الفصل الثامن - الخروج

 

 الفصل الثامن


 الخروج 


 

حان الوقت لفهم مقدمة سورة الإسراء بعد فهم المقصود برحلة الإسراء، ومعرفة مَن الذي أسرى الله به، ومن هم بنو إسرائيل.

مُقدّمة سورة الإسراء هي من أسّست لمعركة الخلاص، وأحداث النهاية التي ملأت سمع الأمة ووجدانها، التي تدّعي أنّ القرآن هو منهجها. وكما نعرف جميعًا، فقد صوّرت عديدٌ من الكتابات أنّ معركةً في نهاية الزمان سوف تحدث بين المسلمين واليهود، وسوف يقتل المسلمون فيها اليهود شرّ قتلة، وسيُنادي الحجر والشجر: يا مسلم، ورائي يهوديّ تعال فاقتُله.

 

أحداث النهاية لا تحتوى على هذه المشاهد فقط، بل هناك نزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، والمسيخ الدجال، وغيرها من الأمور التي تُعدّ من المسلّمات غير القابلة للنقاش. في هذا الكتاب سنتعرّض لكلّ هذه المسلّمات تفنيدًا، من خلال تحليل اللفظ القرآني؛ لنضع حدًا لغياب العقلانيّة الذي غلّف الدين، و نعيد الأمور إلى نصابها بصورةٍ علميّةٍ وتحليليةٍ. 

 

لم يكن القرآن كتابًا عنصريًا قط، ولا يُصنّف الناس بالجملة، ولا ينحاز لأحدٍ، بل يصف نماذج وأنماطًا فكريةً، ليس لها علاقةٌ بما صنّفه البشر. لقد تعرّضنا بالتحليل لمسميات (اليهود) و(النصارى) و(المسلمين) من خلال كتاب قولًا ثقيلًا، واستنتجنا أنّ هذه المسميات إنما هي تصنيفاتٌ فكريةٌ، وليست عرقيةً كما تصوّرها الناس، وبنوا عليها رواياتهم وأساطيرهم. مسمّى (مسلم) تحديدًا يصف كلّ إنسانٍ غير متحيزٍ، ومنصفٍ في التعامل مع المعرفة الجديدة، وإذا أضفنا إليه وصف (حنيف) الذي يعني متطلّعًا وشغوفًا، يصبح (المسلم الحنيف) هو الإنسان صاحب المبدأ الشريف في التعامل مع المعارف والعلوم، من حيث الإنصاف والتطلّع للمزيد. 

يعتنق هذا المبدأ كثيرٌ جدًا من الناس، في معظم المعتقدات وعلى مرّ السنين، ويزداد هذا المبدأ وضوحًا وتميّزًا كلّما تقدّم الإنسان في مستوى الثقافة. النظم التعليمية الحديثة القائمة على التفكير والإبداع تعمل باستمرارٍ على ترسيخ هذا المبدأ، دون أن تُسمّيه مبدأ الإسلام؛ لأنّ أغلب من يَنسِبون أنفسهم للإسلام ضربوا المثال الحيّ في التحيّز والتعصّب لما يحملونه.

عدم التحيّز والموضوعية عند مناقشة فكرةٍ علميةٍ أو استنتاج نتيجةٍ هو المبدأ المثاليّ الذي ينبغي أن يتحلّى به كلّ باحثٍ شريفٍ، وهو كذلك مفهوم الإسلام كما قرّره القرآن، وليس كما ترجمه الناس القدامى، وصدّروه للعالم على أنه وصفٌ طائفيٌّ. 

هذا الكتاب، وسلسلة كتب تلك الأسباب، حملت قدرًا هائلًا من تحليل اللفظ القرآني، ورغم ذلك بمجرد الإعلان عن فكرةٍ ما تجد أنّ الموقف السائد هو الاستنكار، دون أيّ محاولةٍ للإطلاع على فحوى الفكرة أو فهم مضمونها. إن لم يكن هذا هو التحيّز فماذا يكون، وإن كان هذا إسلامًا فلا بد أن يكون إسلامًا من دون معنىً ولا مضمونٍ، ولا يمتّ للقرآن بصلةٍ. كيف نستعيد مفهوم الإسلام كما نصّ عليه القرآن مِن هؤلاء المتحيّزين الذين أساؤوا لكلمات الله أيّما إساءةٍ؟

ليس من أولويّات هذا الكتاب تصحيح اعتقاد أحدٍ، فهذا العصر قد مضى، لكنّني أرغب ألّا يسطو الناس على مفاهيم القرآن، فيحرّفونه ويصدّون الناس عن دراسة القرآن، وهو الكتاب الذي يقرأ الكون والنفس أجمل قراءةٍ. 

تِسع آياتٍ من مقدمة سورة الإسراء بريئةٌ تمامًا من العرقية أو الطائفية، أو الأمنيات بزوال دولة إسرائيل. مجموعةٌ الآيات هذه تضع الخطوط العريضة التي يجب أن يتعامل بها المهاجرون أو قل اللاجئون، وليس لها أيّ علاقةٍ بما يسمى أحداث النهاية، وحرب المسلمين واليهود المزعومة، والشجر والحجر الذي ينادي يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله.

 

تحليل الآيات التسعة الأولى من سورة الإسراء

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً(2)ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا(3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً(5)ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6)إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا(7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا(8)إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9))(سورة الإسراء: آيات 1-9). 

 

سوف أقوم بتحليل بعض الكلمات في هذه الآيات، ومن ثمّ أبيّن مدلول الآية، وإلى ماذا تشير، حتى نقف على المعنى، ونرى العلاقة الواضحة بين اسم السورة وموضوعها. 

الآية الأولى:

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (سورة الإسراء: آية 1)

كنا قد تناولنا مفهوم الإسراء في فصلٍ كامل، وبيّنّا أنّ المقصود بالإسراء هو رحلة خروج إسرائيل أو هجرته من موطنه إلى موطنٍ آخر فارًا خائفًا. ثمّ استنتجنا أنّ (إسرائيل) هو موسى صلوات ربي عليه، وأنّ (بني إسرائيل) تعبيرٌ يصف المهاجرين أو اللاجئين الذين اقتفَوا أثر إسرائيل، وليسوا نسله البيولوجي. بمجرد الوصول لهذه النتائج صار أمر تدبّر الآيات التالية يسير في خطٍ مستقيمٍ خلف موضوع السورة الرئيس، وأصبحت كلّ آيةٍ تضيف لنا جزءًا من الصورة، حتى اكتملت. 

 

الآية الثانية: 

(وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً)(سورة الإسراء: آية 2).

بعد ذكر حادثة الإسراء في الآية الأولى، جاء -مباشرةً- ذكر نبي الله موسى ومعه بني إسرائيل؛ ممّا يزيدنا يقينًا أنّ المعنيّ بالإسراء هو موسى صلوات ربي عليه، وأنّ بني إسرائيل هم الذين ساروا على درب إسرائيل (موسى)، واتبعوه في نهج الإسراء تحديدًا. أمّا الكتاب الذي يُخبرنا عنه القرآن فهو كتابٌ خاصٌّ بمسألة الإسراء أو اللجوء كما وصفناها، على نحوٍ يصبح هدىً للناس، يُرشدهم ويدلُّهم لما لهم وما عليهم. الكتاب هنا يُشبه الميثاق الذي سوف يُنظِّم تعاملهم، وهو كتاب الإسراء إن جاز لنا التعبير، فأين هو هذا الكتاب؟ 

 

القرآن -وبنصٍ صريحٍ- يخبرنا أنّ ما جاء بني إسرائيل في هذا الكتاب هو الوصايا التي سجّلتها لنا سورة الإسراء، بدءًا من الآية الرابعة، والتي بدأت بقول الله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ). أمّا الآية الثالثة فقد أزاحت الستار عن مَن هم بنو إسرائيل، والذرية التي انحدروا منها، وكيف أنّها ذريةٌ تختلف عن ذرية إسرائيل نفسه، كما سوف نرى. 

الآية الثالثة: 

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)(سورة الإسراء: الآية 3). 

هذه الآية تقول لنا مباشرةً: إنّ بني إسرائيل هم ذرية من حملنا مع نوح. بنو إسرائيل محور الحديث في الآيات، والذين جاءهم الكتاب يخبرهم ويقصّ عليهم ما سوف نعرفه بدءًا من الآية الرابعة، ليسوا من ذرية نوح؛ بل من ذرية من حملنا مع نوح. الآية صريحةٌ ولا تحتاج لمجهود لفهمها. 

في المقابل نجد أنّ القرآن يُخبرنا أنّ ذريّة إبراهيم، ومِن بعده أبناؤه، ومنهم موسى عليه السلام، هم من ذرية نوحٍ نفسه، كما جاء في سورة الأنعام.

(وَتِلۡكَ حُجَّتُنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَـٰتࣲ مَّن نَّشَاۤءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِیمٌ عَلِیمࣱ(83) وَوَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَٰقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيْمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ)(سورة الأنعام: آية 83- 84). 

الهاء في لفظ (ذريته) يعود على نوح، ولذلك فالمقصود أنّ كلّ الأنبياء بعد لفظ (ذريته) هم من نسل نوح. لو استكملنا الآيات في سورة الأنعام للتأكد من هذه الفرضية سنجد أنّ الآيات استكملت ذكر الأنبياء من دون فاصلٍ، وذكرت كذلك لوط. 

(وَزَكَرِیَّا وَیَحۡیَىٰ وَعِیسَىٰ وَإِلۡیَاسَۖ كُلࣱّ مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ(85) وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَٱلۡیَسَعَ وَیُونُسَ وَلُوطࣰاۚ وَكُلࣰّا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ(86)(سورة الأنعام: آيآت 85-86). 

لوط تحديدًا ومن خلال النص القرآني ليس من ذرية إبراهيم، فيكون لوط مِن ذرية نوح، وكذلك كلّ مَن سبقه من ذرية نوح. بعد ذلك انحدرت من نبي الله إبراهيم ذريته، ويعقوب وداود وسليمان كلٌّ له ذرية. لكنّ الآيات في سورة الأنعام تخبرنا أنّ كل هؤلاء الأنبياء من ذرية نوح. 

لدينا الآن آيةٌ واضحةٌ في سورة الإسراء، تتحدّث عن بني إسرائيل وأنهم من ذرية من حُمل مع نوح، وآياتٌ في سورة الأنعام تقول إنّ إبراهيم ويعقوب وموسى من ذرية نوحٍ نفسه. لقد وَضحَ الآن بصورةٍ لا تقبل الجدال أنّ تعبير (بني إسرائيل) لا يعني ذرية إسرائيل أو أبناء إسرائيل البيولوجيين، ولكنّه يعني المتّبعين لنهج إسرائيل. 

حتى الذين يظنون أن إسرائيل هو يعقوب تماشيًا مع روايات العهد القديم، فهذه الآية تنقض بنيانهم، فقد أشارت إلى أنّ بني إسرائيل ليسوا من ذرية نوح، بل من ذرية من حُمل مع نوح. وبمجرد فهم أن (إسرائيل) هو لقب موسى صلوات ربي عليه، وأنه سُمّي بذلك لأنه خرج في رحلة الإسراء، ثم جاء ليخرج بالمؤمنين، فسوف ندرك أنّ الخارجين معه ليسوا أبناءه ولكنه الأب الروحيّ لهم. 

 

الآية الرابعة:

(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) (سورة الإسراء: آية 4)

لفهم هذه الآية يلزمنا فهم ألفاظها بشيءٍ من التريث، وتحديدًا لفظ (قضى) ولفظ (فسد) ولفظ (علوّ). 

 

أولًا: لفظ (قضى): لفظ (قضى) يعني إحكام أمرٍ وإتقانه وإنفاذه، ومن خلال تتبّع لفظ (قضى) في كتاب الله، لن نستغرق وقتًا طويلًا لنستنتج أنّ لفظ (قضى) يعني إنفاذ شيءٍ ما. 

- لكن ما الفرق بين (القدر) و(القضاء) من خلال كتاب الله؟ 

بيّنّا في الجزء الرابع- قولًا ثقيلًا أنّ لفظ (القدر) يعني التقديرات والقوانين التي تحكم كلّ شيءٍ. أمّا لفظ (القضاء) فيعني نفاذ هذه التقديرات. 

لنعطي مثالًا بسيطًا لتوضيح الصورة، وهو المواد السامة وتأثيرها في الإنسان:

من قوانين المواد السامة أنّها قادرةٌ على قتل الإنسان فورًا. هذا القانون هو أحد الأقدار، لذا إذا تناول الإنسان المادة السامة فإنّ القضاء هو أنّه سوف يموت حتمًا. من هنا نستطيع القول: إنّ القدر هو مجموعة التشريعات والقوانين التي وضعها الله، وتُشبه بمفهومنا المعاصر القوانين الموضوعة لتسيير حركة الناس، أمّا القضاء فهو إنفاذ هذه القوانين، أو ما يمكن أنْ نُسمّيه الهيئة التنفيذية. فالقضاء هو حتميّة وقوع الشيء المُقدّر. 

مفهوم (القضاء) و(القدر) ليس له أيّ علاقةٍ بحدوث أشياء غير مبررةٍ، أو دون أسبابٍ، كما تعتقد الأغلبية، بل هما مفهومان مرتبطان ببعضهما، ويعنيان القوانين، وحتميّة وقوعها. فإذا قدّر الله أمرًا فذلك يعني أنه جعل له قانونًا يعمل من خلاله، وإذا قضى أمرًا فيعني حتمية وقوع القدر أو تنفيذه. 

عندما يقول ربنا في القرآن: إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ليُفسدنّ في الأرض مرتين، فهذا يعني أنّ القوانين الخاصة بمسألة الإسراء، أو حال كونهم بني إسرائيل، تُحتّم عليهم الإفساد في الأرض مرتين. 

هذا الآية لا تتحدّث عن فسادٍ اختياريٍّ كما نفهم، أو أنّ القوم مفسدون بطبيعتهم، ولكنّ الفساد هنا متعلّقٌ بكونهم بني إسرائيل، ورحلتهم التي سوف يتركون وطنهم خلالها، ويتوجّهون إلى وطنٍ جديدٍ. سوف يتّضح هذا الفساد مع استكمال تحليل باقي الكلمات وسوف ندرك ما هو الفساد الأول وما هو الفساد الثاني. 

 

ثانيًا: مدلول لفظ (فساد): المتتبّع للفظ (فساد) يجد أنّه ارتبط في أغلب المواضع في كتاب الله مع الأرض. يُقال (فسد الشيء) أيْ انحلّ مِن بَعضه. الفساد هو عملية خلخلةٍ لما هو مترابطٌ وثابتٌ.

في المعجم الاشتقاقي جاء معنى (فسد) على أنه ذهاب نفع الشيء أو تلفه وهلاكه. وبلغةٍ سهلةٍ وبسيطةٍ فإنّ الفساد هو نوعٌ من الخراب، وهذا الخراب قد يكون متعمّدًا أو غير متعمّدٍ. وفي حالتنا هو خرابٌ غير متعمدٍ؛ بسبب قول الله: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين). مجرد ذكر لفظ (القضاء) جعل الفساد مترتبًا على تقديراتٍ، وهذه التقديرات -كما وضّحت السورة- هي اتباعهم لنهج إسرائيل أو كونهم بني إسرائيل. 

 

ثالثًا: مدلول لفظ (علو) 

جاء لفظ (علو) في كتاب الله في أغلب مواضعه مذمومًا، ولو عدنا إلى أصل اللفظ سنجد أنّه يشير إلى السموّ والارتفاع. لكنْ من خلال تتبّع اللفظ في كتاب الله، سنجد أنّ اللفظ يُمثّل حالةً من الكِبر، أو بتعبيرٍ دقيقٍ حالةً من التمايز. من خلال جذر الكلمة (علو) ودلالة اللفظ في كتاب الله، نستطيع القول: إنّ (العلو) هو التمايز عن الباقين، وهذا التمايز ليس محمودًا لأنه يتبعه تصغير شأن الطرف الأخر بشكل ما . 

على الجانب الأخر نجد أن لفظ (الارتفاع) يشير إلى حالةٍ من السموِّ أو التسامي أو الإرتقاء وليس التمايز. مدلول (الارتفاع) في كتاب الله أشار بوضوحٍ إلى حالة السمو أو الإرتقاء بصورة إيجابية، والذي دلّت عليه الآيات في أكثر من موضعٍ. 

(وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمُۢ)(سورة الأنعام: آية 156). (رفع بعضهم) أي جعلهم في منزلةٍ أعلى، أو منزلةٍ رفيعةٍ، وهذا في حدّ ذاته نوعٌ من الارتقاء، وليس تمايزًا مذمومًا أو شيئًا من الكبر. 

جاء لفظ (العلو) في أغلب مواضعه مذمومًا؛ لأنّ التمايز عن الآخرين يحمل صفةً سلبيةً أكثر من كونه صفةً طيبةً حيث يشمل في طياته الكبر والإعراض، كما وضّحت الآيات التالية: 

- (وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمࣰا وَعُلُوࣰّاۚ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ)(سورة النمل: آية 41). 

العلو هنا: إحساسٌ بالكبر، يدعو صاحبه كي يجحد الحقّ وينكره. 

- (أَلَّا تَعۡلُوا۟ عَلَیَّ وَأۡتُونِی مُسۡلِمِینَ)(سورة النمل: آية 31). 

ألا تعلوا عليّ، بمعنى لا تتمايزوا، ولا يُصيبكم الكبر، وهكذا باقي الآيات. 

- (تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوࣰّا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادࣰاۚ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ)(سورة القصص: آية 83). 

- (وَأَن لَّا تَعۡلُوا۟ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنِّیۤ ءَاتِیكُم بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ)(سورة الدخان: آية 19).

كل هذه الآيات جاء فيها (العلوّ) مذمومًا؛ لأنها تصف علاقةً بين الناس، وينبغي ألا يعلو أحدٌ من الناس على الآخرين، بمعنى التمايز عنهم، بصورةٍ تخلق نوعًا من أنواع الطبقيّة. لفظ (العلو) إذا جاء مرتبطًا بالله فهو أمرٌ طبيعيٌّ؛ لأنّ الله ليس كمثله شيءٌ، وهو -لا شكّ- خالقٌ وليس مخلوقًا، ولا يساوي أحدًا من خلقه وهو سبحانه خارج هذه المنظومة التي نعمل داخلها فهو ذو العلم المحيط والقدرة المطلقة.

(سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یَقُولُونَ عُلُوࣰّا كَبِیرࣰا)(سورة الإسراء: آية 43). 

كذلك جاء لفظ (علو) محمودًا مرةً واحدةً، في حالة النهي عن الخضوع والتهاون مع الكافرين عند مقاومتهم، ويذكّر الله المؤمنين بأنّهم الأعلون -حقًا- بإيمانهم على هؤلاء المعتدين. 

(فَلَا تَهِنُوا۟ وَتَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱلسَّلۡمِ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمۡ وَلَن یَتِرَكُمۡ أَعۡمَـٰلَكُمۡ)(سورة محمد: آية 35). 

التمايز على الكافرين جائزٌ بنصّ هذه الآية، والكافرون هنا هم من يكفرون الحقّ أو الحقوق المتعلّقة بكم، وكنتم في حالة حرب معهم، ولنضربْ مثلًا لتقريب الصورة: 

بفرض وجود حالة حربٍ بين طرفين، أحد هذين الطرفين كافرٌ بحقوق الطرف الآخر، يجحدها ولا يعترف بها رغم وضوحها. في هذه الحالة يصبح التساهل مع هؤلاء الكافرين أمرًا مذمومًا، والعلوّ عليهم هو المطلوب، وإذلالهم فيه نفعٌ للبشرية، حتى لا يطغى أحدٌ على أحدٍ، ويصبح الكافر صاغرًا. العلوُّ هنا هو التمايز الواضح بين الحقّ والباطل، وليس تمايزًا طبقيًا، والتمايز بين الحقّ والباطل واجبٌ حتى لا يختلط الأمر على الناس. العلو في حالة الحرب حالة مقررة حيث المنتصر يملي شروطه على المهزوم ولا عجب في ذلك وهي حالة طبيعية تمامًا. 

ملاحظةٌ هامّةٌ: المقصود بالكفر هنا هو الكفر الذي نتجت عنه حرب، وليس كفرًا عقائديًا، فالكفر العقائديّ لا يستوجب الحرب، فلكلّ إنسانٍ حرية الاعتقاد كاملةً. حرية الاعتقاد تناولناها في أكثر من موضعٍ ولا داعي لسرد الأدلة على حرية الاعتقاد، والتي تناولها باحثون كُثرٌ على مر التاريخ، ولكن للأسف يتمسك الناس بنقيض ذلك؛ بسبب موروثهم، وليس بسبب قراءتهم للقرآن. 

بعد بيان صفة الألفاظ في الآية الكريمة، يمكننا القول: إنّ الآية تصف الإفساد المصاحب لحالة بني إسرائيل، فهو أمرٌ حتميٌّ؛ بسبب طبيعة الحالة ذاتها، وهي كما بيّنّا حالة اللجوء. أو الهجرة وقضاء الله إلى بني إسرائيل بأنهم سوف يفسدون في الأرض مرتين أمرٌ طبيعيٌّ، إذ يتمثّل في الآتي:

عندما يخرج اللاجئون والمهاجرون بأعدادٍ كبيرةٍ من بلدانهم، فإنّ حالةً من الخراب، أو كما سمّاها القرآن فسادًا، تحلّ بالمكان الذي خرجوا منه، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ للغاية.

بفرض خروج أهل بلدةٍ من بلدتهم بسبب ظرف معيّنٍ، ماذا يحدث لهذه البلدة؟ لا شك أنّ الخراب سينالها؛ بسبب الفراغ الذي خلّفه خروج هؤلاء، واختلاف الحياة عن ما كانت عليه. هذا هو القضاء؛ إذ إنّ قوانين الحياة وسننها تقضي إذا حدث فراغٌ في أرضٍ من أهلها أو بعض أهلها، فإنّ الفساد يطولها، أو يصيبها نوعٌ من الخراب. 

حالة الفساد الثانية هي عند دخول الأرض الثانية، أو الوطن الجديد. فعندما يَقدُم المهاجرون واللاجئون على أرضٍ جديدةٍ فإنّهم -لا شكّ- سيُغيرون معالمهما، ويصنعون ارتباكًا بقدرٍ ما، وهذا الارتباك وخلخلة المجتمع القائم هو في حدّ ذاته فسادٌ، وهذا هو الفساد الثاني. 

من هنا نرى وضوح مدلول (القضاء)، وهو حتميّة هذا الفساد، بسبب حركة هؤلاء الناس الذين اتبعوا نهج إسرائيل. لو أنّ اللاجئ أو المهاجر شخصٌ واحدٌ، قد يكون الفساد غير مؤثّرٍ أو غير ملحوظٍ، لكنْ إنْ كان اللاجئون أعدادًا كبيرةً، فحينئذٍ سيصبح الفساد مرّتين شديد الوضوح ولا شكّ، وهو فساد الأرض التي خرج منها المهاجرون، وفسادٌ مرةً أخرى ناتجٌ عن دخول الأرض الجديدة واستيطانها. 

- هل يمكن تجنب هذا الفساد، أم إنّ الفساد حتميّ الوقوع حتى لو احتاط له الناس؟

الفساد واقعٌ لا محالة؛ لأنه خللٌ مفاجئٌ في حركة الحياة، ولكنْ يُمكن تقليل آثار هذا الفساد بقدرٍ ما، إذا استطاعت المجتمعات التعامل مع هجرة الناس بأعدادٍ كبيرةٍ من أرضٍ إلى أرضٍ أخرى. الفساد هو أحد أهمّ بنود كتاب اللجوء أو الهجرة بأعدادٍ كبيرةٍ، والذي قال عنه الله: آتينا موسى الكتاب. 

 

بعد الفساد مرّتين، والمرتبط بحالة بني إسرائيل، نأتي للسنّة الكونيّة الثالثة، أو البند الثاني في الكتاب، وهو العلو الكبير، أو التمايز الواضح. إذ من ضمن القضاء الذي أشارت إليه الآية الكريمة هو العلوّ الكبير لبني إسرائيل، وتبدو هذه المرحلة أيضًا مرتبطةً بحالة اللاجئين أو المهاجرين بصفةٍ عامةٍ. التاريخ البشريّ يعرف تمامًا أنّ الأرض الجديدة، أو الأرض التي يهاجر إليها الناس، ما تلبث أن تزدهر وترتقي، بسبب طبيعة هؤلاء الناس. 

طبيعة المهاجرين -في الغالب- أنّهم يحملون قضيةً، وهِمَمُهم عاليةٌ، وما إنْ يحطّوا رحالهم في أرضٍ إلا ويستعمروها بأفضل ما يكون، وهذا هو العلوّ أو التمايز الواضح. تاريخ هجرات البشرية التي كانت في أغلب حالاتها ناحية الشمال دليلٌ على أنّ أرض المَهجر أرضٌ يتمايز المهاجرون إليها. لا شكّ أنّ هناك هجراتٍ حدثت ناحية الجنوب، ولكنْ لو أضفنا إلى همّة المهاجرين، البيئة نفسها وعلاقة الوعي والإدراك بالروح المرتبط بالأكسجين أو النسيم، والذي يكون متوافرًا بكثرةٍ في المناطق الباردة، سوف ندرك لماذا هجرات الشمال تُنتج مجتمعاتٍ متقدّمةً. 

على النقيض تمامًا فإنّ المجتمعات التي لا يُغامر أفرادها، ويبقون مستقرّين، تضعُف وتذبُل ثمراتها. كما يعرف علماء الأنثروبولوجيا أنّ هجرات البشر عاملٌ أساسيٌّ في ازدهار البلاد وتقدّمها. 

(العلو) بمعنى التمايز ليس مذمومًا، والقرآن –هنا- لم يسمِّه ارتفاعًا؛ لأنّ (الارتفاع) حالةٌ من السموّ، والذي يحمل صفاتٍ طيبةً، أمّا (العلو) في حدّ ذاته فلا يُشترط أنْ يكون ذا معنىً إيجابيٍّ. قد تتقدّم المجتمعات وتزدهر كثيرًا، وتتميّز على مجتمعاتٍ ضحلةٍ، ولكنّها قد تكون أخلاقيًا غير سويةٍ أو ظالمةً أو معتديةً. هذه الحالة حالة علوٍّ، وليست ارتفاعًا؛ إذ يمثّل العلوّ الجانب الماديّ، أمّا الارتفاع فيأخذ الجانب المعنويّ بالحسبان. العلو المذكور في الآية يصف حالة تقدمٍ أو حالة زهوٍ ماديٍّ تختلف عن المجتمعات التي فارقوها في الغالب، وهذه سنةٌ كونيةٌ وقضاءٌ كما قال الله. هذه الآية يمكننا تأكيد مفهومها من خلال أكثر من آيةٍ في كتاب الله تدعو الناس للهجرة، وتعدهم الفضل والرزق الوفير. 

(إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا)(سورة النساء : آية 97)

(وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)(سورة النساء : آية 100).

الهجرة في حد ذاتها مدعاةٌ للرزق والعلوّ المادي على الوضع السابق، وإلا ما هاجر المهاجرون في كل بقاع الدنيا. إنها سنةٌ كونيةٌ وتقديرات العزيز العليم، وهي شديدة الوضوح والمباشرة. 

الآية الخامسة:

(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً)(سورة الإسراء: آية 5)

بعد أنْ وصفت الآيات السابقة حالة بني إسرائيل أو حالة المهاجرين، وهي -لا شك- حالةٌ مؤقّتةٌ، انتقلت الآية الكريمة تصف دخولًا آخر لبني إسرائيل أو موجةً جديدةً من بني إسرائيل أو المهاجرين الذي يقصدون الديار الجديدة أو الوطن الجديد. الآية الآن تُخاطب المقيمين، وتخبرهم أنّه إذا حلّ وعد الأولى بعثنا عليكم عبادًا لنا. الآية هنا تصف حالة عودٍ على بدءٍ؛ إذ تخاطب بني إسرائيل بعدما استقروا وأصبحوا مقيمين، ودخلت عليهم وفودٌ جديدةٌ، وأصبحت هذه الوفود بحكم هجرتها هي وفود بني إسرائيل الحالية. دورةٌ متكررةٌ، وسوف تبدو هذه الدورة أكثر وضوحًا مع تحليل الآيات الباقية. 

 ما هي الأولى؟ وما هي الآخرة التي تحدّثت عنها الآيات؟

الأولى هي حالة انتقال بني إسرائيل من دارٍ إلى دارٍ، ودخولِهم واختلاطِهم بالمقيمين في الدار الجديدة، ممّا ينتج عنه فسادٌ في الأرض القديمة والأرض الجديدة. 

العباد أولي البأس الشديد هم المهاجرون، والذين أشارت الآية السابقة إلى أنّهم سوف يعلون علوًا كبيرًا. هذا البأس الشديد أو ما نُسمّيه بلغتنا المعاصرة الهمّة العالية، سوف تجعلهم ينتشرون ويبدؤون في تكوين مجتمعٍ جديدٍ، أو حتى مساعدة المجتمع القديم على التقدُّم. 

أمّا الآخرة فهي عندما يتحوّل بنو إسرائيل إلى مقيمين، وتحدُث الحالة نفسها ويدخل عليهم مهاجرون أو لاجئون آخرون. في هذه الحالة يحدث انقلابٌ؛ إذ إنّ بني إسرائيل الأمس أصبحوا أصحاب الأرض اليوم، والمهاجرون الجدد هم من أصبحوا بني إسرائيل. إنّه وصفٌ لحالةٍ متكرّرةٍ في التاريخ البشري، وسوف تظلّ هكذا ما دامت الهجرات موجودة في حياة الإنسان والأمم. 

التعبير القرآنيّ (جاسوا خلال الديار) يصف حالة الاختلاط العجيب بين المقيمين والقادمين الجدد، ولا تعني أبدًا حالة حربٍ أو قتالٍ. لفظ (جاسوا) وأصله جوس، يعني تخلُّل الشيء، وهذه الحالة لا تعني حالة حربٍ أو قتالٍ أبدًا؛ بل تعني حالة اختلاطٍ ناعمٍ بين الناس، وهو ما يتوافق تمامًا مع حالة دخول المهاجرين أو اللاجئين في أممٍ أخرى. والآية التالية تؤيّد ما ذهبنا إليه، وهو التحوّل في حالة بني إسرائيل إلى حالة المقيمين. 

 

الآية السادسة: 

(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) (سورة الإسراء: آية 6).

هذه الآية تصف الوضع الثاني، أو بداية الوضع الثاني، فقد أصبح بنو إسرائيل بعد جيلٍ أو اثنين مقيمين، واستقرّت حالهم بعد أنْ كانوا مشتّتين، وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله: (وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا). هذا الوصف الرائع هو وصفٌ للمقيمين أو الذين استوطنوا الأرض وأصبحوا أهلها، وأصبح لهم التمكُّن فيها. الآية التالية تصف عودًا على بدءٍ أو دورةً أخرى من دورات التاريخ البشري. 

لا أروع ولا أبدع من لفظ (الكَرَّة)، الذي جاء في الآية يُعبّر عن هذه الدورة، عندما قال الله سبحانه: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ)

أصل لفظ (كَرّة) هو كرو، وهو يعني دورةً وتجمُّعًا، وهو ما يصف حالة تحوّل المهاجرين إلى مقيمين ومستوطنين، لديهم آليّات التمكين، ومَن ثمّ يدخل عليهم مهاجرون جددٌ، في حالةٍ تُشبه حالتهم الأولى. إنّه لفظٌ من أبلغ الألفاظ التي تجعلنا نقول بكلّ يقينٍ إنه كلام رب العالمين. 

كلّ الأراضي الجديدة اليوم، مثل: أستراليا، نيوزيلندا، أمريكا، كندا، هي حالةٌ صريحةٌ مئةٌ بالمئةٌ لحالة بني إسرائيل المذكورة في القرآن. مهاجرون أو فارّون من كلّ مكانٍ، وعندما تركوا أوطانهم حدث فراغٌ بعدهم، أو على الأقلّ في المناطق التي كانوا يعيشون فيها، وهذا هو الفساد الأوّل. ولمّا وصل هؤلاء وأخلّوا بتركيبة الأرض والمجتمع في الأراضي الجديدة، كان الفساد الثاني. 

هذه البلاد وتحت سيطرة المهاجرين بدأت في التميّز، أو قل التمايز، بسبب همّة هؤلاء المهاجرين وسواعدهم، وهي صفاتٌ مرتبطةٌ بشخصيات هؤلاء البشر الذين قبِلوا أن يُخاطروا، وينتقلوا إلى وطنٍ جديدٍ. قضاء الله في هذه الحالة هو العلوّ الكبير، وهذا ما نراه في تلك المجتمعات، مجتمعات المهاجرين أو اللاجئين بالمفهوم العام. 

الآية السابعة: 

(إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (سورة الإسراء: آية 7)

الآية الكريمة مستمرّةٌ في مخاطبة المُستقرّين أو بني إسرائيل سابقًا، وتُخبرهم بأنّ التاريخ يُعيد نفسه، وأنّ مهاجرين آخرين قد يدخلون عليهم المسجد، وليُتبّروا ما علَوا تتبيرًا. 

لفظ (المسجد) جاء من دون إضافةٍ، مثل: المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى؛ لأنّ حالة المسجد هنا تمثّل حالة وطنٍ فعلًا، فهو مسجدٌ حرامٌ للمقيمين، والذي كان مسجدًا أقصى بالنسبة إليهم منذ فترةٍ وجيزةٍ (وطن بديل)، وهو كذلك وطنٌ بديلٌ للقادمين أو مسجدٌ أقصى لهم، فكان التعبير بلفظ (المسجد) من دون إضافةٍ هو الأنسب. المكان الآن ليس مسجدًا حرامًا؛ لأنّ مهاجرين جددًا يتوافدون عليه، وليس مسجدًا أقصى بالنسبة إلى المقيمين، فهم مستقرّون فيه. 

الآية تخبرنا أنّ المهاجرين الجدد سوف يدخلون المسجد أو الوطن الجديد، كما دخله السابقون أوّل مرّةٍ. الآية ما زالت تخاطب بني إسرائيل السابقين أو الذين أصبحوا مقيمين، وتذكّرهم بأنّ بني إسرائيل الجدد دخلوا هذا الوطن كما دخلتموه أنتم من قبل، وهذا تأكيدٌ على دورات الهجرة التي يقوم بها البشر على مر العصور. 

الآيات لا تتحدث عن إخراج أحدٍ لأحدٍ، ولكنّ جُلّ الحديث عن دخول مجموعاتٍ، واختلاطٍ بين المجموعات، ولكن للأسف الشديد حُوِّلت المعاني إلى مصطلحاتٍ حربيةٍ، وهي في الأصل لا تعني إلا وصفًا لحالةٍ من حالات التاريخ البشري، ووصفًا لهجرات البشر، والتي بدأها نبي الله موسى، وقاد بني إسرائيل الأوائل في رحلةٍ من أعظم الرحلات التي أسست للهجرات البشرية و تكوين أوطانٍ جديدةٍ.

إذا كان وعد الآخرة هو الحالة الثانية التي سوف تتكرّر، والتي يُصبح فيها بنو إسرائيل السابقون مقيمين، والقادمون الجدد حالة بني إسرائيل الجديدة، فلماذا قال القرآن (لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ)؟

تعبير (يسوؤوا وجوهكم) ليس تعبير حربٍ، مثل (ضرب الرقاب) أو ما إلى ذلك، بل هو تعبيرٌ يُشير إلى الامتعاض أو الضيق، أو الاضطراب الذي يحدث في التركيبة السكانية للمجتمع المقيم، بسبب قدوم مهاجرين بأعدادٍ كبيرةٍ أو لاجئين جددٍ. 

تعبير (لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ) أقرب لتعبير (تغيير توجّهات المجتمع) بسبب القادمين الجدد؛ ممّا يُسبب تعكّر صفو المجتمع المقيم بالفعل، وهو ما يمكن أنْ نفهم أنه إفسادٌ في الأرض، والذي يُصاحب دخول أرضٍ جديدةٍ، والذي عبّرت عنه الآيات في بدايتها. هذا المشهد القرآنيّ الرائع الذي وصف لنا دورةً من دورات التاريخ البشري المتكرّر، في صورةٍ لن تجد أروع ولا أبلغ من وصفها، وقد ظلمها الناس ظلمًا كبيرًا، عندما صنعوا من هذه التوجيهات العظيمة صورة حروبٍ وقتالٍ وعداءٍ لا نهائيٍّ، أشبه بحروب الأساطير الإغريقية القديمة. لا ينكر أحدٌ اليوم على الإطلاق أنّ أيّ هجراتٍ كبيرةٍ تحدث إلى أيّ بقعةٍ جغرافيةٍ، فإنها تتسبّب بتغييرٍ في توجّهات هذا المجتمع الجديد، وخللٍ بدرجةٍ ما في تركيبته السكانية. 

ننتقل إلى مدلول التعبير القرآني (وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا):

(التبر) أصله القطع الصغيرة، ويُقال: تبر الذهب؛ بمعنى قِطعُ الذهب الصغيرة، و(يُتبّر) بمعنى يُقطّع أو يُفتّت. ما دلالة قوله سبحانه (وليتبروا ما علوا)؟

يقطع قطع صغيرة مستمرًا في العلو، وهذا يعني إضافة قطع صغير للعلو، لو أن القول كان يتبروا ما نزلوا أو هبطوا لكان المعنى أنهم يقطعون هبوطًا أو نزولًا.

التتبير هنا يشبه عملية الترقيع وكأن الوافدون الجدد سوف يضيفون لهذا العلو علو أخر ولكن بدرجات صغيرة. 

الذين ذهبوا إلى أن معنى ليتبروا ما علوا تتبيرا تقصد يدمروا ما علوا تدميرًا، لم ينتبهوا لمدلول لفظ (ما علوا). لو كان المقصود تدميرًا أو تحطيمًا ما كان قال ما علوا ولكن كان الأنسب ما هبطوا. 

تخيل أنّ إنسانًا يريد أن يبني مبنىً من عشرة طوابق، فهو يقف على الأرض مضيفًا قطعًا صغيرةً مستمرًا في العلو وهذا هو التتبير، أمّا إن أراد هذا الإنسان (تدمير) المبنى، فلا بدّ أنْ يقف على سطحه، ويقطع قطعًا صغيرةً هبوطًا وليس علوًّا. إنه تعبيرٌ يشبه الذي يضع تحت قدميه قطعًا صغيرةً يرتفع عليها شيئًا فشيئًا، وينتقل من مستوىً إلى مستوىً أعلى، من خلال إضافة هذه القطع الصغيرة. (التتبير) إضافةٌ، أما التدمير فنقصٌ وهدمٌ، ويُقال (تبر الذهب) دلالةً على قيمة التبر ذاته، والذي يجتمع ليُكوّن الذهب الخالص. 

جاءت الآيات الثامنة بعد هذه الآيات تحمل إرشادًا عامًا للناس، أن يمتثلوا للتصرّفات القويمة بعد أن وَضحَ سير الحياة الطبيعية، والمتدبّر للقرآن سوف يحاول –بالتأكيد- تقليل الضرر، والاستفادة من التوجيهات قدر الإمكان. 

الآية الثامنة: 

(عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (سورة الإسراء: آية 8).

الآية تشير ضمنيًا إلى حالة التعايش التي يجب أن تسود بين الناس، وأن يتقبّل كلّ واحدٍ الآخر. والكافرون هنا هم الذين كفروا هذه الأقدار وأنكروها، وليس كفرًا عقائديًا. لذلك فإنّ الذين يمنعون الناس عن حقوقهم جحودًا، أو يمكرون بهم، أو ينتقصون منها من دون وجه حقٍّ، فهؤلاء هم الكافرون الذين توعّدتهم الآية. الأمثلة على الكفر في حالة بني إسرائيل متنوعةٌ سواءٌ كانت من القادمين أو المقيمين.

إذا اعتدى القادمون أو قهروا الناس أو ظلموهم بغير وجه حقٍّ، كما حدث في الأراضي الجديدة المكتشفة، بأن اعتدى الوافدون على أصحاب الأرض وقتلوهم، وأبادوا مجتمعاتهم، فهؤلاء بنصّ الآية كافرون ومعتدون. كذلك الأمر بالنسبة إلى المقيمين، فإن ظلموا الوافدين الجدد فهم الكافرون الذين توعّدتهم الآية أنْ تكون جهنّم حصيرًا لهم. 

العدل والرحمة هما ما يجب أن يسود بين الناس، فلا يتجاوز أحدٌ على أحدٍ، ولا يُكفّر أحدٌ الآخر، بل التعايش على أسسٍ عادلةٍ هو الدستور الذي يجب أن يؤسّس لهذه المجتمعات. أرض الله واسعةٌ وتسع الناس إن تراحموا وتعاونوا وعملوا معًا من غير اعتداءٍ أو اغتصابٍ للحقوق. وكلّ اعتداءٍ واغتصابٍ للحقوق هو نوعٌ من الكفر بالحق، وهذا الكفر هو المقصود في كتاب الإسراء أو رحلات المهاجرين إلى الأوطان الجديدة. 

الآية التاسعة: 

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (سورة الإسراء: آية 9). 

اختتمت الآية الأخيرة الخبر الإلهيّ في مشهد الإسراء، وحالة بني إسرائيل، بـ (إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)، وهل هناك هدايةٌ أكثر من أن يعرف الإنسان ويفهم دورات الحياة وظواهرها، من خلال تدبّر هذا القرآن وقراءته. غفر الله لكلّ مَن ساعد في طمس هذه الهداية دون أنْ يعلم، وجعل كلمة الله هي آخر ما يرجع إليه. 

مجموعةٌ من الآيات من سورة الإسراء 

في سورة الإسراء وردت مجموعةٌ من الآيات، لو فطن لها الناس لكتبوها بماء الذهب، وجعلوها دستورًا لكلّ أرضٍ جديدةٍ يطؤونها. أمرَ الله الناس أن يعبدوه، بمعنى أن يتحمّلوا مسؤوليتهم، كما بيّنّا ذلك في الجزء الثالث من كتاب تلك الأسباب، وأن يُحسنوا إلى الوالدين لا سيما في حالة الكِبَر. 

(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا (23) وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا (24) رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمۡۚ إِن تَكُونُواْ صَٰلِحِينَ فَإِنَّهُۥ كَانَ لِلۡأَوَّٰبِينَ غَفُورٗا (25))(سورة الإسراء: آيات 23-25). 

 

- ما دلالة هذه الوصية وما بعدها في سورة الإسراء؟

 

ينقطع الإنسان في حالة الهجرة الجماعية عن وطنه الأم، ويكون أكثرُ الناس تأثرًا هم كبار السن؛ بسبب حياتهم في وطنهم الأم وذكرياتهم فيه. فجاء التوجيه في السورة التي تحمل اسم الإسراء بالترفّق بالوالدين، والإحسان إليهم، حتى وإن بدر منهم ما لا يُعجب الأبناء. السورة تحكي حالةً ليست سهلةً على الناس، فإن كان الصغار أكثر إقبالًا على الأرض الجديدة، فإنّ الكبار أقلّ همّةً من ذلك، وحنينهم إلى أرضهم القديمة قد يكون عقبةً أمام تقبّلهم لهذه الحياة، ويكون مصدر حزنٍ لهم. 

 

كذلك وضعت الآيات التالية في سورة الإسراء دستورًا أخلاقيًا عظيمًا في التكافل بين الناس والتلطّف بهم، إضافةً إلى الترغيب بالاعتدال في الإنفاق، وعدم الخوف من الفقر، والتحذير من التبذير أو البخل. كلّ هذه التوجيهات مرتبطةٌ بالمهاجرين، إذ يكون همّهم تكوين مجتمعٍ جديدٍ يأمنون فيه على أنفسهم، وقد يدفعهم ذلك إلى التصرّف بتطرّفٍ، سواءٌ في جمع المال أو إنفاقه. كذلك حذّرت الآيات من الزنى، وأكل مال اليتيم، والكبر والخيلاء، وأوصت بإيفاء العهد والكيل. 

(وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا (26) إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا (27) وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَآءَ رَحۡمَةٖ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلٗا مَّيۡسُورٗا (28) وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا (30) وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا (31) وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَسَآءَ سَبِيلٗا (32) وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا (33) وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا (34) وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا (35) وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا (36) وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولٗا (37) كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا (38))(سورة الإسراء: آيات 26-38). 

 

إنْ كانت هذه الوصايا لكلّ الناس في كلّ المجتمعات، فهي دستورٌ لا يجب أن يحيد عنه المهاجرون لأرضٍ جديدةٍ؛ لأنّ الناس في الغالب ينتقلون من أوطانهم بسبب الظلم أو الفقر؛ فلا ينبغي أن تنتقل الصفات السلبيّة هذه معهم، وتؤثّر على حياتهم الجديدة. إنها الدعوة لحياة جديدة أو قل فتح صفحة جديدة وتكوين مجتمع سليم منذ اللحظة الأولى. 

العجيب في سورة الإسراء، والتي تتناول مسألة الترحال أو الهجرة الجماعية للناس، هو ورود لفظ (القرية) في السورة مرّتين، وفي كلّ مرّةٍ جاء لفظ (القرية) كان وَصفًا لمجتمعٍ سيّئٍ لا خير فيه. مجتمع (القرية) مجتمعٌ أحاديّ الفكر والتّوجّه، وهذا المجتمع بصفةٍ عامةٍ مجتمعٌ ضعيفٌ ثقافيًا واقتصاديًا؛ لأنّه مجتمعٌ ذو لونٍ واحدٍ. 

(إِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا)(سورة الإسراء: آية 16)

(وَإِن مِّن قَرۡيَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَوۡ مُعَذِّبُوهَا عَذَابٗا شَدِيدٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا) (سورة الإسراء: آية 58). 

القرية مقابل المجتمع الجديد هي حالةٌ من الجمود مقابل الحركة، واللون الواحدِ مقابل التعدّد. والدعوات التي يُطلقها بعض ضعاف الرؤية للانغلاق وإيقاف حركة الهجرة هي دعواتٌ للموت البطيء، وانتحار الأمة. كلّ مجتمعٍ ذي لونٍ واحدٍ محكومٌ بالفناء؛ بسبب ركود فكره، أمّا حالة الهجرة فتُشبه ضخّ دماءٍ جديدةٍ في جسد المجتمع، فينشط ويقوى. لقد تأكّدتْ هذه الفكرة في آيتين في سورة الإسراء، إذ يحاول مجتمع القرية أو المجتمع ذو اللون الواحد استفزاز صاحب الفكر الجديد وإخراجه، وهو هنا رسولٌ من رب العالمين، وفي حالة خروجه لن يبقى هذا المجتمع طويلًا؛ بسبب طريقة تعاطيه مع سنّة الله.

(وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا (76) سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَاۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلًا (77))(سورة الإسراء: آيات 76-77).

في نهاية سورة الإسراء جاء ذكر نبي الله موسى مرةً أخرى، وبني إسرائيل وقصّة خرجوهم التي تناولتها سورة الإسراء من بدايتها، حتى إنّ اسم السورة نفسه يؤسّس لأوّل رحلة خروجٍ، أو هجرةٍ جماعيةٍ لمجموعةٍ من الناس. 

(وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا (101) قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا (102) فَأَرَادَ أَن يَسۡتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ فَأَغۡرَقۡنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعٗا (103) وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱسۡكُنُواْ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا (104)) (سورة الإسراء: آيات 101-104). 

يشير التعبير القرآنيّ (قلنا من بعده لبني إسرائيل) إلى كلّ حالةٍ تُشبه حالة بني إسرائيل الأولى، وكلّ مجتمعٍ مهاجرٍ أن يسكنوا الأرض أو يستوطنوها، ويتعاملوا بالمبادئ التي أشارت إليها سورة الإسراء.

الآخرة في قوله تعالى (فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفًا) الآخرة هي مجموعةً أخرى من بني إسرائيل أو حالة ثانية تدخل على المجموعة المقيمة والمستقرة. مدلول لفظ (لفيفًا) يعني مجموعاتٍ من الناس من أخلاطٍ مختلفةٍ. (لفيفًا) تعني أنّ الناس يأتون مجموعاتٍ، إمّا مقيمين أو مهاجرين، وكلّ مجموعةٍ بما قدّمت. 

لقد أكّد لنا لفظ (الآخرة) في هذه الآية ما استُنتِج في الآيات الأولى التي تحدثت عن الأولى والآخرة، وقلنا إن المقصود بالآخرة هو مجموعةٌ جديدةٌ من بني إسرائيل. لفظ (اسكنوا) عبّر تمامًا عن فكرة المقيمين، أما (الآخرة) فهي مجموعةٌ مهاجرةٌ جديدةٌ. 

لدينا لفظ (كَرّة) في قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَیۡهِمۡ) الذي جاء في أوّل السورة، ولفظ (لفيف) هنا، وكلّها ألفاظٌ تُشير إلى دورة الهجرات البشرية في الأرض، والتفاعل المستمر بين المقيمين الذين كانوا بني إسرائيل في يومٍ من الأيام، والوافدين الجدد الذين يسيرون على نهج إسرائيل الأب. 

 

ملخص الفصل 

  • مقدمة سورة الإسراء تصف دورة الهجرة أو اللجوء أو الترحال، ولا تصف أحداث النهاية أو معارك آخر الزمان، وإنّما هي وصفٌ لحالةٍ طبيعيةٍ من الارتحال لأسبابٍ مختلفةٍ. 
  • إن كان بنو إسرائيل مع إسرائيل الأول هم المؤسّسون لأوّل حالة خروجٍ، فإنّ السورة تُشير إلى تكرار هذه الدورة مرارًا، وأنها من سُنّة الله في الأرض. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة