الفصل الحادي عشر - أخلق من الطين
الفصل الحادي عشر
أخلق من الطين
بالنظر إلى الآية في كتاب الله التي تخبرنا أنّ
نبيّ الله عيسى خلق من الطين كهيئة الطير، ثمّ نفخ فيه فكان طيرًا؛ نستطيع بكلّ
سهولةٍ أنْ نقول: إنّ بشرًا خلقَ كائنًا حيًا؛ لأنّ نبيّ الله عيسى بشرٌ، وليس
إلهًا. لكنّ نبيّ الله عيسى نبيٌّ، وهذه الآية خارقةٌ، فكيف تتناسى هذا الأمر،
وتجعل الأمر مشاعًا ممكنًا لكلّ البشر؟
لأنّ التدقيق بالأمر سوف يجعلنا ندرك أنّ الإله
يريد أنْ يخبرنا بذلك، وأنّ القدرة على الخلق ممكنةٌ، ولكنّها تحتاج لإعدادٍ
خاصٍّ.
لو أنّ الأمر من اختصاص الإله وحده ما كان لعيسى
أو لغيره أنْ يخلق؛ ولكنْ لأنّ الأمر متاحٌ للبشر فقد جاء به عيسى صلوات ربي عليه،
كي يُخبر البشر أنّهم قادرون على ذلك إذا توصّلوا إلى الأسباب. لو أنّ الأمر
اختصاصٌ إلهيٌّ بالفعل ولا يليق ببشرٍ أن يأتي به، فسوف نواجه إشكاليةً كبيرةً.
دعك أيضًا من الذين يُحيلون الأمر إلى الغيبيّات، ويريدون إغلاق العقل أمام التساؤلات.
تعاملَ الناس مع فكرة قدرة الإنسان على خلق حياةٍ
أو إنتاج صورةٍ أو شكلٍ معينٍ من أشكال الحياة بكثيرٍ من الاستخفاف والاستنكار. بل
في كثيرٍ من الأحيان شنّ بعضهم -لا سيما المتديّنون- هجومًا كاسحًا وشرسًا بلا
هوادةٍ على العلماء المشتغلين بهذا العلم، إذ يَعُدّون أنّ علمًا كهذا هو تحدٍ
سافرٌ لربّ العالمين، وكفرٌ بالخالق.
في المقابل نجد جمعًا غفيرًا من أولئك
المؤمنين بالعلم والتجريب فرحين بما آتاهم العلم من فضله، إذ يعتقدون أنّ مثل هذه
الخطوات بمنزلة إعلانٍ لموت أسطورة الإله وانتهائها إلى الأبد. القرآن لم ينفِ
قدرة الإنسان على الخلق، بل أعتقد أنّ القرآن أشار إلى ذلك، من خلال ذكر آياتٍ
أخرى غير آية خلق الطير الذي جاء بها نبيّ الله عيسى.
ربّ العالمين يقول في كتابه إنّه أحسن الخالقين،
ممّا يشير ضمنيًا إلى أنّ هناك خالقين آخرين، أيْ إنّ القدرة على الخلق ممكنةٌ،
ولكنّ الله هو أحسن الخالقين:
(ثمّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
لَحْمًا ثمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ) (سورة المؤمنون: آية 14).
وردت مادة (خلق) في كتاب الله 243 مرةً تقريبًا،
في صيغة (خلق) أو أحد مشتقاتها، كلّها خاصةٌ بربّ العالمين، ما عدا 8 آياتٍ تتحدّث
عن إمكانية خلق آخرين غير الله. وفي كتاب الطور- الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب
حلّلنا لفظ (خلق)، إذ أشار لفظ (خلق) في جميع صوره في كتاب الله إلى تكوين شيءٍ من
تكويناتٍ ماديةٍ موجودةٍ. لم يشرْ لفظ (خلق) إلى إنشاءٍ من عدمٍ أبدًا. حتى الآية
في سورة القلم والتي جاء فيها (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ) (سورة القلم:
آية 4) تتحدّث عن خلقٍ؛ أيْ تكوينات الإنسان المادية، وليس سلوك الرسول. لقد
تناولنا هذه الآية من قبل بالأدلة والبراهين في الجزء الثاني من سلسلة تلك
الأسباب.
مادة (خلق) جميعها تصف تكويناتٍ ماديةً من
تكويناتٍ سابقةٍ، وأودّ أن أشير بكلّ قوةٍ إلى هذا اللفظ؛ لأنّ لنا مع هذا اللفظ
وقفةً كبيرةً في مسألة إحياء الموتى والبعث.
إذا قام مهندسٌ بتصميم سيارةٍ أو أيّ جهازٍ من
مكوّناتٍ أوليّةٍ، فهو في الحقيقة خلقَ، وعندما يقوم الكيميائيّ بتصنيع مركّبٍ من
مركباتٍ أوليةٍ فهو كذلك خلقَ. مدلول لفظ (خلق) في كتاب الله يشير بقوةٍ إلى هذا
المدلول، إذ نجد في سورة آل عمران قوله سبحانه:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) (سورة آل
عمران: آية 190)
خلقُ السموات والأرض إنّما تمّ من تكويناتٍ
سابقةٍ، كما أشار إلى ذلك القرآن والعلم، فالسماء كانت دخانًا، والأرض جرى عليها كثيرٌ
من العمليات حتى أصبحت أرضًا.
(أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ
اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (سورة الأعراف: آية
185).
خلقُ كلّ شيءٍ إنّما جاء من شيءٍ سابقٍ، حتى
المادة جاءت من الطاقة، وهكذا في سلسلةٍ طويلةٍ، إلى أن نصل إلى النشأة الأولى
التي يعلَمُها الله. ما يعنينا هنا هو لفظ (خلق) الذي وصف هذه التكوينات، ونشأتها
من أشياء سابقةٍ. في سورة الصافات إشارةٌ أخرى لوجود خالقين، ولكنّ الله هو أحسن
الخالقين. (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) (سورة
الصافات: آية 125).
جاء لفظ (خلق) مرتبطًا بلفظ (نفخ) عندما كان
الأمر متعلقًا بالآية التي جاء بها نبيّ الله عيسى، وكما جاء في فصل الروح، فإنّ
عملية النفخ هي دفع الهواء في شيءٍ ما، وأحد مكوّناته الأساسية هو الروح.
جاء لفظ (نفخ) متعلّقًا بالروح في سبعة مواضع،
ومتعلقًا بالنفخ في الصور في اثني عشر موضعًا، (الصور) هو آلةٌ تُصدر صوتًا، أو
كما فسّرها المفسّرون بالقرن (آلة نفخ)، وجاءت كلمة (نفخ) أيضًا في موضعٍ واحدٍ
متعلقةً بالنفخ في النار، وكلّها تشير إلى عملية دفع الهواء في شيءٍ ما.
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ) (سورة الأنعام: آية 73).
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى
بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) (سورة الكهف: آية 96).
جاء ذكر آية نبيّ الله عيسى الخاصة بالخلق من الطين
في آيتين من آيات الكتاب
الآية الأولى:
(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي
قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ
وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ
وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (سورة آل عمران: آية 49).
