الفصل التاسع عشر- وَمَا عَلَّمنَـٰهُ ٱلشِّعرَ

 

الفصل التاسع عشر


وَمَا عَلَّمنَـٰهُ ٱلشِّعرَ


 

كنا قد تطرّقنا لمفهوم (الرسول) و(النبي) و(الوحي) في كتاب قولًا ثقيلًا، وأفردنا مجموعةً كبيرةً من التساؤلات، مثل: لماذا لم يأتِ أمر الخندق في غزوة الخندق عن طريق الوحي، وجاء عن طريق سلمان الفارسي؟ ولماذا كان الأذان للصلاة رؤيا لأحد المعاصرين، ولم يكن وحيًا من الله لنبيه؟ أسئلةٌ كثيرةٌ وعديدةٌ خلصنا منها إلى نتيجةٍ، وهي أنّ القرآن هو كلام الخالق، أما التفاعل مع القرآن فهو قدرةٌ بشريةٌ للنبي.

هذه القدرة تحكمها مئات العوامل، مثل: الأرضية المعرفية، وطبيعة المجتمعات. الأمر الثاني الذي كنا قد خلصنا إليه هو أن رسول الله لم يُعلَّم تأويل القرآن على حقيقته كما أخبر الله في كتابه، وإنما كل إنسان ينهل من القرآن بقدرٍ معينٍ، والرسول عند هذه النقطة بشرٌ، ويجري عليه ما يجري على البشر. 

(هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ) (سورة آل عمران: آية 7). 

الآية صريحةٌ في نفي القدرة المطلقة على تأويل القرآن، ومع ذلك سوف يأتي تأويل الآيات بقدرٍ ما، وهو أمرٌ مستمرٌ إلى الساعة، وفي كل مرحلةٍ يجري فيها تأويل الآيات تجد المكذّبين والتراثيين بالمرصاد. 

(هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِیلَهُۥۚ یَوۡمَ یَأۡتِی تَأۡوِیلُهُۥ یَقُولُ ٱلَّذِینَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَاۤءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاۤءَ فَیَشۡفَعُوا۟ لَنَاۤ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَیۡرَ ٱلَّذِی كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ) (سورة الأعراف: آية 52). 

مشكلة الناس بصفةٍ عامةٍ على مدار التاريخ أن العاطفة تحكم تصرفاتهم، فلا يستطيعون رؤية بيت الله، أو الفكرة الرئيسة التي تصف الله، فهو ليس كمثله شيءٌ، والحكم له وحده. يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلًا بقدر حاجة المجتمعات لهذه الرسل، ووظيفة الرسل بالأساس المساهمة في تعديل مسار البشرية بقدر ما تسمح به معارف البشرية. جعلُ النبي والرسول متجاوزًا للزمن هو تَعدٍّ على الله؛ لأن الرسول هو مَن طوّر البشر، ولا يجب أن يكون هو ذاته متعديًا لزمنٍ ليس زمنه. 

إذا كان لديك كتابٌ فهو النص المؤسس، ويجب قياس كل أمرٍ عليه من دون أدنى قلقٍ. لا نقول ارفضوا كلام الرسول الثابت، ولكن نقول وبكل ثقةٍ إن كلام الرسول وأفعاله الثابتة إذا تعارضت مع فهمٍ جيدٍ ومتسقٍ مع القرآن فيجب تأويل أفعاله وكلامه لتتفق مع القرآن أيضًا. 

كيف نؤول كلام النبي؟

هناك كثيرٌ من الأمور التي يمكننا من خلالها تأويل كلام النبي، أولها: قد يكون النبي فعلَ ما فعلَ أو قال ما قال قبل نزول الآية.

ثانيًا: قد يكون فعل أو قال أمرًا، ثم فُهم بطريقةٍ مختلفةٍ، أو أن الأرضية المعرفية كانت محددةً فلم يتبيّن الفعل بصورةٍ متكاملةٍ. 

لم يؤول الناس كلام النبي، ولكنّ ما فعلوه كان العكس تمامًا، فعندما وجدوا تعارضًا بين القرآن وكلام الرسول أوّلوا القرآن بزعم أنّ القرآن حمّال أوجهٍ. فهل هذا المنطق سليمٌ؟

عندما نُدرّس الطلاب طريقة التفكير العلمي في حل المشكلات، نَعُدّ مثل هذه الفرضية فرضيةً معكوسةً. لدينا نصٌّ حقيقيٌ ثابتٌ ونصٌّ للنبي، وهو بشر، فإذا حدث تعارضٌ بينهما فالطبيعي هو تأويل كلام النبي، وليس تأويل القرآن وخلق اختلافاتٍ لا حصر لها.

الطبيعي أن يُكشف القرآن بمرور الزمن، ويزداد العمق المعرفي، وبذلك لا سبيل للتشبث بعمقٍ معرفيٍ بسيطٍ في فهم القرآن، بحجة أن النبي فعلَه أو قالَه. هذا الأمر يُخرج النبي من دوره إلى دورٍ أكبر ليس دوره ولا يحقّ له، وهو دور الربّ. نهى الله عن اتخاذ الملائكة والأنبياء أربابًا، وهذه هي نقطة الارتكاز التي يجب الانطلاق منها.

(وَلَا یَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَیَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ) (سورة آل عمران: آية 80). لقد كانت الفصول الأولى في هذا الكتاب شديدة الأهمية؛ إذ بيّنت أن المقصود بالصاحب في سورة النجم ليس رسول الله، وإنما الروح. وأن الذي لا ينطق عن الهوى هو الروح، وذلك حتى يكفّ الناس عن استخدام هذه الآية دليلًا على أن القرآن والسنة كلاهما وحيٌ بالقدر نفسه، في خلطٍ عجيبٍ وشركٍ مريبٍ، لا يُقرّه كتاب الله، ولا منطقٌ منصفٌ. 

الأمر الأكثر أهميةً هو فهم شخصية النبي، وفهم الوحي، وكيف تعامل معه النبي.

الوحي الذي نزل به الروح الأمين يتطلب شخصيةً فريدةً في التلقي، وإعدادًا لا مثيل له، وكان نبي الله صلوات ربي عليه مثالًا عظيمًا لهذه الشخصية. إذ إنّ متطلبات استقبال الوحي ونقل الوحي المنزَل كما هو يحتاج للصدق والأمانة، ولا يحتاج لوضع تصوّراتٍ من النبي، فهو ليس مطلوبًا منه ذلك، ويكفي أن يُبلّغ ما أُنزل إليه. هل هذا معناه أن الرسول -حاشا لله- آلةٌ ينقل فقط دون فهمٍ؟ 

للأسف الشديد، عند مناقشة أمرٍ شديد الحساسية والتعقيد كهذا الأمر لا بدّ أن تجد مَن يُحاول قلب الأمور وفهمها على هواه بصورةٍ فجةٍ؛ ليُفرّغ الفكرة من محتواها، ويُركّز على شخصنة الأمور. 

يكفي النبي شرفًا أنه كان أهلًا للتنزيل، وأن يكون رسول رب العالمين، فهو لا يحتاج لشرفٍ أكثر من ذلك. إدعاء حب الأنبياء و الرسل وإنزالهم مقام الربوبية أمرٌ يلجأ إليه البسطاء في كل المجتمعات، ولا غرابة في ذلك. الأكثر من ذلك، أن هناك من يُنزّل المعاصرين للأنبياء أو أقرباءهم منازل الأنبياء، بل منازل الأرباب، ويظنّون أنّ لهؤلاء حظوةً عند الله، فقط من أجل القرابة. وكأنّ الله شيخ قبيلةٍ وليس خالق كل شيءٍ، وهو على كل شيءٍ قدير. يزدري الناس أنفسهم، ويحطّون من شأنهم، ولا يرون الوصول لله إلا من خلال أولئك، وكأنهم وسائط، وما عهد الله لهم بشيء، ولكن النفوس المهتزّة المتشبّعة بالتحيّز وعدم الإنصاف تظنّ أن الله متحيزٌ، يُقسّم الناس ويصنفهم على أساس عرقي أو حتى أساس قبلي. 

تجد صورة الرسول واضحةً في القرآن بشكلٍ كاملٍ، فهو الذي لم يسأل ربه، ولم يصلنا شيءٌ من سؤاله عن الحروف المقطعة مثلًا، وهي أشهر مثالٍ. وكثيرةٌ جدًا الكلمات التي اختلف المفسرون حول دلالتها. لقد فهم الرسول أن هذا القرآن للعالَمين، وأن الجميع مطالبٌ ببذل الجهد فيه، لكنّ الآخرين أبَوا ذلك، وجعلوا النبي فوق القرآن، وهذا ليس له فيه شأن. 

الأمر واضح جدًا، ولكنّ عاطفة البسطاء وشحن العامة بكلامٍ يُناقض القرآن نفسه، ويطمس كلام الله، هو شأن كلّ المتعصبين في كل منهجٍ فكريٍّ، لا يريدون أن يسمعوا سوى أصواتهم، ولا يتقبلون أنهم مخطئون أو أن شيوخهم ضالّون. أمورٌ لا حصر لها سنجد أن الرسول تعامل معها بطريقةٍ ما، ولكنّ القرآن كان أشمل وأعمّ؛ فلا بدّ أن نتعامل معها بما أتاح الله لنا من معرفة. 

لماذا يعتقد الناس أن الأنبياء أبناء الله، ولماذا لا يثقون بأنفسهم وأن الله يحبهم، وقد يصل من صلح منهم إلى مراتب النبيين والصديقين والشهداء. لماذا الدونية التي انسحبت على كل أمرٍ في حياتهم، وصنعت مقدساتٍ وأربابًا، يعتقدون أنهم لن يصلوا لله إلا من خلالهم. لقد جاء الأنبياء في كل العصور لهدم هذه المقدسات، وتوجيه الناس لعبادة الله الواحد. 

كل الناس في كل المعتقدات لا يرون أنهم يشركون بالله، بل الملايين في كلّ المعتقدات يعتقدون أنهم يعبدون إلهًا واحدًا، وأن الآخرين مخطئون. 

كلّ حزبٍ لديه شفعاؤه ووسائطه التي بينه وبين الله، ويعتقد أن الوصول لله لا بد أن يمرّ من خلال هذه الوسائط. هذه هي الحقيقة الماثلة، والتي تعتنقها كل المعتقدات. تتفاوت الوسائط والشفعاء، فمنهم من يتخذ الفئران أو البقر كائناتٍ مقدسةً، ومنهم من يرفع بعض البشر إلى مراتب الأرباب، ومنهم من يجعل الأنبياء أربابًا من دون الله، بل إننا نرى أن الناس دون أن يشعروا صنعوا من رجال الدين أربابًا، فلا يرون الدين إلا من خلالهم. كلما انحطّت الثقافة رأى الناس أنفسهم بدونيةٍ عجيبةٍ، فلا يستحقون أن يخاطبهم ربهم ويوجههم مباشرةً، بل لا بدّ من وسائط. 

القرآن يُحذّر الناس من أن يتخذوا الأنبياء أربابًا، بل يوضّح لهم دور الرسول والنبي، ويشرح لهم دورهم، لكنّ أكثر الناس لا يفقهون، أو لا يريدون أن يفقهوا. لقد أشار القرآن إلى أنّ رسول الله ليس بشاعرٍ، وأنه لا يقول الشعر، وتمرّ هذه التعبيرات مرور الكرام على الناس دون فهم المقصود منها. عندما يقول القرآن عن آياته: (وما هو بقول شاعر) ثم نجد لدينا سورةً في القرآن تُسمى الشعراء، فيجب أن نتوقف قليلًا لنفهم من هم الشعراء؟ وما هو الشعر؟ ولماذا لا ينبغي للنبي أن يقول الشعر؟ 

ما هو بشاعر 

مدلول لفظ (شعر) كما جاء في قاموس اللغة له أصلان، يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى ثَبَاتٍ، وَالْآخَرُ عَلَى عِلْمٍ وَعَلَمٍ.

لو نظرنا إلى مدلول لفظ (شعر) في القرآن، والذي جاء في أغلبه في لفظ (يشعرون) نجد أن (شعر) تعني نوعًا من الإدراك. (یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ) (سورة البقرة: آية 9). 

الشعور بالشيء هو إدراك هذا الشيء على نحوٍ جيدٍ، وقد ذمّ القرآن جميع الذين لا يشعرون. الشعور في حدّ ذاته صفةٌ جيدةٌ يتميز بها الناس. وعند ضمّ مدلول الكلمة في المعجم مع مدلول الكلمة في القرآن سوف ندرك أن لفظ (يشعر) هو حالةٌ يتصف بها الإنسان، وتعطيه معرفةً أو علمًا بشيء ما. لا بدّ أن نفرّق بين (العلم) و(الشعور)؛ فالشعور حالةٌ داخليةٌ، وهي حالةٌ خاصةٌ بصاحبها، أما العلم فهو حالةٌ يمكن قياسها. أنا أشعر تختلف عن أنا أعلم؛ إذ (أنا أشعر) شيءٌ لا يقوم عليه دليلٌ، أما (أنا أعلم) فلا بدّ أن يقوم على الدليل. 

الشعور بأن شخصًا مفسدٌ أو مجرمٌ هو إحساسٌ داخليٌّ يخبرني بذلك، بناءً على فراسةٍ، ولكن لا يوجد دليلٌ ملموسٌ على ذلك. أما العلم بأنّ شخصًا مجرمٌ أو مفسدٌ فهذا يعني أن هناك أدلةً قويةً وظاهرةً تدلّ على أنه مجرمٌ ومفسدٌ. 

الذي يتجنب فعل أمرٍ ما بسبب الشعور يختلف تمامًا عن مَن يتجنب الأمر بسبب العلم؛ فالأول لديه إحساسٌ وليس عليه دليلٌ واضحٌ، أما الثاني فلديه أدلةٌ قويةٌ على ما يفعل. 

 

إذن ما هو الشعر؟ ومن هو الشاعر؟

(الشعر) هو مخرجات الشعور، والشاعر هو مَن يُعبّر عن هذه المخرجات بطريقةٍ جيدةٍ. عندما يتولّد داخل الإنسان إحساسٌ بشيءٍ ما فهذا هو (الشعور)، فإذا عبّر عن هذا الشعور فهو في هذه الحالة (شاعرٌ)، والتعبير عن الشعور هو (الشعر). 

لقد اقتصر مفهوم (الشعر) ومفهوم (الشاعر) على الأشخاص الذين يكتبون الكلام المقفّى أو الكلام الموزون الذي يعبّر عن أحاسيسهم وشعورهم، لكنّ هذا المعنى ليس معنىً شاملًا للشعر والشاعر. كلّ مَن يستطيع التعبير عن فكرةٍ نابعةٍ من خياله أو إحساسه فهو في الحقيقة (شاعرٌ) وما يكتبه (شعرٌ). الذي يكتب القصص أو الروايات أو حتى الفلسفات غير القائمة على أدلةٍ هو (شاعرٌ) تبعًا لمدلول الكلمة، وما يكتبه أو ما يُعبّر عنه هو (الشعر). 

هل الشعر والشعراء ناقصون أو مذمومون كما فسر المفسر ذلك من خلال آيات القرآن؟

لا، الشعر والشعراء ليسوا مذمومين؛ بل الشعر حالةٌ راقيةٌ، ولكنها تخصّ صاحبها. سوف أضرب مثالًا قبل الدخول إلى الآيات القرآنية. لنفرض أن إنسانًا لديه تصوّرٌ عن فكرةٍ ما، وهذا التصوّر قائمٌ بالأساس على الشعور والأحاسيس، واستطاع التعبير عنه، هذا الشخص مميّزٌ وتعبيره رائعٌ، ولكنْ تكمن المشكلة إذا اتّبعه بعضهم، وعَدّ تعبيراته وكلامه حقائق يُناقَش بها ويُعارَض. هنا يصبح الشعر وبالًا على أتباعه؛ لأنهم لم يُفرّقوا بين ما يخضع للعقل وما يخضع للشعور. هذه الفئة من الناس التي تتبع أقوال الشعراء هم الغاوون الذين وصفهم القرآن وذمّهم. 

(هَلۡ أُنَبِّئُكُمۡ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَٰطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ (222) يُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَٰذِبُونَ (223) وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ (224) أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ (226) إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱنتَصَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ (227)) (سورة الشعراء: آيات221-227)

سورة الشعراء التي نزل فيها ما يعتقد المُفسّر أنه ذمٌّ للشعراء هو ذمٌّ للغاوين وليس للشعراء. ذمّ القرآن الغاوين بسبب اتّباعهم الشعراء، ويقول لهم إن الشعور خاصٌّ بصاحبه، وأنت إنما تتبع شعرًا نابعًا من الشعور، وتُضلّ به نفسك. 

الآيات التي تشير إلى كلّ أفاكٍ أثيمٍ يُلقون السمع وأكثرهم كاذبون تعني الغاوين أتباع الشعراء. الشعراء لا يُلقون السمع؛ بل مدلول الكلمة ذاته يفيد أنهم يُعبّرون عن ما يشعرون به. أما أتباعهم فهم الذين يُلقون السمع، وفي الغالب لا يعقلون، إذ يَعُدّون ما يقوله الشعراء حقائق ثابتةً. الحقيقة أنّ هؤلاء الغاوين بالملايين، فأتباع الفلسفات المختلفة، والذين يقيمون المناظرات، ويتبنّون وجهات نظرٍ فلسفيةً معينةً، ويجادلون عنها كأنها حقائق موثقةٌ، رغم انتفاء الدليل الواضح أو الدليل الذي يمكن قياسه، تجدهم في كل مكانٍ وفي كل ركنٍ من أركان الأرض. لا هو أنتج هذه الفلاسفة، ولا هو باحثٌ، ولا هو شاعرٌ يملك شعورًا يريد أن يُعبّر عنه. هو فقط ألقى السمع، ونقل ما قيل له، يريد أن يغزو العالم بتصوّرات غيره ووجهات نظرهم، وأغلبها نابعٌ من الشعور والإحساس. 

ليس عيبًا أن يستمع الإنسان إلى الشعراء والشعر، ولكن ليعلمْ أن ما يستمع له إنما هو وجهات نظرٍ نابعةٌ من الشعور؛ فلا يصحّ أن ينطلق منها كمسلماتٍ. هؤلاء المزاجيون والذين لا يعقلون تراهم -كما وصفت الآية- في كل وادٍ يهيمون؛ أي كلما أعجبهم قولٌ اتبعوه، يبحثون خلف غرائب الأشياء ونوادرها أو حتى سجعها. إنها حالةٌ معروفةٌ لا سيما في السنّ القريب من سن ّالمراهقة؛ إذ ينجذب الإنسان للكلام الغريب والعبارات التي تحمل موسيقى أكثر من العبارات العقلية والمنطقية. تكمُن الخطورة إذا تقدم الإنسان بالعمر وظلّ هكذا، عالقًا في العبارات الرنّانة والخطب الإنشائية، يجادل بها، ويحسب أنها أدلةٌ منطقيةٌ. 

لو تتبعنا سورة الشعراء سوف نجد أن بدايتها تتحدث عن آياتٍ بيناتٍ كذّب بها الناس رغم وضوحها وجلائها. ثم ذكرت السورة قصة سحرة فرعون كاملةً، وهي دلالةٌ واضحةٌ على الخيال مقابل الآية الواضحة البينة التي لا تقبل الشك. لقد سَحرَ السحرة أعين الناس، وهكذا تفعل العبارات الرنانة؛ فهي تجذب الناس إليها وتُخدّرهم. لكن في مقابل الآيات البينات الواضحات لا مكان لهذا السحر. اشتملت السورة على قصصٍ عديدةٍ تروي لنا كيف جاءت الآيات لأقوامٍ مختلفةٍ، فصدوا عنها واتبعوا خيالاتهم وتصوّراتهم وتصوّرات أسلافهم. 

إنّ تتبّع هذه التصورات في ظلّ عدم وجود أدلةٍ واضحةٍ أمرٌ مفهومٌ، بل جيدٌ، ولكن عند وضوح الرؤية وبيان الدليل فإنّ اتّباع الشعر والسحر هو فعل الجاهلين. 

من السهل أن ترى إنسانًا يجيد البلاغة والسجع والعبارات الرنانة له أتباعٌ بالملايين، في مقابل نفرٍ قليلٍ يسيرون خلف المنطق والعقل، وكلما كانت المجتمعات ضحلةً وجدتِ الخطابة والشعر قبولًا عند الناس، وانزوى العقل والمنطق. 

لقد نال الشعر والشعراء سمعةً سيئةً من جرّاء الفهم الخاطئ للقرآن، والقرآن بريء من ذلك. إنما كان الذم لأولئك الذين يتّبعون الشعراء، أو يسيرون خلف الشعر، أو تجذبهم الموسيقى مقابل العقل والمنطق. 

لقد حرص القرآن على أن يذكر أنّ ألفاظه وكلماته ليست شعرًا، وليست بقول شاعرٍ، فما معنى ذلك؟

الآية في سورة (يس) والتي أقرّت بأن هذا الكلام ليس شعرًا، وإنما هو قرآنٌ مبينٌ، كانت إشارةً كافيةً إلى أن هذا القرآن يحوي الحقائق المطلقة، ومَن يقول أن ألفاظ القرآن مجازيةٌ فإننا نحاكمهم إلى هذه الآية إن عقلوها: (وَمَا عَلَّمۡنَـٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا یَنۢبَغِی لَهُۥۤۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرࣱ وَقُرۡءَانࣱ مُّبِینࣱ) (سورة يس: آية 69). 

لم تدع هذه الآية لإنسانٍ أن يقول إن مفهوم آيات القرآن مجازيٌّ؛ لأن ذلك يجعل القرآن وصفًا لشعورٍ وأحاسيس، وهذا ما نفته الآية بوضوحٍ؛ وخلاف الشعر هو الحقائق. هذا هو الركن الأصيل الذي ننطلق منه في منهجنا، وهو أن ألفاظ القرآن وتعبيراته حقائق، وليس فيها مجازٌ، وما يَعُدّه المفسر القديم مجازًا لو جرى تناوُله على أنه حقيقةٌ فسوف يكشف أمورًا لا تخطر على بالٍ. إن لم يكن القرآن شعرًا وكان حقائق، فيلزم عندئذٍ لفهم معانيه ودلالته أصحاب العقول والمنطق وأرباب العلم. أما أن يتولى القرآن أهل السجع والقافية والتقعّر فهذا ما أوصلنا إلى ما نحن فيه. 

هذه الآية نفت أن يكون اللفظ القرآني نابعًا من الشعور والأحاسيس، بل هو قرآنٌ، أي إنه قابلٌ للقراءة والتدبر. وهو كذلك (ذكرٌ) بمعنى الأشياء المحفوظة بذاتها، وقد حللنا كلمة (الذكر) في كتاب قولًا ثقيلًا، وكان الاستنتاج أنّ لفظ (ذكر) يعني الحقائق الثابتة والمحفوظة بذاتها. التعبير القرآني (وما علّمناه الشعر) يشير بصفةٍ عامةٍ إلى أنّ الرسول لم يكن يُعبّر في أغلب مواقفه بالشعور، فهو لم يكن مُعلَّمًا هذا أو بارعًا فيه. 

قد يثير هذه التفسير حفيظة بعضهم، إذ كيف نقول إنّ رسول الله ليس بارعًا في أمرٍ ما؟ 

المسألة متعلقةٌ بمهمة الرسول وجوهرها، فمهمّته هي نقل الوحي كما هو دون تدخّلٍ، ولا بدّ أن يكون الشعور لدى النبي في مستوىً منخفضٍ حتى يكون النقل أصدق ما يكون. لكي ينقل الرسول صلوات ربي عليه بكل الصدق والأمانة وجب ألا يتدخل في الوحي، وهذا ما عبّر عنه القرآن بأنه لم يكن مُعلَّمًا الشعر، بل وما ينبغي له؛ لأن مهمته لا تحتاج ذلك أبدًا. 

الشعور في حدّ ذاته والتعبير عنه شيءٌ جيدٌ، ولكنّ تأثيره على الحقائق قد يكون مدمّرًا؛ ولذلك كان التحذير من الاتباع الأعمى. الشعور هو ناتج عمليات تفاعل النفس مع المعطيات التي حولها، فينتج عن ذلك تعبيرٌ نسميه (الشعر). لقد نفى القرآن عن الرسول الكريم ذلك نفيًا قاطعًا. ومَن يقولون إن النص القرآني نزل على قلبه، ثم عبّر هو عنه، هو قولٌ لا محل له من الإعراب، في ظل وجود هذه الآية. لاحظ أن هذه الآية رغم أنها نفتْ تمامًا أيّ تدخلٍ للنبي في اللفظ القرآني، فهي كذلك أشارت إلى أنه ليس من نوع الشعراء المعلَّمين. 

لو أن لديك مهمةً شديدة الحساسية، وتريد تبليغ رسالةٍ حرفيةٍ لبعض الناس، فأنت تريد في هذه الحالة شخصًا لا يتدخل في الرسالة، ولن تحضر شخصًا خياليًا، أو يجيد الشعر والتعبير عنه؛ لأن طبيعته سوف تغلبه، وسوف يتدخّل، ولكنّ ما تريده هو شخصٌ ينقل ما تريد بكلّ صدقٍ وأمانةٍ، وهذا ما فعله رسولنا الكريم. 

لدينا في كتاب الله أيضًا تعبير (شاعر) الذي حاول الكافرون وصف رسول الله به، وهذا أمرٌ له أبعادٌ غايةٌ في الأهمية. 

(بَلۡ قَالُوۤا۟ أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرࣱ فَلۡیَأۡتِنَا بِـَٔایَةࣲ كَمَاۤ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ) (سورة الأنبياء: آية 5)

(وَیَقُولُونَ أَىِٕنَّا لَتَارِكُوۤا۟ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرࣲ مَّجۡنُونِۭ) (سورة الصافات: آية 36)

(أَمۡ یَقُولُونَ شَاعِرࣱ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَیۡبَ ٱلۡمَنُونِ) (سورة الطور: آية 30)

ثلاث آيات ورد فيها قول الكافرين عن رسول الله بأنه شاعر، والقرآن لم ينفِ ولم يُثبت، ولكنه فقط أورد ما قالوا. 

(وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرࣲۚ قَلِیلࣰا مَّا تُؤۡمِنُونَ) (سورة الحاقة: آية 41)

نفت هذه الآية أن يكون القول قول شاعر، والقول هو القرآن، والذي عضّد هذه الفكرة هو الآيات التالية، التي قررت أن القرآن ليس بشعرٍ بل هو تنزيل رب العالمين. ومعنى قول الله: (وما هو بقول شاعر) أي إنه قولٌ حقيقيٌ غير نابعٍ من الشعور، وليس لمحمدٍ بوصفه بشرًا دخلٌ به. 

لو أن الآيات نفت عن رسول الله أن يكون شاعرًا بالكلية لخلق ذلك معضلةً؛ إذ يعني ذلك أن تفاعل الرسول بوصفه شخصًا هو تفاعلٌ ضعيفٌ أو قد يكون معدومًا. الآيات التي وصف فيها الكافرون الرسول بقولهم (شاعرٌ) جاء القرآن ينفي الشعر عن القول وهو القرآن، وليس عن الرسول، كما في سورة الحاقة. إذا كان الرسول يشعر كذلك، وأحيانًا يُعبّر عن هذا الشعور فليس هناك عيبٌ في ذلك، ولكنْ ما لا يمكن قبوله هو أن يكون القرآن قول شاعرٍ أو عبارةً عن شعرٍ. 

(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (41) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (42) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (43) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (44) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (45) (سورة الحاقة: آيات 41-45). 

فيما لا يخصّ القرآن فإن الرسول يقول ما يشعر به، من خلال تفاعله مع القرآن، أو ينقل أشياء من محيطه، وهذه هي طبيعة هذا العصر. 

قد تبدو جملة أنه ينقل من محيطه صعبة القبول، ولكن لو علمنا أنه حتى الفقهاء يقولون: إنّ ما لم ينزل فيه نصٌّ كان الرسول يحب أن يوافق أهل الكتاب فيه. بمعنى أنه يرى ماذا يفعلون ويفعل مثلهم، وهو نقلٌ ليس سيئًا، بل هو من تمام حرصه، ومن أجل فعل الخير. لقد رأينا ذلك في الفصل السابق، عندما أمر الله رسوله بتغيير قبلته، وأن يخوض تجربته، ولا يتبع أهل الكتاب في قبلتهم. 

الأمر الخطير الآخر الذي يصف تفاعل الرسول مع النص، ومحاولته جمع الخير قدر استطاعته، والذي يتكامل مع قول الله: (ما علمناه الشعر)، هو قول الله في سورة التوبة: (أُذُن خير). 

(وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِینَ یُؤۡذُونَ ٱلنَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنࣱۚ قُلۡ أُذُنُ خَیۡرࣲ لَّكُمۡ یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَیُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِینَ وَرَحۡمَةࣱ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡۚ وَٱلَّذِینَ یُؤۡذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ) (سورة التوبة: آية 61). 

يبدو أن المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ عندما رأوا رسول الله يوافق بعضهم، أو يفعل أشياء من أممٍ أخرى، قالوا هو أذن، بمعنى يسمع وينقل، فردّ عليهم القرآن، لكنه لم يقل: ليس أذن، ولكن بقوله: أذن خير، في تقريرٍ لمسألةٍ لا عيب فيها، وهي حُبّه صلوات ربي عليه للاجتهاد في ما لم ينزل فيه نصٌّ، عن طريق محاكاة مجتمعه. 

لا يقول أحدٌ أنّ قول: (هو أذن)، كان يُقصَد به القرآن، فلو كانوا يقصدون القرآن لكان الرد غير ذلك تمامًا؛ لأن النبي لم يستمع إلى القرآن، بل تنزّل على قلبه، وهذا تقريرٌ واضحٌ في كتاب الله، عندما قال: (نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ (194)) (سورة الشعراء: آية 193-194). 

القرآن أعطانا لمحاتٍ عن مصادر المعرفة التي كان الرسول يستقي منها معارفه بعد القرآن، وهي محيطه الذي يعيش فيه، وشيءٌ من الشعور، ولكنه ليس بالشيء الكثير. 

أحداثٌ لا حصر لها في التاريخ والسِّيَر تشير كيف كان الرسول يستقى معارفه في ما لم ينزل فيه نص، وكانت أغلب مواقفه منقولةً من مجتمعه، أو نزولًا عند رأي أصحابه، لا سيما في الأمور التي لم يكن لديه معرفةٌ بها بسبب طبيعة المجتمع. 

مسألة الحج ليست بالمسألة البعيدة عن ذلك، إذ إن عادات الحج التي نفعلها حاليًا كانت موجودةً قبل نزول القرآن، ولمّا نزل القرآن تفاعل معه الرسول محاولًا تنفيذ الأمر الإلهي. 

قبل أن نقوم بشرح الكيفية التي نفّذ بها الرسول الأمر الإلهي يجب أن نُشير إلى أنّ عملية الحج كانت معروفةً في كثيرٍ من المناطق، وكانت تعتمد بالأساس على المناظرات الشعرية؛ إذ يجتمع الشعراء ويقولون قصائدهم المقفّاة، ويتبارون فيما بينهم. ويبدو لي أنّ هذا الطقس قادمٌ من فعل نبي الله إبراهيم الأساسي وهو المحاججة، ولكنْ مع تطاول الأمد، وجفاف هذه البقع من مظاهر الثقافة والحضارة بخلاف الشعر، لم يبق إلا الشعر ليكون عنوان المحاججة بينهم. بالتأكيد لا أستبعد أبدًا أن يتخلّل طقس الشعر والمحاججات الشعرية بعض الطقوس، والتي لا غرابة في أن تأخذ أشكالًا عدةً تبعًا لتصوّرات كل عصرٍ وكل جيلٍ. 

عندما جاء الرسول إلى هذه البقعة كانت بقعةً فقيرةً بالعلم والحضارة، والناس بسطاء للغاية، وعندما حجّ وجدنا أن الأمر الأعظم الذي فعله الرسول هو الوقوف بعرفة، كما تقول كتب التاريخ. 

بعض الفقهاء يعدّون الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم في الحج، بل إن بعضهم يَعُدّه الركن الأساسي والذي لا  يتمّ الحج إلا به.

رغم أنّ البعض  قد يعتقد أنّ ما تناولناه من مفهوم الحج لم يقم به رسول الله، إلا أنني أجد أن الرسول قام بما عليه فعله بالفعل، وتفاعل مع النص القرآني بطريقةٍ ليس هناك أروع منها، عندما قام في تلك البقعة يخطب بالناس، ويبيّن ويوجّه ويرشد. أما أن الناس  لم يتحاوروا معه، أو لم تحدث محاججةٌ بمعناها الشامل، فهذا يقع على عاتق المجتمع، لكونه مجتمعًا بسيطًا لا يُحاجج وقليل الأسئلة. لو أن الرسول اجتمع له الناس من حضاراتٍ مختلفةٍ وثقافاتٍ متنوعةٍ لرأينا محاججاتٍ ليس هناك أروع ولا أبدع منها، ولكنّ طبيعة المجتمعات حكمت عملية المحاججة، وجعلتها تبدو من طرفٍ واحدٍ وهو رسول الله. 

ما فعله الناس بعد رسول الله وزيادتهم على أركان الحج، ووضعهم لتصوّراتهم، ونسخِ تحرّكات رسول الله، وتركِ مفهوم الحج، هو شأنٌ آخر، يُسأل عنه أصحابه ومن اتبع وترك النص القرآني، وهو قد أفصح عن نفسه. 

لا أشك لحظةً أن رسول تفاعل مع النص القرآني بكل ما أوتي من قوةٍ، وكان مثالًا رائعًا لذلك، ولكنّ تمسّك الناس بالأمور السطحية، دون الغوص في فهم اللفظ القرآني، خلق دينًا موازيًا لا يمتّ بصلةٍ لكلمات الله، ثم نُسِب زورًا إلى رسول الله. لو أن رسول الله عاد ورأى ما فعل الناس بعده، وكيف تركوا أمر الله الواضح، متعلّلين بما فعله هو، لقال كما جاء في القرآن: (وَقَالَ ٱلرَّسُولُ یَـٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِی ٱتَّخَذُوا۟ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورࣰا) (سورة الفرقان: آية 30). 

في السطور المتبقية سوف أُورد مثالَين لتفاعل رسول الله مع النص القرآني، وكيف أثّرت الأرضية المعرفية التي يقف عليها في تفاعله. 

 

المثال الأول: لحم الكتف 

عندما تطرّقنا لمسألة (البيت العتيق)، وكان الاستنتاج أن مدلول البيت العتيق خاصٌ بالأنعام، وهو جزءٌ معينٌ في الأنعام، وهو بالتحديد لحم الكتف، كان الأمر مثيرًا للتساؤل عن علاقة ذلك بالرواية التاريخية التي تخبرنا أن الرسول كان بالفعل يحبّ لحم الكتف، أو لحم كتف الشاة لنكون أكثر تحديدًا. 

قد يكون الأمر مُتعلّقًا بالصفاء الروحي للرسول، إذ استطاب هذا الجزء، أو أنه إلهامٌ من الله، والاقتداء بالرسول في هذا الأمر ليس فيه ما يُعكّره. تفضيل الرسول للحم الكتف هو أمرٌ لا ينبني عليه أيّ أمرٍ، ومن أراد الاقتداء بالرسول فنعم الفعل فعله، وله ما يريد، ولكن عندما يُخبر القرآن عن شيءٍ كهذا، وتحليل اللفظ في القرآن يأخذنا في اتجاه هذا الجزء من الأنعام فإننا نطالب ببحث الأمر بصورةٍ مكثفةٍ؛ لأنه -لا شك- مرتبطٌ بمسألةٍ ذات أبعادٍ أعمق ممّا نرى. فعلُ الرسول اتفق مع ما ذهبنا إليه من تحليل اللفظ القرآني، وهذا أمرٌ يزيد من عزمنا في استطلاع الأمر، ولكنْ ماذا لو أنّ الأمر في القرآن كان له بُعدٌ آخر خلاف ما ذكر رسول الله؟ ,حتى تتضح هذه النقطة سوف أتطرق لمسألة العسل. 

 

المثال الثاني: اسقه عسلًا 

قصة (اسقه عسلًا) الشهيرة، والتي جاء خبرها في حديثٍ صحيحٍ عند مسلم والبخاري كما يلي:

(جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: إنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقالَ: إنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقالَ له ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَقالَ: لقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَسَقَاهُ فَبَرَأَ.

الراوي: أبو سعيد الخدري، أخرجه البخاري (5716)، ومسلم (2217).

لدينا في هذا الحديث خبر الرجل الذي لم يشفه العسل، رغم أنه شرب العسل أكثر من مرةٍ، ولا شك أن رسول الله قال ما قال اعتمادًا على تفاعله مع النص القرآني الذي أشار إلى هذا الأمر.

(ثُمَّ كُلِی مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ فَٱسۡلُكِی سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلࣰاۚ یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ) (سورة النحل: آية 69). 

في ظل المعارف القديمة لا نعرف عن النحل سوى العسل، ولا شك أن في العسل فوائد معينةً، ولكنه في الوقت نفسه لا يُعدّ علاجًا لكثيرٍ من الحالات، بل إنه في بعض الحالات يصبح خطرًا على المريض. هل من العقل والمنطق أن يتناول إنسانٌ مريضٌ العسل رغم أن الأطباء قرروا أن في العسل ضررًا عليه؟ 

من خلال هذا المثال سوف يدرك الإنسان أن الرسول بشرٌ، يتفاعل مع القرآن بقدر ما أتيح له من معرفةٍ. اليوم يعرف العلم أن سمّ النحل أيضًا له فوائد، فهل يُعدّ من ضمن الشراب الذي يخرج من بطون النحل؟ لفهم الآية التي ذكرت الشراب الذي يخرج من بطون النحل يلزمنا تحليل الألفاظ، ثم أرضيةٌ معرفيةٌ متسعةٌ تمكننا من فهم المقصود من الآية الكريمة.

الآية التي بين أيدينا فيها تعبيراتٌ دقيقةٌ، لا يمكن فهمها إلا من خلال العلم الحديث، وهذه التعبيرات تشمل (يخرج من بطونها) و(شراب) وتعبير (مختلفٌ ألوانها). 

مفهوم (يخرج من بطونها) 

هل يخرج العسل من بطون النحل؟ 

تبعًا للعلم الحديث فإن النحل يقوم بجمع الرحيق في معدةٍ خاصةٍ من أزهارٍ مختلفةٍ، وهو في هذه الحالة يكون رحيقًا وليس عسلًا، ويحتوي ماءً بنسبةٍ تصل إلى 70 بالمئة. وعندما يذهب النحل إلى الخلية يبدأ بإفراغ محتويات الرحيق في فم نحلةٍ أخرى عاملةٍ، والتي تقوم بخلطه ببعض الأنزيمات في الفم، ثم تنقله مرةً أخرى إلى نحلةٍ عاملةٍ، وهكذا كل نحلةٍ تضيف أنزيماتٍ من فمها، وعمل هذه الأنزيمات تكسير السكريات، وتحويل الرحيق إلى عسلٍ.

إذن العسل لا يخرج بصفته عسلًا من البطن، وإنما ما يخرج هو الرحيق المختلط بالماء. لهذا السبب يجب أن نتوقّف كثيرًا أمام تعبير (شراب) وليس تعبير (عسل)، إذ إنّ لفظ (عسل) قد ورد ذكره في القرآن.

تعبير (شراب) 

لا شك أنه في ظلّ معارف محدودةٍ يصبح تعبير (شراب) مساويًا لتعبير (عسل)؛ لأن معلوماتنا عن النحل تتمحور حول العسل الذي يُنتجه. لكن مع ازدياد المعرفة وفهم كيفية تصنيع العسل في فم النحلة وليس مباشرةً في بطن النحلة أدركنا أن تعبير (شراب) لا يعني عسلًا. إذ لو كان هو نفسه تعبير (عسل) فلماذا ذكر القرآن هنا لفظ (شراب) رغم أن لفظ (العسل) لفظٌ قرآنيٌّ. 

(مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِیهَاۤ أَنۡهَـٰرࣱ مِّن مَّاۤءٍ غَیۡرِ ءَاسِنࣲ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّن لَّبَنࣲ لَّمۡ یَتَغَیَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ خَمۡرࣲ لَّذَّةࣲ لِّلشَّـٰرِبِینَ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ عَسَلࣲ مُّصَفࣰّىۖ وَلَهُمۡ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَـٰلِدࣱ فِی ٱلنَّارِ وَسُقُوا۟ مَاۤءً حَمِیمࣰا فَقَطَّعَ أَمۡعَاۤءَهُمۡ) (سورة محمد: آية 15). 

يجب دائمًا أن نقف على التعبير الدقيق المستخدم في القرآن، والذي يعني هنا مرحلة ما قبل العسل، وهي مرحلة الرحيق المختلط بالماء، وهو الشراب المقصود في الآية. لدينا دليلٌ آخر على أن المقصود من (شراب) هو ما قبل مرحلة العسل، وهو تعبير (مختلفٌ ألوانه).

مدلول (مختلفٌ ألوانه) 

العسل وإن اختلفت ألوانه ولكنها تشبه بعضها كثيرًا، أما الرحيق الذي يختزنه النحل ويختلط بالماء فمتباينٌ بصورةٍ كبيرةٍ نتيجةً لاختلاف الزهور التي يمتص النحل رحيقها. قبل مرحلة تكسير السكريات عن طريق الأنزيمات، وتحويلها إلى عسلٍ، يكون هذا الشراب بالفعل مختلف الألوان بصورةٍ كبيرةٍ جدًا بخلاف العسل ذاته.

من خلال هذه السطور نضع معرفةً جديدةً أمام الباحثين، عن حقيقةٍ وصلنا إليها من خلال آيةٍ ظلّت تشير إلى أن العسل شفاءٌ للناس، لكن مع التحليل الدقيق للفظ والتعبيرات وجدنا أنّ المقصود شيءٌ آخر. هل سينتبه الباحثون لهذا الشراب، والذي يبدو أنه ذو تأثيرٍ سحريٍ في علاج كثيرٍ من الأمراض، فيقومون باستخلاصه وتنقيته واختباره بصورةٍ متكاملةٍ؟ 

نعود الآن لفهم السبب الذي جعل رسول الله يذكر العسل، ولا يذكر الرحيق أو شراب ما قبل العسل. 

الأمر كله مرتبطٌ بالخلفية المعرفية، والرسول يتعامل مع النص بوصفه بشرًا، ولو أن الرسول أدرك -على سبيل المثال- معنى الشراب هنا، ووَصَفَه بدقةٍ وبصورةٍ حقيقيةٍ مطلقةٍ، فلا بدّ لهذا الوصف أن يدخل ضمن آيات القرآن. لكنّ هذا ما لم يحدث؛ فالنص القرآني مختلفٌ تمامًا عن كلام الرسول خارج القرآن، وهو أمرٌ بديهيٌّ، وأتعجب كثيرًا من عدم وضوح هذه النقطة لدى الناس، واختلاط الأمر عليهم بصورةٍ كبيرةٍ. 

 

من خلال هذه الأمثلة، ومن خلال فهم دور النبي والرسول، الذي جاء مفصّلًا في كتاب قولًا ثقيلًا، لا يمكن تأويل القرآن تبعًا لأقوال النبي، وإنما الوضع السليم هو تأويل أقوال النبي تبعًا لفهم القرآن. فإذا استطعنا إيجاد منهجٍ محددٍ لفهم القرآن فلا حاجة لنصوصٍ ظنيةٍ تطغى على القرآن، ولا حاجة لكلّ هذا القدر من القيل والقال، والذي مهما كان دقيقًا سيظل أقوالًا بشريةً، وجعلُها في منزلة كلام الإله هو شركٌ بالله، يتحمل عواقبه مَن يعتقد به ومَن يروّج له. من خلال تتبع كثيرٍ من المواقف أرى أن الرسول قد اقترب جدًا من حقيقة اللفظ القرآني، ولكننا في الوقت نفسه نرى أن اختلاف الناس بعده كان اختلافًا كبيرًا، أو أنهم لم يستوعبوا ما فعله الرسول وما قاله بصورةٍ كاملةٍ. 

من الأمور الهامة كذلك، والتي توضّح الفرق بين القرآن وكلام الرسول، هو حديث علامات الساعة، والذي ينسبه الناس للرسول، وأهم علامةٍ من علامات الساعة هو طلوع الشمس من مغربها. هذا النص لا نجد له أيّ إشارةٍ في كتاب الله، ولو قال القرآن هذا الأمر فلا بدّ أن يكون حقيقةً واقعةً، أمّا لو قال الرسول هذا الأمر فيحتمل أنه تنبّأ أو حتى قال مجازًا، وهو يعني -على سبيل المثال- الازدهار والعلم يأتي من الغرب كعلامةٍ من علامات الساعة. لذلك فإن عدم وجود نصٍ صريحٍ في كتاب الله يتحدث عن طلوع الشمس من مغربها لا يجعلنا أبدًا نحمل هذا الأمر على سبيل الحقيقة المطلقة، ويمكن تأويله بطرقٍ مختلفةٍ. أتمنى أن يعقل الناس الفرق بين كلمات القرآن وهي الحقيقة المطلقة، وكلام النبي وهو اجتهاده الذي كان خيرًا للناس. 

 

ملخص الفصل 

  • بيّن الفصل مفهوم (الشعر) و(الشعراء)، وهو مفهومٌ ليس بمذمومٍ؛ بل إن أتباع الشعراء هم المعنيّون بالذمّ. 
  • نفيُ الله عن كلامه أن يكون شعرًا ينفي تمامًا أن يكون هذا الكلام مجازيًا، ويضع الكلام في خانة الكلام الحقيقي بصورةٍ مطلقةٍ. 
  • لقد تفاعل الرسول مع القرآن، وقام بالحج، وهو بالفعل كان شبيهًا بالمحاججة، فقد ظل يتكلم ويخطب في الناس طوال اليوم، والذي سُمي بيوم عرفة. 
  • أمر الناس وأنهم لم يحاججوه أو لم يسألوه أمرٌ طبيعيٌ؛ بسبب طبيعة المجتمع البدويّ البسيط الذي لا يسأل، وإنما يستمع ويرسم صوَره الخاصة عن الحدث. 
  • المشكلة تكمن في مَن يَعدّون كلام النبي مساويًا للقرآن، بل يزعمون أنه إذا تعارض القرآن والسنة فيجب تأويل القرآن ليوافق السنة، وهذا قولٌ خطيرٌ، وعواقبه غير محمودةٍ، ويجب أن يُسأل مَن يقول ذلك: هل قدروا الله حقّ قدره؟ 
  • أورد الفصل أمثلةً على تفاعل الرسول مع النص، فمنها ما كان صائبًا تمامًا، ومنها ما كان محدودًا بالأرضية المعرفية. لقد جاء في الفصل تحديد مفهوم (الشراب) الذي يخرج من بطون النحل، وهو ليس العسل، بل هو الرحيق قبل مرحلة العسل، والذي نطمع أن يُختَبر من قبل الباحثين في أقرب فرصةٍ. 

 

Comments

Popular posts from this blog

الفصل الرابع - سدرة المنتهى

الفصل الثاني - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ

الفصل العاشر - علمٌ للساعة