الفصل السابع - إسرائيل

 

 



 إسرائيل


 

عندما نواجه الناس بتحليل اللفظ القرآني يوجّهونك إلى التاريخ، والتاريخ في مجمله رؤية شخصٍ لأحداثٍ حدثت في الماضي. لا سيما عندما تكون هذه الأحداث قد مرّ عليها آلاف السنين، ونحن نعلم أنّ أقدم مؤرّخٍ وهو هيرودوت قد وُلد تقريبيًا 485 قبل الميلاد. وقد خضعت أحداث ما قبل الميلاد عامةً إلى النقل الشفهيّ بين الناس، وأغلبها يعتمد على نصوصٍ دينيةٍ لا يستطيع أحدٌ على وجه الدّقّة تحديد تاريخها. تقول الروايات الدينية أنّ عمر الأرض كلّها هو 6 آلاف سنةٍ، وبعض المصادر الأخرى تقول إنّ آدم ظهر على الأرض منذ ما يقارب 10 آلاف سنة، لكنّنا نرى أنّ القرآن أشار إلى أحداثٍ موغلةٍ في القدم، لا تتوافق مع هذه الروايات. 

حادثة الدفن الشهيرة التي جاءت قصّتها في القرآن تشير إلى أول عملية دفنٍ تعلّمها الإنسان، والتي من خلالها يمكننا فهم تاريخ وجود الإنسان تقريبيًّا. لقد عثر الباحثون على دليلٍ يؤرّخ لأقدم عملية دفنٍ بشريٍّ في قارة أفريقيا داخل كهفٍ في كينيا، يعود تاريخها إلى قرابة 78 ألف عامٍ. بالنظر إلى اللفظ القرآنيّ، وإلى ذلك الدليل، فيمكننا بسهولةٍ استنتاج أنّ آدم كان على الأرض قبل ذلك بكثير. ولا أستبعد أن يكون عصر آدم قبل 150 إلى 200 ألف عامٍ، وربما تساعدنا حفريّاتٌ أخرى على معرفة  تاريخ بدء عصر الإنسان الناطق بصورةٍ دقيقةٍ. 

بناءً على ذلك ينبغي الحذر الشديد في التعاطي مع التاريخ الذي يقول إنّ نبي الله إبراهيم ظهر منذ 5 آلاف عامٍ، وأنّ موسى كان قبل 3 آلاف عامٍ، فكلّ هذه التقديرات تقديراتٌ قائمةٌ بالأساس على ما تناقلته الأجيال شفاهيةً، أو من خلال نصوصٍ دينيةٍ لم تعطِ تاريخًا محددًّا لأيّ حقبةٍ من هذه الحقب. 

 

لا أستبعد أن يكون زمن نبي الله إبراهيم قبل أكثر من 50 ألف عامٍ، وموسى قبل عشرات الآلاف من السّنين، لا سيما أنه لا يوجد أيّ تدوينٍ يشير إلى هؤلاء الأنبياء، سوى في النصوص الدينية، والتي يفسّرها الناس بحسَب رؤيتهم الشخصية. لا أستطيع إثبات تاريخ محددٍ أو نفيه لوجود هؤلاء الأنبياء، وكذلك لديّ شكٌّ كبيرٌ فيما يتداوله المؤرّخون، اعتمادًا على مصادر قديمةٍ لم تشهد أيّ عصرٍ من عصور هؤلاء الأنبياء. 

التداخل واردٌ، والتحريف سمة البشرية، والمبالغة قانونٌ في نفوس البشر، ونحن نرى بأعيننا كيف تُزوّر الأحداث التي نعيشها بفجاجةٍ، فكيف لقرونٍ غابرةٍ لم يشاهدها حتى أقدم شخصٍ كتب عنها. 

نبيّ الله موسى الذي يزعم المؤرّخون أنه كان هنا منذ 5 آلاف سنةٍ لا نرى له أثرًا ولا اسمًا مدونًا على أيّ جداريةٍ، أو في أيّ حضارةٍ، رغم أنّ فترته كانت في مصر، حيث الحضارة كما يزعم التاريخ. 

 

لا يوجد دليلٌ واحدٌ ولا برديّةٌ تخبر عن نبي الله موسى، وكلّ ما جاء عنه هو من نسج خيال المفسرين فقط، الذين تناولوا النص الدينيّ بالتأويل والتفسير. 

العجيب أيضًا أنّ شخص المسيح كذلك عليه علامات استفهامٍ، والمصادر التاريخية لم تُشرْ إلى أنّ أحدًا من المعاصرين قد كتب عنه شيئًا، أو أنه كان معروفًا. نحن لا نُنكر وجود المسيح، ولكنّنا نعطي مثالًا على ضعف التدوين في تلك الأزمنة، وصعوبة عدّ هذا التدوين مرجعًا حقيقيًا. كذلك هناك اختلافٌ كبيرٌ بين المفسرين على سنة ميلاد نبي الله محمد، وعلاقتها بعام الفيل، والقصة التي لا وُجود لها، كما جاء ذلك في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب. وها هي رحلة الإسراء، استطعنا من خلال اللفظ القرآني إدراك أبعادها، وأنها متعلقةٌ بنبيّ الله إسرائيل، وليس لها علاقة بنبيّ الله محمد. 

 

كلّ ما نرغب في قوله هنا أنّ الانطلاق من وقائع تاريخيةٍ، وجعلها دليلًا لردّ نتيجة تحليل اللفظ القرآني ليست طريقةً علميةً، ولا منطقيةً. ومن يرغب في ردّ نتيجة اللفظ القرآني فليقمْ باستخراج الأدلة من هذا النص نفسه، وليدحض النتيجة المقابلة. 

 

هناك إجماعٌ في المصادر التاريخية على أنّ إسرائيل هو يعقوب، فهل يؤيّد القرآن ذلك؟ 

ليس لدينا في القرآن أيّ إشارةٍ تدلّ على أنّ يعقوب هو إسرائيل، وكلّ ما كُتب في هذا الأمر إنّما نُسخ من روايات العهد القديم. ولكي نستطيع التعرّف على إسرائيل علينا أن نضع احتمالين رئيسَين:

الاحتمال الأول أنّ (إسرائيل) هو شخصيةٌ مستقلةٌ بذاتها، وهي الشخصية المتعلّقة بحادثة الإسراء المذكورة في سورة الإسراء، فهو المؤسّس الأول للهجرة بدافع الهروب من الاضطهاد أو الظلم. وهو أول لاجئٍ بمفهومنا المعاصر، فقد غادر وطنه إلى وطنٍ آخر، وتبعه في ذلك الناس من بعده؛ فأصبح من يتبع نهجه هم (بنو إسرائيل). هذا الاحتمال احتمالٌ ضعيفٌ؛ بسبب الإشارات الكثيرة التي تشير إلى أنّ (إسرائيل) إحدى الشخصيات المعروفة في القرآن، ولكنّه سُمّي إسرائيل بسبب رحلة الإسراء. 

إذن الاحتمال الثاني هو أنّ (إسرائيل) أحد الأنبياء المذكورين في القرآن، ولكي نصل إلى هذا النبيّ يجب أن نضع الافتراضات، وأوّل افتراضٍ أنّه يعقوب صلوات ربي عليه. 

لن نتطرّق للأدلة التي تنفي أن يكون يعقوب هو إسرائيل، ولكن سوف ندخل مباشرةً إلى جوهر الفصل، وهو مَن يكون إسرائيل إن لم يكن يعقوب؟

 

لم يرد في القرآن أنّ يعقوب قام بأيّ رحلةٍ مؤثّرةٍ، وليس هناك أيّ أحداثٍ تُخبرنا عن أمورٍ غير عاديةٍ في حياته، سوى قصة يوسف صلوات ربي عليه. وخارج قصة يوسف لا وجود لأحداث شارك فيها نبيُّ الله يعقوب يمكن أن نستنبط منها أنه سار وسافر وتبعه قومه، وأصبح بالنسبة إليهم رائدًا في ما فعل. 

 

لقد ورد ذكر (يعقوب) في القرآن ست عشرة مرةً، جُلّها تُخبر أنّه من نسل نبيّ الله إبراهيم، وأنّه كان من الأنبياء. وعلى الجانب الآخر هناك نبيٌّ كانت حياته محطاتٍ فارقةً في تاريخ البشرية، وهناك إشاراتٌ مباشرةٌ على رحلاتٍ فعلها، حتى أنّه قاد الناس في رحلاتٍ مشابهةٍ، وهو نبي الله موسى صلوات ربي عليه. 

دعونا نلخّص الفرق بين يعقوب وموسى، من خلال عملية الإسراء، ولفظ (إسرائيل)، في عدّة نقاطٍ؛ حتى تتضح الصورة: 

 

أولًا: لفظ (إسرائيل) نفسه يعني -كما ذكرنا- صاحب الإسراء، أو المنتسب إلى الإسراء، وسنجد أنّ نبيّ الله يعقوب لم يكن من صفاته الارتحال أو التّنقّل، بحسَب الوصف القرآنيّ. أمّا نبي الله موسى فكان الارتحال صفةً رئيسةً من صفاته؛ لأنّه ارتحل تجاه مدين عندما قتل واحدًا من قوم فرعون، وكانت هذه الرحلة خوفًا من فرعون وقومه. ثم عاد بأهله إلى موطنه مرةً أخرى بعد مدةٍ من الزمن.