(إذْن الله) هو إعلام الله، أو السماح بالفعل،
وسوف نتعرّض لفهم (إذن الله) بشيءٍ من التفصيل في الفصل القادم. لقد أعلمَ اللهُ
نبيّه عيسى بالاستطاعة على الخلق فخلَقَ. إذًا السؤال هنا: كيف نحصل على إذن
الله؟
الإجابة: إنّ كلمات الله وفهم آيات الله سواءٌ
اللفظية أو الكونية هي إذن الله؛ لأنّ عيسى نفسه فعل ذلك، فقد كان مثالًا نقيًا
لاستخراج الحكمة، والذي قال عنه ربّه آتيناه الإنجيل. الوصول لمرحلة فهم كلمات
الله بسلامةٍ دون أيّ تحيّزٍ سوف يجعلنا نجد إذن الله، والذي سيصل بنا إلى علم
الساعة، ومن ضمن هذا العلم خلقُ الحياة في بعض الجوامد.
كيف نفهم مدلول (إذن الله) بوضوحٍ أكثر؟
بفرض أن هناك تحليلًا دقيقًا للفظ القرآني جاء
مخالفًا لحقيقةٍ تاريخيةٍ، أو مخالفاً لبعض النظريات العلمية؛ فعند هذه اللحظة يجب
مراجعة المعلومة التاريخية أو النظرية العلمية. لاحظ أنني أقول تحليلًا دقيقًا
للفظ القرآني، وليس مجرد وجهة نظرٍ. الذي يحدث اليوم أنه إذا حُلّل اللفظ القرآني
ووُجد أنه يخالف نصًا تاريخيًا يمتعض الناس، ويحاولون الانطلاق من النص التاريخي
لتكذيب نتيجة تحليل اللفظ القرآني، بدعوى أنّ القرآن حمّال أوجهٍ. هذه الحالة لا
تُمثّل أبدًا (إذن الله) بل تُمثّل حالة مَن يدعون مع الله إلهًا آخر. الوصول إلى
خلق الحياة، أو تحقيق الآيات التي جاء بها نبي الله عيسى تحتاج لإدراك الناس لهذه
الحقيقة، وعندما يُدركونها سوف يتحقّق التعبير القرآنيّ (بإذن الله).
لقد جاء في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب
(الطور) بعض المعلومات التي أحبّ الاستدلال بها هنا، وهي استنتاج أنّ الإنسان قد
تطوّر من حالةٍ عجيبةٍ، من خلال تزاوجٍ بين قردٍ وخنزيرٍ، وقد جاء في هذا الفصل
تفاصيل أسباب هذا التزاوج الغريب، وتحليلٌ لمفرداتٍ مثل: القرد والخنزير، وسياق
الآيات التي أوردت ذلك. إذا انتبه الناس لهذه المعلومة وحاولوا دراستها فقد ذُكرت بالتفصيل
في كتاب الله، وعندما يسير الناس على هذا الخط فذلك (إذن الله)؛ لأنه مذكورٌ
ومدوّنٌ ويرشدهم ويخبرهم. أما لو حاول الناس جاهدين طمس هذه المعلومات كفرًا
وعنادًا حتى لا تَثبت صحة القرآن فلن يصلوا لشيءٍ مهما حاولوا.
النتيجة النهائية أن مجريات الأحداث سوف تسير
وفقًا للمعلومات المدوّنة في كتاب الله، وإنكار هذه المعلومات سوف يؤخّر وصول
الناس للحقائق، وبقدر إنصافهم وتعاملهم بمبدأ عدم التحيز سوف يدركون قيمة ما يحمله
القرآن لهم من مساعدةٍ ودعمٍ في الوصول إلى حقائق الأشياء.
من الأمثلة الجيدة التي قد يبدو العلم فيها
معارِضًا للقرآن والتي تبُيّن لنا مفهوم (إذن الله) الآية التي تحدثت عن زينة الكواكب، وتناولها بعضهم بسطحيةٍ أساءت لكلمات
القرآن.
(إِنَّا زَیَّنَّا ٱلسَّمَاۤءَ ٱلدُّنۡیَا
بِزِینَةٍ ٱلۡكَوَاكِبِ)(سورة الصافات: آية 6).
هذه الآية جعلت بعضهم يقول: إن القرآن يقصّ بعض
القصص التي ليس لها علاقةٌ بالعلم، بناءً على أن الكواكب خارج نطاق السماء، ولا
تبدو زينةً على الإطلاق، بل لا يكاد الإنسان يرى منها سوى كوكب الزهرة في بعض
الحالات. على الجانب الآخر ترى بعض المغفّلين يستدلّون بهذه الآية على تسطيح
الأرض.
للأسف الشديد إن لفظ (زينة) في المعاجم لا يصف
الحالة الحقيقة للّفظ، حتى إن المعاجم قالت: إن هذا اللفظ يعني تحسين الشيء
وتحبيبه. لا عجب في ذلك فكلّ زينةٍ يعرفها الإنسان القديم هي كذلك. لو تعمّقنا
أكثر وفهمنا عمق لفظ (زين) فسنجد أن اللفظ يحمل صفة الانجذاب، ومعنى زيّن الشيء أي
جعله لافتًا للنظر من خلال جعل شكله جذّابًا. معنى الانجذاب واضحٌ تمامًا في كتاب
الله، من خلال الآيات التالية: (زُیِّنَ لِلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلۡحَیَوٰةُ
ٱلدُّنۡیَا وَیَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۘ وَٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟
فَوۡقَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ وَٱللَّهُ یَرۡزُقُ مَن یَشَاۤءُ بِغَیۡرِ
حِسَابࣲ)(سورة البقرة : آية 212). تزيين الحياة الدنيا يعني جعلها جاذبةً للناس
على نحوٍ يستغرقون فيها.
(فَلَوۡلَاۤ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَا
تَضَرَّعُوا۟ وَلَـٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مَا
كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ)(سورة الأنعام : آية 43). زيّن الشيطان أعمالهم يعني جعلها
تجذبهم ويرتاحون لها.
لو طبّقنا هذا المفهوم على محلّ دراستنا فسنجد
أنّ لفظ (زيّنّا) يعني جذبنا، ولفظ (زينة) ذاته يعني الجاذبية، فعندما يقول ربنا
(إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب) فهذا يعني أنّ غلاف الأرض متأثّرٌ أو في
حالة اتزانٍ بسبب جاذبية الكواكب الأخرى. تحليلٌ متريّثٌ للكلمات يُمكن أن يحلّ
كثيرًا من الإشكاليات، ويمكن أن يفتح أمامنا بابًا لبعض المعلومات التي قد تغيب
عنا. قد لا يتّفق العلم حاليًا مع مثل هذه النتائج، ولا يؤكّد بصورةٍ قاطعةٍ أنّ
للكواكب الأخرى تأثيرًا على غلاف الأرض، ولكنّنا هنا نشير إلى تحليل اللفظ من خلال
المنهج الذي نتبنّاه يدفعنا لقول ذلك. في حالة صحة المنهج مئةً بالمئة فمن الأفضل
في هذه الحالة أن يراجع الباحثون هذه المعلومة، ويضعوا احتمال انجذاب غلاف الأرض
بواسطة الكواكب، وهو احتمالٌ كبيرٌ، وتجري دراسته بالتفصيل. هذا الدليل والإرشاد
هو عين (إذن الله) الذي أخبرنا عنه القرآن، فبإذن الله تنكشف الحقائق. على الجانب
الآخر لو أن إنسانًا كابر وحاول طمس الحقائق فإن ذلك سوف يشوّه كثيرًا من الحقائق
المترتبة على ذلك، وبالنهاية سوف يحدث فشلٌ في كثيرٍ من المستويات.
السير خلف الحقائق هو ما سوف يكشف مزيدًا من
الحقائق، وطمس الحقائق يؤخّر خطوات البشرية ويعيق تحرّكها. هذا هو المقصود بـ (إذن
الله) المخَتزن داخل كتاب الله وكلمات الله، والتي لا تحتاج إلا التحقّق من منهجٍ
علميّ صارمٍ لتحليل الكلمات والتعبيرات، حتى يحدث الفيض المعرفي في كل
مجالٍ.
تقول الآية من الطين، والطين هو مادة الخلق
الأولى، وهذا إنْ دلّ فإنّه يدلّ على أنّ الإنسان يستطيع استخدام المواد الأولية
في خلق هيئةٍ، ومن ثمّ تبقى عملية النفخ. عملية النفخ تستلزم فهم الروح فهما جليًا
وميكانيكية عملها. ما إنْ يفهم الإنسان ميكانيكية عمل الروح ويغوص في علاقتها
بالجسم إلا وسيُمكّنه هذا من مسألة الخلق.
لنا ملاحظةٌ هنا على عملية الخلق، إذ تقول الآية
(فأنفخُ فيه) ولم تقل أنفخ فيه الروح؛ لأنّ الروح متعلقةٌ بالإنسان، وقد تناولنا
هذه الجزئية من قبل عندما قلنا إنّ مفهوم الروح هو الأكسجين وما يحمله من طاقة، إذ
تنتقل هذه الطاقة إلى مجال القلب وهو الفؤاد. الأكسجين وما يحمله، وتفاعله مع
الفؤاد هو الروح المقصود، أمّا (النفخ) في حدّ ذاته فيعني دفع الهواء أو دفع
الأكسجين تحديدًا.
لا يظنَنّ أحدٌ أنّ عملية خلق كائنٍ حيٍّ هي
عمليةٌ بسيطةٌ، مثل أنْ تنحت مجسّمًا على شكل طائرٍ، ثمّ تدفع فيه الهواء، فيصير
كائنًا حيًّا. هذه العملية ليست خلقًا، وإنّما تجسيدٌ أو تمثيلٌ، أمّا الخلق فهو
تهيئةٌ وحسن تقديرٍ للأشياء لكي تؤدّي عملها. إذا صمّم نحاتٌ مجسمًا لسيارةٍ فهو
في الحقيقة جسّد السيارة ولم يخلقها؛ لأنّ الخلق يجب أنْ يمرّ عبر تقديرٍ لكل
المراحل، وتهيئةٍ لكلّ الأدوات، كي تؤدي السيارة غرضها وهو السير. لقد بيّن القرآن
الفرق بين الخلق والتجسيد، عندما قصّ علينا قصّة السامريّ.
السامريّ
لخّص لنا القرآن قصّة السامريّ في تلك الآيات
التي وردت في سورة طه:
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى(83)
قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(84) قَالَ
فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ(85)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ
أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم
مَّوْعِدِي(86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا
حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُّ(87)فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا
إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ(88)) (سورة طه: آيات 83-88).
يقول المفسّر: إنّ السامريّ صنع عجلًا من الذهب،
وهو صغير البقرة، ثمّ جعل الهواء يدخل من جانبٍ ويخرج من جانبٍ، مقلّدًا خوار
البقرة حتى فتن به الناس.
لا أعتقد أنّ لفظ (عجل) في الآية هو اسم صغير
البقرة، ولكنّه لفظٌ يصف حالةً من التعجّل أو السرعة. بمعنى أنّ السامريّ أخرج على
عجلِ مجسّمًا يُصدر صوتًا. سيعتقد الناس أنّ صوت البقرة هو الخوار بناءً على هذه
الآية، وبناءً على تفسير العجل بصغير البقرة، لكنّ المتتبّع للفظ (خور) في معاجم
اللغة مثل المعجم الاشتقاقي سيجد أنّ (خور) تصف حالة تخلخل الشيء، ممّا يشير إلى أنّ
صوت الهواء داخل جوفٍ معيّنٍ هو (الخوار) وليس صوت بقرةٍ. أصوات الكائنات الأخرى
لها مدلولٌ عند جنسها، ولكنّ هذا الصوت الذي صدر لم يكن له مدلولٌ، ولو كان له
مدلولٌ لقال القرآن: صوت بقرةٍ، أو نطق بقرةٍ. مدلول كلمة (خوار) يعني شيئًا بلا
مدلولٍ، أو مجرّد خلخلة الهواء داخل جسمٍ مجوّفٍ.
لم يصف القرآن هذا الفعل بالخلق؛ لأنّه كان صورةً
مشوّهةً ليس فيها ترتيبٌ أو تهيئةٌ. لفظ (عجل) من السرعة، ولفظ (خوار) الذي يصف
صوتًا ناتجًا عن خلخلة الهواء لا أكثر، جعل من هذا المسخ جسدًا لا خلقًا. ما نرغب
في قوله هنا أنه يجب التفريق بين فعل (الخلق) وفعل (التجسيد) حتى لا يختلط الأمر
على القارئ، ويعتقد أننا نتحدّث عن تجسيدٍ.
لا نستبعد أبدًا مع التقدم الهائل الذي تشهده
البشرية اليوم على المستويات كافةً، مثل: تصنيع الأنسجة، وزراعة الأعضاء وغيرها،
أن يستطيع الإنسان تخليق جميع أجزاء كائنٍ مثل الطير، ولن يبقى إلا بثّ الحياة
فيه. إذًا الله هنا هو الفيصل، وعندما ينتبه الإنسان لكلمات الله، ويستخرج الحقائق
خلفها، فلا شكّ عندي أنّها سوف تقوده إلى بثّ الحياة بإذن الله.
الآية الثانية التي وصفت لنا آيات نبيّ الله عيسى
جاءت في سورة المائدة، وجاء فيها إذن الله مرّتين، مرةً مع الخلق ذاته، ومرةً مع
النفخ.
الآية الثانية:
(إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ
الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا
بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ
مُّبِينٌ) (سورة المائدة: آية 110).
تعبير (بإذني) بعد عملية الخلق وعملية النفخ يدلّ
على أنّ عملية الخلق ذاتها تكون قبل أن تدبّ الحياة. كذلك فإنّ التصميم الدقيق
للكائن عمليةٌ معقدةٌ كما عملية النفخ، ولكنّ مفاتيحها كذلك في كلمات هذا القرآن،
الذي يصف الأشياء بدقةٍ، ويأخذ بيد الإنسان ليستطيع تنفيذ مراد الله.
سوف يتبادر إلى ذهن القارئ الآن بعض تلك الآيات
التي تحدّثت عن استحالة الخلق، أو حملت معنىً من هذا القبيل، أو فسّرها بعضهم على
نحوٍ يوحي بنفي قدرة الخلق عن الإنسان.
الآيات التي توحي باستحالة الخلق بعيدًا عن الله
الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء
وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (سورة فاطر: آية 3).
ذهب بعضهم من خلال هذه الآية إلى نفي وجود خالقين
غير الله، رغم أنّ الآية الكريمة لم تشرْ إلى ذلك البتة. المقصود بالآية أنّه لا
يوجد خالقٌ مطلق القدرة، فالله يخلق ويرزق من السماء والأرض، أمّا استطاعة الإنسان
على الخلق فهي محدودةٌ وليست خلقًا مطلقًا. المهندس الذي خلق سيارةً أو خلق الهاتف
أو خلق الروبوت هل يملك مقاليد السموات والأرض؟ أم إنّ المهندس نفسه يعلم أنّ
قدراته محدودةٌ؟
حتى خلق الأجهزة يحتاج لموادٍ أوليةٍ، ولو استطاع
الإنسان خلق المواد الأولية فهناك موادٌ قبل الأولية، وهكذا هناك نقطةٌ لن يستطيع
الإنسان تخطّيها، غير أنّ عليه البحث بكلّ عزيمةٍ للوصول إليها، فعند هذه النقطة
سوف يجد الله.
الآية الثانية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا
يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (سورة الحج: آية
73).
هذه الآية تنفي صراحةً قدرة الذين يدعون من دون
الله على أنْ يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له، وهذا النفي موجّهٌ للذين يدعون من دون
الله، أو بمعنىً صريحٍ أنّ الخلق بمعزلٍ عن الله مستحيلٌ. لو أنّ الخلق ممنوعٌ
لذاته فلماذا خلقَ عيسى إذًا؟
الخلق مُحالٌ من دون الله، وهذه الآية تأخذنا
مرةً أخرى إلى إذن الله أو علم الساعة الذي تناولناه في الفصول السابقة، وكيف أنّ
هذه العلوم مختبئةٌ خلف كلمات الله، فمهما حاول هؤلاء وجرّبوا أنْ يخلقوا لن
يستطيعوا، ومفتاح ذلك عند الله أو في كلمات الله التي أودعها كتابه، وحملتْ
أسراره. عندما يستخرج العلماء تلك المعرفة القيّمة والقدرة على الخلق من بين
الكلمات والتعبيرات فهذا خلقٌ مدعومٌ من الله، وليس بمعزلٍ عن الله، وهذا ما نودّ
التأكيد عليه مرارًا وتكرارًا. فلينكر المنكرون ويكذّب المكذّبون وليذهبْ كلّ حزبٍ
بما لديهم فرحون، وبالنهاية سوف يُخبر القرآن عن نفسه وعن خالق هذا الكون، من خلال
مطابقة الآية اللفظية للآية الكونية، وإنْ لم يحدث فسيكون هناك اختلافٌ
كبيرٌ.
الآية الثالثة: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا) (سورة
فاطر: آية 40).
هذه الآية كذلك تؤكّد استحالة الخلق بعيدًا عن
الله. لو أدركنا مفهوم علم الساعة الذي جاء في الفصل السابق فقط لأدركنا أنّ
استطاعة الخلق مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بعلم الساعة، وعلم الساعة هو ذروة العلم،
والذي لن يتمّ إلا من خلال فهم كلمات الله بصورةٍ سليمةٍ. إذًا مهما حدث فإنّ
عملية الخلق لن تتمّ إلا مع علم الساعة المرتبط بفهم كلمات الله. هذه الاستحالة
التي ذكرتْها الآيات تُبشّر بأنّ العلم بالنهاية سوف يدرك كلمات الله، وسوف يدرك
العلماء الكنز الذي بين أيديهم، طال الزمان أم قصر.
الآية الرابعة: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ
عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (سورة الأحقاف: آية 4).
المعنى نفسه تُقرّره الآية تلو الآية، إذ إنّنا
بعيدًا عن الله لن نتمكّن من فعل شيءٍ. عملية الخلق أو استطاعة الإنسان الخلقَ لم
يأتِ فيها نفيٌ صريحٌ قاطعٌ، مثل النفي الذي جاء عندما طلب نبيّ الله موسى من ربه
أنْ يراه، فقال له: (لن تراني). (لن تراني) فيها نفيٌ قاطعٌ من الله بأنّ رؤيته
ليست متاحةً للبشر، وقال في موضعٍ آخر: لا تدركه الأبصار. (لَّا تُدْرِكُهُ
ٱلْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلْأَبْصَٰرَ ۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ) (سورة
الأنعام: آية 103).
رؤية الله لا سبيل لها؛ إذ إنّ فعل (يرى) ليس
معناه تبصر فقط، بل هو أبعد من ذلك، من خلال ما شرحناه في موضعٍ سابقٍ. فعل
(تراني) يعني لن تستطيع تكوين وجهة نظرٍ أو رؤيةً عني مئةً بالمئة، فهو سبحانه فوق
كلّ ما يذهب إليه عقلك، وهذا أيضًا متناسقٌ تمامًا مع قوله سبحانه (ليس كمثله
شيء). )فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) (سورة الشورى: آية
11).
خوض المفسّر في مسألة إمكانيّة رؤية الله من
عدمها هو أمرٌ يخصّه وحده، إنْ قرّر تجاوز تلك الآيات الصريحة إلى أقوالٍ ظنية
الثبوت، وتبريراتٍ لا تُراعي اللفظ القرآنيّ.
قبل أنْ نكمل هذا الفصل يجب أنْ أشير إلى هذه
الجزئية الهامة، وهي أنّ عملية الخلق التي أشار إليها القرآن إنّما هي خلق كائناتٍ
غير الإنسان. الإنسان مختلفٌ؛ لأنّ هناك نفسًا متعلقةً به، أمّا ما يخصّ الإنسان
فهو البعث، وليس خلقًا جديدًا، وسوف نتطرّق لهذه المسألة باستفاضةٍ في الفصل
القادم.
لن أتطرق هنا للجانب العلميّ، وهو واعدٌ بالفعل
لأقصى حدٍّ، ويتطوّر باستمرارٍ، ولو عرضتَ الأمر على العلماء، وسألتَ هل هناك
إمكانيةٌ في المستقبل أنْ يستطيع الإنسان خلق حياةٍ في كائنٍ متقدّمٍ غير
البكتريا؟ ستجد الإجابة: بالتأكيد، هناك احتماليةٌ كبيرةٌ. الأبحاث على قدمٍ
وساقٍ، وفكرة أنْ يتمكّن الإنسان من أن يعيش الخلود ليست فكرةً مستحيلةً اليوم،
والأبحاث الجينية التي تحاول اكتشاف الخلل وعلاجه، بل وتحاول تلافي شيخوخة
الخلايا، كلُّها أمورٌ على طاولة بحث العلماء اليوم. أبحاثٌ مثل هذه الأبحاث هي
المقدمة الطبيعية لأبحاث الخلق والخلود، وسوف نأتي على مفهوم الخلود من خلال
القرآن، ونرى كيف أشار القرآن إليه، من خلال فهم الجنة ومكانها في الفصول القادمة.
لا عجب أنْ يسير العلماء في هذا الطريق، والقرآن يؤيّد بالآيات استطاعة الإنسان
كلّ ذلك، بل ويدعوه ليكون أداة الله الفاعلة.
فهم حدود استطاعة الإنسان، والفرق بينها وبين قدرة
الله، هو الفيصل في القول باستطاعة الإنسان خلق حياةٍ، أو إعادة الموتى للحياة.
يمكن فهم هذه الحدود تمامًا من خلال مفهوم الاستطاعة والقدرة، الذي أشارت إليه
سورة المائدة في لمحةٍ قرآنيةٍ بديعةٍ. سورة المائدة من السور العجيبة التي أسّست
لعلاقة الإنسان بالكون، بل إنّ اسم السورة فقط يشير إلى هذه العلاقة الوثيقة.
المائدة وهي ما يوضع أمام الإنسان ليتناوله، وبمعنىً أكثر وضوحًا: ما هو لك، وما
لا يحق لك، وما تستطيع، وما لا تقدر. سوف نتناول هذه العلاقة بمزيدٍ من الشرح
والتفصيل، عندما نتناول مفهوم (الحج) وعلاقة (الأنعام) بالحج، تلك العلاقة المثيرة
والعجيبة والتي طُمست بالكامل تحت نير التراث والتحجّر.
***
الاستطاعة والقدرة
في السطور التالية سوف نتناول علاقة الإنسان مع
الكون بصورةٍ عابرةٍ، كما أشار إليها القرآن، حتى نصل إلى الفرق بين مفهوم
الاستطاعة والقدرة الذي دارت حوله سورة المائدة.
بدأت السورة بالإشارة إلى العقود التي طالب
الخالق الذين آمنوا بالوفاء بها، وكان أوّلها: (أُحلّت لكم بهيمة الأنعام) في
دلالةٍ واضحةٍ على ما يحلّ لك من هذا الكون.
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ
بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ
عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ
مَا يُرِيدُ (سورة المائدة: آية 1).
مجرد قول الله سبحانه وتعالى: أُحلّت لكم بهيمة
الأنعام؛ فهذا يعني أنّ ما سواها لا يحلّ. لقد تناولنا القاعدة الفقهية التي تقول
إنّ الأصل في الأشياء الإباحة، وذكرتُ في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب أنّ
هذه الآية لا تشير إلى ذلك، بل إنّ الأصل في الأشياء عدم الإباحة. يحلّ لك ما جاء
ذكره صراحةً، وما سواه ليس لك أن تستهلكه طعامًا لك.
استمرّت السورة في توضيح العلاقة بين الإنسان
وكثيرٍ من الأمور، وكأنّ كلّ أمرٍ من هذه الأمور عقدٌ من تلك العقود التي طالب
الله الإنسان بالوفاء بها. لا أقول هو عقدٌ بين الإنسان وربه؛ فهذا لا يجوز
مطلقًا، ولم تُصرّح به السورة. السورة لم تخبرنا بأنّ العقود التي يُطالب الإنسان
بالوفاء بها هي عقودٌ بينه وبين الله، ولكنّها أخبرتْ عن العقود عامّةً، وهي عقودٌ
بين الإنسان بوصفه مخلوقًا، ومخلوقات الله التي تعيش معه على هذا الكوكب.
أتذكّر جيدًا في أكثر من موقفٍ جمعني بمتخصصين
يتحدّثون عن علم العقيدة، وكنتُ قد اعترضت على مدلول اسم العقيدة، إذا كان المقصود
من لفظ (عقيدة) هو وصف العلاقة بين الإنسان والله. لفظ (العقيدة) مشتقٌ من عقد،
والعلاقة بين الإنسان وربه ليست عقدًا أبدًا. العقد يكون بين شريكين في المستوى
نفسه، أو أنّ بينهما مشتركاتٍ كثيرةً، وفيه شيءٌ من النديّة، ولذلك لا يصحّ وصف
العلاقة بين الإنسان وربه على أنّها عقيدةٌ. يجب أنْ نختار من كتاب الله المسميّات
الصحيحة والتي ارتضاها الله، فقد سمّى القرآن العلاقة التي بين الإنسان وربه
ميثاقًا.
(وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ
لَمَاۤ ءَاتَیۡتُكُم مِّن كِتَـٰبࣲ وَحِكۡمَةࣲ ثُمَّ جَاۤءَكُمۡ رَسُولࣱ
مُّصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ
ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَ ٰلِكُمۡ إِصۡرِیۖ قَالُوۤا۟ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ
فَٱشۡهَدُوا۟ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ) (سورة آل عمران: آية 81).
(وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلَّذِینَ
أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَتُبَیِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ
فَنَبَذُوهُ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡا۟ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۖ فَبِئۡسَ
مَا یَشۡتَرُونَ) (سورة آل عمران: آية 187)
أرى أنّ (الميثاق) هو التعبير الأكثر ملاءمةً
لوصف العلاقة بين الإنسان وربه، وليس لفظ (عقيدة)، أمّا العقيدة أو العقود بصفةٍ
عامةٍ فهي وصفٌ للعلاقة بين الإنسان ومحيطه، أو المخلوقات التي تعيش معه في الكوكب
نفسه.
لفظ (الميثاق) كذلك جاء في سورة المائدة أيضًا
التي بدأت بالعقود، لكنّ الميثاق وصف العلاقة التي بين الإنسان وربّه، بخلاف
العقود التي وصفت العلاقة بين الإنسان ومحيطه.
(وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ
وَمِيثَٰقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِۦٓ إِذۡ قُلۡتُمۡ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ) (سورة المائدة:
آية 7). (الميثاق) مضاف لله، أمّا العقود في أول السورة فليست مضافةً لله، لذا يجب
الحذر عند استعمال المفردات، حتى لا يقول الإنسان على الله ما لا يجوز.
الآية الثانية في سورة المائدة وضعت العقد الثاني
وهو من أعظم العقود، وأعجب كثيرًا كيف فات الإنسان فهم هذه العقود، وكيف ظلّ مئات
السنين يبحث عن مهمته على الأرض أو مراد الله منه، دون أن يلتفت إلى هذه العقود.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ
شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ
وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ
وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (سورة
المائدة: آية 2).
هذه الآية لا تمُتُّ بصلةٍ لكلّ ما هو متعارفٌ
عليه الآن، بل إنّ الحجّ ذاته لا يمُتّ بصلةٍ لما يحدث الآن، وسوف نتعرّض لهذه
الآية بالتّفصيل عندما نأتي على مفهوم الحج العظيم، والذي تركه الناس ولم يفطنوا
له، وقد بيّنه القرآن بكلّ تفاصيله. الآية تحوي مجموعةً من الألفاظ والتعبيرات
المنسجمة والمتّسقة مع مفهوم الحج بصورةٍ عجيبةٍ، بل وتؤسّس لعلاقة الإنسان بالكون
والمخلوقات معه على الأرض، في تعبيراتٍ لا تقبل الشكّ بأنّ من أنزلها هو الخالق
العليم والقدير.
الآية الثالثة في سورة المائدة حملت العقد
الثالث، وهو بيان ما حُرّم على الإنسان، والتحريم منعٌ أبديٌّ وأزليٌ، لا يجوز
تخطّيه أبدًا، كما يشير إلى ذلك لفظ التحريم في القرآن.
(حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ
وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ
وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ
إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ
ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا
تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ
عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي
مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) (سورة
المائدة: آية 3).
ما بين ما يحلّ وما يحرُم هناك مدىً واسعٌ من
العلاقات، وهي التي لا يجوز للإنسان التعدّي عليها مطلقًا، بل هي علاقة إنْ شئتَ
أنْ تقول عنها أنّها علاقةٌ نديّةٌ، أو علاقةٌ تبادليةٌ، أو علاقة عقودٍ، كما
وصفها القرآن. اعتقاد الفقهاء أنّ الإنسان مركز الكون جعلهم يُطلقون يده، من خلال
عبارة: ما لم ينزل فيه نصٌّ فهو مباحٌ، والحقيقة التي قرّرتها سورة المائدة ليست
كذلك أبدًا.
سورة المائدة احتوتْ على عددٍ هائلٍ من العقود
والمواثيق التي تحكم علاقة الإنسان بمحيطه، ومن أهم هذه المواثيق:
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ
قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ
قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ (8)) (سورة
المائدة: آية 8).
العقد هنا بين الإنسان وبين نُظرائه، وبنود العقد
هي أنْ يقوم بالقسط، وأنْ يعدل مهما كلّفه ذلك. هذا القسط وهذا العدل هو لله أو
تحت رعاية الله. هكذا بيّنت الآية، فجزاء مَن يؤدي هذا العقد الجزاءُ الأوفى من
الله، ومن يُخلّ ببنود هذا العقد فأولئك أصحاب الجحيم، كما بيّنت الآيات التالية
في سورة المائدة:
(وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٞ (9) وَٱلَّذِينَ
كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ (10))
(سورة المائدة: آيات 9-10).
ثلاث آياتٍ في سورة المائدة جاء فيها ذكر
الميثاق، وهو وصفٌ للعلاقة بين الإنسان وربّه، ولا شكّ أنّه يختلف عن
العقود:
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ
إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم
بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء
السَّبِيلِ(12) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا
مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ(13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا
مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ
اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(14)) (سورة المائدة: آيات 12-13).
الوفاء بالعقود هو أهمّ بنود هذا الميثاق، ثمّ
إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وباقي الأفعال التي نصّت عليها
الآية. كما نصّت الآيات على أنّ الإخلال بالميثاق سبب كلّ شقاءٍ، ويجب ألّا ننسى
الميثاق الذي دارت حوله السورة بالأساس، وهو علاقة الإنسان بمحيطه كما أشار ودلَّ
اسم المائدة.
من أهم بنود الميثاق التي جاءت في الآيات التالية
التحذير من عدّ عيسى هو الله أو ابن الله، أو أن يعدّ الناس أنفسهم أبناء الله
وأحباءه؛ فالعلاقة ليست كذلك، بل هي علاقة خالقٍ ومخلوقين، ويجب أنْ يعرف المخلوق
حدوده تمامًا.
(لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي
الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17) وَقَالَتِ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن
يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)) (سورة المائدة: آيات 17-18).
دلالة هذا الميثاق عظيمةٌ؛ فعيسى هنا خلق حياةً
وأحيا أمواتًا، وهو بشرٌ. لا تعتقدْ باستحالة ذلك على البشر؛ لأنّك بذلك أوقعت
نفسك في مأزقٍ، وجعلتَ عيسى يقوم بأفعال الإله، والتي لا يستطيع البشر الإتيان بها.
الميثاق الذي جاء في سورة المائدة، وذكر أنّ عيسى
بشرٌ، تبعه في السورة نفسها الحديث عن آيات عيسى، من خلق الحياة وإعادة
الموتى.
(إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ
ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ
تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ
وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ
كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ
وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ
بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم
بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ
مُّبِينٞ (110) وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي
وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ (111)) (سورة
المائدة: آية 110-111).
هذه الآية آيةٌ محوريةٌ في السورة، وفيها الآيات
العظيمة التي ذكرناها، وجاء بعدها مباشرةً مشهدٌ قرآنيٌّ من أروع المشاهد. إنّه
مشهدٌ يعطينا لمحةً عظيمةً عن الفرق بين القدرة والاستطاعة.
عندما سأل الحواريون نبيّ الله عيسى سؤالًا
عجيبًا: هل يستطيع ربك أنْ يُنزّل علينا مائدةً من السماء؟ لم يقولوا هل يقدر ربك،
بل قالوا هل يستطيع ربك، والفرق بين التعبيرين هو من أهمّ محاور هذه السورة.
عندما تساءل الحواريّون عن استطاعة الله، جاء
الردّ من نبيّ الله عيسى: اتقوا الله. لماذا قال لهم اتقوا الله؟
(إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ
مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ
ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ (112) قَالُواْ
نُرِيدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ
صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡهَا مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ (113)) (سورة المائدة: آية
112-113).
قال لهم اتقوا الله لأنهم نسبوا لله فعلًا لا
يليق به، وهو فعل الاستطاعة، والله يقدر، والإنسان يجب أنْ يعرف أنّ الله يقدر،
أمّا الاستطاعة فهي شأن مخلوقاته. عندما قال الحواريون: (هل يستطيع ربك؟) خلطوا
بين مفهوم الخالق والمخلوق. لفظ (الاستطاعة) لم يأتِ أبدًا في كتاب الله مقرونًا
بالله، وبدلًا منه جاء دائمًا لفظ (القدرة) يصف أفعال الله، فالله هو
القادر.
(وَقَالُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ
مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰۤ أَن یُنَزِّلَ ءَایَةࣰ
وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ) (سورة الأنعام: آية 37).
)قُلۡ هُوَ ٱلۡقَادِرُ عَلَىٰۤ أَن یَبۡعَثَ
عَلَیۡكُمۡ عَذَابࣰا مِّن فَوۡقِكُمۡ أَوۡ مِن تَحۡتِ أَرۡجُلِكُمۡ أَوۡ
یَلۡبِسَكُمۡ شِیَعࣰا وَیُذِیقَ بَعۡضَكُم بَأۡسَ بَعۡضٍۗ ٱنظُرۡ كَیۡفَ نُصَرِّفُ
ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَفۡقَهُونَ) (سورة الأنعام: آية 65).
لقد تناولتُ مفهوم القدرة في الجزء الأول من
سلسلة تلك الأسباب، وقلتُ إنّ فعل القدرة مع الإنسان لم يأتِ محمودًا أبدًا؛ إذ
إنّ فعل (القدرة) من التقدير، والتقدير يلزمه فهم كلّ علاقات الشيء، والإحاطة
الكاملة بكلّ الجوانب، وهذا ما لا طاقة للإنسان به.
(إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا
كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ
مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ
زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ
أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارࣰا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدࣰا كَأَن لَّمۡ
تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ) (سورة
يونس: آية 24). ظنّ القدرة هنا غرورٌ من الإنسان، وسوء تقديرٍ للموقف؛ لأنّ لفظ
(القدرة) لفظٌ يشير إلى الشمول والإحاطة.
على الجانب الآخر، جاء لفظ (الاستطاعة) مع
الإنسان لتحفيزه، بل ويشير إلى أنّه يستطيع فعل ما لا يتخيله، مثل الآية في سورة
الرحمن:
(یَـٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ إِنِ
ٱسۡتَطَعۡتُمۡ أَن تَنفُذُوا۟ مِنۡ أَقۡطَارِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ فَٱنفُذُوا۟ۚ
لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلۡطَـٰنࣲ) (سورة الرحمن: آية 33). جاء فعل الاستطاعة في
هذه الآية لتحفيز الإنسان على الحركة والتقدّم المستمرّ، ولكنْ يجب أنْ ينتبه
الإنسان إلى هذا الفرق، في أنه هنا يستطيع ولكنه لن يقدر بشكل مطلق بل مطلوب منه
السعي خلف الاستطاعة. الفرق بين القدرة والاستطاعة فرق حساس للغاية ويضع الفاصل
بين المخلوق والخالق ويجب الانتباه لهذا الفرق جيدًا وعدم التهاون أبدًا في
استخدام الترادف في هذه الحالة.
لماذا لفظ (يستطيع) لا يجوز في حق الله، في حين هو من صميم مهمّة
الإنسان؟
لفظ (يستطيع) أصله طوع، ويدلّ على الانقياد
والطاعة، وعندما يدخل مقطع الألف والسين والتاء على اللفظ فإنّه يفيد الطلب، فيصبح
لفظ (يستطيع) يفيد طلب الطاعة والانقياد. والله لا يطلب من أحدٍ، بل يُقدّر
الأشياء، ويقول وقوله الحقّ، فلا يجوز لفظ الاستطاعة في حقّه، فهذا اللفظ يصدر
ممّن لا يُقدّر الله حقّ قدره.
لذلك عندما سأل الحواريّون هذا السؤال غضب نبيّ
الله عيسى، وقال لهم: اتقوا الله. ومع تبرير طلبهم برغبتهم في أنْ تطمئنّ قلوبهم،
لم يسأل نبيّ الله عيسى ربّه السؤال نفسه بصيغة الاستطاعة؛ فهو يعلم الحدود جيدًا،
بل قال مباشرةً: (ربّنا أنزل علينا مائدةً من السماء). كان ردّ الله عليه أنّه
سبحانه سوف ينزّلها عليهم، ولكنْ من كفر بعد ذلك سيُعذّبه عذابًا لا يُعذّبه أحدًا
من العالمين. لماذا هذا العذاب لا يُعذّبه أحدًا من العالمين؟ لأنّه تجرّؤٌ وجهلٌ
وخلطٌ للمفاهيم بصورةٍ فجةٍ.
(قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ
رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدٗا
لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةٗ مِّنكَۖ وَٱرۡزُقۡنَا وَأَنتَ خَيۡرُ
ٱلرَّٰزِقِينَ (114) قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن
يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ
أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ (115)) (سورة المائدة: آية 114-115).
هذا العذاب الشديد لأنّ هؤلاء القوم تجاوزوا،
وطلبوا من الله أنْ يفعل فعلًا من أفعال الاستطاعة بنفسه، وهو ما لا يليق، فالله
أعزّ وأجلّ من ذلك، وهو القادر والقاهر فوق عباده. وحتى تتضح الصورة سأضرب مثلًا،
ولله المثل الأعلى.
لو أنّ مُدير شركةً عملاقةً للمقاولات هو أعظم
مهندس تصاميم في العالم، وفي أحد مشروعات الشركة طلب أحد العمال من مدير الشركة
الذي هو أعظم المصمّمين أنْ يقوم بتركيب مقبض بابٍ أو طلاء حائطٍ. مِن أعمال مدير
الشركة الذي أسّس الشركة التصميم والتقدير، وهي أعلى درجةٍ في الشركة، أمّا
الأعمال اليدوية فهي من اختصاص العاملين بالشركة. ولذلك سيغضب هذا المهندس إذا طلب
منه عاملٌ تركيب مقبض الباب أو طلاء حائطٍ؛ لأنّ العامل المسكين جاهلٌ لأقصى
درجةٍ، ولا يفهم الفرق بين مهندسٍ يُصمّم وعاملٍ ينفّذ.
هذا ما يُفسّر لنا ارتباط لفظ (القدرة) بالله في
القرآن دائمًا، أمّا الاستطاعة فمنوطة بالإنسان. في كلّ آيات القرآن يُطلّ علينا
لفظ (القدرة) ليصف أفعال الإله الكلية والمطلقة، أمّا الأفعال المفردة فنرى فيها
استخدام لفظ (نحن) و(نا) الفاعلين إشارةً إلى الأدوات التي يستخدمها الله في كونه.
بيّنت سورة المائدة في نهايتها المطلوب من
الإنسان، وهو الاستطاعة، أي أنْ يطلب طاعة الأشياء، من خلال العقود التي بينه
وبينها، كما أرشدتْ إليها السورة في مقدّمتها. أمّا الإله فقديرٌ، وهذه الصفة هي
ما ختمت بها سورة المائدة آياتها. (لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ
وَمَا فِيهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كلّ شَيۡءٖ قَدِيرُۢ) (سورة المائدة: آية 120).
وضعت سورة المائدة تحديدًا الخطوط الفاصلة بين
المخلوق والإله، فعندما نقول إنّ الإنسان سوف يستطيع خلق حياةٍ أو إحياء الموتى أو
البعث، فنحن نعني ما نقول، حيث يستطيع الإنسان ذلك وهذا من تقدير الله. إنّنا لا
نقول إنّ الإنسان سوف يقدر؛ لأنّ القدرة ليست من أفعال الإنسان، لكنّ الإنسان
يستطيع، أيْ يطلب انقياد الأشياء وطاعتها، وهذا له.
يستطيع الإنسان بثّ الحياة في الجامد، وهكذا فعل
نبيّ الله عيسى، ولكنْ لا نبيّ الله عيسى، ولا الإنسان يقدر على ذلك. كلّ الأفعال
تفعلها أدوات الله، والإنسان هو أحد أهمّ هذه الأدوات، وسوف يستطيع دون شكّ، من
خلال الإشارات الكثيفة التي تدلّ على استطاعة الإنسان تحت مظلّة قدرة الإله.
الذين ينسبون خلق الأشياء أو الأفعال بصفةٍ
عامّةٍ مباشرةً إلى الله، هم بذلك ينسبون فعل الاستطاعة إليه، أمّا الذين يرون
تقديراته وقوانينه التي تحكم كلّ شيء فيرون تقدير القادر. سورة المائدة فتحت
المجال أمام الإنسان ليكون أداةً من أدوات الله، بل من أعظم الأدوات إنْ فهم دوره،
وفهِمَ العلاقات التي تربطه مع غيره.
العقل الإنساني العملاق
لقد أكّد القرآن على أن يكون الإنسان مسلمًا،
والإسلام كما شرحه القرآن هو عملية متعلّقة تمامًا بتعامل الإنسان مع المعرفة
والأفكار، إذ إنّ قبول الحقيقة معتمدٌ تمامًا على الدليل ورفض التحيّز لأيّ نوعٍ
من المعرفة التي ليس عليها دليلٌ كافٍ. من خلال هذا المبدأ الهامّ، وفهم الفرق بين
القدرة والاستطاعة، يمكننا استنتاج المطلوب من الإنسان، وكيف يمكنه إدارة الكون،
أو أن يكون أداةً من أدوات الله.
نرى بأعيننا كيف يقلّ المجهود البدني في مقابل
المجهود الذهنيّ، بل إنّ العلم قريبًا وقريبًا جدًا سوف يستبدل مهنًا ووظائف لا
تخطر على بال الإنسان، ويُحلّ الآلة بدلًا منه. وأتوقّع أنّ كلّ شيء سوف يُدار
بالطرق الآلية؛ لذا لن يبقى للإنسان إلّا المجهود الذهنيّ.
لهذا السبب كان التركيز الكثيف في القرآن على
فضيلةٍ هي أساس التفكير الصحيح، وركنٌ أصيلٌ في طرق التفكير، وهي أن يكون الإنسان
مسلمًا. لأنّ القابل للتعلم هو مَن سيفوز وسيخسر كلّ مقلّدٍ؛ فالمستقبل لمن لديه
هذا الاستعداد، بنصّ الآيات التي أشارت إلى خسران من يبتغي غير الإسلام دينًا.
لك أنْ تتخيّل أنّ ثلاثة عقولٍ تعمل معًا
بانسجامٍ تامٍ، وهي بالفعل عقولٌ قويةٌ ليس بينها لئيمٌ أو جاهلٌ، كيف ستكون
مخرجات هذه العقول؟
استمرّ في تخيّل مئةٍ من العقول، ليس بينها لئيمٌ
ولا جاهلٌ ولا مقلّدٌ، تعمل في تناغمٍ وانسجامٍ وتكامل، ما هو شكل إنتاج هذه
العقول؟
القرآن والتوجيهات الإلهية تدعم هذا التوجّه، وهو
صناعة عقلٍ إنسانيٍّ جبّارٍ، قوامه ملياراتٌ من العقول الفردية، أو قلْ أكثر من
ذلك، ولكنّها جميعها تعمل في تناغمٍ وانسجامٍ، ليس بينها عقلٌ واحدٌ لئيمٌ أو ضالٌ
أو جاهلٌ أو مقلّدٌ. هذا العقل الجبّار سوف يفعل أشياء عظيمةً، بل سوف يصبح أداةً
من أدوات الخالق في هذا الكون بكلّ تأكيدٍ ودون أدنى شكٍ في ذلك.
تخيّل اجتماع أمثال هؤلاء: (إراتوستينس،
ديموقريطس، أبقراط، هيباتيا، كلوديوس بطليموس، ابن سينا، الرازي , ابن حبان،
الخوارزمي، ابن خلدون، ابن النفيس، ابن الهيثم، جاليليو جاليلي، إقليدس، جوهانس
كيبلر، أنطوان لافوازييه، لويس باستور، الكسندر فليمنغ، ماري كوري، إسحاق نيوتن،
إدوين هابل، أرخميدس، يوهان هاينريش لامبرت، جون دالتون، روبرت هوك، نيلز بور،
جريجور مندل، دميتري مندليف، سرينيفاسا رامانوجان، ليونارد أويلر، كريستيان
أورستد، فرانشيسكو ريدي، ماكس بلانك، إرنست رذرفورد، جيمس وات، أندرو فيساليوس،
مايكل فاراداي، جيمس كليرك ماكسويل، برنارد ريمان، بول ايرليش، إيرين كوري، إيمي
نويثر، إدوارد جينر، لويس جاي لوساك، كارل لاندشتاينر، جيمس بريسكوت جول، انتونين
فان ليوينهوك، هاينريش هيرتز، إنريكو فيرمي، كارولوس لينيوس، هندريك أنطون لورنتز،
ليام طومسون كلفن، سيرجي بافلوفيتش كوروليف، ليز مايتنر، آلان تورنج، كارل ساجان،
ستيفن هوكينج، تشارلز داروين، ليوناردو دافينشي، نيكولا تسلا) وغيرهم كثيرون
وكثيرون على مرّ العصور وفي مختلف الأماكن.
لك أنْ تتخيّل أنْ تجتمع هذه العقول مع بعضها في
حالة كون أصحابها مسلمون بالمفهوم القرآني، مع استبعاد كلّ عقلٍ لئيمٍ وجاهلٍ
ومتحيّزٍ، مع الملايين التي لا نعلم عنها شيئًا، بالإضافة إلى ملياراتٍ من البشر
التي لم تُتح لها الفرصة في التعلّم وربما فاقت هذه العقول. كلّ هذه العقول تُصهر
في عقلٍ واحدٍ ليصبح أداة الله في الكون.
لهذا كان التوجيه الربّانيّ الأساسيّ للنّاس بأنْ
يكونوا مسلمين؛ أيْ غير متحيزين في التفكير، وهو الشّرط الأساسيّ ليكون الإنسان من
الفائزين، ويعمل داخل هذا النظام الجبّار الذي يُعدّ ليلًا ونهارًا، والذي قال عنه
الخالق لملائكته إنّي أعلم ما لا تعلمون.
عقل جبار سوف ينفْذ من أقطار السموات والأرض وسوف
يُنفذ إرادة الله ويعمر الكون ويستمر بالعمل انطلاقًا من الأرض إلى باقي أجزاء
الكون الرهيب.
لو تتبّعنا -فقط- تاريخ تطوّر البشرية فسوف ندرك
حقيقة أن البشرية تتّجه بقوةٍ لما يُسمّى العقل البشري العملاق، والذي بدوره سوف
يُحقّق مبدأ الاستخلاف في الأرض وفي السموات، من خلال مفهوم الاستطاعة الذي سوف
يعمل تحت مظلة القدرة. في بداية البشرية كان الناس يعيشون في تجمّعاتٍ صغيرةٍ، أو
قل تجمعاتٍ تُشكّل قبليةً، وتعمل القبيلة كلها على حماية حدودها من القبائل
الأخرى. تطوّرَ الأمر شيئًا فشيئًا، وبدأت القبائل تنضمّ إلى بعضها وتُكوّن
تحالفاتٍ، ثم بدأت الدول والممالك في الظهور، وكل نظامٍ يكون أقوى من النظام
السابق. ثم أخذت الدول والممالك تدخل في تحالفاتٍ وتُكوّن اتحاداتٍ، وها نحن في
عصر الانفتاح المعلوماتي الرهيب، والناس في تقاربٍ واضحٍ، وسيظلّ هذا التقارب
مستمرًا. وهذا التقارب من أهم أسباب القوة؛ إذ يتشارك الناس المعلومات والأفكار.
لا شك أن يومًا سيأتي سيصبح العلم فيه أكثر تقاربًا، ويعمل في منظماتٍ متناسقةٍ،
ولن يشذّ عن هذه المنظومة إلا المتطرّفون أو كارهو الاختلاف، وهؤلاء بالقوانين
الكونية ليس لهم مكانٌ وسط هذا الانسجام، وسوف يُفني هؤلاء بعضهم بعضًا. هذه
المقدمات التي نراها ونلمسها تدلّنا على طبيعة النتائج التي سوف نحصل عليها
بالنهاية، وهي العقل الإنساني الجبار.
ملخص الفصل
- استطاعة الإنسان خلق حياةٍ ليست مستبعدةً أبدًا، بل إنّ هناك إشاراتٍ
قرآنيةً على هذه الاستطاعة، وعلى الإنسان أنْ يسعى إلى ذلك بكلّ قوّةٍ، فهو
يعمل تحت المظلة الإلهية.
- استطاعة الإنسان خلق حياةٍ مرتبطةٌ بعلم الساعة، وعلم الساعة مرتبطٌ
بفهم كلمات الله على حقيقتها.
- الفرق
بين القدرة والاستطاعة هو الفرق بين المخلوق والخالق، وبمجرّد فهم الإنسان
للفرق بين المدلولين سوف يفهم مهمّته على الأرض، وهي أنْ يكون أداةً من أدوات
الخالق؛ إذ يُقدِّر الإله ويستطيع الإنسان.
Comments
Post a Comment