، فكيف قطع كلّ ذلك في
ليلةٍ واحدةٍ؟
سيقولون لك: استخدامُ العقل سوف يُضلّك، ويجب أنْ تُصدّق
وتؤمن. أؤمن بماذا؟ بما تقولون أم بكلمات الله الواضحة التي لا تقبل ما تحملونه
عليها؟
لماذا لم يخبرنا الله الاستثناء الذي حدث مع نبيه، وأنّه عرج
في يومٍ وليلةٍ، رغم أنّ الملائكة والروح تحتاج لخمسين ألف سنةٍ؟
الإجابة: لم يخبرنا لأنّه لم يحدث، والقرآن غير مسؤولٍ عن
تصوّراتٍ بشريةٍ. والإيمان بها ونسبتها إلى الله زورٌ وبهتانٌ. الثقة التي يتناول
بها الناس المعراج مثيرةٌ للتعجّب، ألهذا الحدّ كلمات الله وآياته غامضةٌ ولا
يستطيع الناس فهمها؟ كمّ من الأشياء الأخرى التي نؤمن بها، وليس لها أيّ أساسٍ من
الصّحة، غير تصوّرات الأوّلين؟
سوف نتناول في الفصل القادم كشف أكبر عملية تزييف وتحريف تمت
تحت مسمى رحلة الإسراء رغم وضوحها وبساطة عرضها في كتاب الله.
ملخص
الفصل
- لا توجد آيةٌ واحدةٌ
في كتاب الله تشير من قريبٍ أو من بعيدٍ لما يسمى عروج رسول الله صلوات ربي
عليه إلى السماء.
- الآيات التي نفتْ
رُقيّ الرسول إلى السماء متعدّدةٌ وصريحةٌ، ولا تقبل الجدال.
- سورة المعارج ذاتُها
تنفي عروج أيّ بشرٍ في مدّةٍ زمنيةٍ أقلّ من خمسين ألف سنةٍ، ولا يمكن لبشرٍ
أنْ يعرج كما تقول الروايات ويعود في ليلةٍ واحدةٍ.
- هذه
آيات القرآن، وليست آراءً شخصيةً أو رؤيةً فلسفيةً، ومن أراد أنْ يضرب بها
عرض الحائط فهو وشأنه.
Comments
Post a Comment