ثانيًا: ارتحل بحثًا عن العلم، عندما التقى العبد الصالح، وقصّتُه مشهورةٌ معه.

ثالثًا: ترك قومه وجاء إلى ميقات ربّه، حيث كلّمه ربّه، وقد تناولنا مفهوم (الكلام) وماذا يعني في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب.

رابعًا: سار بقومه؛ خوفًا من فرعون، وهربًا من بطشه. 

هذه الرحلات المتعددة والتنقلات المختلفة تدفعنا بقوّةٍ للاعتقاد أنّ المقصود بإسرائيل هو نبي الله موسى. كذلك فإنّ تتبّع لفظ (إسرائيل) في كتاب الله، ومتى ظهر تحديدًا، وكيف جاءت التعبيرات القرآنية في هذا الصدد، سوف يمنحنا خطوةً إضافيةً تؤكّد أنّ إسرائيل هو نبيّ الله موسى.

 

ورد لفظ (إسرائيل) في كتاب الله في 43 موضعًا، داخل 41 آيةً. سوف نضع الآيات التي تشبه بعضها في صورة مشاهد قرآنيةٍ، ومن ثمّ نستطيع تتبّع اللفظ بدقّةٍ أكبر.

المشاهد القرآنية التي ورد فيها لفظ (إسرائيل)

المشهد الأول: بداية ظهور لفظ (إسرائيل) 

لقد ظهر لفظ (إسرائيل) أول ما ظهر عند عودة نبي الله موسى من رحلته إلى مدين، وهذا من الأسباب الهامة للقول إنه هو المقصود بـ (إسرائيل). 

رحلة نبيّ الله موسى إلى مدين هي الرّحلة المؤسّسة لكلّ ما سوف يأتي بعدها، فقد خرج فارًّا من القوم خوفًا من أن يُقتل. وهذه الرحلة تستحقّ بجدارةٍ لقب (الإسراء). دعونا نقرّب المفاهيم، هذه الرحلة هي أول رحلة لجوءٍ بمفهومنا النبي هو أوّل لاجئٍ المعاصر، فموسى حرفيًا، فقد خرج خائفًا يترقّب. وعندما عاد من رحلته كان مُقرّرًا أن يخرج بالمؤمنين، والذين سوف يتبعون نهجه في الخروج.

 

هؤلاء القوم أيضًا هم أوّل لاجئين عرفهم التاريخ، كما سوف نرى. حقيقةً يمكننا بكل ثقةٍ أن ندعوَ سورة الإسراء نظرية المعرفة الخاصة باللجوء، ولذلك تدور أحداثها حول العبد الذي يُعدّ أول لاجئٍ، وشرعت تشرح المبادئ الأخلاقية للاجئين، وما عليهم، كما سوف نرى في الفصل القادم، بعد أن ننتهي من تتبع لفظ (إسرائيل) في هذا الفصل. 

 

لماذا ذكرت آية الإسراء لفظ (العبد) بدلًا من قولها (إسرائيل) صراحةً أو( موسى)؟ 

القرآن كما عوّدنا دقيقٌ لأبعد حدٍّ في توصيف المسميات، ولو نظرنا إلى اسم (موسى) ذاته الذي يدلّ على القوة والحدّة فلن نجد هذا المسمى ينطبق على حالة نبي الله موسى عندما خرج خائفًا يترقّب، وضعيفٌ يخشى أن يفتك القوم به أيضًا. كذلك لم يكن موسى عليه السلام قد حمل لقب (إسرائيل)؛ فهو لم يخرج بعد، ولم يصبح إسرائيل إلا بعد إسرائه وخروجه ووصوله إلى الأرض الجديدة. من هنا كان لفظ (العبد) هو اللفظ المناسب الذي يشرح المشهد بكلّ بلاغةٍ وإعجازٍ لا مثيل له. 

عندما ذكر الله سبحانه وتعالى ميلاد موسى، وكيف أنّ أمّه ألقته في اليمّ، ثمّ التقطه فرعون وربّاه في بيته، ثم الحادثة التي قتل فيها موسى رجلًا، لن نجد ذكر بني إسرائيل قد حضر. هذه المشاهد ذُكرت بالتفصيل في سورة القصص، وتحديدًا من خلال الآيات العشرين الأولى.

 

في البداية، يقصّ القرآن نبأ موسى وفرعون، ثم يذكر أنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا، ولم يذكر أنّه جعل بني إسرائيل شيعًا، أو استضعف بني إسرائيل؛ إذ بحسَب فرضيّتنا لم يكن في هذا الوقت ما يُسمّى إسرائيل أو بني إسرائيل. 

(نَتۡلُواْ عَلَيۡكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرۡعَوۡنَ بِٱلۡحَقِّ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ (3) إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ (4))(سورة القصص: آيات 3-4). 

هذا الوقت كما نرى هو وقت ميلاد موسى، ولم يرد أيّ ذكرٍ لبني إسرائيل في هذا التوقيت. بعد ذلك شبّ موسى فتىً، وتحدث الحادثة الشهيرة، والتي وصفها القرآن بأنّ رجلًا من شيعته استغاثه؛ أيْ شيعة نبي الله موسى، ولم يقل رجلًا من بني إسرائيل، وهذا التعبير له دلالةٌ عظيمةٌ؛ إذ بحسب فرضياتنا لم يكن إسرائيل قد حصل على اللقب، وبالتالي لم يكن هناك وجودٌ لما يُسمّى (بني إسرائيل). 

(وَدَخَلَ ٱلۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَٱسۡتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ)(سورة القصص: آية 15).

تسير السورة على هذا النسق، ولا نجد أيّ ذكرٍ لبني إسرائيل، رغم أنّ قوم موسى وشيعته قد ورد ذكرهم، ولكن دون الإشارة لبني إسرائيل. بعد برهةٍ تأتي الأخبار بما لا يسُرّ، فالقوم يخطّطون لقتل موسى، فيخرج خائفًا مترقّبًا. 

(وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلۡمَلَأَ يَأۡتَمِرُونَ بِكَ لِيَقۡتُلُوكَ فَٱخۡرُجۡ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنۡهَا خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (21))(سورة القصص: آيات 21،22). 

ظهر تعبير (بني إسرائيل) بعد عودة موسى من رحلته هذه، التي خرج فيها خائفًا يترقّب كما رصدنا، من خلال أربع آياتٍ ذكر فيها لفظ (إسرائيل). العجيب أنّ الآيات التي أشارت إلى بداية ظهور لفظ (بني إسرائيل) جميعها جاء معها لفظ (أرسل معي) أو (نرسل معك). وهي الآتي:

(حَقِیقٌ عَلَىٰۤ أَن لَّاۤ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِیَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ) (سورة الأعراف: آية 105).

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَیۡهِمُ ٱلرِّجۡزُ قَالُوا۟ یَـٰمُوسَى ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَۖ لَىِٕن كَشَفۡتَ عَنَّا ٱلرِّجۡزَ لَنُؤۡمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرۡسِلَنَّ مَعَكَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ) (سورة الأعراف: آية 134). 

(فَأۡتِیَاهُ فَقُولَاۤ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَلَا تُعَذِّبۡهُمۡۖ قَدۡ جِئۡنَـٰكَ بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكَۖ وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰۤ) (سورة طه: آية 47). 

(أَنۡ أَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ)(سورة الشعراء آية 17). 

ماذا يعني لفظ (أرسل) الذي استخدمه موسى وهارون، وكذلك فرعون في التعبير القرآني (أرسل معنا بني إسرائيل)؟ 

لفظ (أرسل معنا) يعني أطلقهم أو اسمح لهم بالخروج معنا؛ لأنّ الخروج كان مقرّرًا منذ البداية، ولكنّ فرعون منع القوم المؤمنين بموسى، أو الذين يرغبون أن يسيروا على نهجه من أن يخرجوا. ويجب أن نضع مئة خطٍ تحت (القوم المؤمنين).

من خلال المشاهد القرآنية المتعدّدة التي ذكرت قصة نبي الله موسى، نستطيع إدراك أنّ موسى بدأ دعوته بعد عودته من مدين، ثم توجّه إلى فرعون، وحدث ما حدث من تكذيب فرعون له وتوعدّه إياه. وكان موسى قد عقد العزم على الخروج بالمستضعفين، وهم ليسوا أبناءه؛ بل هو بمنزلة الأب الروحيّ لهم، وتحديدًا في عملية الإسراء أو الخروج. 

كلّ من وافق على الخروج مع نبيّ الله موسى أصبح بالتبعية داخلًا تحت مظلّة بني إسرائيل. حتى نبسّط الأمر، دعونا نتخيل أنّ رجلًا سافر في رحلةٍ استكشافيةٍ، فوجد أرضًا جديدةً كلّها خيراتٌ، فعاد وأخبر الناس بذلك، وطلب منهم الخروج معه. في هذه الحالة يمكن أن نُسمي هذا الشخص (المهاجر) أو (المستكشف)، وعندما يوافقه بعض الناس على الخروج معه، فَهُم بطبيعة الحال اتخذوه مرشدًا لهم ودليلًا؛ ولذلك يمكننا أن ندعوه الأب الروحيّ لهؤلاء القوم، ومن ثمّ يصحّ أن نُطلق على التابعين (أبناء المُهاجر) أو (بني المستكشف)؛ لأنّهم وافقوا على أن يكونوا تحت إشرافه، وأن يتبعوا منهجه.

لأنّ لفظ (إسرائيل) مشتقٌ من الإسراء، فإنّ (بني إسرائيل) لا بدّ -تبعًا للفظ- أن يكونوا من الذين وافقوا على الإسراء أو الخروج، كما خرج إسرائيل الأول. بمجرد موافقة القوم على الخروج أو اتباعهم نهج إسرائيل أصبحوا بالتبعية بني إسرائيل، حتى وإن لم يخرجوا بعد. هذا المثال لتبسيط المفهوم بصورةٍ يسهل استيعابها؛ لنستطيع فهم سبب وصف القوم قبل الخروج بصفة (بني إسرائيل).

سوف نلاحظ دقّة التعبير القرآني، مثال ذلك عندما ذكر قارون، فلم يقل القرآن: إن قارون كان من بني إسرائيل؛ لأنّ ذلك غير صحيح، ولا يستقيم المعنى؛ لأنّ قارون لم يتبع نهج موسى، ولم يوافق على الخروج معهم؛ لذلك لا ينطبق عليه وصف بني إسرائيل، رغم أنّه من قوم موسى بنصّ القرآن.

(إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ)(سورة القصص: آية 76).

ومرةً أخرى، تخبرنا الآية 79 أنّ قارون خرج على قومه في زينته، ولم تخبرنا أنّه خرج على بني إسرائيل (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِی زِینَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِینَ یُرِیدُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا یَـٰلَیۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ قَـٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِیمࣲ)(سورة القصص: آية 79).

لا يمكن أن تأتي هذه التعبيرات الدقيقة هكذا ولا تخبر بشيء، ولكنّ التساهل في فهم التعبيرات القرآنية لم يؤهّل المفسّر القديم إلى إدراك هذه الفروقات التي تعني كثيرًا وكثيرًا. 

 

المشهد الثاني: الخروج 

 

هذا المشهد يتضمّن مجموعةً من الآيات التي أشارت لخروج بني إسرائيل، وهو الخروج الذي رفضه فرعون، وتصدّى له بكلّ قوةٍ. هذه الآيات تُشير إلى الخارجين مع موسى، وهم بنو إسرائيل، أو المضطهَدون أو المطارَدون أو اللاجئون كما قلنا. 

(وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡا۟ عَلَىٰ قَوۡمࣲ یَعۡكُفُونَ عَلَىٰۤ أَصۡنَامࣲ لَّهُمۡۚ قَالُوا۟ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ)(سورة الأعراف: آية 138). 

(وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡیࣰا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱلَّذِیۤ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوۤا۟ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ)(سورة يونس: آية 90). 

الآية التالية تُسدل الستار على حقبة فرعون، وتخبرنا أنّ عصر بني إسرائيل بدأ للتوّ، فقد أصبحوا متحرّرين بالكامل، وزال التهديد الذي كانوا يلاقونه، وهو فرعون وجنوده. 

(وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ یُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ بِمَا صَبَرُوا۟ۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ یَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُوا۟ یَعۡرِشُونَ)(سورة الأعراف: آية 137)

يجدر بنا الإشارة إلى هذه الآية، التي تأخذنا إلى منحىً مختلفٍ تمامًا عمّا دوّنه التاريخ عن الفراعنة، إذ تُخبرنا الآية أنّ فرعون موسى كان فرعونًا واحدًا، وزال ملكه مع حادثة الخروج، وأنّ عهد بني إسرائيل بدأ.

 

وإذا كانت المصادر التاريخية تُعدّد الفراعنة وتذكر الأُسر الفرعونيّة، فهذا أمرٌ آخر، سوف نتناوله بالتفصيل في كتابٍ قادمٍ إن شاء الله. لكنْ ما نودّ قوله الآن: إنّ من يُسمّون فراعنةً ليس لهم وجودٌ حقيقيٌ، ولكن يحسن بنا القول: إنّ الحضارة التي نراها بأعيننا الآن، هي حضارة القدماء المصريين، وليس الفراعنة، والذين كانوا أحفاد الخارجين مع موسى أو كانوا منهم. انتهى فرعون بحادثة الخروج، وبدأ عصر (بني إسرائيل)، أو عصر المستضعفين في الأرض، أو اللاجئين، الذين خرجوا خوفًا ورعبًا من الاضطهاد.

 

الجدير بالذكر أنّ لفظ (فرعون) لم يرد في البرديّات أو النقوش المحفورة على جدران المعابد في مصر؛ وإنما وَجدَ باحثو المصريات أنّ للملوك المصريين القدماء خمسة ألقابٍ تصفهم، من ضمنها (برعا)، فقالوا إنّ برعا تعني فرعون، هذا كلّ ما في الأمر.

عندما تتبّعنا قصة نبي الله يوسف، وجدنا كيف جاء لقب الملك معه بدل فرعون، وقلنا إنّ ذلك كان في بداية تكوين الدولة، وتكوين النظام السياسي، الذي بدأ بالمَلك الذي يملك فعليًا. يبدو جليًا من هذه الآية تحديدًا أنّ فرعون موسى كان حالةً شاذةً وانتهت، وليس سلسلةً كما تدّعي كتب التاريخ المتأثرة كثيرًا بتفسيرات رجال الدين وتأويلاتهم. لا أدري على أيّ أساسٍ جعل المؤرخون التاريخَ يفيض بالفراعنة، وها هو القرآن لم يذكر إلا واحدًا فقط، وبغرقه وغرق جنوده يُعلن القرآن الأرض ملكًا موروثًا للمستضعفين. 

 

المشهد الثالث: تذكيرهم بفضل الله عليهم 

 

هذا المشهد القرآنيّ يُخبرنا بالنعمة التي اختص الله بها بني إسرائيل، وكيف أنّه نجّاهم من الطّغيان والظلم، وحقّق لهم الوعد بالطيّبات من الرزق.

مخطئٌ مَن يظنّ أنّ بني إسرائيل هم ذرية شخصٍ؛ لأنّه بذلك يُحوّل القرآن إلى كتابٍ قبليٍّ وعنصريٍّ؛ إذ يمنح الأفضلية للنّسب فقط، وحاشا لله أن يكون كذلك.

النعمة التي اختص الله بها بني إسرائيل هي نعمة استحقاقٍ؛ لأنهم خرجوا وتحمّلوا تبعات الخروج، فكان وعدًا من الله أن يرزقهم من الطيّبات، وأن يفضّلهم على العالمين. لا شكّ أنّ من يخرج رفضًا الظلم والاضطهاد ولا يدرى مصيره، فهو مجاهدٌ من الطراز الأول، فاستحقّ التفضيل، وهذا التفضيل لا ينسحب إلّا على مَن تحقّق فيه الشرط، وهو انتهاج نهج إسرائيل؛ أي الذين فرّوا رافضين الاضطهاد والظلم. 

نجد هذا المعنى القرآني واضحًا تمامًا عندما رغّب الله الناس بالهجرة عند وقوع الظلم، ووعدهم بالفضل الكبير والرزق الوفير، على شرط الصلاح لا شك.

(وَمَن یُهَاجِرۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یَجِدۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُرَ ٰغَمࣰا كَثِیرࣰا وَسَعَةࣰۚ وَمَن یَخۡرُجۡ مِنۢ بَیۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ یُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا)(سورة النساء آية 100). 

 سوف نأتي في نهاية الفصل على الفرق بين الهجرة وحالة إسرائيل؛ لنتبيّن الفرق، ونرى دقّة التعبير القرآني. 

الآيات التي ذكّرت بني إسرائيل بالنعمة هي الآيات التالية: 

الآية الأولى: (یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَوۡفُوا۟ بِعَهۡدِیۤ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِیَّـٰیَ فَٱرۡهَبُونِ)(سورة البقرة: آية 40). 

هذه الآية توجيهٌ عامٌّ لكلّ المهاجرين أو اللاجئين بأن يكونوا على العهد، فليس من المعروف أو الوفاء بالعهد أن يخونوا إذا أنعم الله عليهم بوطنٍ جديدٍ، فهذا غاية اللؤم والخبث. فمن يخرج فرارًا من الاضطهاد والظلم يصبح إذا مارس الظلم قد ارتكب إثمًا كبيرًا. التشديد على بني إسرائيل أن يتقّوا، وتخويفهم من الانحراف، ليس لأنّ طبع جنس بني إسرائيل الخيانة كما نعتقد، وإنّما حالة بني إسرائيل هي المقصودة. يجب أن يكون اللاجئ أكثر الناس هربًا من الظلم، وبُعدًا عن مظاهر الاضطهاد، وأكثرهم رغبةً في عيش حياةٍ هادئةٍ مطمئنّةٍ. 

الآية الثانية: (یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَنِّی فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ)(سورة البقرة: آية 47).

هذه الآية تُستخدَم بعنصريّةٍ لا مثيل لها، والحقيقة أنّ التفسير التقليديّ هو الذي جعلها تفيض بالعنصرية. لماذا فضّل الله بني إسرائيل على العالمين؟ فأيّ جنسٍ بشريٍّ فيه البرّ والفاجر، فلماذا يُفضّل الله هذا الجنس؟

كما ذكرنا، التفضيل هنا ليس له علاقةٌ بالجنس إطلاقًا، وإنما تفضيل حالةٍ، وهي حالة اللاجئين الفارّين من الاضطهاد، الذين لن يقدروا على دفع الظلم عنهم، أو أنه كان أكبر من قدراتهم. تفضيل بني إسرائيل ليس لأنّهم هربوا من المواجهة، بل فرّوا بدينهم من حالة ظلمٍ لا يقدرون على مواجهتها، أمّا الذي يفرّ من الظلم وهو قادرٌ على المواجهة، فهو ليس مخاطبًا في هذه الآية. بنو إسرائيل كانوا في حالة الضعف التي لا تقدر على المواجهة، والمواجهة فيها هلاكهم، ففرّوا بحثًا عن ملاذٍ آمنٍ. 

مخاطرة هؤلاء الناس، وبحثهم عن وطنٍ جديدٍ، وما سوف يلاقونه من صعوباتٍ، هو ما جعلهم في مرتبة الأفضلية، وليس جنسهم كما ذكرنا. وهذا التفضيل لا ينسحب على الجيل المستقرّ، بل هو للجيل صاحب المخاطرة، وصاحب القرار؛ لأنه هو الجيل الذي يستحق ذلك. 

السؤال هنا: لماذا التفضيل لا ينسحب على الأجيال التالية المستقرة؟

الإجابة: لأنّ ألفاظ القرآن حقيقيةٌ، وتصف حالةً محدّدةً لها خصائص وصفات، فلا بدّ للمسمّى أن يُطابق الاسم من حيث الصفات والخصائص. معنى ذلك أنّه إذا انطبق على أيّ جيلٍ أنّه من اللاجئين فهو ضمن هذه المنظومة، وإذا لم تنطبق هذه الصفة على جيلٍ فلا يدخل ضمن بني إسرائيل، وهذه بدهيّةٌ في ألفاظ القرآن. الجيل التالي لا يكون من اللاجئين، بل من المستقرّين في الوطن الجديد، لا سيما مَن وُلدوا فيه، فلا ينطبق عليهم مسمّى (بني إسرائيل). 

الآية الثالثة: (وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَانࣰا وَذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَقُولُوا۟ لِلنَّاسِ حُسۡنࣰا وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّیۡتُمۡ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ)(سورة البقرة: آية 83). 

دعونا نتساءل: لماذا أخذ الله ميثاق بني إسرائيل أن يقوموا بهذه الأفعال الطيبة؟ ولماذا لم يوجّه الحديث إلى بني آدم؟

بالتأكيد، كلّ بني آدم مطالبون بفعل الخيرات، ولكنّ وضع بني إسرائيل وضعٌ خاصٌّ بالفعل. فهم في وضع حرجٍ؛ بسبب خروجهم من وطنهم واستقبالهم في وطنٍ جديدٍ. بنو آدم على العموم مستقرّون، أمّا الفئة التي تهاجر وتفرّ هم الفئة الأفضل؛ لأنها تبحث عن أرضٍ جديدةٍ، وكأنّ الأرض ليس فيها إلا هؤلاء الباحثون عن الحرية، الرافضون للظلم، وما سواهم غثاءٌ لا قيمة لهم، لأنّ الباقين بطبيعة الحال إما ظالمون أو راضون بالظلم. حتى الخارجون بحثًا عن حياةٍ أفضل هربًا من الفقر أفضل من المستقرين، الذين لا يرغبون في الحركة، ورضوا بضنك العيش. 

الآية الكريمة فيها توجيهٌ عامٌ لبني إسرائيل في كلّ زمانٍ أن استبقوا الخيرات؛ لأنّ استباق الخيرات فيه فائدةٌ في الدنيا قبل الآخرة؛ بسبب حساسية موقفهم الذي يستدعي أن يكونوا سابقين بالخيرات، وإثبات حسن النية. 

تعدّدت الآيات التي تحمل المعنى نفسه في القرآن، وهي تذكّرهم بفضل الله، وتدعوهم لفعل الخيرات، وتحذّرهم من الفساد، وهذا -فقط- بسبب حالتهم الخاصة. 

(یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَنِّی فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ)(سورة البقرة: آية 122).

(سَلۡ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ كَمۡ ءَاتَیۡنَـٰهُم مِّنۡ ءَایَةِۭ بَیِّنَةࣲۗ وَمَن یُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ)(سورة البقرة: آية 211). 

(وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ مُبَوَّأَ صِدۡقࣲ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ حَتَّىٰ جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ یَقۡضِی بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فِیمَا كَانُوا۟ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ)(سورة يونس: آية 93).

(وَلَقَدۡ نَجَّیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ مِنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِینِ)(سورة الدخان: آية 30).

 

المشهد الرابع: إسرائيل ما بعد موسى 

 

جاءت كثيرٌ من الآيات تتحدث عن بني إسرائيل بعد نبي الله موسى، فهل هؤلاء من ذرية أتباع نبي الله موسى، أم أنّ الأمر اختلف؟ 

إذا كان نبي الله موسى هو إسرائيل، وهو المؤسّس الأوّل لحالة الفرار خوفًا من الاضطهاد أو القتل، ومن بعده أتباعه، فأصبح الأب الروحيّ لهم، فإنّ هذه الحالة، وهي حالة اللجوء عند الاضطهاد، قد عرفتها البشرية، وأصبحت على جدول الإنسانيّة. وكلّما فرّ قومٌ واستوطنوا مكانًا جديدًا هم في الحقيقة بنو إسرائيل، أو السائرون على نهج إسرائيل الأول، وبذلك لا يكون بنو إسرائيل هم نسل إسرائيل، كما يعتقد العالم بأسره اليوم.

لنرَ كيف تناولت الآيات بني إسرائيل بعد موسى

الآية الأولى: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ مِنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰۤ إِذۡ قَالُوا۟ لِنَبِیࣲّ لَّهُمُ ٱبۡعَثۡ لَنَا مَلِكࣰا نُّقَـٰتِلۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ قَالَ هَلۡ عَسَیۡتُمۡ إِن كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ أَلَّا تُقَـٰتِلُوا۟ۖ قَالُوا۟ وَمَا لَنَاۤ أَلَّا نُقَـٰتِلَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَقَدۡ أُخۡرِجۡنَا مِن دِیَـٰرِنَا وَأَبۡنَاۤىِٕنَاۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ تَوَلَّوۡا۟ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنۡهُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِینَ)(سورة البقرة: آية 246). 

حالة الاضطهاد و استضعاف الناس هي حالةٌ مستمرةٌ حتى يومنا هذا، ولا شك أنّها كانت حالةً مسيطرةً في العالم القديم. هؤلاء الفارّون والرافضون للاضطهاد والباحثون عن أرضٍ أفضل، أعدادٌ كبيرةٌ، بل في أغلب الأحيان هم الأفضل من المستكينين للطغاة والظالمين، ومن هنا جاء التوجيه الربانيّ كثيفًا لهذه الحالة، في الحثّ على الطاعة والتنفير من المعصية. هذه الآية تنقلنا إلى قلب حالة بني إسرائيل، إذ إنّهم في حالة خروج. والآية تخبرنا أنّ بني إسرائيل المخاطبين هنا هم قومٌ من بعد موسى، وأشارت الآيات إلى أنّهم في حالة الخروج، وأنهم مطالبون بالقتال لتثبيت أنفسهم. 

 

لماذا طلب بنو إسرائيل أن يبعث الله لهم ملكًا يقاتلون تحت رايته؟

طبيعة اللاجئين هي التفرّق، والكلّ في الغالب سواسيةٌ في الخروج، ممّا يَصعُب معه تمييز أحدهم بالمُلك. اجتماع اللاجئين وتكوين قوّةٍ عسكريةٍ هو أمرٌ يكاد يكون مستحيلًا، إذا علمنا أنّ المُلك والدولة لها مقوّماتٌ يصعُب توافرها في بيئة الترحال هذه.

من هنا جاء طلب بني إسرائيل المباشر إلى الله أن يجعل لهم ملكًا يجتمعون تحت رايته يقاتلون معه. لا يمكن أنْ يكون هؤلاء القوم هم أنفسهم بنو إسرائيل الذين خرجوا مع موسى. 

الله يقول عن بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى، وبعد هلاك فرعون، أنّهم ورثوا مشارق الأرض ومغاربها. مُجرّد استقرار هؤلاء الفارّين واستيطانهم البلاد ولن يصبحوا بعد ذلك بني إسرائيل، ولكنْ إذا حدث بعد جيلٍ أو اثنين أو أكثر اضطهادٌ لمجموعةٍ ما وخرجت، تُصبح المجموعة الخارجة أو الفارّة –فقط- من بني إسرائيل، ولا ينطبق وصف (بني إسرائيل) على المستوطنين. 

 

قد يكون الفرار بسبب الاضطهاد والظلم، وقد يكون بسبب الاعتقاد، وهو الغالب في حالة بني إسرائيل، ولذلك سنجد حالة بني إسرائيل مرتبطةً في كثيرٍ من المواقف بالأنبياء، رغم أنها ليست الحالة الوحيدة. 

من خلال كتاب الله، نستطيع أن نؤكّد أنّ الأنبياء الذين يأتون بوحيٍ من الله مطاردون دائمًا من قبل المجتمعات؛ لأنهم يأتون بما يخالف المعتقدات السائدة، ويهدم كثيرًا من الثوابت الزائفة. 

 

عندما يجابه نبيٌّ من الأنبياء مجتمعًا مستقرًا بمعتقداتٍ معينةٍ، فإنّ ما يحدث -بكلّ بساطةٍ- هو اضطهاد هذا النبي والمؤمنين معه، ممّا يؤدّي في النهاية إلى فرارهم من الاضطهاد.

هذه هي الحالة العامة التي ينتج عنها بنو إسرائيل، بحسب قراءتنا لكتاب الله. لذلك نجد ذكر بني إسرائيل ملاصقًا دائمًا لذكر الأنبياء؛ لأنّ هذا هو الوضع الطبيعيّ، فمن لم يخرج ويتبع الأنبياء هم في حقيقة الأمر ليسوا بني إسرائيل.

 

هذا ما يفسّر غزارة ذكر الأنبياء مع بني إسرائيل؛ فهذا ليس وضعًا خاصًا لجنسٍ، وإنّما هو وضعٌ طبيعيٌّ مصاحبٌ لكلّ المعتقدات الجديدة التي تتعارض مع معتقدات الأغلبية السائدة. التحقّق من هذا الأمر بعيدًا عن الروايات والتصوّرات الذهنية لبعض الأفراد ليس بالشيء المستحيل. كلّ ما هو مطلوبٌ هو بحثٌ دقيقٌ عن مسألة الجينات للتحقّق من أنّ بني إسرائيل ليسوا جنسًا، وإنما حالةٌ تتحقّق دائمًا مع بزوغ فجر كلّ دعوةٍ جديدةٍ، تُعارض السائد والمستقرّ في المجتمعات؛ لذا فإنّ أتباع هذه الدعوة هم أفضل العالمين بلا منازعٍ، ومعارضيها هم أشقى الناس.

 

الآية الثانية: (وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَیۡ عَشَرَ نَقِیبࣰاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّی مَعَكُمۡۖ لَىِٕنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَیۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِی وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَاۤءَ ٱلسَّبِیلِ)(سورة المائدة: آية 12). 

في هذه الآية الكريمة نجد تأكيد القرآن على ميثاق بني إسرائيل، الذي يطلب منهم الالتزام، ومع ذلك فالتزامهم أمرٌ ليس سهلًا.

 لماذا يكون الالتزام في حالة بني إسرائيل صعبًا؟

تغلب العشوائية علي حالة الفارّين من الاضطهاد، وما إن يستقرّوا أو يشعروا بالاطمئنان بعض الشيء حتى ينفلتوا، لا سيما في حالة عدم وجود نظامٍ عامٍ. وجود نظامٍ عامٍ أو دولةٍ حاكمةٍ يمنع الناس من الانفلات، لكن في حالة الفارّين أو اللاجئين يختلف الأمر؛ لأنهم يسبّبون -عادةً- ارتباكًا للمجتمع الذي يقدُمون عليه؛ لذلك كان توجيه القرآن غزيرًا في دعوتهم للانضباط. 

نرى الفوضى اليوم تحكم حياة كثيرٍ من اللاجئين، في كثيرٍ من المواقع، رغم التقدّم المذهل، والعناية التي تُقدّمها المؤسّسات الدولية، مقارنةً بما حدث منذ آلاف السنين. حقيقةً، لا توجد مقارنةٌ من الأساس، إذا أدركنا أنّ هذه المجموعات الفارّة لا يوجد رابطٌ يربطها، ولا قوةٌ تنظّم وجودها، سوى الضمير الشخصيّ لكلّ فردٍ من أفرادها. 

هذه المجموعات تكون عنيفةً للغاية عندما تخرج من نير الاضطهاد، ثم يحاول أحدٌ تجميعهم على ما لا تهوى أنفسهم؛ لذلك عبّر القرآن عن هذه الحقيقة الواضحة، بأنهم كانوا يقتلون الأنبياء إذا جاؤوهم  بغير ما تهوى أنفسهم. 

(لَقَدۡ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهِمۡ رُسُلࣰاۖ كُلَّمَا جَاۤءَهُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰۤ أَنفُسُهُمۡ فَرِیقࣰا كَذَّبُوا۟ وَفَرِیقࣰا یَقۡتُلُونَ)(سورة المائدة: آية 70). 

هذه الآيات تدلّ بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّه لا وجود لدولةٍ أو قانونٍ يحكم هؤلاء، وهو ما نُسمّيه حياة اللاجئين. في سورة يوسف وجدنا أنّ يوسف تعلّل عندما لم يقبل أخذ أحدٍ مكان السارق؛ بأنّ هذا لا يجوز في دين الملك، بمعنى قانون الملك الذي سنّه.

سورة يوسف رغم أنها تسبق ظهور بني إسرائيل، إلا أنّها أعطتنا ملمحًا هامًا عن الدولة ونظامها، والذي يحكم إلى حدٍ ما تصرفات أفرادها.

الآيات التي تتحدّث عن بني إسرائيل وقتلهم واعتدائهم، تتحدّث عن مجتمعاتٍ غابت فيها السلطة تمامًا، وأصبح العامة هم المسيطرون. وهذا يؤكّد ما نفترض، من أنّ بني إسرائيل هم مجتمعات اللاجئين، بعيدًا عن الدولة في وقتها. وما إن تتكوّن الدولة ويعمّ الاستقرار حتى يتحوّل بنو إسرائيل إلى حالة مواطنين.

هنا تبرز إشكاليةٌ: إذ كيف يخرج هؤلاء الناس مع الأنبياء ثمّ يقتلون الأنبياء؟

في حالة خروج بني إسرائيل مع نبيٍّ من الأنبياء، فهم في هذه الحالة يتبعونه ويطيعونه، ولكن ما إن يُتوفّى هذا النبي أو يغيب حتى يصبح تمرّدهم قويًا، ولا يقبلون بآخر، وهذه حقيقة المجتمعات في كلّ الأزمنة. بعد زمن المؤسّس الأول تكثر الصراعات، ولا يقبل أحدٌ الانصياع بسهولةٍ. لقد رأينا هذا واضحًا عندما غاب موسى عن القوم، وكادوا يقتلون هارون؛ لأنّ المؤسّس هو موسى، وهارون بالنسبة إليهم ليس له سلطةٌ كسلطة موسى. 

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰۤ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَـٰنَ أَسِفࣰا قَالَ بِئۡسَمَا خَلَفۡتُمُونِی مِنۢ بَعۡدِیۤۖ أَعَجِلۡتُمۡ أَمۡرَ رَبِّكُمۡۖ وَأَلۡقَى ٱلۡأَلۡوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأۡسِ أَخِیهِ یَجُرُّهُۥۤ إِلَیۡهِۚ قَالَ ٱبۡنَ أُمَّ إِنَّ ٱلۡقَوۡمَ ٱسۡتَضۡعَفُونِی وَكَادُوا۟ یَقۡتُلُونَنِی فَلَا تُشۡمِتۡ بِیَ ٱلۡأَعۡدَاۤءَ وَلَا تَجۡعَلۡنِی مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ)(سورة الأعراف: آية 150). 

الآية الرابعة: (یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ قَدۡ أَنجَیۡنَـٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَ ٰعَدۡنَـٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَیۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ)(سورة طه: آية 80). هذه الآية الكريمة وإن كانت تشير إلى حالة بني إسرائيل الأولى في عهد نبي الله موسى، إلا أنّها توجيهٌ عامٌّ بتعاهد الخير، ووعد الله بالطيبات لمن التزم الحق منهم. 

الآية الخامسة: (وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ فَلَا تَكُن فِی مِرۡیَةࣲ مِّن لِّقَاۤىِٕهِۦۖ وَجَعَلۡنَـٰهُ هُدࣰى لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ)(سورة السجدة: آية 23). هذه الآية أيضًا تُخبرنا عن سياسة نبي الله موسى في بني إسرائيل الذين خرجوا معه، والآية التالية تخبرنا أنّ بني إسرائيل ورثوا الكتاب، وهذا هو الجانب المضيء في بني إسرائيل، وهو جانب المهتدين: (وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡهُدَىٰ وَأَوۡرَثۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡكِتَـٰبَ)(سورة غافر: آية 53). 

فئة بني إسرائيل لا يمكن أن تكون جميعها فاسدةً، أو جميعها صالحةً؛ وذلك بسبب طبيعة العوامل التي أدّت لخروجهم، لذلك نجد القرآن وجّه للفاسدين منهم تقريعًا عنيفًا، أمّا الصالحين فقد وعدهم الله بالمنّ والفضل. الآية التالية أيضًا تخبرنا بفضل الله عليهم، وهذا ليس تحيزًا؛ ولكنْ لأنّهم كانوا مهتدين، ولا شكّ أنّ أفضليّتهم على العالمين هي أفضلية استحقاقٍ، كما ذكرنا في بداية حديثنا عن بني إسرائيل. 

(وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ)(سورة الجاثية: آية 16). 

 

المشهد الخامس: بنو إسرائيل في زمن عيسى

 

لكي نفهم موقف نبي الله عيسى من بني إسرائيل، ومن هم بنو إسرائيل الذين أُرسل إليهم، سوف نحلل الآية التالية في سورة المائدة.

(إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِی عَلَیۡكَ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَتِكَ إِذۡ أَیَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِی ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلࣰاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ)(سورة المائدة: آية 110). 

 

هذه الآية الكريمة تحدّثت عن مرحلتين في حياة نبي الله عيسى: مرحلة الصبي، ومرحلة الرسالة. تبدو هاتان المرحلتان مختلفتان تمامًا عن بعضهما. ذكرت الآية القرآنية أنه في المرحلة الأولى كان يكلّم الناس، وليس بني إسرائيل، أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة بعثه رسولًا، فكان رسولًا لبني إسرائيل.

 

نستطيع استنتاج أنّ عيسى عليه السلام عندما كان صبيًّا كان في محل إقامةٍ؛ لذلك كان الناس في هذا المقام أناسًا عاديين، أمّا عندما بُعث رسولًا كان الوضع قد تغيّر، وخرج من أرضٍ إلى أرضٍ، وحالةٍ تشبه حالة بني إسرائيل، وهي حالة اللجوء.

تشير المصادر التاريخية أنّ السيدة مريم قد هربت بعيسى صلوات ربي عليه وهو طفلٌ، هربًا من الطغاة الذين يريدون قتله وهو صغير، وتوجّهت إلى مصر.

إلى هنا تبدو الأمور واضحةً، فالناس الذين تكلّم معهم عيسى الصبي لا ينطبق عليهم وصف بني إسرائيل، أمّا عندما أصبح شابًا يافعًا جاء بالرسالة، وبدأ بدعوة الناس. كانت هذه الدعوة بين الذين خرجوا، أو بين المضطّهدين الفارّين من الطغاة، وهم في هذه الحالة بنو إسرائيل. 

الآيات التي ورد فيها (بنو إسرائيل) مع عيسى تسير على الخطوات نفسها؛ فالقوم في الحالة نفسها التي بيّنّاها، وهي حالة بني إسرائيل أو حالة اللجوء. 

(وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ أَنِّی قَدۡ جِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّیۤ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)(سورة آل عمران: آية 49). 

(لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِیحُ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ أَنصَارࣲ)(سورة المائدة: آية 72).

نلاحظ أنّ مواقف عيسى مع بني إسرائيل مواقف بعيدةٌ عن الدولة، رغم تجذّر الدّول واستقرارها، وهذا يُخبرنا أنّ رسالة عيسى كانت بين المضطهدين فعلًا، أو في التجمعات البعيدة عن الدول وعن الحكومات وقتها.

لو أنّ دعوة عيسى في نطاق دولةٍ أو مجتمعٍ مستوطنٍ لكانت هناك إشارةٌ إلى هذا المجتمع المتقدّم، ولكنْ لأنّ الدعوة كانت بين المضطهدين أو الفارين، والذين يكونون مجتمعاتٍ بعيدةً عن سيطرة الدول غالبًا، كان الحديث والحوار دائمًا بين نبي الله عيسى وبني إسرائيل، ولم يحدث أبدًا تدخّلٌ من ملكٍ أو وزيرٍ في هذا الحوار، رغم استتباب أمر الدول وقت بعثة عيسى صلوات ربي عليه. لعل ذلك أيضًا يفسّر سبب عدم وجود مصادر تاريخيةٍ تَذكر خروج المسيح، على الرغم من أنّ الرومان كانوا على درجةٍ من التقدم وتطوّر التدوين في ذلك الوقت. 

في الآية التالية يخبرنا القرآن أنّ الذين كفروا لُعنوا على لسان داود وعيسى بما عصوا وكانوا يعتدون؛ وذلك لأنّ أشهر حالات بني إسرائيل بعد موسى، هي حالة بني إسرائيل مع داود عليه السلام، والذي قاتل بهم، لأنهم أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحالة نبي الله عيسى ودعوته داخل مجتمع مضطهدين أو فارين، أو قل لاجئين. 

(لعِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۚ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ)(سورة المائدة: آية 78).

لم يرد أيّ ذكرٍ لبني إسرائيل في عهد سليمان عليه السلام؛ لأنّ هذا العهد كان عهد استقرارٍ وانتصارٍ للحقّ، ولم يكن هناك اضطهادٌ، واختفت حالة بني إسرائيل. نعم، إنّ سليمان عليه السلام من نسل داود الذي خرج مع بني إسرائيل يُقاتل، وانطبق عليهم وصف بني إسرائيل وقتها، ولكن بمجرّد الاستقرار أصبح الجيل الثاني وما يليه من أصحاب الأرض، وليسوا لاجئين. 

هناك أنبياء آخرون تقول الروايات إنهم من بني إسرائيل على أساس النسل، ولكن لم يرد معهم أيّ ذكرٍ لبني إسرائيل، وسوف نأتي على ذكرهم بعد قليلٍ، عندما نتناول التعبير القرآني (ذرية إسرائيل). 

جميع الآيات التالية التي ذُكر فيها عيسى وبنو إسرائيل تُشير إلى حالةٍ قائمةٍ وبشدةٍ من الفرار والاضطهاد، والمصادر التاريخية تؤيّد ذلك وتوثّق بعضًا منه. 

(إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَیۡهِ وَجَعَلۡنَـٰهُ مَثَلࣰا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ)(سورة الزخرف: آية 59). 

(قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرۡتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ عَلَىٰ مِثۡلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ)(سورة الأحقاف: آية 10). 

(وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم مُّصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولࣲ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ)(سورة الصف: آية 6). 

(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوۤا۟ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ لِلۡحَوَارِیِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِۖ فَـَٔامَنَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَكَفَرَت طَّاۤىِٕفَةࣱۖ فَأَیَّدۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ ظَـٰهِرِین)(سورة الصف: آية 14) 

المشهد السادس: إشاراتٌ متفرّقةٌ 

جاء ذكر لفظ (إسرائيل) في مواضع أخرى من القرآن، وكلّها لا تخرج عن ما بيّنّاه في الآيات التي تقدّمت. لِنحاول –الآن- تسجيل بعض الملاحظات على هذه الآيات، ونضع حولها الخواطر.

الآية الأولى: (كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلࣰّا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَ ٰۤءِیلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ)(سورة آل عمران: آية 93). 

يقول التفسير عن هذه الآية: إنّها تخصّ نبي الله يعقوب، وأنّه كان قد حرّم لحوم الإبل لسببٍ ما، وهذه الرواية –بالتأكيد- قادمةٌ بكلّ تفاصيلها من روايات العهد القديم.

لا شكّ لديّ أنّ إسرائيل هو موسى، وأنّ الآية تتحدّث عن تحريمه لشيءٍ ما قبل أن تُنزّل التوراة، والآية نفسها تُخبرنا بحقيقةٍ لا جدال فيها، وهي أنّ البشر مهما علتْ مكانتهم، سواءٌ كانوا أنبياء أو رسلًا، لا يمكنهم تحريم شيءٍ بمعنى التحريم الأبدي بعيدًا عن الله. بل إنّ المرجع الوحيد للتحريم هو الكتاب الذي أنزله الله، وليس للرسول أو أيّ شخصٍ أنْ يُحرّم (لفظ التحريم تحديدًا) شيئًا لم ينزل فيه نصٌ واضحٌ. لقد خلط الناس بين النهي والتحريم، وبين النُّصح والوصية، حتى صار التحريم يغطّي أغلب أمور الحياة. عدم فهم لفظ التحريم في كتاب الله جعل كثيرًا من المنتسبين للعلم يتعدّون حدودهم، ويفسدون حياة الناس بالتشدّد، والشيء العجيب أنّ الناس أو العامة تحديدًا سعداء بهذا التشدّد، ويظنّون أنّه أقرب لمنهج الله.

لقد تناولنا هذه الآية في أكثر من موضعٍ، ولا داعي لإعادة الإرشادات الربانيّة التي تدلّ عليها هذه الآية، من التّحذير من تحريم ما لم ينزل فيه نصٌّ صريحٌ. 

هذه الآية تمنحنا فرصةً لفهم العلاقة بين قصة نبي الله يعقوب في العهد القديم، وقصة نبي الله موسى في القرآن. والذي أراه أنهما متشابهتان كثيرًا، وأنّ التاريخ المدوّن قد حدث فيه خلطٌ كبيرٌ بين الشخصيّتين.

روايات العهد القديم ليست النصّ الأصليّ للكتاب الذي أنزله الله على أنبيائه، وإنّما هو ترجمةٌ. وهذه الروايات تشبه بقدرٍ كبيرٍ تفسير القرآن لدى أتباع النبي محمد صلوات ربي عليه.

لك أن تتخيل غياب القرآن، وبقاء التفسيرات القديمة للقرآن فقط، ثم يستميت الناس في إقناع غيرهم أنّ هذه النصوص هي نصوص الله ذاتها. 

هذا التحريم الوارد في الآية يتوافق من وجهة نظري مع شخصية نبي الله موسى، ومع اسمه (موسى) كذلك، والذي عُرف به في القرآن. 

أصل كلمة (موس) هو الخفة والطيش، والموس هو ما يُستخدم لحلاقة الرأس، كما في معاجم اللغة. وعلى الرغم من ذلك فإنّ المصادر الإسلامية تقول: إنّ موسى اسمٌ أعجميٌّ، وأصله فرعونيٌّ، من مقطعين، هو: (مو) ويعني الماء، و(شا) وتعني الشجر، في حين نجد مصادر تقول: إنّ أصل الاسم عبريٌّ، ويعني المنقذ أو المنتشل.

هذا التفسير لاسم (موسى) انتقل للمصادر الإسلامية، رغم تأكيد القرآن على أنّه جاء بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ. بالتأكيد هناك تبريراتٌ حاضرةٌ حتى يتوافق القرآن مع المصادر التاريخية، ولو أنصف الباحث لراجع هذا الوصف، وأرجع اسم (موسى) للوصف القرآني، وللّسان العربيّ المبين الذي يفصح عن نفسه.

لو تتبعا جذر كلمة (موس) كما ذكرنا، وتعني الخفة والطيش أو الحدة، من خلال فهم كلمة (موس) وهو الآلة التي يُحلق بها الرأس، لوجدنا تطابقًا شديدًا بين شخصية نبي الله موسى وهذه الصفات.

من صفات نبي الله موسى التي كانت التسرّع والحدّة، وهذا التسرّع والحدّة نجده في قتله لرجلٍ من فئة عدوّه، والذي كان سببًا في هروبه. كذلك عندما ترك قومه في تعجّلٍ، وسأله ربه: (وَمَاۤ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ یَـٰمُوسَىٰ)(سورة طه: آية 83). إضافةً لإلقائه الألواح وأخْذ رأس أخيه يجرّه إليه، كلّ هذه المشاهد تُخبرنا عن هذه الشخصية الحادّة نوعًا ما، والتي جاء ذكرها في سورة طه. (قَالَ یَبۡنَؤُمَّ لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡیَتِی وَلَا بِرَأۡسِیۤۖ إِنِّی خَشِیتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَیۡنَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِی)(سورة طه: 94). 

وموقفه مع العبد الصالح كذلك، وكيف لم يطق صبرًا، ممّا جعل العبد الصالح ينهي مصاحبته، ويخبرنا كيف أنّ موسى متعجّلٌ، وهي صفةٌ من صفات اسمه. (قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)(سورة الكهف: آية 73)

من ذلك نستنتج أنّ موقف التحريم هذا فيه من التعجل ما يتوافق مع شخصية موسى صلوات ربي عليه، ممّا يزيدنا يقينًا أنّ المقصود بإسرائيل هو موسى وليس يعقوب. 

الآية الثانية: (أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مِن ذُرِّیَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحࣲ وَمِن ذُرِّیَّةِ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَمِمَّنۡ هَدَیۡنَا وَٱجۡتَبَیۡنَاۤۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ خَرُّوا۟ سُجَّدࣰا وَبُكِیࣰّا)(سورة مريم: آية 58). 

هذه الآية الوحيدة التي ذكرت (ذرية إسرائيل). عندما تعرّضنا لخلق الإنسان قلنا: إنّ ذرية آدم تعني النسل البيولوجي، أمّا أبناء آدم فتعني من هم تحت رعايته، أو أنّه الأب الروحيّ لهم بتعبيرنا المعاصر. الأمر نفسه نجده هنا، إذ إنّ (ذرية إسرائيل) هم نسل إسرائيل، وليس (بني إسرائيل) كما ذكرنا. 

دلالة التعبير القرآني (ذرية إسرائيل) تجعلنا نقول: إنّ أولاد إسرائيل وُلدوا وهو في حالة إسرائيل؛ أي في حالة اللجوء. هذا أيضًا يزيدنا يقينًا أنّ إسرائيل هو موسى؛ لأنّ القرآن أخبرنا صراحةً عن زواج موسى في رحلته إلى مدين، ولبث فيها مدةً من الزمن، ثم عاد بأهله. لفظ (أهله) يشمل الأهل كلّهم، الزوجة والأبناء، ولم يقل القرآن عاد بزوجته؛ إذ يبدو أنّ الأسرة فيها آخرون غير الزوجة. (إِذۡ رَءَا نَارࣰا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوۤا۟ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا لَّعَلِّیۤ ءَاتِیكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدࣰى)(سورة طه: آية 10). 

من هذه الآية التي ذكرت (ذرية إسرائيل) نستطيع استنتاج أنّ مريم والتي سُمّيت السورة باسمها، والتي جاءت هذه الآية من ضمن آياتها، من نسل إسرائيل، وآل عمران جميعهم من نسل إسرائيل، أو كما ذكرنا من نسل موسى عليه السلام.

 

لنا ملاحظة هنا يجب أن تؤخذ في الحسبان، وهي أنّ لفظ (عمران) ذاته يشير إلى الاستقرار؛ ممّا يدفعنا إلى القول: إنّ آل عمران كانوا مستقرين في موطنٍ ما، ولذلك حتى وإن كانوا من نسل إسرائيل فلا ينطبق عليهم حالة بني إسرائيل ذاتها. هذا ما نستطيع استنتاجه من اسم عمران الذي ميّز هذه الآسرة. لكنْ مع بعثة عيسى صلوات ربي عليه وارتحالهم، وهم بالأساس من ذرية إسرائيل، فقد انطبقت عليهم وعلى الفارّين في عصرهم من الاضطهاد حالة (بني إسرائيل).

فهل حصل الفرار مرةً واحدةً، أم أنّ هناك وجهةً معينةً يفرّ إليها المضطهدون ويجتمعون فيها، هذا ما لا نعرفه على وجه الدقة. لكن ما نعرفه أنّ حالة مريم وابنها عيسى صلوات ربي عليهما قد انطبق عليها حالة بني إسرائيل بمجرّد فرارهم، وأنّ عيسى بدأ دعوته بين اللاجئين، ثم توالت الأحداث بعد ذلك. 

لا شك أنّ الأنبياء هم أكثر الناس اضطهادًا في مجتمعاتهم، لا سيما القديمة منها، إذ لم يكن لهم قوةٌ تحميهم؛ لذلك من الطبيعي جدًا أن يكون أكثر الناس فرارًا من الظلم هم الأنبياء وأتباعهم، ولذلك كانت حالة بني إسرائيل تصف هذه الحالة بكلّ بلاغةٍ. 

رغم ذلك نجد في القرآن أنبياء يدّعي التاريخ أنّهم من بني إسرائيل، ولكنّ القرآن لم يذكر في عهدهم حالة بني إسرائيل مطلقًا، مثل سليمان صلوات ربي عليه، وكان ذا مُلكٍ عظيمٍ. لا يمكن أن توصف حالة المجتمع في عهد نبي الله سليمان بحالة بني إسرائيل؛ لأن المجتمع وقتها كان مجتمعًا مستوطنًا وقويًا، وليس مجتمع لاجئين. كذلك نبي الله يونس رغم ذكر القرآن للمجتمع الذي عاش فيه نبي الله يونس، وكان قريةً إلا أنّ القرآن لم يُشر من قريبٍ أو بعيدٍ إلى أنّ القرية كانت قريةً لبني إسرائيل، أو أنّ يونس صلوات ربي عليه كان رسولًا إلى بني إسرائيل. 

(فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡیَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَاۤ إِیمَـٰنُهَاۤ إِلَّا قَوۡمَ یُونُسَ لَمَّاۤ ءَامَنُوا۟ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡیِ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَتَّعۡنَـٰهُمۡ إِلَىٰ حِینࣲ)(سورة يونس: آية 98). 

هذه الإشارات تزيد من يقيننا أنّ (إسرائيل) و(بني إسرائيل) وصفٌ لحالة اللجوء، وليست وصفًا لجنسٍ، وأنّ ذريّة إسرائيل تعني فئةً محدّدةً للغاية، منها آل عمران، ومريم تحديدًا. 

لدينا آيةٌ في كتاب الله تشير إلى هذه العلاقة بين مريم وموسى وهارون، وهي الآية التي أشكلت على الكثيرين، عندما ذكرت التعبير القرآنيّ (يا أخت هارون)!

(یَـٰۤأُخۡتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءࣲ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِیࣰّا)(سورة مريم: آية 28). 

اعتقد الباحثون أنّ لفظ (أخت هارون) يصف علاقةً بيولوجيةً، ثم انطلقوا من خلال هذا التصوّر للتشكيك في صحة أحداث القرآن التاريخيّة.

لفظ (أخت) جاء في كتاب الله بمعنى نظيرٍ أو مثيلٍ، كما فى الآيات التالية: 

(قَالَ ٱدۡخُلُوا۟ فِیۤ أُمَمࣲ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ فِی ٱلنَّارِۖ كُلَّمَا دَخَلَتۡ أُمَّةࣱ لَّعَنَتۡ أُخۡتَهَاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا ٱدَّارَكُوا۟ فِیهَا جَمِیعࣰا قَالَتۡ أُخۡرَىٰهُمۡ لِأُولَىٰهُمۡ رَبَّنَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ أَضَلُّونَا فَـَٔاتِهِمۡ عَذَابࣰا ضِعۡفࣰا مِّنَ ٱلنَّارِۖ قَالَ لِكُلࣲّ ضِعۡفࣱ وَلَـٰكِن لَّا تَعۡلَمُونَ)(سورة الأعراف: آية 38).

(وَمَا نُرِیهِم مِّنۡ ءَایَةٍ إِلَّا هِیَ أَكۡبَرُ مِنۡ أُخۡتِهَاۖ وَأَخَذۡنَـٰهُم بِٱلۡعَذَابِ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ)(سورة الزخرف: آية 48). 

لفظ (أخت) في حدّ ذاته لا يصف حالةً بيولوجيةً في القرآن، حتى يتمسّك به الناقد والمشكّك في دقّة ألفاظ القرآن. إنّنا ننطلق من هذه الآية لإثبات علاقةٍ وثيقةٍ بين هارون وموسى تحديدًا ومريم، وليس كما يدّعي المفسّر أنّ هارون عليه السلام مختلفٌ عن هارون المذكور في الآية. يلفت القرآن نظرنا إلى وجود علاقةٍ بين هارون ومريم؛ وكأنّ الناس يقولون لمريم: يا نظيرة هارون. 

والسؤال: بماذا كان يمتاز هارون؟

هارون عليه السلام كان فصيح اللسان، ولهذا السبب طلب موسى من ربه أن يرسل إلى هارون، فهو أفصح منه لسانًا. (وَأَخِی هَـٰرُونُ هُوَ أَفۡصَحُ مِنِّی لِسَانࣰا فَأَرۡسِلۡهُ مَعِیَ رِدۡءࣰا یُصَدِّقُنِیۤۖ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ)(سورة القصص: آية 34)

كذلك نجد عندما بُهت السحرة قالوا: آمنا برب هارون وموسى، في حالةٍ واضحةٍ قدّموا فيها هارون على موسى، ممّا يدلّ على أنّ هارون كان المتحدّث في هذا الموقف، والخطيب المفوّه، رغم أنّ موسى هو من ألقى. (فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدࣰا قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ)(سورة طه: آية 70)

كنا قد ذكرنا في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب- الطور، أنّ عصر مريم كان عصر الكلام البليغ، أو عصرًا ظهرت فيه الفلسفة، ومريم بطبيعة الحال من ضمن هذه الفئة المتكلّمة. 

لن نستغرب إذا رأينا القوم يطلبون من مريم توضيحًا لما حدث، وهي الفصيحة، ثم يدلّلون على ذلك بقولهم: يا أخت هارون؛ أيْ يا نظيرة هارون في الفصاحة. ذِكر هارون تحديدًا يُشير إلى علاقةٍ واضحةٍ بينه وبين مريم. إضافةً إلى ذِكر (ذرية إسرائيل) مرةً واحدةً في كتاب الله في سورة مريم؛ جعلنا نقول: إنّ مريم من نسل إسرائيل، وهو موسى صلوات ربي عليه. فرضيّة أنّ مريم من ذرية إسرائيل، أو ليست من ذرية إسرائيل، لن تؤثّر في مجرى الأحداث، ولكنّه استنتاجٌ عابرٌ من دلالة ذكر التعبير القرآني (ذرية إسرائيل) في سورة مريم. 

 

علاقة اليهود بـ بني إسرائيل

 

اليهود كما ذكرنا في الكتاب الرابع- قولًا ثقيلًا، فئةٌ لديها نموذجٌ فكريٌّ، أو طريقة تفكيرٍ معينةٌ، تمتاز باحتكار الهداية، وتدّعي أنّها أهدى سبيلًا، وهي نموذجٌ من أسوأ النماذج الفكرية. تظهر هذه الطائفة -بطبيعة الحال- بعد استقرار الدعوة، إذ يتشبّث هؤلاء بحرفيّة كلّ شيءٍ، ويزيدون ويُنقصون ويتشدّدون في الدين بدرجةٍ يظنون أنفسهم الأصفياء، وغيرهم ليس لهم أيّ نصيبٍ في رحمة الله. لذلك نجد أنّ وصف اليهود لم يلازم بني إسرائيل في بداية وجودهم، ولكنّه وصفٌ لنموذجٍ فكريٍّ ظهر معظمه في القرآن في فترات الاستقرار. 

 

عندما وصف القرآن اليهود في المدينة وفي جزيرة العرب لم يطلق عليهم أبدًا لفظ (بني إسرائيل)، بل لفظ (اليهود)؛ بسبب اعتقادهم أنهم الأهدى سبيلًا، واحتكارهم لهذه الهدية، وللحديث باسم الله. تكاد تكون العلاقة بين اليهود وإسرائيل علاقةً مقطوعةً، ولكنّنا نحن من خلطنا الأوراق، وجعلنا هذه العلاقة متصلةً، ووصفًا لكيانٍ واحدٍ، وهو خطأ جسيمٌ. هذه العلاقة المقطوعة تثبت فرضيتنا التي تقول: إنّ إسرائيل حالةٌ مؤقّتةٌ، تمثّل حالة اللجوء واللاجئين، وبمجرد الاستقرار تنتهي هذه الحالة. 

 

الفرق بين الهجرة وحالة إسرائيل 

 

نعلم جميعنا أنّ الرسول محمد صلوات ربي عليه قد هاجر من مكة إلى المدينة، وقلنا في الفصل السابق إنّ سورة الإسراء قد أعطت له مفتاح هذه الهجرة، وقد تفاعل مع السورة بأحسن ما يكون، وهاجر إلى المدينة. الرسول بوصفه فردًا فعل كما فعل موسى تمامًا عندما خرج من وطنه قاصدًا وطنًا آخر، ولكنه لم يُسمَّ إسرائيل؛ لأنّ إسرائيل هو الرّائد أو المؤسّس الأول. 

 

هل يمكن أن يُسمّى المهاجرون بني إسرائيل؟

 

كما قلنا إنّ صفة (بني إسرائيل) صفةٌ للمهاجرين بأعدادٍ كبيرةٍ نوعًا ما؛ بسبب لفظ (بني إسرائيل) ذاته، الذي يدلّ على عددٍ كبيرٍ أو اللاجئين بأعدادٍ كبيرةٍ. حدثت الهجرة في عهد النبي على فتراتٍ متقطّعةٍ وبأعدادٍ صغيرةٍ جدًا، إذ إنّ كلّ فردٍ -في الغالب- كان يهاجر منفردًا أو مع أهله أو مع فردٍ آخر. الهجرة في حالة بني إسرائيل تشبه عملية النزوح الجماعيّ، ولا عودة فيها. أمّا في حالة الهجرة إلى المدينة فكانت حالةً مؤقتةً، وكانوا يرغبون بالعودة إلى وطنهم، وقد حدث مع الفتح. 

 

حالة الخروج لم تنطبق تمامًا في حالة المهاجرين إلى المدينة؛ لذلك هم ليسوا بني إسرائيل، ولو أنّ رسول الله خرج بالناس جماعاتٍ متوجّهًا نحو أرضٍ جديدةٍ لصحّ في هذه الحالة أن يُطلق عليهم (بني إسرائيل). 

(إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَقُصُّ عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِی هُمۡ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ)(سورة النمل: آية 76). هكذا أخبر القرآن، فهل يَعقل الناس وينتبهون لهذا الكتاب، الذي ليس حكرًا على أحدٍ، بل هو هدىً لمن يتلقّاه بإنصافٍ دون تحيّزٍ. 

لم يبقَ لنا في وصف إسرائيل إلا مشاهد سورة الإسراء، والتي جاء فيها ذكر إسرائيل، وأحداثٌ غايةٌ في الأهمية، سوف نتعرّف عليها في الفصل القادم. 

 

ملخص الفصل 

  • لفظ (إسرائيل) ينطبق -من خلال القرآن- على نبي الله موسى، و(بنو إسرائيل) هم من ساروا على نهجه في الخروج. 
  • (بنو إسرائيل) بلغتنا المعاصرة تعني المهاجرين واللاجئين بأعدادٍ كبيرةٍ، وإسرائيل هو أول من فعل ذلك وأسّس له. 
  • تعبير (بني إسرائيل) ذاته مرتبطٌ بحالة الخروج، وليس دالًا على جنسٍ أو ذريةٍ، وكلّ ما يتداوله الناس عن بني إسرائيل وأنّهم ذريةٌ معينةٌ، هو كلامٌ ليس واقعًا في القرآن، بل هو أمنياتٌ، لن تلبث أن تتكشّف، ويؤوب الناس للحق. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة