الفصل الثالث عشر الآخرة

الفصل الثالث عشر


الآخرة

 


 

إذا كان الإنسان يستطيع حقًا بعث إنسانٍ آخر في آخر الزمان، فماذا يمكن أن تكون هذه الحياة الثانية لهذا المبعوث؟ هل هي امتدادٌ للحياة الدنيا، أم هي الحياة الآخرة؟ 

في كتاب الله تعبيران مختلفان جرى التعامل معهما على أنّ لهما المدلول نفسه، وهما تعبير (الآخرة) أو (الحياة الآخرة) وتعبير (اليوم الآخر). سوف نحاول فهم التعبيرين وبيان المقصود بهما من خلال آيات القرآن. 

مدلول التعبير القرآني (الآخرة) 

لا شك أنّ المفهوم المترسّخ في الأذهان عن (الآخرة) هو يوم القيامة، ومن الصعب التفكير خارج هذا الإطار. لكنْ مع استعراض آيات القرآن التي ورد فيها لفظ (الآخرة) وجدنا عجبًا. لفظ (الآخرة) يوحي أنّه امتدادٌ طبيعيٌّ للدنيا، بل هناك تعبيراتٌ تشير إلى ذلك صراحةً، فمن كان في الدنيا خاسرًا فهو كذلك في الآخرة، ومن كان صالحًا فهو في الآخرة كذلك. 

هذه التعبيرات كانت غريبةً بعض الشيء؛ لأنّ المعروف أنّ القيامة هي دار جزاءٍ وحكمٍ، وليست امتدادًا للدنيا، بل هي فصل ما تمّ في الدنيا. لكنْ مع التقدم شيئًا فشيئًا في مفهوم (الآخرة) أدركنا أنّ المقصود هو الحياة الثانية، والتي أشرنا إليها بالبعث الأول في الفصل السابق. ما أكّد هذه النتيجة هو مفهوم (اليوم الآخر) ومفهوم (القيامة)، والذي سنُخصّص له فصلًا بعد هذا الفصل. ولن يتّضح المقصود إلا بالمقابلة بين (الآخرة) و(اليوم الآخر) لفهم الاختلاف، والذي اعتقدَ المفسر أنهما الحدث نفسه.

جاء تعبير (اليوم الآخر) في ستةٍ وعشرين موضعًا في كتاب الله، كلها بلا استثناء متعلقةٌ بالإيمان، وجاء هذا التعبير مقرونًا بالإيمان بالله. 

(وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِینَ) (سورة البقرة: آية 8)

(إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ) (سورة البقرة: آية 62)

(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا بَلَدًا ءَامِنࣰا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِیلࣰا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥۤ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ) (سورة البقرة: آية 126). 

هكذا جاءت الآيات تقرن الإيمان بالله باليوم الآخر، دون الحديث عن أيّ مواصفاتٍ أخرى. الصفة الوحيدة والخاصية التي استطعنا استخلاصها عن اليوم الآخر هي ارتباطه بالله مباشرةً، وأنّ الإيمان به أمرٌ أساسيٌّ، وهذا خلاف (الآخرة) التي جاء عنها تفصيلٌ كثيرٌ جدًا. 

لفظ (اليوم) يصف دورةً، ولذلك اليوم على الأرض هو دورة الأرض حول نفسها، واليوم في الخلق كما ذكرنا في الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب هو دورةٌ، وليس يومًا أرضيًا. تعبير (اليوم الآخر) يصف دورةً أخرى، وهذه الدورة ليس لدينا عنها الآن أيّ معلوماتٍ غير الإيمان بها، بل وربطها مباشرةً مع الإيمان بالله. تعبيرات القرآن -كما تعوّدنا- دائمًا تعطينا معلوماتٍ متنوعةً عن أيّ أمرٍ ذُكر في كتاب الله، على نحوٍ يستطيع الإنسان تكوين تصوّرٍ معقولٍ عن الأمر المذكور. لكنّ (اليوم الآخر) استثناءٌ من ذلك، فهو دورةٌ تقع بعد يوم القيامة كما يبدو، وتفاصيلها غائبةٌ بصورةٍ كبيرةٍ. 

سوف ندرك هذا الفرق عند استعراض الآيات التي جاء فيها ذكر (الآخرة) والتي لم يأت معها الإيمان كما جاء مع اليوم الآخر، بل اقترن بها اليقين في بعض الآيات، وهذا أمرٌ يجب التوقّف عنده. ثلاث آياتٍ من ستٍ وعشرين آيةً التي جاء فيها ذكر (اليوم الآخر) ارتبطت بالرجاء، مثل (يرجو الله واليوم الآخر) وهو كذلك تعبيرٌ مرتبطٌ بالله. 

(وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡبࣰا فَقَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱرۡجُوا۟ ٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَلَا تَعۡثَوۡا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ) (سورة العنكبوت: آية 36). 

(لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا) (سورة الأحزاب: آية 21)

(لَقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِیهِمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَۚ وَمَن یَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ) (سورة الممتحنة: آية 6) 

الآيات تؤكّد على تلك العلاقة الوثيقة بين الله واليوم الآخر، أو بمعنى أنّ اليوم الآخر هو خبيئةٌ وسرٌ قد يُكشف في المستقبل. أو قد تكون المعلومات عنه مؤجلةً (للآخرة) كما سوف نرى. 

على نقيض ذلك تمامًا ارتبطت (الآخرة) بلفظ (الحياة) وجاءت في أغلب مواضعها مقابلةً للفظ (الحياة الدنيا). وقد ورد لفظ (الآخرة) في كتاب الله في مئةٍ وسبعة مواضع، وكذلك جاء ذكر (الدنيا)، ممّا يعطينا لمحةً عن الارتباط الوثيق بينهما، وأنّ (اليوم الآخر) شيءٌ مختلفٌ. 

الآيات التي فتحت لنا باب القول بأنّ الآخرة ليست يوم القيامة، وليست بعد يوم القيامة هي أربع آياتٍ، ثلاثُ آياتٍ ورد فيها لفظ (خلَاق) وآيةٌ ورد فيها لفظ (حيوان). وسوف نتناول الآيات بشيءٍ من التفصيل، ثم نعرج على أمثلةٍ مختلفةٍ لآياتٍ أخرى توضّح المقصود.

إنّ أخطر ما جاء عن الآخرة على الإطلاق هو تعبير (لا خلاق لهم)، والذي يشير إلى غياب نماذج من البشر عن الآخرة، فلن يبعثوا فيها، بل مصيرهم إلى يوم القيامة مباشرةً. كيف ذلك؟ وكيف جاءت النتائج تقصّ غياب أنماطٍ من البشر عن الحياة الثانية؟ 

الآية الأولى

(وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتۡلُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَیۡمَـٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَیۡمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ كَفَرُوا۟ یُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَیۡنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَۚ وَمَا یُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ یَقُولَاۤ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةࣱ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَیَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا یُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَاۤرِّینَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَیَتَعَلَّمُونَ مَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنۡ خَلَـٰقࣲۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡا۟ بِهِۦۤ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ) (سورة البقرة: آية 102). 

لفظ (خلَاق) جاء من مادة (خلق)، وقد حلّلنا هذا اللفظ واستنتجنا أنّ (خلق) هو التكوين على المستوى المادي(راجع الجزء الثالث- تلك الأسباب - الطور ). كلّ مادة (خلق) في كتاب الله جاءت تدلّ على تكويناتٍ ماديةٍ، حتى الآية الشهيرة التي فسّرها المفسرون على أنّها سلوكٌ وتصرفاتٌ (وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ) أثبتنا أنها لا علاقة لها بذلك؛ وإنما هي مخاطبةٌ للإنسان بصفةٍ عامةٍ تحثّه على النظر في الخلق، وخلقه هو بالتحديد. (الخلق) هو صنع شيءٍ من موادٍ أوليةٍ، والشيء المخلوق مصنوعٌ من موادٍ سابقةٍ. هكذا هي كلّ مادة (خلق) في القرآن. 

عندما يقول الله وبصورةٍ محددةٍ (لا خلاق لهم في الآخرة) فهذا يعني لا تكوينات ماديةً لهم في الآخرة؛ أيْ لا وجود ماديًا لهم في الآخرة. ماذا يعني ذلك؟

مناسبة تعبير (لا خلاق لهم) له دلالةٌ واضحةٌ، ولم يكن لنا أنْ نفهم هذا التعبير في الآية من دون فهم استطاعة الإنسان إحياء الموتى، وأنّ هذه الاستطاعة تعمل تحت قدرة الله المطلقة. (لا خلاق لهم في الآخرة) تعني وجود مادي لهم في الآخرة. الفئات التي ذكرتها الآيات هي فئاتٌ فاسدةٌ، ويبدو أنهم قد أهلكوا أنفسهم على نحوٍ لا يمكن استعادتهم مرةً أخرى، وسوف يكون موعدهم القيامة مباشرةً دون المرور بالحياة الآخرة. 

على الجانب الآخر لا يمكن أن تكون (الآخرة) هي ما بعد يوم القيامة أو اليوم الآخر؛ لأنّ كلّ الناس مجموعون عند الله يوم القيامة ولا استثناء. تعبير (لا خلاق لهم) كافٍ لكي نقول إنّ (الآخرة) شيءٌ مختلفٌ عن (اليوم الآخر)، وأنّ الآخرة لن تكون لكلّ الناس، هناك أصنافٌ من البشر لا خلاق لهم. ومن أراد أن يتجاوز التعبير ودلالته فهذا شأنه، ولْيرَ له سبيلًا آخر يفهم من خلاله اللفظ القرآني. 

اليوم يخبرنا العلم باحتمالية استرجاع حيواناتٍ منقرضةٍ بشرط وجود خلايا سليمةٍ، إذ يعمل العلم على سلامة الشريط الوراثيّ داخل الخلية، وإن حدث له تلفٌ فيستحيل في الوقت الحالي استرجاع الحيوان المنقرض. لقد توقّفتُ في السابق كثيرًا أمام لفظ (خَلَاق) الذي جاء مرتبطًا بالآخرة تحديدًا، ولم أستطع في السابق فهم اللفظ بصورةٍ كاملةٍ؛ بسبب غياب فكرة إحياء الموتى على يد إنسانٍ في آخر الزمان. لقد زال العجب، بل أعطى لنا اللفظ فهمًا إضافيًا للمقصود بـ الآخرة، وبدا أنّ البعث الأول الذي سوف يقوم به الإنسان هو في الآخرة، وهو الامتداد الطبيعي للحياة الدنيا. 

مَن الفئة التي أخبرت عنها الآية بأنهم لا خلاق لهم في الآخرة أو لا وجود لهم في الحياة التالية؟

هم الذين يتعلّمون ما يضرّ ولا ينفع (وَیَتَعَلَّمُونَ مَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡۚ) والسحر هو أحد أهمّ الأمثلة على ما يضرّ ولا ينفع. قِسْ على ذلك كلّ علمٍ يضرّ ولا ينفع صاحبه، فإنّ صاحبه لا خلاق له في الآخرة. لماذا؟ 

لأنّه لا فائدة ترجى من هذا النمط من البشر، فالإنسان في هذه الحياة الدنيا يسعى بكلّ السبل إلى المعرفة، ويُحاول دفع عجلة البشرية للتقدّم قدر استطاعته. فإذا انشغل بتعلّم ما يضرّ فقدْ فَقَدَ البوصلة وانتهت فائدته، إنّه تحذيرٌ شديد اللهجة لكلّ منشغلٍ بتعلّم ما يضرّ. الإنسان الذي يتعلّم أساليب الغش والمكر ليضرّ بها، أو يتعلّم أساليب السطو المعلوماتي لكي يضرّ بها الناس، كلّها نماذج مختلفةٌ لبشرٍ يتعلمون ما يضرّ، وبشّرتهم الآية بأنّهم لا خلاق لهم، ثمّ يوم القيامة يُردون إلى ربهم فيحكم في شأنهم. 

سيكون الفرق بين (الآخرة) و(يوم القيامة) واضحًا من الآية التالية:

(ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِیقࣰا مِّنكُم مِّن دِیَـٰرِهِمۡ تَظَـٰهَرُونَ عَلَیۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِ وَإِن یَأۡتُوكُمۡ أُسَـٰرَىٰ تُفَـٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَیۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ) (سورة البقرة: آية 17). 

يوم القيامة هو اليوم الذي يُردون فيه إلى أشد العذاب كما نرى، ممّا يعني أنّ لهم وجودًا ماديًا، أمّا (الآخرة) كما أخبرت الآية التي نحن بصددها فليس لهم وجودٌ ماديٌ فيها. محاولة المفسّر تفسير لفظ (خلاق) بقوله: لا حظّ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة، وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم، هو قولٌ تقريبيٌّ لا يقف على لفظ (خلاق) ومادة (خلق) التي جاءت تصف الخلق في كتاب الله. لا بدّ أن يكون للكلمة مدلولٌ، ولا يجب الذهاب بالتفسير بعيدًا عن مدلول الكلمة، حتى لا يتحوّل تفسير القرآن إلى وجهات نظر. 

الآية الثانية

(فَإِذَا قَضَیۡتُم مَّنَـٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَاۤءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرࣰاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا فِی ٱلدُّنۡیَا وَمَا لَهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنۡ خَلَـٰقࣲ) (سورة البقرة: آية 200).

هذه الآية تشير إلى أن الآخرة هي امتدادٌ للدنيا، وتشير إلى أنّ بعض الناس حريصٌ على الدنيا، وليس له وجودٌ في الآخرة. هذه الآية خطيرةٌ إلى أبعد حدٍّ، حيث حددت الفئة الثانية التي لا خلاق لها في الأخرة. لو عقل أصحاب التراث مغزاها لما استقرّ لهم جفن. مَن هم الذين يذكرون آباءهم أشدّ ذكرًا من الله؟ 

الإنسان الذي إذا أحلته إلى كلمات الله يحتمى بقول آبائه، وكأنّ آباءه هم مَن يحملون الحقيقة، وكلمات الله تتبع أهواء آبائه. هذا النمط أيضًا لا خلاق له؛ لأنه نمطٌ كسولٌ إلى أبعد حدٍّ، وفَقَدَ صفة الإسلام، والتي هي بالأساس عدم التحيز والإنصاف عند التعامل مع ما هو جديد. 

العالم يسير باتجاه العقل البشري الجبار، فكلّ إنسانٍ يمثّل وحدةً في هذا العقل، الذي سوف يكون أداة الله في الكون. الإنسان المقلّد هو إنسانٌ تخلّى عن وظيفته، وأصبح وجوده بلا معنى. لن يكون في الآخرة أعمال تقليدٍ أو أعمالٌ روتينيةٌ، بل هي أعمال القوة الذهنية، والتي تتطلب أول ما تتطلب حياديةً وإنصافًا في التعامل مع الأفكار. قد يمتاز بصفة الحيادية هذه وهي صفة الإسلام إنسانٌ بسيطٌ لم يتلقّ تعليمًا جيدًا، ولكنه يحمل معرفةً بسبب عدم تحيّزه وإنصافه قد تغيب عن كثيرٍ من الناس الذين أصابهم الغرور بسبب حصولهم على درجاتٍ علميةٍ عاليةٍ. الآيات تخبرنا أنه (لا خلاق) أو لا وجود لفئاتٍ ليس لها قيمةٌ حقيقةٌ في هذه المرحلة. سوف نرى بعد قليلٍ أن هناك فئاتٍ غير صالحةٍ سوف تصل للآخرة، ولكن لغرض العقاب، وليس لغرض البعث النبيل. 

الآية تخبرنا أنّ من الناس من يذكرون آباءهم أشد ذكرًا من الله، ومن خلال فهم مدلول (الذكر) الذي جاء في كتاب قولًا ثقيلًا سندرك على الفور جُرم هؤلاء. (الذكر) هو الحقائق المحفوظة بذاتها، فإذا وجدتَ صنفًا من الناس يُعلون ذكر آبائهم فذلك يعني أنهم يتعاملون مع التاريخ أو مع مرويّات آبائهم على أنها حقائق، مقابل الحقائق التي يخبرهم بها الله. هذه الأنماط تملأ الساحات ولا يرمش لهم جفنٌ، بل يجادلون ويسخرون، ولا يريدون حتى الاستماع أو إعطاء فرصةٍ للفكر. لديهم ثقةٌ لا حدود لها فيما يحملونه من روايات آبائهم، ويُغلّبونها على كلمات الله وهم مطمئنون. 

لكي نفهم لماذا هذا الصنف لا فائدة منه بل هو خطرٌ على المستقبل العلمي سوف أضرب مثالًا لذلك: لو أن أستاذًا جامعيًا وقف أمام الطلاب ثم أخذ يشرح أن الأرض مسطّحةٌ بناءً على اعتقاده أو رؤيته الدينية مقابل الأدلة العلمية الصريحة والواضحة، فإن هذا الأستاذ يصبح خطرًا على مستقبل العملية التعليمية. سوف تتخذ الجامعة قرارًا بفصل هذا الأستاذ لأنه لا فائدة من وجوده، وضرره أكبر من نفعه. كذلك لو وقف أستاذٌ جامعيٌّ يشرح لطلابه أن التطور أكذوبةٌ بناءً على اعتقاده فهنا يصبح وجود هذا الأستاذ ضارًا ولا فائدة منه. 

ليس هناك ضررٌ إن كان يملك أدلةً علميةً حقيقيةً مقابل أدلةٍ يقدّمها ويفندها، فهذا الصنف ليس هو المقصود. المقصود مَن يُقابل الحقائق بوجهات النظر، والعقل بالتاريخ، ولا يُفرّق بين دليلٍ علميٍّ ووجهات النظر الشخصية. عندما نُقدّم الدليل من القرآن على فكرةٍ تخالف السائد، من خلال سياق الآيات، وورود الكلمة في القرآن، وجذر الكلمة، ستجد بعض النماذج التي لن تقبل ذلك، بحجة قول الصحابي أو التابعي أو العلّامة فلان. إذا سألت عن الدليل الذي استند عليه أيٌّ من هؤلاء فلن تجد صدىً سوى وجهات النظر. هذا الصنف من البشر صنفٌ تخلّى بإرادته عن عقله، ورضي أن يسوقه التاريخ و الماضي مقابل الدلائل الواضحة. 

الآية الثالثة

(إِنَّ ٱلَّذِینَ یَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَیۡمَـٰنِهِمۡ ثَمَنࣰا قَلِیلًا أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَا خَلَـٰقَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَا یُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا یَنظُرُ إِلَیۡهِمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَلَا یُزَكِّیهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ) (سورة آل عمران: آية 77). 

هذه الآية كذلك فصلت بين الآخرة ويوم القيامة بشكلٍ واضحٍ تمامًا، ولو كانت الآخرة هي يوم القيامة لما جاء التعبيران منفصلين. الآية تقول بكلّ صراحةٍ ووضوحٍ إنّ فئةً من الناس يشترون بعهد الله ثمنًا قليلًا وهؤلاء ليس لهم خلاقٌ في الآخرة، ثم تستطرد الآية الحديث عن مصيرهم يوم القيامة بقولها: لا ينظر الله إليهم ولا يُكلّمهم. الحدثان مختلفان تمامًا، ولا يمكن أن يكون كلاهما حدثًا واحدًا إلا إذا ضربنا بمدلول الكلمة عرض الحائط، وتعاملنا مع القرآن كأنه كتابٌ أدبيٌّ، أو أنّ مدلول الكلمة عند البشر يغلب مدلول الكلمة الغزير في كتاب الله.

أرى أنّ هذه الآية فاصلةٌ وقاطعةٌ في تحديد الاختلاف بين مفهوم (الآخرة) ومفهوم (يوم القيامة)؛ بسبب اجتماعهما في الآية نفسها، بل وأكثر من ذلك، فإنّ الآخرة تسبق يوم القيامة، تبعًا لأسبقية الترتيب في الآية. الترتيب مقصودٌ، فالآخرة تسبق يوم القيامة، ولو أنّ المقصود بالآخرة هو الاستقرار بعد القيامة لكان مِن المناسب أن تأتي بعد يوم القيامة لا أن تسبقه. 

لو افترضنا أن القيامة كالمحكمة، وأنّ الآخرة هي نتيجة القيامة، وأنّ مجرمًا يتوقّع له الناس أن يُحاكم بالإعدام فهل نقول له سوف تأخذ حكم الإعدام ثم تذهب إلى المحكمة، ولن تنظر المحكمة إلى دوافعك، ولن تلقي لها بالًا؟ أم الأنسب أن نقول في البداية إنّ المحكمة لن تقبل دوافعك، ولن تلقي لها بالًا، وسوف تُحكم بالإعدام؟ النتيجة يجب أن تأتي بعد المقدمات لا العكس، والذي أنزل القرآن هو الله، فلا يجب الاستهانة بالتعبيرات القرآنية، أو التهاون في طرح الأسئلة والخوف منها. 

هذه الآية حدّدت الفئة التي لا خلاق لها، وهي فئة الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا. ما معنى هذا؟

لفظ (عهد) يعني الاحتفاظ بالشيء كما جاء في قاموس اللغة، و(عهد الله) كذلك يمكن فهمه من خلال تتبّع لفظ (العهد) في كتاب الله. تتبع تعبير (عهد الله) في القرآن يشير إلى كلّ ما أمرَ به الله وطلب من الإنسان الالتزام به، كالمثال في الآية التالية: 

(وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُوا۟ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُوا۟ۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) (سورة الأنعام: آية 52). 

سواءٌ لفظ (العهد) أو لفظ (الأيمان) كلاهما يشير إلى حالة الوفاء، والوفاء لا يكون إلا عند الالتزام، وهذا المبدأ من أخطر ما يكون لو فقه الناس. طالما علم الإنسان أمرًا واستقرّ عليه فيجب أن يفي به، أما الإنسان الذي لا يعلم ويرتكب خطأً فهو لا يدخل ضمن هذه الفئة. 

لنضرب مثالًا على هذا النمط من البشر، وهو بعض رجال الدين الذين استقر في وجدانهم -كما ورثوا- حرمة أمرٍ ما، ثم يُغيّرون ويحاولون إيجاد مخرجٍ تحت ضغطٍ معينٍ من سلطةٍ ما. مشكلة هؤلاء أنّ هذا الأمر مستقرٌّ في معتقدهم أنه خطأ، ومع ذلك يتحايلون بطريقةٍ من الطرق، إرضاءً لحاكمٍ أو رغبةً في مكانةٍ ما. هؤلاء -حرفيًا- يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا. 

بفرض أنّ إنسانًا يعتقد أن التعامل مع البنوك حرامٌ، ثم يغير كلامه إرضاءً لحاكمٍ، وليس قناعةً فكريةً ناتجةً عن دراسةٍ وبحثٍ. هذا الشخص يشتري بعهد الله ثمنًا قليلًا. أما لو أن باحثًا استنبط رأيًا صادقًا بأن التعامل مع البنوك لا شيء فيه فهو مجتهدٌ بشرط الإنصاف وعدم التحيز. لو نظر الإنسان حوله فسوف يجد أعدادًا مهولةً من الناس يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا.

الموظّف الذي يخالف القوانين من أجل مصلحةٍ ما وهو يعرف أنه يخالفها، والمسؤول الذي يتخطّى القواعد ولا يعيرها اهتمامًا من أجل سلطةٍ أو مصلحةٍ، هو كذلك من الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا. الجندي الذي يعتدي مخالفًا القواعد التي يعمل بها إرضاءً لمسؤولٍ أو رغبةً في إثبات ولاءٍ هو كذلك من الذين اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا. هذه الآية تحديدًا تنطق على مجموعٍ كبيرٍ جدًا من الناس، وربما كثيرٌ من هؤلاء يقعون تحت هذا النمط ولايدرون. 

أداء الأمانة، وتحمّل المسؤولية، وقول الحق، كلها من عهود الله، ومَن تخاذل طلبَا لمنصبٍٍ أو خوفًا من سطوةٍ فقد اشترى بعهد الله ثمنًا قليلًا. يعتقد الناس أنّ ثمن الآخرة سهلٌ، ولكنّ هذه الآية جعلته صعبًا للغاية، ولكن لو أنّ الناس استيقنوا ما يقول لهم ربهم لانتهى الظلم والتمييز من المجتمعات في زمنٍ قصير ٍللغاية. لك أن تتخيّل مجتمعًا يصدع الناس فيه دائمًا بالحق، يتحملون مسؤولياتهم، وإيجابيون لأقصى درجةٍ، كيف يكون حال هذا المجتمع؟ وكيف يكون حال أفراده؟ 

لم يجرّ على المجتمعات الفقرَ والجهل والظلم إلا السلبيةُ التي يتعامل بها الناس. العجيب أن هذا النمط في الحياة الدنيا يعيش دائمًا على الهامش، ولو جنى مكاسب دنيويةً فلن تلبث أن تنقلب عليه الأمور، وفوق ذلك فإن هذا المسكين يغامر بمصيره في الآخرة، ويدخل ضمن النمط الذي توعدته الآية بأنه لا خلاق لهم في الآخرة. 

نستطيع أن نفهم لماذا هذا النمط لا خلاق له في الآخرة؛ بسبب صفتين رئيستين في هذا الصنف، الصفة الأولى: هي الانتهازية؛ فهو لا يفكر إلا في نفسه ومصلحته الشخصية، وهذا النموذج لا يصلح للعمل الجماعي المثالي. الصفة الثانية: هي السلبية، وهي كذلك صفةٌ لا تصلح أبدًا في العمل الجماعي، بل ومؤذيةٌ ومثبطةٌ للآخرين، ولا فائدة منها في الآخرة التي تحتاج لنقاءٍ ومثاليةٍ وحياديةٍ في التعامل. 

لدينا آيةٌ في كتاب الله مذهلةٌ إلى أقصى درجةٍ، وقد حار فيها المفسرون، وهذه الحيرة إنما بسبب غياب فكرة العودة للحياة، واستثناء بعض الناس من هذه العودة. بعد فهم التعبير القرآني (لا خلاق لهم) أصبحت هذه الآية تُخبر عن نفسها دون أدنى جهدٍ، وهي الآية الواردة في سورة الأنبياء، وتتحدّث عن عدم عودة مجموعةٍ من الناس بالجملة.

(وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَآ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ)(سورة الأنبياء " آية 95). 

هل هناك آيةٌ واضحةٌ لا تحتاج لمجهودٍ لفهم مبدأ العودة واستثناء عدم العودة كمثل هذه الآية. يمكن للقارئ مطالعة التفاسير التي حاولت تأويل الآية بطرقٍ مختلفةٍ، عن طريق التطوّع بالقول: إن المقصود عدم الرجوع للحياة الدنيا، أو المقصود أنهم لا يرجعون بالتوبة. الآية واضحةٌ، تقول: (حرامٌ على قريةٍ أهلكناها)، بمعنى لم يعد لها وجودٌ بالفعل، فكيف يعودون إلى الحياة الدنيا؟ أو كيف يعودون بالتوبة؟ (لا يرجعون) تعني أنّ هناك رجوعًا، وأن هؤلاء ممنوعون من الرجوع، وهذه الآية تتكامل وتنسجم تمامًا مع مفهوم (لا خلاق لهم). لفظ (حرام) يعني المنع الأبدي، وهذا يعني أن هناك منعًا من العودة، وهو لا شك في الآخرة؛ لأن القيامة يومٌ مجموعٌ له الناس دون استثناءٍ. 

 

لماذا أهل قريةٍ؟ 

كما جاء في أكثر من موضعٍ أن القرية مجتمعٌ مستقرٌ على وضعٍ واحدٍ، أو أنها أحادية الفكر والتوجّه، وهذه المجتمعات لا نفع فيها، وللأسف كثيرةٌ تلك المجتمعات الفقيرة ثقافيًا، والتي ترى أن الانغلاق نجاةٌ لها. وقد ذكر الله هلاك القرى في أكثر من موضعٍ؛ وذلك بسبب ظلم أهلها وتعنّتهم. 

(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)(سورة القصص: آية 59). 

هذا الهلاك سوف يتبعه عدم الرجوع بنصِّ القرآن، ولا شك أنه بسبب طبيعة هذه القرى، وعدم فائدة أهلها في المهمة التالية، أو البعث الذي سوف يحدث. والبعث كما رأينا هو إرسالٌ في مهمةٍ. هلاكٌ بالجملة، وعدم الرجوع كذلك بالجملة، والسبب الرئيس هو الجمود و الأحادية الفكرية. يا ليت الإنسان يعلم ما ينتظره بسبب الجمود والانغلاق، وكيف أنه يضيّع فرصه ويهلك نفسه دون أن يدري. 

الآية الرابعة 

(وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ) (سورة العنكبوت: آية 64).

أشارت الآية إلى أنّ الآخرة هي الحيوان، بمعنى الحياة المستمرة، وهذا مُطابقٌ لِما توصّلنا إليه مِن أنّها حياةً تشبه حياتنا الدنيا، ولكنها حياةٌ طويلةٌ تمتاز بالوفرة والاستمرارية. وسوف ندرك مع تتابع الآيات أنّ هذه الحياة تشبه الحياة الدنيا، من حيث أنها قائمةٌ تمامًا على العمليات الحيوية، إلا أنّها حياةٌ مثاليةٌ بشكلٍ كبيرٍ، وممتعةٌ تملؤها الرفاهية لعباد الله الصالحين.

في الآيات التالية سوف نجد مفهوم (الآخرة) أكثر وضوحًا وتعبيرًا عن نفسه من التفاسير التقليدية، بعدما أدركنا أنّ الآخرة هي وعدٌ بحياةٍ أخرى قبل يوم القيامة. 

الآيات التي توضح المقصود بـ (الآخرة)

الآية الأولى

(وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ حَسَنَةࣰ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ) (سورة البقرة: آية 201). 

قول الإنسان (آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً) يأخذنا إلى أنّ الآخرة هي دار عملٍ أيضًا، إذ إنّ القيامة هي حُكمٌ بين العباد، وما يأتي بعدها يكون قد تمّ الفصل فيه. يُمكننا دائمًا النظر إلى يوم القيامة على أنه يوم المحاكمة والفصل، وما يأتي بعده نتيجةٌ له وليس العكس. لو أنّ الآخرة بعد يوم القيامة فسوف يكون كلّ شيءٍ تحصيل حاصلٍ وقد تمّ الحكم بين الناس. ولو أنّ الآخرة هي نتيجةٌ ليوم القيامة فما معنى (قِنا عذاب النار). المعنى المستقيم هنا أنّ الآخرة هي كذلك دار عملٍ، وأنّ المُنتهى هو يوم القيامة، والرجاء الذي يسعى إليه الإنسان هو تجنّب عذاب النار. 

الآية الثانية

(یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالࣲ فِیهِۖ قُلۡ قِتَالࣱ فِیهِ كَبِیرࣱۚ وَصَدٌّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟ۚ وَمَن یَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَیَمُتۡ وَهُوَ كَافِرࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُون) (سورة البقرة: آية 217). 

هل تركتْ هذه الآية فرصةً لإنكار أنّ الآخرة دار عملٍ كذلك. يقول الله حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، فهل في الآخرة أعمالٌ بالمفهوم التقليدي؟ 

لو كان المقصود -كما يقول بعض المفسرين- هي أعمال الدنيا فقط فلماذا التكرار؟ الآية تتحدّث عن صنفٍ ضالٍ، وسوف يستمرّ في ضلاله، وقد يكون ضلاله من نوعٍ آخر؛ ولذلك نبّهت الآية إلى أنّ هؤلاء حبطت أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة. 

معذورٌ المفسّر الذي كان يظنّ أنّ الآخرة هي يوم القيامة، فجعل الأعمال كلّها هي أعمال الدنيا، وأنّ الآية نوعٌ من التأكيد. لقد أصبحت الآية أكثر تعبيرًا وأكثر انسجامًا بعد فهم الحياة الأخرى، وتنطق بمعلوماتٍ عن مرحلةٍ هامّةٍ لم نكن ندري عنها شيئًا. 

الآية الثالثة 

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) في الدُّنْيَا وَالآخرة ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) (سورة البقرة: آية 219-220)

ورد لفظ (الآخرة) في الآية 220 ولم يكن لنا فهم هذه الآية دون الرجوع إلى الآية السابقة لها. الآية 219 انتهت بقول الله لعلكم تتفكرون، ثم بدأت الآية الثانية في الدنيا والآخرة. السؤال هنا لكلّ باحث: هل في الآخرة تفكّرٌ إذا كانت تعني يوم القيامة بالمفهوم التقليدي؟ هل رجاء التفكّر الذي جاء في التعبير القرآني (لعلكم تتفكّرون) مناسبٌ للآخرة بالمفهوم التقليدي إن كانت هي مرحلة جني الثمار؟ 

الإجابة من دون تحيزٍ: لا، ولكي يستقيم التعبير لا بدّ أنْ تكون الآخرة المقصودة قابلةً للتفكّر، والتفكّر له نتيجةٌ وليس تحصيل حاصلٍ. هذه الآية تثبت بصورةٍ مثاليةٍ أنّ الآخرة دار عملٍ ودار تفكّرٍ، وأنّها امتدادٌ للحياة الدنيا ولكن بشروطٍ مختلفةٍ. 

الآية الرابعة

(إِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَـٰمَرۡیَمُ إِنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةࣲ مِّنۡهُ ٱسۡمُهُ ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ وَجِیهࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ) (سورة آل عمران: آية 45)

عدنا مرةً أخرى لمسألة عودة المسيح بتسمياتها المختلفة في معظم العقائد. إنْ كنّا قد أثبتنا أنّ عودة المسيح عيسى ابن مريم لن تتحقّق في الحياة الدنيا فهي هنا عودةٌ أكيدةٌ في الآخرة، وسوف يكون له مكانةٌ مرموقةٌ تبعًا للآية الكريمة. لا أستغرب ذلك أبدًا فهو روحٌ من الله، وكان حالةً نقيةً من الوعي والإدراك كما ذكرنا، ولا شك أنّ مثل هذه الشخصية حقَّ لها أنْ تتبوّأ مكانًا وجيهًا.

القرآن كله لم يجزم لشخصٍ بعينه المصير النهائي بعد يوم القيامة، وقد كانت هذه الآية آيةً عجيبةً، إذ جاء فيها ذكر عيسى مباشرةً مع بشارةٍ بالوجاهة في الآخرة. لقد أصبحت الآية أكثر تناسقًا مع آيات القرآن؛ إذ إنّ الوجاهة هنا تعني التقدّم في المكانة، وهو مناسبٌ تمامًا للحياة الآخرة، ولكنّ يوم القيامة وما بعده مرحلةٌ لا يعرف فيها أحدٌ مصيره على وجه الدقة، ولم يُعطِ القرآن فيها ردًا قاطعًا لشخصٍ بعينه. لفظ (وجيهًا) في حدّ ذاته يُشير إلى مكانةٍ متقدمةٍ لعيسى، وهذا متناسبٌ تمامًا مع شخصية عيسى من حيث الفهم والإدراك؛ لأنّ الحياة الآخرة كما يبدو تقوم بالأساس على الفهم والمجهود الذهني. 

 

يجب أنْ نشير إلى أنّ نبي الله عيسى ليس الوحيد الذي جاءت بشارة عودته في الآخرة بصورةٍ مؤكدةٍ، ممّا يدعم مكانته الخاصة، بل نبيّ الله إبراهيم كذلك في الآية: (وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَجَعَلۡنَا فِی ذُرِّیَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَـٰبَ وَءَاتَیۡنَـٰهُ أَجۡرَهُۥ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ) (سورة العنكبوت: آية 27). 

لا نقول هنا إنّ أحدًا من الأنبياء لن يعود في الآخرة أو سوف يعود، كلّ ما هنالك أنّنا نقول إنّ هناك عودةً مؤكّدةً بالقرآن لنبي الله عيسى مع مكانةٍ مرموقةٍ، ونبي الله إبراهيم أيضًا، لأنه من الصالحين بنصّ القرآن. 

ما معنى قول الله: (وإنه في الآخرة لمن الصالحين)؟ هل معنى ذلك أن في الآخرة بشرًا قد يكونون غير صالحين؟ التأكيد في الآية على أن نبي الله إبراهيم من الصالحين هو إشارةٌ إلى وجود احتمالات الصلاح وعدم الصلاح، وهذا لا يمكن أن يكون إلا في حياةٍ كالتي نعيشها. الصلاح في حدّ ذاته توءم العمل، فلا معنى للصالح في دار جزاءٍ، وهذا أيضًا يأخذنا إلى أن الآخرة دار عملٍ مستمرٍ، ولكن بشروطٍ أفضل. 

الآية الخامسة

(فَأَمَّا ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَأُعَذِّبُهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ) (سورة آل عمران: آية 53). 

مرةً بعد مرةٍ نجد اشتراك الدنيا والآخرة في نوع العذاب، وهذا إنْ دلّ فيدلّ على أنّ عذاب الدنيا مشتركٌ مع عذاب الآخرة، ولا شكّ أنه مختلفٌ عن عذاب ما بعد القيامة. هذه الآية تأخذنا للنتيجة نفسها، والتي تؤيّد أنّ الدنيا والآخرة لهما المواصفات نفسها، أو أنّ الآخرة هي الامتداد الطبيعي للدنيا، وليست مرحلةً بعد يوم القيامة. 

هذه الآية تقطع الطريق على كل مَن يدّعي أن الآخرة هي النهاية بدلالة أنّ العذاب في الآخرة. العذاب أيضًا ذُكر في الدنيا، واشتراك الدنيا والآخرة في العذاب يدفعنا للقول: إن العذاب يشبه عذاب الدنيا الحالي، ولكنّه أيضًا بمواصفاتٍ مختلفةٍ نوعًا ما. سوف نأتي على مفهوم (العذاب) في الفصل السادس عشر، لوضع اللمسات الأخيرة على هذا المفهوم. 

الآية السادسة

(وَمَن یَبۡتَغِ غَیۡرَ ٱلۡإِسۡلَـٰمِ دِینًا فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ) (سورة آل عمران: آية 85)

هذه الآية تضع الشرط الأساسي للفوز في الآخرة، وكأنّها الشهادة التي سوف تَمنح حاملها شأنًا في الآخرة. الأمر أشبه باستكمال شهادةٍ جامعيةٍ لأجل الحصول على وظيفةٍ مرموقةٍ، ومن دونها لن تحصل على وظيفةٍ جيدةٍ. عندما قمنا بتحليل لفظ (الإسلام) ومدلوله في كتاب الله في كتاب قولًا ثقيلًا تبيّن أنّ المسلم هو الشخص غير المتحيز، أو المنصف في تعامله، وبمجرّد تحيّز الإنسان لمعرفةٍ ما أو أيّ أمرٍ كان فقد انخلعت عنه في هذه الحالة صفة المسلم. هذه الصفة الشريفة يعرفها كلّ باحثٍ وكلّ مجتهدٍ، إذ إنّ أساس العلم والمعرفة بل وقاعدة الشرف الأولى هي عدم التحيز. ومع فهم (الآخرة) أصبح لدينا تصوّرٌ كاملٌ عن دور الإنصاف، ولماذا كان الإنصاف ضروريًا للآخرة.

الآية تضع أمام الناس جواز المرور للآخرة، فمَن كان مسلمًا في أيّ اعتقادٍ، وهذا يعني أنّه غير متحيّزٍ بل راغبٌ من داخله في فهم الحقيقة والوصول إليها، فسوف يحصل على فرصةٍ أخرى يثبت فيها ذلك. غير المتحيز أو المسلم بالمفهوم القرآني الذي منعه مانع سواءٌ معرفيٌّ أو اجتماعيٌّ أو أيّ نوع من التشويش ولم تتح له الفرصة للتوصّل للحقيقة فسوف يصل إليها في الآخرة لأنه كان مسلمًا منذ البداية. أمّا ذلك الشخص المتحيّز الذي لا يريد أنْ يقتنع أو يُفكّر تحيُّزًا لما ورثه، أو لثقافةٍ أحادية الجانب، فهو شخصٌ خاسرٌ في الآخرة؛ بسبب طبيعته الإقصائية غير المتطورة. 

هذا المبدأ تجده في المجتمعات العلمية والبحثية الراقية، فأنْ يكون الإنسان قابلًا للتعلم، ولديه أمانةٌ علميةٌ، أكثر أهميةً من الشهادات التي حصل عليها، بل إنّ الأمانة العلمية وعدم التحيز ركنٌ أصيلٌ في الباحث، ومن دونها يفقد شرفه. 

الآية السابعة

(وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَـٰبࣰا مُّؤَجَّلࣰاۗ وَمَن یُرِدۡ ثَوَابَ ٱلدُّنۡیَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَن یُرِدۡ ثَوَابَ ٱلۡـَٔاخِرَةِ نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَاۚ وَسَنَجۡزِی ٱلشَّـٰكِرِینَ) (سورة آل عمران: آية 145). 

(الثواب) أصله ثوب، وكما جاء في قاموس اللغة تعني الرجوع والعود، والثواب هو الجزاء والأجر أو النوال والعطاء. يمكننا التعبير عن (الثواب) من خلال فهم الجذر اللغوي، ومن خلال ورود اللفظ في القرآن، فهو عائد الشيء، أو مخرجات الأمر، فثواب العمل هو الأجر أو العائد الذي يحصل عليه الإنسان نظير هذا العمل.

كذلك ثواب الدنيا هو الأجر أو العائد الذي يحصل عليه نظير الدنيا. لو قمنا بمدّ الخط على استقامته فسوف يصبح ثواب الآخرة هو الأجر والعائد الذي يحصل عليه الإنسان نظير الآخرة. هل ما زلنا نحتاج الدلائل لإثبات أنّ الآخرة دار جزاءٍ وعملٍ وليست دار مكافأةِ؟ هل ما زال الشكّ يساورنا في أنّ الآخرة امتدادٌ طبيعيٌ للدنيا، وأن الإنسان سوف يُثاب فيها ويُؤجر ويخسر أحيانًا؟ لا شكّ أنه عملٌ مختلفٌ عن عمل الدنيا وضلال الدنيا، فكلما زادت المعرفة والعلم صعُب الاختبار. 

لقد نطقت الآيات بالحق عندما وضعنا التحيز جانبًا فقط، وعندما قمنا بقراءة الآيات منفصلةً عن التصورات الشخصية. وحتى أكون منصفًا، فإنّ استنكاري أن يكون بعض البشر وسطاء بين القرآن والإنسان لا يعني تأييدي أن يفهم كلّ إنسانٍ ما يحلو له، هذا لا يقوله ذو عقل. وإنما المقصود هو ألا نرفض الدليل الواضح لأنّ هذا الدليل يُعارض ما قاله بعض البشر. هذا يعني بالتبعية عدم التمسّك برأيٍ جاء هنا في الكتاب طالما هناك رأيٌ يملك أدلةً أقوى ومنطقًا سليمًا، وهكذا تتطور البشرية وترتقي ويفنى الجهل.

تركيب (ثواب الآخرة) لم يدع فرصة لِمُتقوّلٍ أن يقول إن الآخرة دار مكافأةٍ، بل هي بنصٍ صريحٍ لا يقبل الشك دار جزاءٍ ودار عمل. تُفصح الآية بعد الآية عن نفسها، ولا شكّ أنّ مَن يقرأ هذا الكلام سوف يُذهل؛ لأنّ الأمر خارج نطاق التصديق، إذ كيف نعيش كلّ هذا العصر دون الانتباه لهذا القدر من الالتباس في معنى (الآخرة). 

الآية الثامنة 

(وَلَا یَحۡزُنكَ ٱلَّذِینَ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن یَضُرُّوا۟ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ یُرِیدُ ٱللَّهُ أَلَّا یَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظࣰّا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمٌ) (سورة آل عمران: آية 176). 

هذه الآية أيضًا من الآيات العجيبة التي استخدمت لفظ (حظّ) مع الآخرة؛ ممّا يزيد اليقين يقينًا أنّ الآخرة هي حياةٌ قبل يوم القيامة. الذين يُسارعون في الكفر تعني الذين يسيرون في طريق الكفر بتسارعٍ، ولا يعني أنّهم كفّارٌ بصورةٍ قطعيةٍ. الحديث هنا عن دار عملٍ، وليست حُكمًا نهائيًا. فلو أنّ الحكم نهائيٌّ لكانوا من الكفار قطعًا وانتهى الأمر. الملاحظة الثانية هي كلمة (حظ)، والحظ جزءٌ طيّبٌ أو قسمٌ طيّبٌ، وهذا يعني أنّ هؤلاء الذين يسارعون في الكفر ليس لهم جزءٌ طيّبٌ من الآخرة.

 لم ينفِ القرآن وجودهم في الآخرة، بل نفى أنْ يكون لهم حظٌ، أيْ ليس لهم مكانةٌ طيبةٌ في الآخرة. لو أنّ الآخرة بالمفهوم التقليدي هي ما سوف يأتي بعد القيامة لكان مستقرّ هؤلاء النارَ، وليس مجرّد حرمانٍ من حظٍ في الآخرة. الآخرة كالدنيا فيها عناءٌ وشقاءٌ لبعض الأنماط، ولكنّه عناءٌ وشقاءٌ مرتبطٌ بأعمالهم التي عملوها في الدنيا. مثال ذلك الطالب الذي أهملَ، وَفَاتَه تحصيل العلم بصورةٍ قويةٍ ومتميزة، فعندما خرج لسوق العمل لم يجد فرصةً جيدةً بل عانى كثيرًا، وهذا بالأساس ثمرة ما جناه في دراسته. 

عناء وشقاء الناس في الآخرة متفاوتٌ بحسب ما حصّلوه في دنياهم. منهم مَن لن يكون له خلاقٌ من الأساس، ولا وجود له في هذه المرحلة، ومردّه إلى يوم القيامة. ومنهم مَن لن يكون له حظٌّ في الآخرة، ومنهم من سوف يكون مصيره الجحيم، كما سوف نرى من خلال مفهوم الجحيم ودرجات العقاب في الجحيم في فصل الجنة.

الآية التاسعة 

(وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِی هَـٰذِهِ ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَاۤ إِلَیۡكَۚ قَالَ عَذَابِیۤ أُصِیبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَاۤءُۖ وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُونَ) (سورة الأعراف: آية 156)

التعبير القرآني هنا (إنا هدنا إليك) يشير إلى الهداية، ومعنى قولهم إنّا هدنا إليك بعد لفظ (الآخرة) يعني أنّ الآخرة دار عملٍ، إذ ما زالت الهداية مطلوبةً، أمّا الآخرة بمعناها التقليدي فتشير إلى انتهاء كلّ شيءٍ والفصل بين الناس، وليس للهداية موطئ قدمٍ بعد يوم القيامة. 

الآية العاشرة 

(یَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُوا۟ وَلَقَدۡ قَالُوا۟ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِسۡلَـٰمِهِمۡ وَهَمُّوا۟ بِمَا لَمۡ یَنَالُوا۟ۚ وَمَا نَقَمُوۤا۟ إِلَّاۤ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن یَتُوبُوا۟ یَكُ خَیۡرࣰا لَّهُمۡۖ وَإِن یَتَوَلَّوۡا۟ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِیمࣰا فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرࣲ) (سورة التوبة: آية 74). 

نستطيع أن نستخلص أمرين من خلال هذه الآية، وهما أنّ التعبير القرآني (عذابٌ أليمٌ) لا يشير إلى يوم القيامة حصرًا، فقد جاء في الآية الكريمة يصف العقاب في الدنيا كما في الآخرة. الأمر الثاني أنّ الآية أشارت أنّ كلّ هذا في الأرض، عندما ذكرت (وما لهم في الأرض من وليٍّ ولا نصيرٍ). دلّ ذلك على اشتراك الدنيا والآخرة في المكان، وهو الأرض، وهذا ينفي تمامًا الزعم التقليدي الذي جعل الآخرة بعد يوم القيامة في السماء السابعة أو في السموات. قد يحاول بعضهم إيجاد تخريجٍ لهذه الجزئية بالقول: إن الآية ليس غرضها الترتيب، ولا يعني ذلك أن الآخرة على الأرض. وهنا نقول: لماذا لم تأتِ الأرض بعد الدنيا؟ ولماذا لم تأتٍ في البداية؟ ولماذا اقترنت الآخرة والدنيا في كلّ هذه المواضع؟ 

الآية الحادية عشرة 

(لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ لَا تَبۡدِیلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ) (سورة يونس: آية 64). 

في هذه الآية نجد أنّ لفظ (البشرى) من الألفاظ التي تؤيّد بشدةٍ أنّ الآخرة دار عملٍ وليست نهاية الدنيا كما يعتقد التقليديون. لفظ (البشرى) -كما شُرح في الجزء الثالث من سلسلة كتب تلك الأسباب الطور- يصف مجموعةً من العلامات والدلائل التي يستطيع من خلالها المتلقّي استنتاج نتيجةٍ معينةٍ. (بشرى للمؤمنين) أي علامةٌ ودلالةٌ للمؤمنين تُبشّر بالفرح، وبشرى للظالمين أي علامةٌ ودلالةٌ للظالمين على سوء العاقبة، وفي آيةٍ أخرى يقول الله: إنه يُسيّر السحاب بشرىً؛ أي علامةً ودلالةً على نزول المطر. 

عندما يقول الله (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) فهذا يعني أنّ الآخرة لم تحدث فيها المكاشفة التامّة. و(الآخرة) بالفهم التقليدي حالة مكاشفةٍ وظهور الحقائق كاملةً. ولأنّ هناك بشرىً في الآخرة فهذا يعني أنّ قدرة الإنسان على الاستنباط والاستنتاج ما زالت تعمل، وهو في حاجةٍ إليها في نشاطاته. لا أقول للنجاح بشرى؛ وإنما البشرى لمن لم يزل في طور الاختبار ولم يرَ نتيجة اختباره. 

(الآخرة) ليست موقفًا واحدًا مثل يوم القيامة، ولكنها بنصّ التعبيرات القرآنية مدةٌ زمنيةٌ طويلةٌ جدًا. لذلك عندما يقول الله في كتابه (لهم البشرى في الآخرة) فهذا يعني أن لهم أعمالًا ونتائج تمنحهم البشرى لما هو قادم. (الآخرة) في الفهم التقليدي هي استقرار الإنسان بعد يوم القيامة، فكيف يكون لهم البشرى في هذا الاستقرار؟ إلا إن كان هناك متسعٌ من العمل والتحصيل ما زال قائمًا. 

الآية الثانية عشرة 

(أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَیۡسَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا۟ فِیهَا وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ) (سورة هود: آية 16)

تبدو الآية تتحدّث عن الآخرة وكأنّها بعد يوم القيامة، ولكنّ الأمر مختلفٌ تمامًا. لقد ذكرنا من قبل أنّ الآخرة فيها كذلك أنواعٌ من العذاب المتفاوت، وسوف نرى بعد قليلٍ أنّ بعض الناس سوف يتعرّضون للعذاب، وهذا العذاب هو نظير أفعالهم السابقة. مثال ذلك المجرمون الذين ظلموا الناس أو تمادوا في الظلم أو الذين أفلتوا من العقاب، لا شكّ أنهم إنْ عادوا مرةً أخرى للحياة فسوف يُنزَل العقاب بهم، وسوف يكون العقاب بقدر الجرم. وصف النار كما سوف نرى في الفصول التالية يشير إلى عذابٍ مُتفاوتٍ بشكلٍ كبيرٍ، ويتراوح مدى العذاب بالنار من مجرّد التعرّض لدرجات الحرارة العالية إلى الإحراق مباشرةً، وسوف نأتي على هذه الجزئية بالتفصيل في فصل الجنة. 

في هذه الآية لمحةٌ في غاية الروعة، حيث تقول الآية (وحبط ما صنعوا فيها) والمقصود هنا هو الآخرة. هل هناك شكّ في أنّ الآخرة دار عمل؟ الآية تقول حبط ما عملوا فيها، فهي إذن دار عملٍ وليست دار جزاء. 

الآية الثالثة عشرة 

(وَمَن كَانَ فِی هَـٰذِهِۦۤ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِیلࣰا) (سورة الإسراء آية 72). 

لقد تعرّضنا لهذه الآية من قبل، وقلنا إنّ المقصود هنا أنّ الذي لا يرى الحق في الدنيا سوف يظلّ هكذا في الآخرة، وهذه الآية تتكامل تمامًا مع قول الله (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (سورة آل عمران: آية 85). كأنّ الآخرة امتدادٌ طبيعيٌّ للدنيا، أو هي مرآة الدنيا، ولا داعي لإعادة ما ذكرناه سابقًا. 

الآية الرابعة عشرة

(وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمَسَّكُمۡ فِی مَاۤ أَفَضۡتُمۡ فِیهِ عَذَابٌ عَظِیمٌ) (سورة النور: آية 14).

من المفترض وحسب الفهم التقليدي أنّ الآخرة هي المستقَرّ النهائيّ، وقد أصبح أصحاب الجنة في الجنة، وأصحاب النار في النار، فكيف نجد احتماليةَ أن يمسّ الناس في ما أفاضوا عذابٌ عظيمٌ؟ وكيف أفاض الناس في الآخرة إذا كانت هي النهاية؟

المسألة تزداد وضوحًا وبيانًا في أنّ الآخرة دارُ عملٍ، والناس يعملون فيها ويُصلحون ويُخطئون كما الدنيا، ولكنّ الفرق أنّها حياةٌ متأخّرةٌ قليلًا، يملك فيها الإنسان مقوّماتٍ فائقةٍ. ولا شكّ أنّها سوف تأتي بعد علم الساعة، بل وبعد قيام الساعة، بمعنى بعد تطبيق ما توصّل إليه العلم، وكان من نتيجته إحياء الموتى. 

الآية الخامسة عشرة 

(ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ) (سورة النمل: آية 3)

(ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ) (سورة لقمان: آية 4). 

على الرغم من أنّ هناك بعض الآيات التي ذكرت الإيمان مع الآخرة إلا أنّ لفظ (يوقنون) هنا يشير إلى إمكانية التيقّن من الآخرة. لعل التعبير القرآني (يؤمنون بالآخرة) موجّهٌ لِمَن لم تُسعفهم المعارف في فهم ماهية الآخرة، ولكنّ لفظ (يوقنون) يشير إلى حالةٍ يُمكن التيقّن منها. التيقّن هنا إمّا بفهم آيات الله اللفظية أو آيات الله الكونية. ولليقين درجاتٌ، منها: عِلم اليقين، وعَين اليقين، وحَقّ اليقين. وهنا نجد أنّ عِلم اليقين كامنٌ في كلمات الله، أمّا عَين اليقين فسوف يتحقّق عندما يُبصر الناس التقدّم العلمي الذي سوف يستطيع من خلاله الإنسان إعادة الموتى إلى الحياة. أمّا حقّ اليقين فهو عندما يحيا الإنسان ذاته في هذه الحالة، وتصبح من الأمور الاعتيادية بالنسبة إليه. لفظ (يوقنون) لم يأتِ مع تعبير (اليوم الآخر) أبدًا؛ لأنّ اليوم الآخر مرتبطٌ كليًا بالغيب في هذه الحياة الدنيا، والأنسب معه الإيمان، حيث التصديق فضلًا عن اليقين. 

الآية السادسة عشرة 

(قُل لَّا یَعۡلَمُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَیۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا یَشۡعُرُونَ أَیَّانَ یُبۡعَثُونَ(65)بَلِ ٱدَّ ٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ) (سورة النمل: آيات 65- 66). 

لفظ (ادّارك) الذي جاء في الآيات أصله (درك)، ويعني تلاحق الشيء، فيصبح معنى (ادّارك علمهم) أي تلاحق علمهم في الآخرة. هذه الآية تشير إلى المكذّبين، إذ سوف يستمرّ تكذيبهم، بمعنى سيتلاحق علمهم في الآخرة، ويظلّ الشك في أنّ الآخرة من تقديرات الله، ولن يدركوا الحقيقة. 

لفظ (منها) يُشير إلى أنّهم بالفعل في الآخرة؛ إذ لو كان التعبير القرآني (شكّ فيها) لكان هناك احتمالٌ أنّهم في الحياة الدنيا. أمّا وقد جاء التعبير بصيغة (شكٍّ منها) فهذا يعني أنّهم بالفعل داخل الآخرة، ولكنْ إلحاقًا بعلمهم في الدنيا الذي أهّلهم للتكذيب والشكّ بصورةٍ سلبيةٍ سيستمرّ هذا التكذيب وعدم رؤية الحق. 

لقد تناولتُ هذه الفكرة من قبل عندما أشرتُ إلى مسألة المسيخ الدجال، وكيف يمكن للإنسان أن يستمرّ في الكفر والتكذيب، وإيجاد المبررات لاعتقاده المنحرف، بعد بيان الآيات الدالة والواضحة. 

الآية السابعة عشرة 

(تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوࣰّا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادࣰاۚ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ) (سورة القصص: آية 83). 

هذه الآية تشير إلى أنّ هذه المرحلة سوف يحكمها عباد الله الصالحون، كما جاء وعد الله في موضعٍ آخر (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ) (سورة الأنبياء: آية 105). 

هذا لا يعني المثالية، ولكنّه يعني أنّ التجاوز والتطرّف في السّوء سوف ينتهي، فلن نرى ظلمًا بالشكل الفجّ الذي نراه اليوم، ولن نرى فسادًا لا يمكن ردعه كما يبدو الآن. سوف يكون هناك قانونٌ يحكم كلّ التصرّفات المتجاوزة، وهذا هو وعد الله للبشر. 

الآية الثامنة عشرة

(لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدۡعُونَنِیۤ إِلَیۡهِ لَیۡسَ لَهُۥ دَعۡوَةࣱ فِی ٱلدُّنۡیَا وَلَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَاۤ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ هُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِ) (سورة غافر: آية 43) 

مرةً اخرى نرى أنّ الآخرة تسبق قول الله تعالى (وأنّ مردّنا إلى الله)؛ لنستخلص من ذلك أنّ (الآخرة) دار عملٍ مثل الدنيا، ولكنّها بمقاييس مختلفةٍ نوعًا ما. لو أنّ الآخرة هي مرحلة المكافأة لَمَا جاء بعدها (وأنّ مردنا إلى الله) ثمّ التعبير القرآني (وأنّ المسرفين هم أصحاب النار) لأنّ الآخرة بطبيعتها التقليدية هي مرحلةٌ تمّ فيها دخول الجنة أو النار وانتهى الأمر. 

بهذه الطريقة لو تتبّعنا جميع الآيات التي جاء فيها ذكر (الآخرة) فسوف نجد الدليل واضحًا على أنّ (الآخرة) هي حياةٌ ثانيةٌ قبل يوم القيامة، وفيها العمل، وفيها من يُثاب ومَن يخسر، وسوف تتحقّق بعد الوصول إلى مرحلةٍ متقدّمة على يد الإنسان. 

حتى تكتمل الصورة سوف نحاول المرور على الآيات التي يمكن أنْ تُشكل على بعضهم، إذ يوجد فيها بعض التشابك بين مفهوم (الآخرة) ومفهوم (القيامة). 

بعض الآيات التي يتداخل معناها بين (الآخرة) و(يوم القيامة)

الآية الأولى

(ٱلۡیَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّیِّبَـٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حِلࣱّ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلࣱّ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِینَ غَیۡرَ مُسَـٰفِحِینَ وَلَا مُتَّخِذِیۤ أَخۡدَانࣲۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱلۡإِیمَـٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ) (سورة المائدة: الآية 5). 

الآية تتحدث عن بعض الآثام، ونتيجتها أن يكون صاحبها في الآخرة من الخاسرين. ربّما يتوهّم بعضهم أنّ هذا –ضمنيًا- يحدث يوم القيامة. لقد تعدّدت الآيات التي تصف عذاب العصاة في الدنيا والآخرة، وهذا العذاب هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لأفعالهم. هذه الآية من هذا النوع، وأفعالهم هي التي جرّت عليهم الخسران في الآخرة، ولكي نفهم هذا المثال جيدًا يمكننا تخيّل مثال الطالب الذي لا يهتمّ بتحصيل العلم في مجاله، فهذا لا شك سوف يؤثّر على مستقبله فيما بعد. الآية تخبرنا أنّ الآخرة امتدادٌ طبيعيّ للدنيا، والتي تقرّرت في أكثر من آيةٍ كما سبق.

لا بدّ أن نلاحظ الخطاب في هذه الآية، والعقاب الذي ورد فيها، إذ إنّ المعاصي ليست بالجرم الذي يستحق العقاب الشديد، كما جاء في كثيرٍ من الآيات. وقد جاء العقاب هنا بقول الله (وهو في الآخرة من الخاسرين) وهذا يعني لا حظّ له، أو ليس له نصيبٌ طيّبٌ في الآخرة. 

الآية الثانية

(إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ) (سورة المائدة: آية 33). 

هذه الآية تتحدّث عن جرمٍ عظيمٍ كما رأينا، ولذلك قالت (في الآخرة عذاب عظيم). لا شكّ أنّ إحياء هؤلاء الموتى بعد فترةٍ من الزمن سوف يتطلّب معاقبتهم على جرمهم الذي اقترفوه، وبما أنّ الجرم كما وضّحت الآية جرمٌ عظيمٌ جاء العذاب بصيغة عذابٍ عظيمٍ. 

لِنفرضْ أنّ مجرمًا فعل كلّ ما استطاع من ظلمٍ للناس أو الإجرام في حقهم، وجاءت ساعة إحياء هؤلاء الموتى، فلا شكّ أنّ عقاب هؤلاء سيتحقّق، لا سيما أنّ هؤلاء قد أفلتوا من العقاب في الدنيا. إنّه نوعٌ من الالتزام الأخلاقي حتى لا يُفلت مجرمٌ من العقاب، وأمثال هؤلاء المجرمين لا مكان لهم في بيئة الصالحين؛ لذلك يُعاملون معاملة المجرمين. 

أمر إحياء الموتى ومفهوم (الآخرة) هو مفهومٌ غايةٌ في التعقيد؛ بسبب القدر الهائل من المعتقدات التي تُناقض هذا المفهوم، لكنْ بشيءٍ من التريّث سوف ندرك هذا المفهوم الجديد داخل كتاب الله. 

الآخرة سوف تكون مرحلةً أكثر رقيًا وتحضّرًا، ويرثها عباد الله الصالحون يحكمون ويقيمون العدل، وسوف تكون هذه هي البيئة السائدة، لكنّ هذا لن يمنع من التكذيب والكفر والأباطيل، ولكنْ دون تعدي ودون إضرارٍ بالآخرين. 

يستطيع الإنسان الذي يعيش في مجتمعٍ حرٍّ وضع تصوّرٍ عن الآخرة بسهولةٍ بعد استعراض هذا القَدر من الآيات، فهو يرى أمامه كيف يتحكّم العدل بصورةٍ كبيرةٍ، وكيف أنّ لدى كلّ إنسانٍ فرصةٌ في أنْ يفعل ما يريد دون أذىً لغيره؛ لأنّ القانون يُطبّق على الجميع، وهذا لا يمنع أنّ هناك كثيرًا من الضلال والكذب والصفات السيئة. في الآخرة سوف يكون الأمر أعظم بكثيرٍ وسوف يُمنح الإنسان حريةً لا مثيل لها ليفعل ما يريد، ولكنْ لن يكون باستطاعته إلحاق الضرر بغيره؛ لأنّ الأرض يرثها عباد الله الصالحون وهم الفئة الغالبة. 

دعونا نضع تصورًا كاملًا -بناءً على المعطيات السابقة- لمن سوف يعود، ومن لن يعود في الآخرة: 

مَن لن يعود في الآخرة جاء ذكرهم في بداية الفصل، وهم من لا خلاق لهم في الآخرة، وهذه الفئات أغلبها انتهازيةٌ نفعيةٌ، ولا فائدة من وجودها في الآخرة كما بيّنت الآيات.

مَن سيعودون في الآخرة هم: فئة الصالحين، وهم الذين سوف يعودون ليكملوا مسيرتهم التي بدؤوها بالعمل الصالح. وفئة الذين لم ينالوا فرصةً كاملةً في الحياة الدنيا؛ بسبب موتهم صغارًا، أو بسبب مرضٍ، أو أيّ مانعٍ منعهم من فهم الحقيقة والوصول إليها، وهؤلاء سوف يأخذون فرصتهم كاملةً. 

احتمال الكفر والإيمان موجودٌ، ربما بسبب المغريات، وبسبب طول هذه الحياة. المجرمون الذين أضروا بالناس بشكلٍ من الأشكال سوف يعودون من أجل العقاب والعذاب. والأرض بصفةٍ عامةٍ سوف تكون تحت تصرف الصالحين، ولن يكون للطغاة أو المكذبين أيّ سطوةٍ. ولكن هناك حريةٌ كاملةٌ في أن يختار الإنسان طريقه ويكمل مسيرته. 

ما زال أمامنا كثيرٌ جدًا لقوله في هذه المرحلة، من خلال فهم القيامة، وفهم مسمياتٍ مختلفةٍ اعتقدَ الناس أنها تخصّ يوم القيامة. سوف تكتمل الفكرة، وسوف أحاول قدر الاستطاعة الإجابة على الأسئلة التي قد تدور في الذهن في الفصول القادمة. 

 

ملخص الفصل 

  • الآخرة مرحلةٌ سوف تأتي بعد قيام الساعة، وقبل يوم القيامة. 
  • الآخرة حياةٌ تُشبه الحياة الدنيا، ولكنّها طويلةٌ جدًا، وتسبقها استطاعة الإنسان إحياء الموتى، والقضاء على الأمراض، بل وحتى تجديد الخلايا، ليصبح الإنسان في شبابٍ دائمٍ. 
  • هناك عقابٌ متفاوتٌ في الآخرة، وهو نتيجةٌ لأفعال الدنيا.
  • كذلك هناك نمطٌ من البشر لن يكون له وجوٌد في الآخرة. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة