الفصل السادس إسراء إسرائيل

 



إسراء إسرائيل 


 

لو سألت عن رحلة الإسراء التي تعيش في وجدان مئات الملايين منذ قرونٍ طويلةٍ، وعن الدليل القاطع عليها، لن تجد إلا هذه الآية في مقدّمة سورة الإسراء: 

(سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ)(سورة الإسراء: آية 1).

 

هذه الآية تحديدًا هي الركن الأساسيّ الذي تقوم عليه رحلة الإسراء، و روايات الإسراء، وقدسية المسجد الأقصى، ومكانته في قلوب (المسلمين). 

أليس ذلك غريبًا، بل إنه مثيرٌ للعجب، أن تحمل سورةٌ اسم الإسراء، ثمّ لا تشير إلى أيّ تفصيلةٍ من تفاصيل هذه الرحلة كما ترويها الروايات. هل هذا هو أسلوب القرآن؟ بالتأكيد لا؛ اسم السورة في القرآن هو المحور الرئيس الذي يدور حوله موضوع السورة، وهذا عهدنا بالقرآن. 

 

هل تحكي هذه الآية قصة الإسراء المعروفة، أم أنّنا تعرّضنا لأكبر عملية خداعٍ باسم الدين؟ لقد استغرق الأمر عامين كاملين حتى أستطيع هضم الأمر، إذ كيف بدا الأمر بسيطًا للغاية، ومع ذلك غاب عن كلّ هذه الجموع الهادرة. هل كتاب الله بهذا التعقيد؟ فلماذا بدا لي واضحًا، وآياته تنطق دون عناء؟ 

 

هذه التحليلات لا مجال فيها للتشنّج أو المزايدات الرخيصة والخطب الهوجاء، فكلّ كلمةٍ سيُحاسب عليها صاحبها دون شكٍّ، فمن لا يملك علمًا راسخًا لا يجب أن يخوض فيما غاب عنه. ولنجعلْ الإنصاف رفيقًا في هذه الرحلة، ونضع التاريخ العدائيّ السياسيّ بين القطبين المتصارعين حول المسجد الأقصى جانبًا، وننظر ماذا يخبرنا القرآن بخصوص الإسراء. 

 

سوف أتقدم إلى النتيجة سريعًا ثم أُفيض في تحليل الكلمات؛ حتى نتبيّن الحقيقة، ونكشف الفرق بين كلمات الله وكلمات البشر، ونرى كيف أنّ كتاب الله يقصّ الحق، وأنّ قول البشر إنّما هو تصوّراتٌ ذهنيةٌ. 

سوف نحاول وضع بعض النقاط التي سوف نتحرك من خلالها لفهم مسألة الإسراء هذه:

أولاً: هذه السورة تُسمّى سورة الإسراء، ومن المفارقة أنّها تُسمّى سورة بني إسرائيل أيضًا (يمكن مراجعة المصادر التاريخية في ذلك).

ثانيًا: الآيات الثمانية الأولى من السورة تتحدّث عن نبي الله موسى صلوات ربي عليه، وعن بني إسرائيل، ما عدا الآية الأولى، فهي خاصةٌ بنبيّ الله محمد صلوات ربي عليه وتتحدث عن حادثة الإسراء، كما زعمت الروايات، فما هي العلاقة بين الآية الأولى وما بعدها؟

 

ثالثًا: الانطلاق من أنّ مسميّات القرآن حقيقيّةٌ تدل على معناها أو أنها تفصح وتُنيب عن نفسها؛ سيجعلنا ندرك فورًا أنّ اسم (إسرائيل) نفسه مكوّن من مقطعين: المقطع الأول (إسراء) والمقطع الثاني (يل).

من خلال المعطيات الثلاثة السابقة، سنجد أنّ العبد الذي أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى هو إسرائيل، وليس نبي الله محمدًا صلوات ربي عليه.

سنحاول الآن تفنيد كل كلمات الآيات الخاصة بهذه الحادثة وتحليلها، وسنطرح مجموعةً من الأسئلة؛ حتى نصل إلى الحقيقة و نستخلصها. المحور الرئيس والذي لا يقبل الشك هو تحليل كلمة (إسرائيل) ذاتها، والتي أعطتنا الإجابة الوافية عن رحلة الإسراء، ولكن قبل أن أتقدم لتحليل لفظ (إسرائيل) سوف أقوم بتحليل لفظ (الإسراء) ذاته كمقدمةٍ تشرح للقارئ حالة هذا اللفظ وصفاته وخصائصه. 

 

مدلول لفظ الإسراء 

أصل (أسرى) هو (سرى) وهذا الجذر ليس لها وجودٌ في قواميس اللغة، مثل قاموس اللغة لابن فارس، غير أنّ معجم بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي قال عن هذا الجذر: (هو سير اللَّيل. سَرَى باللَّيل وأَسريت، وسَرَيت به وأَسريت به. قال تعالى: (سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ) أَي ذهب به في سَرَاة الأَرض، وهي الواسعة من الأَرض. وسَرَاة كلّ شىءٍ: أَعلاه، ومنه سراة النَّهار أَي ارتفاعه وأَوّله.). 

كذلك حكى ابن منظور في لسان العرب تعريفاتٍ عن (سرا ) و(سرو)، ولا أرى لها علاقةً بلفظ (الإسراء) ذاته، والذي يشير بوضوحٍ إلى حالة السير أو التحرّك من نقطةٍ إلى نقطةٍ أخرى. 

وردت في كتاب الله مشتقاتٌ مختلفةٌ من هذا الجذر، و جميعها مرتبطةٌ وتدلّ على حالة التحرّك والسير، وهذه المشتقّات مثل: سار وأسْرِ وسَير وسِيروا. رغم أنّ لفظ (سرى) ذاته غائبٌ إلى حدٍّ ما في معاجم اللغة القديمة إلا أنّ جذر (سير) حاضرٌ وبقوةٍ، وهو كما جاء في قاموس اللغة: المضيّ والجريان.

حتى نقف على صفات لفظ (سرى) وخصائصه، سوف نحاول فهم معنى الجذر الثنائي (سر) وهو يعني الاختفاء، وهو خلاف الظهور والإعلان. لفظ (سير) -إن جاز لنا التعبير- هو توءم لفظ (سرى)، بل أرجّح بشدةٍ أنّ أحدهما هو الجذر الأصلي والآخر مشتقٌ منه؛ بسبب وصفهما للحالة نفسها، وهي حالة سيرٍ وتحرّكٍ من نقطةٍ إلى نقطةٍ، وسوف نرى ذلك بعد قليلٍ. 

 

من خلال تتبع لفظ سير في كتاب الله سنجد أنّ لفظ (سير) يصف حركةً عاديةً، ليس فيها عجلةٌ أو إعلانٌ، ومثال ذلك قول الله تعالى في الآيات التالية: 

الآية الأولى: (قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ) (سورة آل عمران: آية 137). 

يقول ربنا (سيروا) أي السير بتأنٍ، وعدم العجلة في السير، إذ إنّ التأنّي والهدوء ثم النظر يعني التفكّر والتأمّل، الذي يكفل إيقاد الفكر، و الوصول للمبتغى. 

الآية الثانية: (هُوَ ٱلَّذِی یُسَیِّرُكُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا كُنتُمۡ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَیۡنَ بِهِم بِرِیحࣲ طَیِّبَةࣲ وَفَرِحُوا۟ بِهَا جَاۤءَتۡهَا رِیحٌ عَاصِفࣱ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانࣲ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُمۡ أُحِیطَ بِهِمۡ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ لَىِٕنۡ أَنجَیۡتَنَا مِنۡ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ)(سورة يونس: آية 22). 

لا يخفى على عاقل أن السير في البحر نوعٌ من السير المتريّث الهادِئ. هذه الآية تقطع كلّ قولٍ في لفظ (سير) ولفظ (جرى) الذي يصف الحركة السريعة، في مقابلةٍ لو أنفقنا سنواتٍ في البحث عن دليلٍ يوضّح الفرق بين اللفظين ما استطعنا الوصول لمثل هذا الدليل شديد الوضوح، ومن خلال آيةٍ واحدةٍ في كتاب الله.

بدأت الآية بالإشارة إلى لفظ (يسيّركم) وهو الحركة العادية أو المعتادة، فإذا جاءت الريح كما ذكرتْ الآية تحوّلت الحركة من حالة السير إلى حالة الجريان، كما شرحت الآية (جَرَیۡنَ بِهِم بِرِیحࣲ طَیِّبَةࣲ)؛ لهذا لا يمكن أن يصف لفظ (سير) حالةً من الجريان، وإنما حالة سيرٍ عاديةً للغاية، يغلب عليها عدم الإعلان، كما ذكرنا من قبل. 

الآية الثالثة: (وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا قُرࣰى ظَـٰهِرَةࣰ وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ سِیرُوا۟ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ) (سورة سبأ: 18).

هذه الآية تعطينا دليلًا إضافيًا على أنّ السير حالةٌ اعتياديةٌ ليس فيها تعجّلٌ أو سرعةٌ، بل يستغرق مدةً طويلةً نسبيًا، وليس جريانًا أو انتقالًا سريعًا. كذلك لفظ (سار) الذي جاء مع نبي الله موسى يحمل المعنى نفسه كما في الآية التالية. 

 

الآية الرابعة: (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلۡأَجَلَ وَسَارَ بِأَهۡلِهِۦۤ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارࣰاۖ قَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوۤا۟ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا لَّعَلِّیۤ ءَاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ) (سورة القصص: آية 29). 

نرى في هذه الآية أيضًا أنّ فعل (سار) لا يوحي بأيّ حالةٍ غير اعتياديةٍ، بل هو حالة حركةٍ بطيئةٍ تتناسب مع رحلة أُسرةٍ من مكانٍ إلى مكانٍ، يتخلّلها التوقّف والرّاحة والتزوّد. مشتقة أسر جاءت في سورة هود وسورة الدخان وهي كذلك تحمل نفس معنى السير المتآني رغم أنها تعود للجذر سرى. 

الآية الخامسة: (قَالُوا۟ یَـٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن یَصِلُوۤا۟ إِلَیۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعࣲ مِّنَ ٱلَّیۡلِ وَلَا یَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِیبُهَا مَاۤ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَیۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِیبࣲ) (سورة هود: آية 81). 

لقد جاء هنا أيضًا في الآية الكريمة لفظ (أسرِ) يوضّح ويتمّم معنى السير المعتدل، والذي يغلب عليه عدم الإعلان، وليس فيها أيّ إشارةٍ لحركةٍ سريعةٍ. 

المعنى نفسه ورد في سورة الحجر عن الحادثة نفسها، وهي السير ليلًا بشكل ليس فيه سرعةٌ: (فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعࣲ مِّنَ ٱلَّیۡلِ وَٱتَّبِعۡ أَدۡبَـٰرَهُمۡ وَلَا یَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدࣱ وَٱمۡضُوا۟ حَیۡثُ تُؤۡمَرُونَ)(سورة الحجر: 65). الأهل عادةً فيهم الضعيف والصغير وغير القادر على الحركة السريعة المجهِدة؛ لذلك السير لا يعني أبدًا حركةً سريعةً، بل حركةً عاديةً متوسّطة. 

الآية السادسة: (فَأَسۡرِ بِعِبَادِی لَیۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ)(سورة الدخان: الآية 23). 

لا يمكن أن يعتقد أحدٌ أن الأمر بالإسراء في هذه الآية لنبي الله موسى وعباد الله المؤمنين كان أمرًا بالجريان، ولكنّ السير المستمرّ المتوسّط هو المطلوب؛ لأنّ في عباد الله المؤمنين مَن لا يقدر على السرعة أو الجريان؛ ولذلك تبعهم فرعون وجنوده، حتى تراءى الجمعان، وأصبح الفريقان في مرمى بصر بعضهما، كما أخبرتنا المشاهد القرآنية الباقية. 

رغم وجود فارقٍ بين جذر (سرى) و(سير) إلا أنّ المعنى والحالة التي يصفها السير أو السّرى تكاد تكون متطابقةً، وأعتقد أنّ أصل الجذر هو (سرى)، ولعلّ (السير) مشتقّ من السرى ذاته. في كلّ الأحوال الحديث هنا عن تحرّكٍ وسيرٍ متتابعٍ ليس فيه عجلةٌ أو أمرٌ غير اعتياديٍّ أو أمرٌ خارقٌ للعادة. 

لم يدَعْ لنا القرآن مجالًا للقول بأنّ لفظ (الإسراء) يصف تحرّكًا سريعًا أو خاطفًا؛ وإنّما جميع الآيات تتحدّث عن حركةٍ عاديةٍ متوسّطةٍ ليست سريعةً أبدًا. 

هل لفظ (أسرى) في الآية مناسبٌ لما هو متعارفٌ عليه، في الرواية التي تصف رحلة النبي محمد من مكة إلى القدس؟ 

حسَب الروايات فإنّ الرحلة استغرقت جزءًا من الليل، فهل لفظ (سَرَيَ) يصف هذه الكَرَّة السريعة بل الخاطفة في ذلك الزمن؟ 

عندما يقول ربنا إنّه أسرى بعبده، فهو يشير إلى السير المعتدل، والذي لا يمكن أن يتناسب مع السّرعة الرّهيبة، التي يقول بها أصحاب الروايات، من أنّ الرسول ذهب من مكة إلى القدس، ثم عرج إلى السماء، وعاد إلى فراشه في ليلةٍ واحدةٍ. 

لا قبول لهذه الفرضيّة إلّا إذا كانت كلمات القرآن لا تدلّ على شيءٍ، وعلاقة الدالّ بالمدلول فيها منقطعةٌ تمامًا، فيصحّ أنْ يقول كلّ إنسانٍ ما يحلو له ويرتاح لروايته. 

 

لِنتحول إلى التعبير القرآني (المسجد الحرام) و(المسجد الأقصى)

هذه التعبير الوارد في كتاب الله هو الركن الركين الذي استند عليه الراوي في إثبات حادثة الإسراء، كما ترويها الروايات؛ فلم يعرف الراوي سوى المسجد الحرام والمسجد الأقصى المعروفين حاليًا، رغم ثبوت المصادر التاريخية والإسلامية بعدم وجود ما يُسمّى المسجد الأقصى وقت بعثة الرسول.

لقد كان تعبير (المسجد الحرام) وتعبير (المسجد الأقصى) من التعبيرات التي استغرقت وقتًا طويلًا للغاية؛ بسبب ثقل الموروث في هذه الجزئية، وكان لا بدّ من فهم المقصود بـ (المسجد الحرام) و(المسجد الأقصى) حسب النص القرآني وبدقةٍ بالغةٍ.

عندما تعرضتُ لهذه الجزئية كانت هناك مجموعةٌ من الافتراضات التي تحتاج للتحقّق والتأكّد، ومن ضمن هذه الافتراضات أن العبد الذي أسرى الله به انتقل بالفعل من المسجد الحرام المعروف حاليًا في مكة إلى مكانٍ آخر بعيدٍ سمّاه القرآن (المسجد الأقصى)، وقد يكون بالفعل في فلسطين. لكنّ عدم وجود ما يُسمّى بالمسجد الأقصى في ذلك التاريخ ضعّف هذا الافتراض جدًا، وجعلني أنتقل للافتراض الثاني. 

الافتراض الثاني هو أن المسجد الحرام والمسجد الأقصى ربما يكونان وصفًا لمنطقتين مختلفتين تمامًا، وليس المعروفَتين حاليًا من خلال الروايات، ولكن لا بد من فهم: لماذا وصف الناس المكان الحالي بالمسجد الحرام؟ 

الافتراض الثالث هو أن (المسجد الحرام) و(المسجد الأقصى) أوصافٌ عامةٌ تصف كلّ منطقةٍ تتحقّق فيها صفات اسم المسجد الحرام أو المسجد الأقصى وخصائصها. مثال ذلك عندما نقول: المنطقة الآمنة أو المنطقة الخضراء؛ فهذا الوصف ليس وصفًا لمنطقةٍ بعينها، وإنما وصفٌ لحالة المنطقة. بذلك فإنّ كل منطقةٍ تتوافر فيها صفات الأمان يصحّ تسميتها بالمنطقة الآمنة أو المنطقة الخضراء. 

الافتراض الثالث هو الافتراض الأكثر قبولًا، لا سيما بعد أن حددنا المقصود بالعبد الذي أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. 

 

سوف يأتي مفهوم (المسجد الحرام) مرةً أخرى في فصول الحج من هذا الكتاب، وسوف يكتمل معناه؛ فقد شُرح الحجّ بصورةٍ مغايرةٍ تمامًا لما هو عليه. ليس مفهوم (المسجد الحرام) وحده ما تناولناه في فصول الحج، بل تعبيراتٌ مثل: (البيت العتيق) و(البيت الحرام) و(الكعبة) و(مكة) و(بكة) وجميع المفردات التي تصف الحج وأماكنه وشعائره بكثافةٍ ودقةٍ، وقد تمّ تناولها وبحثها وتحليلها في تحولٍ معرفيٍّ خطيرٍ للغاية. 

لا بأس أن نتناول هنا مدلول لفظ (مسجد)، ومن ثم تعبير (المسجد الحرام)، وبعض الآيات البسيطة لتوضيح المقصود بالمسجد الحرام في كتاب الله. 

 

مدلول لفظ (مسجد) 

أصل (مسجد) هو سجد، وكما بيّنّا في الجزء الثالث والرابع من كتاب تلك الأسباب، فهو حالةٌ من الاستقرار والاطمئنان، ويُسمّى المسجد مسجدًا في الأساس لما يُوفّره من حالة الاستقرار والاطمئنان. (المسجد) بصورةٍ عامةٍ هو المكان الذي يجد فيه الإنسان الاستقرار والاطمئنان، فإذا أضفنا إلى (المسجد) تعبير (الحرام) فذلك يعني حالةً من المنعة، وصعوبةً في الوصول إليه. 

 

المسجد الحرام

التعبير القرآني (المسجد الحرام) هو حالةٌ تصف مكانًا فيه استقرارٌ واطمئنانٌ وممنوعً من الآخرين؛ على نحوٍ يصبح المقيم فيه أو الموجود فيه في منَعةٍ حقيقيّةٍ. وبتعبيرنا المعاصر نقول الحرم الجامعي؛ أي المكان المخصّص للجامعة، ولا يجوز انتهاكه تحت أيّ مسمىً. إضافةً للتعبير المعاصر الذي يُسمّي الزوجة في بعض المجتمعات (حَرَمًا)؛ أي إنّ لها زوجًا يمنعها من غيره، فهي في حصنٍ حصين. 

المكان الذي يجد فيه الإنسان الاستقرار والاطمئنان هو بالنسبة إليه (مسجد)؛ فإذا كانت فيه أسباب حمايةٍ إضافيةٌ فيصبح بالنسبة إليه (مسجدًا حرامًا). 

 

عندما يُطبّق الرسول هذه الآية، فإنّ المسجد الحرام بالنسبة إليه هو وطنه، وكلّ وطنٍ للإنسان هو مسجدٌ حرامٌ له. فإذا ألمّ خطبٌ فقد يصبحُ هذا المسجد الحرام غير ملائمٍ للعيش، وهذا ما حدث مع رسول الله؛ إذ لم يجد صدىً لدعوته في وطنه، فقرّر الهجرة إلى المدينة، فأصبحت له وطنًا ثانيًا أو أرض المَهجر. فإذا شعر فيها بالاستقرار فهي له مسجدٌ، ولكن يظلّ مسجده الحرام هو الذي وُلد فيه، وفيه مَنَعَته وقبيلته. 

 

عندما يهاجر الإنسان إلى بلادٍ بعيدةٍ سعيًا إلى الاستقرار ورغد العيش، وفي نيّته العودة إلى وطنه مرةً أخرى يظلّ وطنه مسجدًا حرامًا بالنسبة إليه، أمّا أرض المَهجر فهي مسجدٌ أقصى بالنسبة إليه. الرسول محمدٌ صلوات ربي عليه كان هذه الحالة بامتيازٍ، حين هاجر من وطنه وهو يحلم بالعودة إليه ذات يومٍ، فأصبح الوطن بالنسبة إليه المسجد الحرام، أمّا الوطن الجديد فهو له مسجدٌ أقصى. 

 

إذا داهمتك الأسئلة حول مفهوم (البيت الحرام) و(الكعبة) و(مكة) و(بكة) فسوف تجد مفاجآتٍ متتاليةً عن هذه التعبيرات، في فصول الحجّ، ولكنْ دعونا نتوقّف هنا عند مفهوم (المسجد الحرام) و(المسجد الأقصى). 

لا ضير أن نمرّ هنا على آيتين نستطيع من خلالهما التأكيد على مفهوم (المسجد الحرام)، وهو مفهوم الوطن الذي يمنع أهله ويحميهم، لِكونه موضع استقرارٍ واطمئنانٍ.

 

الآية الأولى: (وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۖ وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۚ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ ذَ ٰلِكَ لِمَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ) (سورة البقرة: الآية 196). 

هذه الآية الكريمة تضع الحدود الفاصلة في فهم (المسجد الحرام) عندما نرى كيف فسّرها المفسّرون: 

قال المفسرون في (مَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ) إنها راجعةٌ إلى التمتع. وقال مالك: هم أهل مكة، وقال طاوس: هم أهل الحرم، وقال ابن جريج: هم أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلة، وقال الشافعي: من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر، وقال أبو حنيفة: هم أهل الميقات، والمواقيت ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق، وقيل من تلزمه الجمعة فيه.

 

أرى التعبير القرآني (مَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ) عائدًا على الصيام، فيكون معنى الآية: إنّ على مَن لم يجد (هديًا) -وسوف يأتي مفهوم (الهدي) بالتفصيل في فصول الحج- صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعةٍ إذا رجع ما لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. 

 

هذا التوجيه الإلهي توجيهٌ غايةٌ في اللطف، وفيه استخدامٌ للألفاظ بطريقةٍ يعجز عنها البشر، فعندما قال: (إذا رجعتم) لم يقل إذا رجعتم إلى أمصاركم، ولكنّ الرجوع هنا يعني العودة من الحج إلى المكان الذي سوف يعودون إليه، سواءٌ كان هذا المكان هو وطنه أو مكان عمله أو أيّ مكانٍ يتوجّه إليه. ثم استطرد التوجيه الإلهي الرحمة قائلًا: (ذلك لِمَن لَم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)، بمعنى هذا الصيام لمن رجع ولم يكن أهله في الوطن الذي عاد إليه. لماذا؟

لأنّ الإنسان العائد من سفرٍ إلى أهله في حاجة إلى الطعام والشراب والاستئناس بأهله، فإذا رجع من الحج إلى المسجد الحرام وهنا وطنه، وأهله حاضرون فسوف يشقّ عليه الصيام، والله يريد بالناس الشفقة والرحمة، فجاءت الآية تُزيل هذا الحرج، وتُوجّه هذا التوجيه العظيم. 

 

إذن مفهوم (المسجد الحرام) من خلال هذه الآية يشير إلى مكانٍ مختلفٍ عن  المسجد الحرام المتعارف عليه في مكة، بل لا بدّ أن يكون خارج مكة، ولذلك اختلف فيها المفسرون كما رأينا. 

لقد ارتبك المفسّر القديم كثيرًا في تفسير (المسجد الحرام) هنا، فمرةً قال الحرم ذاته يقصد الكعبة، ومرةً قال مكة، ومرة قال المناطق حول مكة التي يُحرم منها الحاج، ومنهم من أضاف بعض المناطق حول مكة. لو أنّ المُفسّر أدرك حقيقة اللفظ القرآنيّ وقتها، وكيف يصف حالةً عامةً لأدرك فورًا أنّ المقصود هنا هو الوطن للحاجّ العائد أو الراجع من مهمة الحج.  

 

عندما ترى تعبير (أهل المسجد الحرام) فينبغي أن ينصرف المسجد الحرام إلى الوطن بصفةٍ عامةٍ وليس الكعبة، لأن الكعبة ليس لها أهلٌ يسكنونها، وتعبير (أهل) يعني النزول للإقامة في منزلٍ مؤهّلٍ لذلك، كما بيّنا في كتاب قولًا ثقيلًا. 

 

لو أنّ المقصود بالمسجد الحرام هنا هو مكة، فكيف يصوم الحاجّ إذا رجع وأهله غير حاضري المسجد الحرام؟ رجع من ماذا؟ بالفهم التقليدي رجع من تأدية الحج الذي هو في المسجد الحرام إلى المسجد الحرام، فهل هذا متسقٌ مع الآية؟ 

الآية الثانية: جاءت في سورة البقرة، وتعني كذلك الوطن كما سوف نرى: (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالࣲ فِیهِۖ قُلۡ قِتَالࣱ فِیهِ كَبِیرࣱۚ وَصَدٌّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟ۚ وَمَن یَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَیَمُتۡ وَهُوَ كَافِرࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ) (سورة البقرة: الآية 217).

 

ما معنى أهل المسجد الحرام؟

 

عند قراءة الألفاظ القرآنية لا بدّ من عَدّها ألفاظًا تُعبّر عن الحقيقة، وليست كألفاظ البشر وتجاوزاتهم. البشر يقولون ألفاظًا ويقصدون أخرى، ويتساهلون في التسميات بصورةٍ كبيرةٍ، وهذا ليس منهج اللفظ القرآني، فهو دقيقٌ في توصيفه للأشياء لأقصى حدٍّ. 

هل للمسجد الحرام بتعريفه الحاليّ أهلٌ؟ أيْ هل المسجد الحرام مكانٌ للإقامة والسكن أم أنه دار عبادةٍ بفهمنا الحالي؟ 

 

الآية الكريمة تتحدّث عن إخراج أهل المسجد الحرام منه، وهو إخراج الناس من أوطانها التي تعيش فيها آمنةً ومحصّنةً وممنوعةً من الآخرين. 

إخراج أهل المسجد الحرام من أمنهم، أو بمفهومنا المعاصر إخراج أهل الأوطان من أوطانهم أكبر حرمةٍ عند الله. لقد جعل المفسّرون هذه الآية مُغرقةً في المحليّة، وهي تؤسّس لأعظم مبدأ من مبادئ الإنسانية، وهو عدم احتلال أوطان الناس، أو إخراجهم من أوطانهم، تحت أيّ ذريعةٍ. 

 

بعد هاتين الآيتين نستطيع القول: إنّ تعبير المسجد الحرام تعبيرٌ لا يمكن حصره في مفهوم (الكعبة) ولكنّه يعني الوطن، ويُفهم المقصود بالوطن من خلال السّياق. مرةً يأتي عامًّا، كما جاء في الآيتين السابقتين، أمّا إذا كان السياق يتحدث عن رسول الله محمد صلوات ربي عليه، فيكون المقصود هو وطنه الذي أخرجه النّاس منه.

 

لا شك أن تعبير الوطن تعبيرٌ معاصرٌ، ولو تتبعنا كلام المفسرين القدامى سنجد أنهم ألمحوا إلى ذلك، ولكن بتعبيراتهم؛ فمرةً قالوا إن المسجد الحرام هو مكة كلها، ومرةً قالوا بل هو مكة وبعض أطرافها، ولو أنهم في هذا العصر لقالوا إن مفهوم المسجد الحرام هو وطن الرسول أو المنطقة التي عاش فيها . بمجرد فهم مدلول (المسجد الحرام) بهذه الرحابة يمكن سحبه على كل وطنٍ لكلّ إنسانٍ في كل بقعةٍ في العالم. إنه القرآن الذي جاء للناس كافةً، يهديهم ويصحّح مفاهيمهم، ويأخذ بأيديهم لفهم سر ّوجودهم ومصيرهم. 

مدلول التعبير القرآني (المسجد الأقصى)

 

لفظ (الأقصى) يعنى الأبعد، وهو كذلك وصفٌ عامٌّ، وهو وصفٌ شديد الوضوح، لأنّه يقصد حالةً عامّةً، ولا يقصد اسمًا مُعيّنًا، لا سيما مع عدم وجود مسجدٍ معيّنٍ بهذا الاسم وقت بعثة الرسول، والسورة نفسها موضوعها (بنو إسرائيل)، وهم أصحاب التّرحال المستمرّ كما نعلم. فيُصبح تعبير (المسجد الأقصى) يعني حالةً من الاستقرار والاطمئنان في مكانٍ أبعد. 

 

يمكننا القول الآن: إنّ الآية الأولى في سورة الإسراء تصف رحلة عبد الله من وطنه إلى وطنٍ أبعد هو أرض المَهجر، وذِكر هذه الرحلة بهذا الشكل دليلٌ على أنها علامةٌ فارقةٌ في تاريخ البشرية، بل أصبحت نهجًا جديدًا للبشرية. 

 

قد يتبادر إلى ذهن القارئ أنّ العبد الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى هو رسول الله، ويمكننا أن نَعُدَّ المسجد الحرام بالنسبة إليه هو مكة وطنُه، والمسجد الأقصى هو المدينة. هذا الطرح معقولٌ جدًا ومقبولٌ، لولا أنّ السورة تقصّ حكاية هذه الرحلة وآثارها، بل وتشير صراحةً إلى من قام بها، وهو إسرائيل. 

 

أعلم جيدًا أن تحليل تعبير (المسجد الحرام) و(المسجد الأقصى) ليس بالقوة التي يمكن عَدُّها دليلًا على أن رحلة الإسراء حدثت بخلاف المتعارف عليه. الركن الركين في هذا الفصل والذي نقف عليه بكلّ قوةٍ في نفي نسبة الإسراء لرسول الله محمدٍ هو تحليل كلمة (إسرائيل) نفسها، والتي تحمل في طيّتها لفظ (الإسراء). 

 

إسرائيل 

 

عندما تطالع أقوال المفسّرين في لفظ (إسرائيل) ستجد العجب العجاب. يقول المفسّر بكلّ سهولةٍ إنّ لفظ (إسرائيل) لفظٌ عبريٌّ مركبٌ من مقطعين (إسرا) وهي عبدٌ، و(ئيل) وهي الله فيكون معنى إسرائيل عبد الله. 

هل (إسرائيل) لفظٌ عبريٌّ؟ 

القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، كما نقول دائمًا، والخضوع لفرضية أنّ (إسرائيل) اسمٌ عبريٌّ سذاجةٌ منقطعة النظير. يغضب بعضهم عندما نصف بعض الأقوال التي سبّبت لغطًا حول فهم كلمات الله بالسذاجة، ولكنّهم لا يغضبون أبدًا لأنّ كلمات الله ظلّت مطموسةً كلّ هذا الوقت، وجرّت على البشرية الويلات؛ بسبب ضعف التفسير، وسوء الفهم. 

 

لو تمسّكنا بكلمات الله، وحاولنا فهم (إسرائيل) من خلال مدلول الكلمة العربيّ، واٌقصد مدلول الكلمة من خلال القرآن ذاته، فهو الذي يستطيع تفسير كلماته بنفسه، سوف تنتهي كلّ الإشكاليّات. 

تتكوّن كلمة (إسرائيل) من مقطعين: المقطع الأول: هو (إسراء) وهو ما فسّرناه، وقلنا هو رحلةٌ من الوطن إلى مكانٍ أبعد، والمقطع الثاني: (يل) فكيف يُمكننا فهم هذا المقطع؟

 

هذا المقطع من الصعوبة بمكانٍ؛ إذ لم يرد في المعاجم شيءٌ ذو معنىً يمكننا الاسترشاد به، ولكنْ لدينا في كتاب الله ثلاثة أسماءٍ انتهت بالمقطع (يل)، يمكننا مقارنتها ببعضها؛ لنصل لمفهوم المقطع (يل). الأسماء هي: جبريل، اسماعيل، والاسم الذي نحن بصدده وهو (إسرائيل). 

قبل أن نتطرّق إلى هذه الأسماء، لدينا في كتاب الله آيةٌ كريمةٌ سوف تفتح لنا الباب لفهم المقطع (يل)، وهي الآية في سورة التوبة التي ذكرت لفظ (يلونكم): (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ یَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡیَجِدُوا۟ فِیكُمۡ غِلۡظَةࣰۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ)(سورة التوبة: آية 123). 

اللفظ (يلو) يعني الأدنى أو الأقرب. لو أخذنا في حسابنا أنّ صفة القرب من صفات اللفظ، ثم حاولنا فهم لفظ (جبريل) سوف ندرك جزءًا من الصورة.

 

مدلول لفظ (جبريل) 

مرةً اخرى، يُسرف المفسّر على نفسه، ويقول: إنّ لفظ (جبريل) لفظٌ عبريٌّ أو أعجميٌّ من مقطعين، الأول: (جبر) بمعنى عبد، والثاني: (يل) بمعنى الله، فيكون المعنى عبد الله.

بالعودة لعربية القرآن، سنجد أنّ (جبريل) يتكوّن من مقطعين فعلًا: المقطع الأول: (جبر) ويعنى شيئًا من العظمة والعلُوّ، ويُقال الجبّار هو ذو العظمة والقوّة. لو حاولنا فهم لفظ (جبريل) المذكور في القرآن، فهو عظيم الذكر بالفعل في كتاب الله، حتى أنه ذُكر في ثلاثة مواضع في كتاب الله، تدلّ جميعها على مكانته المتميّزة، وقدره العظيم. 

من خلال إضافة المقطعين (جبر) والمقطع (يل) الذي مِن صفاته الدنوّ والقرب، سنجد أنّ لفظ (جبريل) يصف الأقرب للعظمة أو العلو، أو صاحب العظمة والعلو. كأنّ لفظ (يل) أضاف بُعدَ صاحبٍ لصفة الكلمة. 

كذلك لفظ (إسماعيل) في كتاب الله، يتكون من مقطعين:

المقطع الأول: إسماع، والمقطع الثاني: (يل). نحن نعرف ماذا يعني السماع، وهذا يدفعنا للقول: إن إسماعيل هو وصفٌ لصاحب السماع، أو المتّصف بالسماع، وهذه صفة نبيّ الله إسماعيل، الذي سمع لأبيه في أحلك الأوقات، وكان طائعًا له؛ ولذلك سُمّي (إسماعيل) في كتاب الله بهذا الاسم، لأنّ صفة السّمع التصقت به. مرةً أخرى نجد تعبير (يل) يُشير إلى ملازمةٍ، أو أنّها تعني صاحب. بذلك يمكننا القول إنّ المقطع (يل) نفسه عندما جاء في آخر الكلمة جعل الصّفة في المقطع الذي يسبقه صفةً أساسيةً في المُسمّى. 

 

لدينا ملاحظةٌ أخرى شديدة الأهمية، وهي المقطع (آل)، والذي إذا جاء قبل الاسم دلّ على المنتسبين لهذا الاسم، مثل: آل عمران، وآل هارون، وآل موسى. 

يبدو لنا أنّ الفرق بين الألف الممدودة والياء هو الفرق بين أن يأتي المقطع أولًا فيصف مجموعةً من الناس منتسبين لمسمّىً، وأن يأتي المقطع أخيرًا فينسِب المُسمّى للصّفة التي حملها الاسم. 

من هنا نستطيع أن نقول: إنّ المقطع الثاني (يل) في اسم (إسرائيل) إنّما يشير إلى انتساب صاحب الاسم إلى الصفة الرئيسة التي يحملها الاسم. النتيجة النهائية الآن أنّ (إسرائيل) هو اسم الشخص صاحب الإسراء، أو الذي التصق به فعل الإسراء. 

بعد وصولنا إلى هذه المعلومة الفريدة، يجب أن نتساءل: من هو إسرائيل؟ بل يجب أن نسأل أيضًا: هل حقيقة الشخص المُسمّى (إسرائيل) سوف تجعل مَن قام بالإسراء هو إسرائيل؟ 

رغم أننا سوف نحاول معرفة شخص إسرائيل الذي جاء ذكره في القرآن، إلا أنّ هذا لن يُغيّر من حقيقة الأمر، وأنّه ليس رسول الله محمّدًا، ولا علاقة له صلوات ربي عليه بمسألة الإسراء التي جاء ذكرها في سورة الإسراء. 

لكن لماذا لم يذكر القرآن مباشرة أنّ عبده الذي أسرى به هو موسى أو يعقوب أو حتى محمّدٌ كما تزعم الرواية؟

الإجابة: لأنّ هذه الصفة التصقت به في مرحلةٍ معينةٍ، وقد أسّست لتحولٍ عظيم في تاريخ البشرية، ويمكن عدّها بمنزلة أوّل هجرةٍ لغير غرض الغذاء، وكانت تدريبًا عظيمًا لما سوف يأتي بعدها. إنّها تطبيقٌ عظيمٌ لمبدأ قرآنيٍّ عظيمٍ، وهو أرض الله الواسعة.

(إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَ ٰسِعَةࣰ فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا)(سورة النساء: آية 97). 

سوف نتناول في الفصل القادم من هو إسرائيل؟ ولكن في الأسطر القليلة المتبقية دعونا نضع تصورًا لسبب نسب الإسراء لرسول الله. 

الأمر المحير حقًا هو: كيف نُسجَتْ قصة الإسراء الخاصة برسول الله، حتى وصلت إلى هذا الحدّ من التصديق والإيمان بها؟ 

أيًا كانت النتائج فلن تؤثّر على صفة العبد الذي وقع عليه الإسراء، وسمّاه الله إسرائيل، ولكنّي سأضع تصوّرًا لما حدث، من خلال قراءة التاريخ، ومدلول الكلمات في القرآن. 

هذه السورة نزلت قبل هجرة الرسول إلى المدينة؛ فهي لا تصف هجرته بالتأكيد، ولكنْ يبدو أنّها وصفتْ له مثالًا للهجرة؛ فتلقّاه صلوات ربي عليه بأحسن تفاعلٍ، وقرّر الهجرة، أو بالمفهوم القرآني (الإسراء). ويبدو جليًا أنّ هذه الحادثة كانت من الإشارات الرّبّانيّة، التي تلقّاها رسول الله محمد صلوات ربي عليه، وطبّقها عمليًا. لقد انتهج رسول الله سُنّة الإسراء، وترك المسجد الحرام -ونقصد وطنه- إلى مسجدٍ أقصى، أو مكانٍ أبعد من وطنه، ينشد فيه الاستقرار والاطمئنان، وهو المدينة. لقد كانت رحلته تشبه إلى حدٍ كبيرٍ رحلة الإسراء التي قصّها ربنا في سورة الإسراء. 

قد يكون رسول الله قال حقًا لفظ (ليلة أسري بي)، أو أنّه نسب حالة الإسراء لنفسه، ويقصد بها الهجرة. ولكنّ النّاس بعد ذلك نسجوا الخيال حول لفظ (الإسراء)، وجعلوه مُفسِّرًا للسورة ذاتها. وما فعله رسول الله هو نهج (إسرائيل) الأول، الذي أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولكنّ المقصود في أول السورة ليس هو صلوات ربي عليه؛ وإنّما إسرائيل الذي فعل الإسراء أوّل مرّة.

 

أنا لا أتّهم أحدًا هنا، ولكنْ يبدو أنّ هناك سوء فهمٍ عظيمًا، إضافةً إلى تداخلاتٍ سياسيةٍ كانت ترى ضرورة أن ينتقل مركز الحكم الإسلامي من مكة إلى المدينة، فنُسِجَ الخيال حول قصةٍ لا وجود لها، ثمّ صدّقها الناس، وتداولوها حتى يومنا هذا، دون النظر العميق في كلمات القرآن وألفاظه. الأمر من وجهة نظري يُثبت شيئًا هامًا، ويُظهر أنّنا تعرّضنا لقدرٍ خطيرٍ من التزييف والتزوير، بعضه دون قصدٍ، وقد يكن بعضه قد دبر بليل أو كان حتمية سياسية. 

 

سوف نُحاول في الفصل التالي تتبع لفظ (إسرائيل) كما جاء في القرآن، ومعرفة كيف ظهر، ومن هو (إسرائيل) بحسَب قراءتنا للنص القرآنيّ، دون التّأثّر بأيٍّ من الروايات التي يُقال عنها إسلامية، أو التي يُقال أنّها من العهد القديم. 

 

أمّا الآيات التالية في سورة الإسراء، والتي نسج حولها خيال الراوي معارك، وتحدّثت من خلالها كتبٌ كثيرةٌ عن أحداث النهاية المليئة بالمعارك والنزالات حامية الوطيس، بين مَن يدعوهم الناس (المسلمين واليهود) بالتعريفات التقليدية. وسوف يكون لنا معها وقفةٌ في الفصل الثامن؛ لنضع حدًا لكلّ هذا الكمّ من الشّحن السلبيّ، والشّحن المتبادل بين ما يُسمّى العالم الإسلامي والكيان اليهوديّ والعالم المسيحيّ. الأمر ليس كما تظنون، وأبسط ممّا تتخيّلون، ولكنّ الشرّ والهوى الكامن في النفوس، اعتلى الدين، واتخذه سوطًا يضرب به بعضهم بعضًا. 

 

سوف نستكمل في الفصول القادمة الحديث عن (الإسراء) و(بني إسرائيل) و(إسرائيل)، وسنجيب على الأسئلة التي تنتظر دورها في عقل القارئ. 

ملخص الفصل 

  • تحليل لفظ (الإسراء) ولفظ (إسرائيل) ومسمّى السورة ومقدمتها يؤكد أن رحلة الإسراء حدثت، ولكنْ ليست بالشكل الذي يعتقده الناس حاليًا. 
  • ليس للنبي محمدٍ علاقةٌ بالإسراء المذكور في مقدمة السورة، والذي أُسري به إنما هو (إسرائيل)، وهذه السورة تصف رحلةً غيّرت مسار البشرية، وأسّست للانتقال والهجرات البشرية بشكلٍ متطورٍ.
  • لعلّ الأمر اختلط على الناس في رحلة الإسراء؛ لأنّ الرسول قد قلّد فعل إسرائيل حقًا في الانتقال من وطنه إلى مكانٍ آخر، طلبًا للاستقرار والاطمئنان، فظنّوا أنّه المقصود بالعبد الذي أُسري به.
  • لقد أضاف الفصل دلائل إضافيةً لفهم حالة الإسراء، مثل تحليل لفظ (أسرى) ومفهوم (المسجد الحرام) وهو الوطن، و(المسجد الأقصى) وهو أرض المهجر أو الأرض الجديدة أو الوطن الجديد. 

  

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة